بوابة الوفد:
2024-11-23@20:47:41 GMT

طيار على كف عفريت

تاريخ النشر: 23rd, November 2024 GMT

دماء «عمال الديليفرى» فى رقبة مَن؟محرومون من التأمين الصحى والاجتماعى ويتعرضون لحوادث يومية.. وأبناء المشاهير أبطال الحكاية"مريم" تحمل طفليها وبضائعها على الإسكوتر و"عبدالرحمن" طالب الأزهر يطلب الرأفة"عمار" مهندس برمجيات استغل هوايته ودراسته وبدأ مشروعه الخاص.. و"محمد" يطالب بنقابة تحمى حقوق العمالالبطالة فرضت على 6 ملايين شاب وفتاة العمل فى هذه المهنة.

. وتدخل الدولة لحمايتهم واجب

لا يزال مسلسل «السرعة الجنونية» مستمراً، حاصداً أرواح الأبرياء يومياً، ضحاياه فى كل مكان ومعظمهم من عمال الديليفرى الشقيانين، الذين يجوبون بدراجاتهم سواء كانت نارية أو هوائية أرجاء المدن باحثين عن «اللقمة الحلال»، ولكن منهم من يفقد حياته بسبب تهور بعض «المُدللين»، الذين يقودون سياراتهم بسرعة غير آبهين بأرواح من يسيرون بجوارهم، لتسيل دماؤهم على الأسفلت تاركين وراءهم أسراً بلا عائل، ووجعاً لا ينتهى فى القلوب، وخلال الساعات الأخيرة انضم عضو جديد إلى قائمة «مُستباحى دماء عمال الدليفري»، الذى دهسه أحد هؤلاء بسيارته ليستمر مسلسل القتل غير الرحيم.

وكانت مدينة الشيخ زايد قد شهدت فجر الجمعة، حادثًا مروعًا راح ضحيته «عبدالرحمن فراج» عامل الدليفرى، ابن بنى سويف، بعدما دهسته سيارة «رانج روفر» يقودها «ابن نجل زوجة الشيف» بسرعة جنونية وفرّ هاربًا تاركًا ضحيته يُصارع سكرات الموت.

هذا الحادث ليس الأول فى مسلسل دهس «عمال الدليفرى» فقد سبقه بـ6 أشهر حادث آخر، راح ضحيته عامل دليفرى على يد نجل الفنان أحمد رزق بمدينة 6 أكتوبر، ما تسبّب فى إصابة العامل بإصابات خطيرة نقل على إثرها إلى المستشفى، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.

تحمل الحوادث فى طياتها قصصًا مؤلمة لأناس أبرياء أُهدرت حقوقهم وتناثرت دماؤهم على الطرقات.

الوفد رصد حكايات من دفتر شقاء «عمال التوصيل» الذين يشتغلون بلا حقوق ودون حماية.

تراهم يجوبون الشوارع ليلًا ونهارًا، لا مُستراح لهم، ولا مرسى لخطواتهم المتسارعة على رمال الحياة، لا يلتفت لمعاناتهم أحد، يخوضون حربًا ضد الوقت، فتجدهم يستقلون دراجاتهم حاملين «الأوردر»، يسابقون عقارب الساعة لتوصيله سريعًا واللحاق بآخر، فينتشرون بين الأزقة ويخترقون الصفوف ويتسللون بين الزحام، وعلى تلك الشاكلة تُقاس مدة بقائهم فى مهنة «توصيل الطلبات».

شباب فى مقتبل العمر انغمسوا فى المسئولية بعد أن طالهم شبح البطالة، يعولون أسرهم ويصارعون أزماتهم فتنتصرُ عليهم مرة وينهزمون أمامها مرّات، إذا ما خارت قواهم استيقظت عزيمتهم أمام لهيب «الحاجة» ليستكملوا الطريق ويواصلوا المسير بمهنة مُنتزعة الحقوق لمواجهة الغلاء الذى يأكل الأخضر واليابس، فلا يُبقى فى الجُيوب ولا يذر، إنهم ضحايا الطرقات وفاقدو التأمينات.

