حينما بدأ العمل في مشروع السد العالي (١٩٦٠)، بعد أن تجاوز العديد من العقبات المالية والسياسية، إذا بسفير الولايات المتحدة الأمريكية بالقاهرة ومعه مدير متحف المتروبوليتان (روريمر) يطلبان لقاء وزير الثقافة المصري ثروت عكاشة ويعرضان عليه شراء قطعة أو اثنتين من معابد النوبة المقدر لهما الغرق خلف السد العالي، بحجة أن مصر لن تتمكن من حماية هذا التراث الإنساني، كان وزير الثقافة المصري رجلاً سياسيا، مثقفا ورقيقا ومهذبا، وقد أجابهما معاتباً: (عليكما أن تبادرا بالعون العلمي لإنقاذ هذا التراث بدلاً من التفكير في شرائه والاستحواذ عليه)، في اليوم التالي لهذا اللقاء كان وزير الثقافة المصري قد بدأ رحلته بصحبة نخبة من علماء الآثار المصريين إلى جنوب مصر حتى خزان أسوان، متفقدا أعمال التنقيب الجارية في المنطقة، وقد تبين له أن ما يتم بشأن الآثار الغارقة خلف السد هو مجرد تسجيل وتوثيق وحصر بحكم أن هذا هو كل ما تسمح به إمكانات الدولة المصرية وقتئذ.
لقد أدرك جمال عبد الناصر حجم المخاطر الجانبية الناجمة عن مشروع السد العالي، فكيف وهو يقيم هذا الصرح الكبير، بينما الحضارة المصرية بتراثها غارقة في المياه، وهو ما يهدد جزءا مهما من الذاكرة المصرية والإنسانية، وقد راح كثير من المثقفين والأثريين المصريين والأجانب يتناولون هذه القضية في كتاباتهم، وبدأ الموقف ينذر بمخاطر كبيرة، بينما مشروع السد العالي يمضي بخطى واثقة وسريعة، لكن لم يدرك القائمون عليه المخاطر الجانبية الناجمة عن هذا العمل الكبير، لذا وجد جمال عبد الناصر نفسه أمام مشكلة، فخلف السد تتكون بحيرة صناعية كبيرة بامتداد ثلاثمائة كيلو متر في الأراضي المصرية، ومائة وسبعة وثلاثين كيلومتراً في الأراضي السودانية، لكي يرتفع منسوب المياه إلى مائة وثمانين متراً فوق مستوى سطح البحر، وهو ما يؤدي إلى إغراق جميع آثار النوبة المصرية والسودانية، بما في ذلك معبد (أبو سنبل)، وعلى ما يبدو فان جمال عبد الناصر والخبراء الروس قد أدركوا هذه الحقيقة متأخراً، ولم يكن في قدرة مصر مالياً وفنياً أن تنقذ هذا التراث العريق الغارق في أعماق المياه، لذا رأت مصر مخاطبة العالم من خلال منظمة اليونسكو، وبدأت رحلة شاقة حينما درست اليونسكو المشروع.
شعر مدير منظمة اليونسكو (السينيور بيتو رينون) بأهمية المشروع والمكانة الكبيرة التي يمكن أن تحظى بها اليونسكو في عمل كبير هو الأول من نوعه في مجال نشاطها، من هنا ظهرت فكرة دعوة العالم للمشاركة في إنقاذ هذا التراث باعتباره تراثاً إنسانيا كبيرا، وقد تبنت المنظمة هذا العمل عندما بدأ الإعلان عنه في يناير ١٩٥٩م، من خلال ثلاث مراحل، أولهما: التنقيب والكشف عن كل المناطق الأثرية في النوبة، وثانيهما: نقل المعابد والآثار الغارقة إلى مناطق مرتفعة على اليابسة بعيدا عن غمر المياه، وثالثهما: تسجيل آثار النوبة تسجيلا علميا دقيقا، وفي ٨ مارس ١٩٦٠، أصدرت اليونسكو نداء إلى كل دول العالم تدعوها إلى المشاركة في هذا المشروع الحضاري والإنساني، وتم تشكيل لجنة برئاسة ملك السويد (چوستاف الثالث)، وأخرى استشارية من اثني عشر عضواً، ثمانية من الخبراء الأجانب وأربعة من المصريين.
