لجريدة عمان:
2025-04-07@07:51:22 GMT

«الدياسبورا» في مطعم يمني

تاريخ النشر: 23rd, November 2024 GMT

يدهشني أن تبدأ قصة هذا المقال من مطعم يمني متواضع يقع في قلب سوق الخوير. أعرف أن الكتابة لا تختار أماكنها ولا تحدد مواعيدها بوعي كامل ومسبق من كاتبها، لكنني لم أتخيل طيلة فترة ترددي على هذا المكان الهامشي أن يتحول إلى مدخل للكتابة عن صورة من صور الشتات العربي في مدينة كمسقط! وهذا بحد ذاته سبب كافٍ لدهشتي من مفاجآت الكتابة، الكتابة التي تحدث قبل أن تبدأ، فتدَّخر المشاهدات والتأملات اليومية في الذاكرة قبل أن تحين اللغة فتحول المألوف والعادي إلى حدثٍ ومادةٍ لحبر الكلام.

فما قصة هذا المطعم اليمني؟ وكيف تحوَّل حيزه الصغير مع الوقت إلى مرآتي الواقعية والمباشرة التي أتأمل فيها صورة موجزة لمعنى الكلمة اليونانية القديمة «دياسبورا» أي الشتات؟ لست متأكدا في الواقع إن كانت قصتي هذه قصة بالمعنى الحقيقي. وربما كان من الأصحِ القولُ بأنه ليس في الأمر قصة من الأساس. كل ما في الأمر أنني أذهب بين صبح آخر لأتناول فطوري البسيط مع الشاي في مطعم يمني، فأرى مصريين وسوريين وسودانيين ولبنانيين وتونسيين، وربما آخرين، معظمهم إن لم يكن كلهم ممن يعملون في المطاعم ومحلات الحلاقة أو في مهن بسيطة مشابهة. تتسلل المأساوية للمشهد حين تدرك بأن كل هؤلاء لم يتركوا أهاليهم ولم يغادروا أوطانهم في ظروف طبيعية. كلهم جاؤوا إلى هنا هربا من ويلات الحروب أو من تردي الأوضاع الاقتصادية في أحسن الأحوال. من بينهم يمكنني رؤية بعض سائقي سيارات الأجرة العمانيين في المطعم وهم ينتظرون صباحهم مع أشقائهم العرب. هكذا يتحول هذا المطعم الصغير إلى منفى مصغَّر تتقاطع فيه أكثر من ست لهجات وهويات عربية. إذن فالقصة التي أزعمها لا تحدث إلا في عقلي، فأنا لا أكتب قصة بل مشهدا يتكرر أمامي في كل مرةٍ آتي إلى هنا. مع علمي بأن هذا المشهد بحرفيته تلك لا جديد فيه، مألوف بلا غرابة في كل مكان تقريبا. الفرق الوحيد في هذا المشهد أنني قررت كتابته بعد أن تأملته في سري لأكثر من عام.

إنه مطعم الزُّهاد كما أحب أن أسميه، أو مطعم «الطبقة الكادحة» بلغة الماركسيين. اكتشفتُ هذا المطعم حين استقر بي المُقام في شارع قريب وبدأت بسبر المكان وتفاصيله مشيا كعادتي. من بين مطاعم مسقط التي من نفس المستوى ميّزتُ هذا المطعم بطعم خبز الطاوة اليمني وبشاي الحليب الممزوج بالبهارات، وفيه عرفتُ لأول مرة مذاق الشكشوكة المعدة بالطريقة العدنية.

يعمل في هذا المطعم شباب يمنيون. يبدأ يومهم بعد صلاة الفجر مباشرة، ثم يستمرون بالتناوب حتى قرابة الثالثة صباحا من اليوم التالي. جاء هؤلاء الفتية من بلاد جريحة ينعق فيها غُراب الخراب والجوع ويتفشى فيها الموت بجميع أصنافه. جاؤوا إلى مسقط باحثين عن لقمة عيش بريئة وسليمة من الذل، ليسدوا بها الحاجة ويحفظوا الكرامة. ومن مراقبتي لنشاط المطعم أستطيع أن أرى كيف يبلون حسنا من هذه الناحية، من الناحية التجارية أعني، فالإقبال عليهم كبير قياسا على حجم المطعم.