فى آخر تقدير لعدد العاملين بتلك المهنة، ذكرت وزارة التضامن الاجتماعى أن عددهم وصل إلى 6 ملايين شاب وفتاة، وراء كل منهم قصة شقاء وشرف رصدت الوفد بعض منها.

أم بدرجة بطلة

قاومت ظروفها الصعبة ووقفت لها بالمرصاد، وألغت من قاموس حياتها عبارات اليأس والإحباط، وازنت بين عملها ورعاية صغارها دون أن تكل أو تمل، تلك هى «مريم حنفى» عاملة الدليفرى، صاحبة الـ27 ربيعًا، والحاصلة على بكالوريوس نظم ومعلومات إدارية.

بين عشيةٍ وضحاها أصبحت مريم مُثار حديث رواد منصات التواصل الاجتماعى، بعد التقاط صورة لها على دراجتها النارية وهى تحضن طفليها النائمين أثناء عملها فى توصيل الطلبات.

كشفت «مريم» خلال حديثنا معها عن كواليس الصورة المتداولة لها عبر السوشيال ميديا قائلة: «تحمّلت مسؤولية أولادى بعد سجن زوجى بسبب مشكلة خاصة بالخدمة العسكرية، عامان ونصف شغلت فيها دورى الأب والأم معًا، أوشكت على الانهيار لولا دعم والدتى وأشقائى وأشقاء زوجى ووقوفهم جانبى، قررت التكفل بمصروفات أولادى «إبراهيم» و«إسلام» فلم أجد أية فرصة عمل بشهادتى، علاوة على أننى كنت غير قادرة على إمساك القلم بسبب إعاقة فى يدى اليمنى، بحثت خارج مجال دراستى وسألت صديقة مقربة تعمل فى إحدى شركات توصيل الطلبات عن فرصة عمل فأخبرتنى بضرورة توافر الوسيلة شرط الالتحاق بالعمل براتب 6 آلاف جنيه».

وأضافت: «عندما أخبرت والدتى وإخوتى رفضوا الأمر، وكذلك زوجى، ولكنهم وافقوا بعد ذلك أمام إلحاحى، وتكفلوا بدفع مقدم «الاسكوتر» وبدأوا فى تشجيعى، وكانت طبيعة العمل تُحتم على الخروج فى الثامنة صباحًا من شقتى فى الزاوية الحمراء إلى بيت والدتى فى المنيل لأترك معها الطفلين ثم أنطلق لعملى، وبمجرد الانتهاء منه فى الخامسة مساء أذهب إليها وأصطحب الصغيرين على الأسكوتر لنعود لبيتنا، وفيما يخص الصورة المنتشرة فقد التقطها لى شخص يدعى «محمد طارق» وأنا راجعة بأولادى على كورنيش روض الفرج دون علمى كنوع من الدعم، وفوجئت فى اليوم التالى بزميلى يخبرنى بأن الصورة «تريند» وحين شاهدتها لم أتمالك نفسى من البكاء».

وتابعت: «المهنة كلها مخاطر، فقد تعرّضت لحوادث كثيرة وفى كل مرة كنت أتمنى الشفاء من أجل أولادى، وفى آخر حادث أصبت بتمزق فى الأربطة وتهالك الأسكوتر تمامًا وحاليًا أسعى لإصلاحه، وأضافت: بعد خروج زوجى من السجن عمل فى المجال نفسه.

وقالت مريم أتمنى أن يكون لنا تأمينات اجتماعية، وأن يكون لى سكن جيد، فأنا وأولادى نعيش فى شقة ضيقة مساحتها 36 مترًا، مضيفة «نفسى أوسع على أولادى».

مخاطر بلا حماية

يتنفّس الصبح فتصحو معه همّته متهيئًا لبدء يوم عمل جديد يتقلّد دراجته النارية ساعيًا ما يزيد على 12 ساعة لكسب قوت يومه من مهنة توصيل الطلبات، فيعود فى المساء لتقرَّ أجفانه بعد طول عناء.. ذلك هو النمط اليومى لـ«عبدالرحمن حلمى» الطالب بالفرقة الرابعة إعلام الأزهر، والذى كشف عن دوافعه للعمل بتوصيل الطلبات قائلًا: «تحمّست للخروج لسوق العمل الحر فى مهنة يكثر فيها الاختلاط بجميع فئات المجتمع لكى أكتسب خبرة فى التعامل وإنشاء علاقات جيدة وخصوصًا أنها لا تحتاج إلى رأس مال كبير، وبدأت العمل فى يونيو 2020، عائلتى كلها تعمل فى وظائف سواء كان قطاعًا حكوميًا أو خاصًا، ولكن وجهة نظرى مختلفة عنهم لذلك قررت الاتجاه للعمل الحر.

