في شهرها العشرين وقف الحرب واستدامة الديمقراطية؟
تاريخ النشر: 24th, November 2024 GMT
في شهرها العشرين وقف الحرب واستدامة الديمقراطية؟
تاج السر عثمان بابو
1
تدخل الحرب اللعينة في السودان شهرها العشرين، مع استمرار جرائم الإبادة الجماعية التي يمارسها الدعم السريع في شرق الجزيرة ودارفور وبقية المناطق وقصف الجيش للمدنيين بالطيران، مع تزايد مآسي الحرب، والمزيد من فقدان الأرواح والتهجير القسري وما يتبعه من نهب الأراضي الزراعية والممتلكات، وماسي إنسانية، اضافة للقمع الوحشي والتعذيب حتى الموت للمعتقلين السياسيين ولجان المقاومة والناشطين في لجان الخدمات في سجون طرفي الحرب، والمحاولة السافرة لظهور المؤتمر الوطني في الحياة السياسية ومخاطبة مجرمي الحرب مثل: احمد هارون والبشير لاجتماعه، مما يؤكد ان هدف الحرب تصفية الثورة، وإعادة التمكين للإسلامويين مرة أخرى، الأمر الذي وجد رفضا وَاستنكارا شديدا من الجماهير.
كما فشلت الحلول الخارجية في منابر جدة واخرها منبر جنيف في وقف الحرب، وتجلى التدخل الدولي الهادف لنهب ثروات البلاد والداعم لطرفي الحرب، وإطالة أمدها، في مشروع القرار البريطاني في مجلس الأمن لحماية المدنيين الأخير، الذي اوقفته روسيا باستخدام حق” الفيتو”، وهو تعبير عن الصراع الدولي لنهب الموارد بين المحاور الداعمة لطرفي الحرب، وشن الحروب من أجل ذلك كما في الحرب الروسية- الاوكرانية وحرب غزة، الهادفة لنهب الموارد وتمزيق وحدة بلدان المنطقة.
كما برزت الدعوات للتدخل العسكري الدولي لوقف الحرب، علما بأن تجارب التدخل كانت غير حميدة كما حدث في: دارفور، اليمن، ليبيا، العراق وسوريا. الخ. العامل الحاسم هو وحدة وصمود الحركة الجماهيرية في الداخل، والعامل الخارجي مساعد، فوحدة السودانيين كما أكدت التجربة الماضية لعبت دورها في اسقاط النظم الاستعمارية والديكتاتورية، كما حدث في الاستقلال 1956، ثورة أكتوبر 1964، انتفاضة مارس- أبريل 1985، وفي ثورة ديسمبر 2018.
التدخل الدولي الداعم لطرفي الحرب بالسلاح والعتاد بات معروفا بهدف نهب الذهب وبقية المعادن والأراضي وغيرها من ثروات البلاد، وإيجاد موطئ قدم على البحر الأحمر، مع اشتداد حدة الصراع الدولي على الموارد في السودان وأفريقيا، وشن الحروب لتحقيق ذلك الهدف.
كما يستمر التدهور في الأوضاع المعيشية والصحية، مع خطر المجاعة الذي يهدد 25 مليون سوداني حسب بيانات الأمم المتحدة، واستمرار تدهور الاقتصاد السوداني كما جاء في تقرير صندوق النقد الدولي الأخير متوقع تراجع الاقتصاد السوداني إلى 20% بنهاية العام 2024، مع استمرار انخفاض الجنية السوداني وارتفاع الأسعار، وتعطيل الزراعة والصناعة والخدمات بسبب الحرب، اضافة لعدم فتح المسارات الآمنة لوصول الأغاثات للمتضررين.