رغم كوني زبونا دائما لديهم، ورغم الألفة البسيطة التي تخلقها الحوارات الجانبية بين الغرباء، لم أجرؤ في يوم من الأيام على سؤال الفتية اليمنيين عن حكاية كل واحد منهم. لكن فكرة صناعة فلِم تسجيلي عن حياة الوافدين العرب في مسقط لم تتوقف عن التشكل في ذهني. تمنيتُ لو أن مخرجا أو صحفيا يحمل الكاميرا ليسجل تفاصيل حياة هؤلاء الناس الذي يعيشون بيننا ويتكلمون معنا نفس اللغة لكن أغشية ما تحول بيننا وبينهم فلا نعرف عن حياتهم معنا إلا دورهم الوظيفي في المطعم أو في السوق. أتمنى لو أستطيع أن أعرف أكثر عن خلفياتهم، عن مستوى تعليمهم، وكيف تفاعلت مآسيهم الشخصية الصغرى مع المأساة الكبرى لبلادهم، وكيف قادتهم الخطى إلى افتتاح هذا المطعم والعمل فيه. غير أن هذه الأسئلة تجرُّ حديثا طويلا ذا شجون لن يتفرَّغ له اليمني المنهمك بالطبخ وتقديم الطعام على مدار الساعة. قلتُ سأترك لمخيلتي أن تكمل فراغ حكاياتهم الناقصة كما يفعل الروائيون. يكفيني أن أقرأ الشقاء والأرق في عيونهم. شقاء ممزوج بـ«خضرة القات» التي عبَّر عنها البردُّوني في قصيدته «غريبان وكانا هما البلد»:

عرفته يمينا في تلفُّته

خوفٌ، وعيناه تاريخٌ من الرمدِ

من خضرةِ القات في عينيه أسئلةٌ

صفر تبوح كعود نصف متّقدِ

لا أحد في هذا المطعم يعرف متى ستنتهي ليلة الكابوس العربي الطويلة، وعلى أي حال سيستقر المشهد في هذه البلدان المعذبة بالحروب والاستبداد والإفقار. لا أحد يتحدث عن الوحدة العربية في هذا المطعم. لا توحدهم هنا إلا حروف هذه اللغة التي تفرَّقت بينهم لهجاتٍ عدة. مع ذلك، يمكن لهؤلاء العرب المنفيين أن يتقاسموا الضحك على نكتة تقال بالعامية المصرية، أو أن يطربوا لأغنية فيروز حين يرن بها هاتف أحدهم. فضلا عن اللغة، تجمعهم هنا مصيبة الوطن وغربة «المنفى العربي الشقيق». مثلا، يمكن للسوري أن يحكي لليمني القادم من عدن أو صنعاء قصة خروجه من قريته في ريف دمشق أو حلب، ليجد الغريبان حينها لحظة التقاطع بين قصتيهما على طريقة تستعيد بيت امرئ القيس:

«وكل غريبٍ للغريبِ نسيبُ».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هذا المطعم فی هذا

إقرأ أيضاً:

شبانة يكشف خطة الأهلي لاستعادة محمد عبد المنعم

أكد الإعلامي محمد شبانة أن النادي الأهلي يرغب بشدة في استعادة خدمات مدافعه السابق محمد عبد المنعم المحترف في نادي نيس الفرنسي.

وقال شبانة خلال برنامجه من الآخر والمذاع عبر راديو شعبي إف إم أن إدارة الكرة بالأهلي تخشى الفشل في التجديد لرامي ربيعة وياسر إبراهيم مع عدم حسم صفقة العش رسميا حتى الآن وهو ما يعرض دفاع الفريق لأزمة حقيقية الموسم المقبل.

وأضاف شبانة أن الأهلي يخطط لاستعارة رامي لمدة عام مقابل ٧٠٠ ألف دولار قيمة القسط المستحق للأهلي لدى نادي نيس مستغلا عدم تأقلم اللاعب حتى الان بسبب عامل اللغة على ان يكون هذا الموسم فترة كافية للاعب لاتقان اللغة الفرنسية.

مقالات مشابهة

  • خلاف على الفاتورة يتحول لعركة| إصابة 12 في مشاجرة بمطعم شهير| القصة الكاملة
  • مسؤول يمني يعلن مصرع قيادي حوثي بارز في صنعاء
  • عشاء مصري خاص.. السيسي يصطحب ماكرون داخل مطعم كباب بمنطقة الحسين
  • أهمية اللغة الصينية في التعاملات التجارية
  • شبانة يكشف خطة الأهلي لاستعادة محمد عبد المنعم
  • بيوم الطفل الفلسطيني..استنكار يمني من إبادة أطفال غزة
  • بيوم الطفل الفلسطيني..استكار يمني من إبادة أطفال غزة
  • وزير يمني: مقتل 70 حوثيا في غارة أمريكية غربي البلاد
  • إغلاق مطعم بعد تسمم 648 شخصاً جراء تناول وجباته
  • تركيا: إغلاق مطعم بعد تسمم 600 شخص جراء تناول الشاورما