وعن أصعب العقبات التى واجهها خلال عمله «دليفرى» يقول «عبدالرحمن»: «الظروف الجوية السيئة عندما تكون شديدة الحرارة صيفًا أو شديدة البرودة شتاءً، والتعامل مع العملاء الذين يصعب التعامل معهم، وذلك يرجع لعدة أسباب؛ الجهل بسياسة الشراء أون لاين أو أن العميل يعانى من خلل نفسى أو يتهرب من استلام الأوردر لعدم توفر المال، علاوةً على الضغط الذهنى والبدنى للالتزام بالمواعيد المحددة مع العملاء رغم الازدحام المرورى أو تعطل وسيلة النقل أو التغير المفاجئ فى الطقس، وكذلك عدم قيام العملاء بإعطاء البيانات بدقة.

عدّد «عبدالرحمن» أصعب وأغرب المواقف التى تعرض لها خلال عمله ذاكرًا منها: «التعرض للتثبيت والبلطجة، كما أن بعض العملاء يستلمون الأوردر سليم ويحدث تلف منهم فيتهمون المندوب بأنه السبب، وأضاف: أحب المهنة ولكنها بطبيعتها خطر جدًا بسبب الحوادث التى تؤدى إلى الوفاة أو الإعاقة أو تدمير الوسيلة المستخدمة وأحياناً تحدث مشاجرات مع العملاء، وقد تتعرض البضائع أو الشحنات للتلف بسبب سقوطها

ووجه عبدالرحمن رسالة لرجال المرور للرأفة بحال مندوبى الشحن، إذا كانت هناك بعض المخالفات البسيطة التى يمكن تجاوزها، ومعاونتهم فى حال تعرضهم لحادث أو سرقة.

مهندس برمجيات

«عمار عبداللاه» مهندس برمجيات لم ينصفه سوق العمل، يرى أن الوضع مزرٍ ولا يزداد إلا تردّيًا، فقرر الاعتماد على نفسه والانضمام لقطاع مقدمى الخدمات «الدليفرى».

ويقول «عمار»: «تحسين الوضع بالنسبة لشاب فى العشرينات من عمره مُجازفة، بدأ الموضوع معى منذ الصغر حيث كنت أهوى ركوب الدرجة والموتوسيكل، وعندما ضاق بى سوق العمل، قررت استغلال هوايتى وتطويعها لمساعدة والدى فى مسؤولية البيت، ولم أتردد فى الالتحاق بمهنة توصيل الطلبات رغم معارضة الأهل والمعارف، وبدأت العمل منذ عام ٢٠١٩ وحتى الآن وخلال تلك الفترة طرأ على هذه المهنة العديد من التغيرات، فقد شهدت تناميًا وتزايد الإقبال عليها بشكل كبير، بسبب اعتماد عدد كبير من المطاعم والمحال التجارية عليها، بجانب المنصات الإلكترونية، مضيفا: طبيعة الشغل تحتم علينا التعامل مع مختلف الطبقات، منهم من يحترم تلك المهنة ومنهم من ينظر إليها بدونية، والدخل اليومى يتراوح بين 100 لـ300 جنيه حسب عدد الساعات والمواسم، وقد ساعدتنى هذه المهنة على الحصول على خبرة واسعة لذلك مستمر بها حتى هذه اللحظة، وبدأت فى تأسيس مشروعى الخاص، وأتمنى أن يُغطى الجمهورية».