2
كما فشلت الحلول الخارجية في تحقيق الديمقراطية والسلام العادل والشامل، كما حدث بعد اتفاقية نيفاشا التي أدت لفصل الجنوب، وبعد ثورة ديسمبر 2018 في التسوية على أساس الوثيقة الدستورية “المعيبة” وانقلاب 25 أكتوبر 2021 عليها الذي قاد للحرب الحالية، ومحاولة إعادة التسوية والشراكة مع العسكر والدعم السريع التي تعيد إنتاج الحرب بشكل أوسع من السابق وتقود لتمزيق وحدة البلاد، بينما المطلوب استدامة الديمقراطية بخروج العسكر والدعم السريع من السياسة والاقتصاد، والترتيبات الأمنية لحل الدعم السريع ومليشيات المؤتمر الوطني وجيوش الحركات وقيام الجيش القومي المهني الموحد الذي يعمل تحت إشراف الحكومة المدنية، إضافة للمحاسبة وعدم الإفلات من العقاب.
بالتالي هناك ضرورة للاستفادة من التجارب السابقة، في استدامة الديمقراطية، َتحقيق السلام العادل والشامل، ووقف الحرب ومواصلة الثورة حتى تحقيق أهدافها ومهام الفترة الانتقالية وأهمها عقد المؤتمر الدستوري الذي يقرر شكل الحكم، وإقرار دستور ديمقراطي وقانون انتخابات يفضي لانتخابات حرة نزيهه في نهاية الفترة الانتقالية.
3
كما اشرنا سابقا، بعد الاستقلال كانت جماهير شعبنا تتطلع لاستكماله بالاستقلال السياسي والاقتصادي والثقافي، وترسيخ الديمقراطية والتعددية السياسية ومعالجة مشاكل الديمقراطية بالمزيد من الديمقراطية لا الانقلاب عليها ، وانجاز التنمية المتوازنة في كل أنحاء البلاد، بإنجاز الدستور الدائم، وقيام دولة المواطنة التي تسع الجميع غض النظر عن العرق أو اللون أو العقيدة أو الفكر السياسي والفلسفي، ولكن ذلك لم يتم مما أدى لدخول البلاد في حلقة جهنمية من انقلابات عسكرية وأنظمة ديكتاتورية شمولية أخذت 58 عاما من عمر الاستقلال البالغ أكثر من 68 عاما، وأسهمت تلك الأنظمة العسكرية في تكريس قهر الجنوب وانفصاله، اضافة للمناطق المهمشة، والتنمية غير المتوازنة ومصادرة الديمقراطية والحقوق الأساسية، وتكريس التنمية الرأسمالية والفوارق الطبقية والتبعية للدول الغربية حتى بلغت ديون السودان حاليا أكثر من 60 مليار دولار، مما يتطلب الاستفادة من تجارب فشل الديمقراطية الأولي والديمقراطية الثانية والثالثة التي تناولناها بالتفصيل في الدراسات السابقة بنجاح الفترة الانتقالية الحالية التي نشأت بعد ثورة ديسمبر 2018، في ترسيخ السلام والحل الشامل والعادل الذي يخاطب جذور الأزمة، ولا يعيد إنتاج المظالم والقهر والحرب، والديمقراطية المستدامة والتنمية المتوازنة، وتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وقيام علاقات خارجية متوازنة تكرّس السيادة الوطنية.
4
ويفيد ان نعيد هنا نشر أهم ملامح تجارب الفترات الانتقالية التي تم اجهاضها:
ا – تجربة الفترة الانتقالية بعد ثورة أكتوبر 1964م
بعد ثورة أكتوبر، ونجاح الاضراب السياسي والعصيان المدني الذي قادته جبهة الهيئات، تمّ تكوين الحكومة الانتقالية الأولي بعد مفاوضات بدأت في البداية بين جبهة الأحزاب وقيادات من القوات المسلحة ، وفي وقت لاحق انضم اليها مندوبو جبهة الهيئات، وحزب الشعب الديمقراطي والحزب الشيوعي.
كان برنامج الفترة الانتقالية للحكومة الجديدة :
– حل مشكلة الجنوب ووقف الحرب الأهلية، ومكافحة الفساد.
– حل مشاكل الجماهير المعيشية والاقتصادية
– اعداد قانون انتخابات لانتخاب جمعية تأسيسية في نهاية الفترة الانتقالية لاعداد دستور دائم للبلاد.
لكن تم الفشل في انجاز مهام الفترة الانتقالية بسبب الضغوط من حزب الأمة والأحزاب التقليدية علي حكومة سر الختم الخليفة ، لدرجة تسيير المواكب من المليشيات المسلحة ضدها لاسقاط الحكومة، واشتدت ضغوط حزب الأمة علي سرالختم الخليفة رئيس الوزراء ، فاضطر لتقديم استقالة حكومته في 28 ديسمبر1965، بعد أن اشتدت الضغوط عليه.
بعد استقالة سرالختم الخليفة ، تمّ تشكيل حكومة جديدة في 24 فبراير 1965 ، كان نصيب كل من حزب الأمة والوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي وكتلة الجنوبيين بثلاثة وزراء ، وتمثيل كل من الحزب الشيوعي والإخوان المسلمين بوزير واحد، بالتالي اصبح للأحزاب التقليدية الأغلبية فيها ، وتمّ الاسراع في الانتخابات المبكرة التي تقرر عقدها في يونيو 1965.
حتى الانتخابات المبكرة لم يتم الصبر عليها ، وتم حل الحزب الشيوهي الذي قاز فيها ب 11 نائبا ، وطرد نوابه من البرلمان ، مما قاد للازمة الدستورية وتقويض الديمقراطية ، والي انقلاب 25 مايو 1969.
ب – الفترة الانتقالية بعد انتفاضة مارس – ابريل 1985
بعد انتفاضة مارس – ابريل ونجاح الاضراب السياسي العام الذي قاده التجمع الوطني لانقاذ الوطن،جاء ميثاق التجمع الوطني الذي حوي النقاط التالية:
– فترة انتقالية لمدة ثلاث سنوات، مهامها تنظيم العمل السياسي بموجب دستور 1956 المعدل 1964.
– كفالة الحقوق والحريات الأساسية.
– الحل السلمي الديمقراطي لقضية الجنوب في اطار الحكم الذاتي الموحد.
– التحرر من التبعية الاقتصادية والاصلاح الاقتصادي بخلق بنية اقتصادية تحقق العدل والكفاءة، ومواجهة المجاعة وشح المواد التموينية والغلاء، السيادة الوطنية والتحرر من التبعية للقوى الخارجية.
– قيام علاقات خارجية متوازنة.
– تصفية أثار مايو وقوانيتها القمعية، والطبقة الطفيلية المايوية.
– اصلاح الخدمة العامة، وتصفية المؤسسات المايوية الخربة، تأكيد مبدأ الحكم الامركزي.
– حكم البلاد بعد الفترة الانتقالية بواسطة دستور يقره برلمان منتخب ديمقراطيا .
لكن انقلاب الفريق سوار الذهب قطع الطريق أمام الانتفاضة ،مما أدي لتخوف التجمع من هيمنة الحكم العسكري ، فبادر بتقليص الفترة الانتقالية من ثلاث سنوات الي سنة واحدة، بعد ها يتم تسليم السلطة في انتخابات لممثلي الشعب وتمت انتخابات 1986 المعروفة، ولم تصير الجبهة الإسلامية علي الديمقراطية، وكان انقلاب 30 يونيو 1989.
ج – الفترة الانتقالية بعداتفاقية نيفاشا
جاءت مهام الفترة الانتقالية بعد اتفاقية نيفاشا في الاتي:
– تغليب خيار الوحدة علي أساس العدالة ورد مظالم شعب جنوب السودان، وتخطيط وتنفيذ الاتفاقية بجعل وحدة السودان خيارا جاذبا وبصفة خاصة لشعب جنوب السودان، وكفلت الاتفاقية حق تقرير المصير لشعب جنوب السودان عن طريق استفتاء لتحديد وضعهم مستقبلا (بروتكول مشاكوس).