وعن مخاطر المهنة قال عمار: «أحياناً يكون الأوردر فى منطقة مقطوعة ويطلع على بلطجية، وممكن يكون على طريق سريع ويحصل عطل فى الموتوسيكل، أو شخص يطلب الأوردر وأذهب لتوصيله وأفاجأ بأنه وضعنى فى الـ«Blacklist»، وأخيراً أتمنى أن يُغير المجتمع من نظرته السلبية لهذه المهنة، وأن توضع تشريعات تنظم عملنا، مع وجود تأمين لمد الحماية الاجتماعية للعاملين بها.

مدرس تربية رياضية.. دليفرى بالـ«العجلة»

يتغلب «عبدالعزيز درويش» مدرس التربية الرياضية على ظروف الحياة بابتسامة راضية، فهو لا يملك من حطام الدنيا سوى دراجته الهوائية التى يستقلها فى المساء ليبدأ بها رحلة عمل جديدة، وهى توصيل الطلبات إلى المنازل.

يقول «عبدالعزيز»: «تخرجت فى كلية التربية الرياضية عام 2012، وعملت فى مهنة التدريس، ولكنها لا تكفى لتلبية متطلبات الحياة الأساسية، فقررت زيادة دخلى بالعمل المسائى، وسلكت طريق توصيل الطلبات بدراجتى الخاصة والتى أجوب بها شوارع الإسكندرية، ويتراوح ثمن التوصيلة بـين 25 و30 جنيهًا.

وعن صعوبة المهنة ومشقة العمل قال: «تعودت طيلة حياتى على الكفاح والشقا، لا يعنينى تعب ومرارة الحياة، بقدر ما يعنينى الاعتماد على نفسى والرزق الحلال، تحمّلت المسئولية منذ الصغر، والدى مدرس فيزياء ووالدتى مدرسة لغة إنجليزية، وأخى مهندس كهرباء، وأختى خريجة سياحة وفنادق، جميعهم ذوو مكانة مرموقة، ولم يقفوا أمام قرارى، فعقولهم متفتحة ومؤمنين بأن العمل–مهما كان–لا ينتقص من صاحبه».

وطالب الشاب «محمد جمعة» والذى يعمل بإحدى شركات التوصيل، بأن يُعترف بتلك المهنة وأن تكون رسمية، تحت مظلة قانون يحمى العاملين فيها من أصحاب الشركات والمحلات، مع وجود نقابة تدافع عن حقوق عمالها، وأن تُدرج ضمن جدول الضرائب لأن الطيار أو الدليفرى شخص مسلوب الحقوق، فنحن فئة مهمشة ولا نتمتع بأى ضمانات اجتماعية أو عقود رسمية تنظّم عملنا، فحن دائمًا معرضون لخطر عصابات الطرق، وخطر الفصل من العمل فى أية لحظة بسبب شكاوى العملاء، أو لأى سبب آخر، إلى جانب مخاطر الطريق التى نتعرّض لها ولا ندرى فى أى مرة ستكون النهاية».

« لما تخف تعالى».. كانت تلك هى الكلمات التى قالها صاحب العمل لـ»محمد» بعد تعرضه لحادث سير، فما كان منه إلا أن أرسل شخصًا إلى ليأخذ منى ثمن الأوردر، ويقوم بمهامى، وتنصّل منى تمامًا.

والتقط أطراف الحديث «حسين محمد» ابن اسيوط صاحب الـ25 عامًا قائلًا: «بعد أن انتهيت من الجيش لم أجد أى فرصة عمل فساعدنى والدى واشترى لى «موتوسيكل» والتحقت بشركة توصيل طلبات وكان يومى بعد البنزين والرصيد 80 جنيهًا، تعرّضت لإصابات خطيرة وعملت فى مطعم للمشويات براتب 1500 فى الشهر، ولى نسبة على الأوردر، وكنت أجلس طوال اليوم أمام المطعم فى عز الشمس وغير مسموح لى بالتواجد بالداخل، فقرر العودة للعمل فى التوصيل، فوالدى مدرس بالمعاش وأنا الوحيد على 4 بنات، عملت منذ أن كان سنى 16 عامًا لمساندة والدى فى تجهيز إخواتى البنات».