– كما جاء في بروتكول مشاكوس، هو التحول الديمقراطي وقيام نظام ديمقراطي يأخذ في الحسبان التنوع الثقافي والعرقي والديني والجنسي واللغة والمساواة بين الجنسين لدي شعب جنوب السودان، وكفلت الاتفاقية الحقوق والحريات الأساسية، وأكدت علي أن يكون جهاز الأمن القومي جهازا مهنيا ويكون التفويض المخول له هو تقديم النصح والتركيز علي جمع المعلومات وتحليلها (المادة: 2-7 -2-4)، وتم تضمين ذلك في وثيقة الحقوق في الدستور الانتقالي لسنة 2005م، علي أن يتوج ذلك بانتخابات حرة نزيهة تحت اشراف مفوضية للانتخابات مستقلة ومحايدة(المادة: 2-1-1-1)، واستفتاء علي تقرير المصير في نهاية الفترة الانتقالية يدعم ويعزز خيار الوحدة.
ا- كما جاء في بروتكول مشاكوس: ايجاد حل شامل يعالج التدهور الاقتصادي والاجتماعي في السودان، ويستبدل الحرب ليس بمجرد السلام، بل أيضا بالعدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تحترم الحقوق الانسانية والسياسية الأساسية لجميع الشعب السوداني.
كانت تلك الأضلاع الثلاثة الحد الأدني الذي بنت عليه جماهير الشعب السوداني الآمال العراض و تأييدها للاتفاقية التي اوقفت نزيف الحرب، رغم عيوب الاتفاقية التي لا تخطئها العين، التي كانت ثنائية ،وتم استبعاد ممثلي القوي السياسية ومنظمات المجتمع المدني الأخري، ولا سيما أن الاتفاقية تناولت قضية أساسية تتعلق بمصير السودان ووحدته فلا يمكن ان تترك لشريكين، فالمؤتمر الوطني لايمثل الشمال ولا الحركة الشعبية تمثل الجنوب، وكانت الحصيلة شراكة متشاكسة كّرست الشمولية والديكتاتورية.
اضافة للثغرات الأخري في الاتفاقية مثل تقسيم البلاد علي أساس ديني، واقتسام السلطة الذي كرّس الصراع بين الشريكين وهيمنة المؤتمر الوطني في الحكومة المركزية والمجلس الوطني من خلال الأغلبية الميكانيكية والتي افرغ بها المؤتمر الاتفاقية من مضمونها وتم إعادة إنتاج الشمولية والديكتاتورية، اضافة لوجود نظامين مصرفيين والذي اكدت التجربة العملية فشله، اضافة للخلل في توزيع عائدات النفط بين الشمال والجنوب والتي لم تذهب الي التنمية وخدمات التعليم والصحة والزراعة والصناعة والبنيات الأساسية.الخ.
لكن، كما هو معروف لم يتم تنفيذ الاتفاقية بالشكل المطلوب، وكانت النتيجة انفصال الجنوب.
د – تجربة الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر 2018
تناولنا هذه الفترة بتفصيل في دراسات ومقالات سابقة التي كانت أهم معالمها قطع انقلاب اللجنة الأمنية الطريق أمام الثورة، ومجزرة فض الاعتصام أمام القيادة العامة والولايات لتصفية الثورة، اضافة لتراجع قوى الحرية والتغيير عن ميثاق إعلان الحرية والتغيير الذي وقع في يناير 2018 الذي ركز على قيام الحكم المدني الديمقراطي، بالتوقيع على الوثيقة الدستورية التي كرّست الشراكة مع العسكر وقننت الجنجويد دستوريا، وحتى الوثيقة الدستورية تم الانقلاب عليها بالتوقيع على اتفاق جوبا الذي تحول لمحاصصات ومناصب ،والهادف لتصفية الثورة، وانقلاب 25 أكتوبر، بعد ذلك تم الانقلاب على الاتفاق الإطاري بعد صراع العسكر والجنجويد على فترة دمج الجنجويد في الجيش، مما أدي لانفجار الحرب الراهنة التي قضت على الأخضر واليابس.
مما يتطلب وقف الحرب ومواصلة الثورة ، واستلهام الدروس السابقة والخروج من الحلقة الجهنمية للانقلابات العسكرية وتنفيذ المواثيق التي يتم الاتفاق عليها، وهذا ما نعنيه بترسيخ الحكم المدني الديمقراطي واستدامة الديمقراطية الذي يبدا بقيام نظام ديمقراطي مستدام، وتنمية متوازنة، وسلام عادل وشامل، وقيام علاقات خارجية متوازنة مع كل دول العالم، وضمان السيادة الوطنية، وحماية ثروات البلاد، وانجاز أهداف ثورة ديسمبر ومهام الفترة الانتقالية.
الوسومالاقتصاد السوداني التدخل العسكري الحرب السودان العراق الفترة الانتقالية تاج السر عثمان بابو ثورة ديسمبر سوريا ليبيا مشروع القرار البريطانيالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الاقتصاد السوداني التدخل العسكري الحرب السودان العراق الفترة الانتقالية ثورة ديسمبر سوريا ليبيا مشروع القرار البريطاني الفترة الانتقالیة بعد المؤتمر الوطنی جنوب السودان وقف الحرب بعد ثورة فی الحرب
إقرأ أيضاً:
الحرب في السودان: تعزيز فرص الحل السياسي في ظل فشل المجتمع الدولي
بروفيسور حسن بشير محمد نور
نعم، أزمة التهجير القسري والنزوح التي يشهدها السودان هي الاسوأ في العالم، كما ان الانتهكات والجرائم المرتكبة هي الاشد قسوة وبشاعة من نوعها، خاصة في صراع بين أطراف تنتمي لنفس البلد، هذا بالطبع إذا استثنينا الأبادة الجماعية التي تقوم بها اس رائ يل ضد الشعب الف ل سطي ني في الاراضي المحتلة والدمار الممنهج في لبنان (وهذا بالطبع لا يحتاج لتأكيد وزير الخارجية البريطاني، لانه وحسب المثل السوداني "ما حك جلدك مثل ظفرك"). الصراع بين القوى الكبرى في العالم لا يعرف الرحمة ولا يعبأ بمصالح الشعوب، خاصة مثل الشعب السوداني المغلوب علي أمره المبتلى بحكام و(قادة) لا يتمتعون بأي درجة من الرشد وإلا لما تسببوا في أزمة توصف بأنها الاسوأ في العالم.
سبق ان نبهنا مع غيرنا بأن الانقسام بين الاقطاب الكبرى في العالم لا يسمح بتمرير قرارات عبر مجلس الامن، وان الدعوات للتدخل الاممي هي صرخات في (وادي عبقر), كما ان مثل هذا التدخل يجد معارضة لا بأس بها، ليس فقط من الأطراف المؤيدة للحرب في السودان، وانما من قوى سياسية واجتماعية مؤثرة. في هذا الاطار يأتي (الفيتو) الروسي ضد مشروع القرار البريطاني حول السودان في مجلس الامن يوم الاثنين 18 نوفمبر 2024. وهو موقف متوقع من روسيا بحكم العداء المستفحل والتاريخي بين روسيا وبريطانيا، الذي اشتد منذ ان اعلن ونستون تشرشل صيحته حول الجدار الحديدي (ما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي) وتدشينه للحرب الباردة مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية. يظهر ذلك العداء بجلاء في اشعال الحرب في اوكرانيا وتأجيجها والدفع بها نحو منزلق خطير يبشر بيوم قيامة قريب ينهي العالم الذي نعيش فيه، ذلك لسبب بسيط هو ان هذه اللعبة الخطرة تتم ضد دولة تمتلك اكبر ترسانة نووية في العالم من حيث الكم والنوع، فاذا كنت تلعب بالنار بين براميل من البارود شديد الانفجار فإن (لفيتو) يعتبر نثارة ثانوية باردة.