وتذكر «حسين» أحد المواقف التى تُعد واحدة من مساوئ المهنة قائلًا: «ذات مرة اشتريت طلبات كانت عبارة عن خضراوات نحو 10 كيلو والعميلة فى الدور الـ11 ويوجد عطل فى الأسانسير، فأجبرتنى على الطلوع على الأقدام قائلة: «مجبر تطلع غصب عنك»، هذه النوعية من المعاملة زادت من استيائى لما وصل إليه حال المهنة».

لم يختلف حال «محمد هانى» الطالب بكلية التجارة كثيرًا عن حال «حسين» وغيره ممن يعملون فى هذه المهنة قائلًا: «بدأت كطيار، كنت أواصل العمل لما يزيد على 16 ساعة اجتهدت وكافحت إلى أن وصلت لمشرف بمنطقه المقطم والمعادى، الأوردر توصيلته 29 جنيهًا، ولا يخلو يومى بدون ما ينغّصه من مخالفات المرور والجروح الخطيرة، وتهالك «الموتوسيكل» الذى اشتريته بعد عناء، أطمح أن تقُدر تلك المهنة فى مصر، وتحظى باهتمام السلطات لسن تشريعات تحميها وتحفظ حقوق أصحابها.

كل هؤلاء وأكثر مهما اختلفت قصصهم فستظل المعاناة قائمة، فئات فى مرمى المخاطر تُرى بعين التهميش، لا تجد سبيلًا لنيل حقوقها، الضمانات الاجتماعية والتأمينية غائبة، ليبقى السؤال: «متى سينتهى مسلسل اغتيال حقوق عمال الدليفرى؟».

 

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: الوفد توصیل الطلبات هذه المهنة تلک المهنة قائل ا عمل فى

إقرأ أيضاً:

عفريت الماء.. أعجوبة الخلق الذي يملك ما يحلم به البشر

مع خياشيم ريشية تنبت من رأسه بشكل عجيب، وأقدام مكفوفة، وزعانف ظهرية تمتد على طول جسمه، وذيل ليس أقل غرابة، كان عفريت الماء أو سَمَنْدل المكسيك محل اهتمام البشر منذ قدم الزمن، سواء قبل آلاف السنوات حينما كانت له مهام كبيرة في أساطير حضارة الأزتك، أو الآن حيث يعتبره العلماء أعجوبة طبية نحاول التعلم منها.

حاليا، ينتشر عفريت الماء في مناطق عدة حول العالم حيث تتم تربيته كحيوان أليف، إلا أن موطنه الأصلي هو مجمع بحيرة زوتشيميلكو، قرب مدينة مكسيكو، وهو مهدد بالانقراض بشدة، ويُقدر أن ما تبقى من هذا الكائن يتراوح بين 50 إلى 1000 سمندل فقط.

السمندل المكسيكي آكل للحوم، ويتغذى على الأسماك الصغيرة والقشريات والحشرات، ينمو الفرد البالغ من هذه العائلة عادة إلى حوالي 15-45 سم في الطول، لكنه يظل محتفظا بسماته الشابة لا تتغير.

كائن بسيط بقدرات خارقة

وما لفت انتباه العلماء في هذا الكائن منذ عقود، القدرة العجيبة على تجديد الأطراف بالكامل، بما في ذلك العظام والعضلات والأوعية الدموية والأعصاب والجلد الذي يغطيها، كما يمكنه تجديد الأعضاء بالكامل بما في ذلك عضلات القلب، وحتى أجزاء من الدماغ والحبل الشوكي، واستعادة الوظيفة العصبية إلى مستوى ما قبل الإصابة.

فقط فكر في الأمر، فهو يشبه قدرات أفلام الخيال العلمي، إذا جرح البطل في أي مكان بجسمه تعود الأنسجة لتلتئم بلا ندب، وإذا قطعت يداه أو قدماه تنمو من جديد، وإذا ضرب بسكين شفي جسمه وكأننا نرجع بالزمن للخلف.

ينتشر عفريت الماء في مناطق عدة حول العالم حيث تتم تربيته كحيوان أليف (بيكسابي)

في الواقع، يمكن لخلايا عفريت الماء العودة إلى حالة تشبه الخلايا الجذعية بعد الإصابة، وهي خلايا غير متخصصة تتميز بقدرتها الفريدة على الانقسام والتجدد لتكوين خلايا جديدة، بالإضافة إلى قدرتها على التحول إلى أنواع مختلفة من الخلايا في الجسم.