يضاف لذلك ان روسيا لن تنسي خديعة القرار الاممي الذي وافقت عليه بشأن ليبيا، والذي كان في ظاهره يهدف لحماية المدنيين وقام حلف التاتو باستغلاله ثم (حدث ما حدث في ليبيا) ونتائجه ماثلة أمام العالم. يبقى إذن، اذا إراد (الغرب الاستعماري الجماعي حسب وصف الدبلوماسية الروسية)، فيما نرى أن يتدخل في الصراع السوداني فعليه اتباع نهح ما حدث في العراق وافغانستان (وهذا انتهي بالهروب الكبير لجيش بادن العظيم مسلما مفاتيح كابول لطالبان بعد عشرين عاما من التدخل العسكري المباشر) ويوغوسلافيا السابقة، ذلك النهج الذي تم خارج (الشرعية الدولية) وبالتالي علي من يفعل ذلك تحمل العواقب لوحده، دون الاستناد علي قرار اممي يظهر غير ما يبطن حسب فهم الكثيرين من غير المستندين لحلم ان (المجتمع الدولي) بالشعوب (رؤوف رحيم).
في ظل الصراع الوجودي بين روسيا و(الغرب الجماعي) لن يمر قرار عبر مجلس الامن بسهولة، خاصة اذا كان يحمل طابعا لتدخل خارجي قد يؤدي لفرض نظام معين. في هذا السياق من المفهوم ان أي تحول يؤدي الي وصول حكم (مدني ديمقراطي) بدعم غربي في السودان سيجعل من هذه البلاد في شراكة طويلة الامد مع الغرب، خاصة الولايات المتحدة، بريطانيا والاتحاد الاوربي، وان أي نظام شمولي او انقلابي سيكون مقاطعا من (الغرب الجماعي) وسيتوجه لا مناص نحو روسيا والصين. هذه معادلة بسيطة ليس من الصعب فهمها ووضعها في الحسبان في التعامل مع (المجتمع الدولي).
أما فيما يتعلق بازمة التهجير والنزوح والانتهاكات الجسيمة ضد المدنيين فيمكن التذكيرببعض الاثار المترتبة عليها ومالاتها وما يمكن فعله مع فشل العالم بوضعه الراهن في معالجة مثل هذه الازمات الكبرى،علما باننا قد تطرقنا بشكل متواصل للتكاليف الاقتصادية والاجتماعية للحرب واثارها، في العديد من المقالات والمشاركات منذ اشتعال هذه الحرب الكارثية. وفي رأيي ان ما يجري في السودان رغم بشاعته يعتبر متواضعا قي المنظور العالمي مع خطر وقوف عالم اليوم علي حافة حرب عالمية نووية لم يشهد العالم لها مثيل، ولن يشهده مرة اخرى بالطبع في حالة اندلاعها.
ما يجري في السودان له اثار بالغة الخطورة اقتصاديا واجتماعيا وديمغرافيا، أهم مظاهر ذلك باختصار هي:
اقتصاديا: تدهور قطاعات الانتاج الحقيقي في الزراعة والصناعة والخدمات المنتجة، تأثر البنية التحتية وتدمير معظمها وهي بنية متواضعة بدون حرب، فقدان مصادر الدخل وتفشي البطالة، التراجع الخطير للايرادات الحكومية، وقد فصلنا في تلك الموضوعات ووضحنا اثرها علي مجمل النشاط الاقتصادي وعلي المؤشرات الاقتصادية الكلية.
اجتماعيا: الاثار علي الخدمات العامة خاصة الصحة والتعليم ومن نتائجها توطين الاوبئة، الاصابات والاعاقات الجسدية والنفسية، أضافة لتعطل الدراسة لتلاميذ المدارس وطلاب الجامعات، وفقدان التمدرس لملاين الاطفال السودانيين وبطالة الخريجين ونزيف العقول.
ديمغرافيا يؤدي التهجير القسري والنزوح الجماعي الي تغيير التركيبة الديمغرافية للباد، خاصة وان التهجير لم يقتصر علي العاصمة والمدن فقط وانما شمل مناطق ريفية واسعة، كما جرى مؤخرا في ولاية الجزيرة. اتجه معظم النازحين الي مناطق حضرية مما ادي لاختلال كبير في التوزيع السكاني والضغط علي الموارد والخدمات اضافة لمشاكل الاكتظاظ السكاني.
سيؤدي كل ذلك لاثار خطيرة علي النشاط الاقتصادي بانهيار القطاعات الانتاجية الرئيسية وسيادة الريعية الاقتصادية والانتاج المعيشي والقطاع غير الرسمي. كما سيؤدي ذلك لتدهور الاستقرار النقدي وانهيار الثقة في النظام المصرفي وتراجع سعر الصرف والقوة الشرائية. كل ذلك سيفاقم معدلات الفقر والبطالة والاخلال الخطير بالامن الاجتماعي لامد طويل.
في ظروف الخلاف الحاد في المجتمع الدولي لابد من العمل في رأينا في عدة اتجاهات منها:
• علي القوى الوطنية العمل بشكل جماعي او حتي بمكونات منفردة علي تعزيز فرص الحل السياسي للازمة وتفعيل دور المجتمع المدني والمجتمعات المحلية، بدلا عن الركض خلف سراب المجتمع الدولي او حتي الاقليمي وذلك يتضمن عدد من الخطط والبرامج الاجراءات الهادفة الي:
- التركيز علي بناء مشروع وطني جامع لدولة المواطنة السودانية القائمة علي الحرية والسلام والعدالة والتنمية المتوازنة ووضع تصور واضح للحل السياسي علي هذا الاساس. وبالتأكيد هذا المشروع يصطدم بالصراع علي السلطة وطموح الاطراف المتحاربة، اضافة لعقبة تحقيق المحاسبة وعدم الافلات من العقاب، وهنا تبدو قضية شائكة.
- وضع استراتيجيات تنموية لما بعد الحرب تشمل اعادة الاعمار، اعادة بناء البنية التحتية والانتاجية والتأسيس لنظام عادل لقسمة الموارد. هذا يمكن ان يكون مشجعا لدمج بعض الاطراف في جهود الحل خاصة حركات الكفاح المسلح غير المنخرطة في الحرب بين الجيش والدعم السريع.
- العمل علي تعبئة واستقطاب الموارد المحلية والخارجية لاعادة بناء المناطق المتضررة واعادة التوطين وتوجيه الموارد نحو المناطق الريفية والتنمية المحلية لتخفيف الضغط علي الحضر.
- تشجيع الشراكات بين القطاعين العام والخاص في برامج اعادة الاعمار
- وضع برامج عملية للتعامل مع التحديات الصحية وايجاد برامج لرعاية المصابين جسديا ونفسيا واعادة تأهيلهم ورعايتهم
- العمل علي ايجاد بدائل للتعليم الرسمي خاصة في مناطق النزوح مع الغياب لدور الولة او الدعم الدولي الفعال.
بالتأكيد كل ذلك لا يعني اغفال الضغط علي المجتمع الدولي والاقليمي، في ايجاد حلول سلمية لهذا النزاع الذي يتسع نطاقه ليصبح تهديا علي المستوى الاقليمي والدولي. وبما ان هذه الحرب تمثل تحديا وجوديا يهدد وجود الدولة السودانية ومستقبل الاجيال المقبلة فان الوضع يتطلب طرق جميع السبل للضغط والتدخل، حتي اذا تم ذلك خارج الاطر التقليدية لعمل الامم المتحدة ومجلس الامن الدولي. وقد يكون من المفيد تفعيل اليات مجلس السلم والامن الافريقي، بحكم انه يمكن ان يكون منظمة اقليمية تحظي بقبول واسع بما في ذلك الصين وروسيا، مما يمكن من ايجاد وسائل واليات عملية للدفع نحو الحل السياسي للنزاع.
mnhassanb8@gmail.com