تلعب هذه الخلايا دورا محوريا في النمو، تجديد الأنسجة، وإصلاح الأضرار، مما يجعلها محط اهتمام كبير في مجالات الطب والأبحاث.

ورغم العودة إلى حالة تشبه الخلايا الجذعية، تحتفظ هذه خلايا عفريت الماء "بالذاكرة الموضعية"، بمعنى أنها تتمكن من النمو لتجديد أنسجة معينة في المواقع الصحيحة، فإذا فقد الكائن قدما أمامية، فإن خلايا تلك المنطقة تنمو لتصنع قدما أمامية تمثل تقريبا نسخة من القدم المفقودة.

ولذلك، فإنه على عكس البشر والعديد من الحيوانات الأخرى، تلتئم جروح هذه الكائنات دون تكوين ندبة، مما يعني خلاص كامل وتام من أثر الإصابة بشكل يعد الأكثر مثالية في عالم الحيوان.

وإلى جانب ذلك، يتمتع سمندل المكسيك بجهاز مناعي يدعم عملية التجدد، حيث تعمل الخلايا البلعمية (نوع من الخلايا المناعية) على إزالة الحطام وبقايا التلف بشكل نشط وبذلك تعزز نمو الأنسجة، على عكس البشر، حيث تؤدي الاستجابات المناعية غالبا إلى الالتهابات.

وعلى عكس العديد من الأنواع الأخرى، يحتفظ السمندل المائي بقدراته التجديدية طوال حياته. في معظم الحيوانات، تقل القدرة التجديدية مع تقدم العمر، لكن السمندل المائي يظل قادرا على تجديد حتى الهياكل المعقدة مثل الحبل الشوكي أو أجزاء من الدماغ في أي مرحلة من مراحل الحياة.

سعي للفهم

في عام 2018، تم تحديد تسلسل الحمض النووي لعفريت الماء لأول مرة بشكل كامل، في قفزة علمية رائدة مثلت أولى الخطوات الهامة لفهم هذا الكائن، وتم الكشف عن أنه يحمل أكبر جينوم حيواني تمت دراسته على الإطلاق، وفورا بدأ العلماء في دراسة هذا الجينوم العملاق لفهم أسباب قدرة هذا الكائن على التجدد.

وفي عام 2020، حدد الباحثون الجينات التي يعتقدون أنها مسؤولة عن تجديد أنسجة سمندل المكسيك، وفي عام 2023 حقق باحثو جامعة ستانفورد قفزة إضافية إلى الأمام في فهم ما يميز السمندل عن الحيوانات الأخرى.

وبحسب الدراسة، التي نشرها الفريق في دورية نيتشر، ظهر أن السمندل لديه نسخة شديدة الحساسية من جزيء "إم تور"، الذي يعمل كمفتاح تشغيل وإيقاف لإنتاج البروتين.

ومثلما يفعل الناس في حالة الكوارث، عندما يملؤون أقبية منازلهم بأطعمة غير قابلة للتلف للأوقات الصعبة، تخزن خلايا السمندل جزيئات الحمض النووي الريبي، التي تحتوي على تعليمات وراثية لإنتاج البروتينات.

بعد الإصابة يفعّل هذا الجزيء، فيعطي إشارة لاستخراج الحمض النووي المخزن، واستخدامه لإنتاج البروتينات اللازمة لتجديد الأنسجة بسرعة.

على عكس البشر والعديد من الحيوانات الأخرى، تلتئم جروح هذه الكائنات دون تكوين ندبة (بيكسابي)

ولفهم الفكرة، لا بد من معرفة ما تعنيه هذه الجينات، وهي ببساطة شفرات الحياة التي ترثها عن أبويك ويرثها السمندل عن أبويه، تخيل الجسم كفيلم سينما معروض على الشاشة، هذا الفيلم بالأصل يتكون من شريط طويل مشفر عليه المشاهد، هنا يلتقي البطل بحبيبته لأول مرة، وهنا يعترف لها بحبه، وفي موضع ثالث على الشريط تتركه لأحزانه وحيدا.

كذلك تحتوي خلايا كل كائن حي على شريط طويل من الوحدات الكيميائية الممثلة لما يعرف باسم "الحمض النووي"، يوجد في نواة كل خلية من خلاياه، وكل مجموعة من تلك الوحدات تمثل جينا، هنا جين يعبر عن لون الجلد، وهنا جين آخر يعبر عن طبيعة العينين، وهناك جين يعبر عن طول العظام.. إلخ، وصولا إلى أدق التشكلات الجزيئية والتفاعلات الكيميائية في أجسامها.

لكن مثلما يترجم شريط السينما على الشاشة إلى فيلم، فهناك طريقة في أجسادنا تترجم خلالها تلك الشفرات الجينية إلى بروتينات.

البروتين هو كل شيء في جسم الكائن الحي، بداية من مكونات العضلات والأجهزة ووصولا إلى أدق التكوينات العاملة في الخلايا الصغيرة، ولبنائه تترجم الخلية جزءا محددا من الشفرة الوراثية الموجودة داخل نواتها إلى بروتينات، عبر عملية النسخ عن طريق ما يسمى الحمض النووي الريبي، فكر في هذا المركب كرسول، يحمل المعلومات من الحمض النووي (الموجود في النواة) إلى أجزاء الخلية التي تترجمها لتصنع البروتينات.

أمل للبشرية

لكن ما سبق ليس كل شيء، فالأمر معقد للغاية، والخطوات الواقعة ما بين الإصابة وتجديد الأنسجة تتضمن الكثير من الإشارات والمسارات الكيميائية التي تحفز تكاثر الخلايا وتمايزها وتنظيم الأنسجة بشكل شبه مثالي.

كما يعتمد التجديد في عفريت الماء على وجود الأعصاب، وهو أمر ما زال يخضع للدراسة، حيث تطلق الأعصاب عوامل نمو محددة توجه نمو الأنسجة، وإذا تضررت الأعصاب أو غابت، فقد يضعف التجديد، مما يدل على التفاعل الحاسم بين الجهاز العصبي والعمليات التجديدية.

وفي حال تمكن العلماء من فك شفرة قدرة هذا الكائن المدهشة، فإن ذلك سيفتح الباب للكثير من الإنجازات في مجال الطب التجديدي، والذي يهدف إلى إصلاح أو استبدال الأنسجة والأعضاء التالفة أو المريضة أو التي تواجه أعراض الشيخوخة.

ومن الأمثلة على ذلك، تعديل الجينات لعلاج الأمراض الوراثية أو تعزيز قدرة الجسم على الشفاء، وتطوير أدوية تحفز الجسم على تجديد أنسجته بشكل طبيعي، مثل الأدوية التي تعزز نمو العظام أو الغضاريف، واستخدام الخلايا الجذعية لإعادة بناء الأنسجة التالفة، مثل إصلاح القلب بعد النوبات القلبية، أو علاج أمراض الأعصاب كالتصلب المتعدد.

مقالات مشابهة

  • معاناة الشعوب العربية بسبب ويلات الحروب تتصدر مسابقة آفاق بـ«القاهرة السينمائي»
  • المهنة الأسهل.. إدمان أسود يقف وراء 50% من مشكلات العراق الأمنية
  • المهنة الأسهل.. إدمان أسود يقف وراء 50% من مشكلات العراق الأمنية- عاجل
  • عفريت الماء.. أعجوبة الخلق الذي يملك ما يحلم به البشر
  • «درة»: «وين صرنا» فيلم يحكي قصة حقيقية لأسرة فلسطينية عاشت ظروف الحرب ونقلتها بصدق
  • مسئول بجامعة الوادى الجديد: الجامعة تضم كليات تؤهل الخريجين لسوق العمل المحلى والعالمى
  • أمين الجميّل: البلاد على كف عفريت
  • انخفاض غير متوقع لطلبات إعانة البطالة الأسبوعية في أميركا
  • إعادة العمل بنظام تقسيط توصيل الغاز الطبيعي للمنازل