أحدث النداء الذي أطلقه مدير منظمة اليونسكو دوياً هائلا في الأوساط السياسية والأكاديمية والإعلامية في كل دول العالم، وتوارت كل القضايا السياسية وخصوصاً الموقف الأوروبي والأمريكي من النظام المصرى لكي تتصدر آثار النوبة المشهد الدولي، وفي سياق هذا الحدث الكبير، فقد اقترح ثروت عكاشة وزير الثقافة المصري على الرئيس جمال عبد الناصر فكرة كانت هي الأولى من نوعها، حيث يتم اختيار نماذج من الآثار المصرية تجوب دول العالم شرقاً وغرباً، من الولايات المتحدة الأمريكية إلى أوروبا وصولاً إلى اليابان حتى يعرف العالم هذا التراث، لكي تحظى مصر بدعم دولي لإنقاذه، وعلى مدار ثلاث سنوات طاف المعرض الكثير من دول العالم بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، حاملاً روح الحضارة المصرية القديمة، وتفاصيل عبقريتها، والذي يعود إلى متابعة الصحف المصرية والعالمية خلال هذه الفترة يمكن أن يلحظ كيف كان الناس يقفون ساعات طوال لكي يشاهدوا هذه الآثار، وهو ما أحدث ضجة كبيرة في كثير من دول العالم، لدرجة أن المجلس الأوروبي قد تلقى طلباً من حكوماته بدعم المشروع فنياً ومالياً، وأصدرت اللجنة بياناً قالت فيه:(إن آثار النوبة هي إحدى الكنوز الكبرى للتراث الإنساني، وهو ما يضاعف من مسئولية الدول الأوروبية لكي تتحمل مسئولياتها في إنقاذ هذا التراث).
اللافت للنظر أن الولايات المتحدة الأمريكية ومعها بعض الدول الأوروبية، التي كانت تكنّ عداء لمصر ولجمال عبد الناصر كانت في مقدمة الدول التي سعت لدعم المشروع، فضلاً عن الدعم الفني والتقني من المؤسسات المعنية بهذا النوع من التراث، ووصل حجم الدول الداعمة لهذا المشروع إلى خمسين دولة، وقد بادر جمال عبد الناصر بدعم المشروع بمبلغ عشرين مليون دولار، وقد حدد الخبراء فترة العمل بسبع سنوات ١٩٦١ -١٩٦٨، وبمجرد أن افتتح معرض توت عنخ آمون في واشنطن ٣ نوفمبر ١٩٦١، إذا بالثقافة المصرية تحقق انتصاراً على السياسة، فقد افتتح المعرض السيدة چاكلين كيندي قرينة الرئيس الأمريكي، وقد حظي المعرض بحفاوة كبيرة، وكتب عنه المثقفون والسياسيون والأثريون وأشادوا بمقتنياته وعبقرية ما أنجزته الحضارة المصرية من تراث معماري وفني خلَّاق، وحينما وصل المعرض إلى باريس، كان في استقباله الرئيس الفرنسي شارل ديجول (٩مايو ١٩٦٧)، بعد أن أصبحت مصر وحضارتها حديث كل الأوساط الفرنسية، لدرجة أن الإبداع المصري القديم قد أصبح مصدر إلهام لبيوت الأزياء ومصممي رقصات البالية و الرقصات الاستعراضية، وقد أبدى الرئيس الفرنسي رغبته في زيارة مصر ولقاء جمال عبد الناصر.
المتابع للصحافة وكل وسائل الإعلام في كثير من كل دول العالم خلال هذه الفترة التاريخية يلحظ أن مصر قد أصبحت في صدارة المشهد، بعد أن تفوقت الثقافة تفوقاً ملحوظاً على السياسة، وتبوأت مصر مكانتها في الأوساط الدولية، بعد أن راح مشروع السد العالي يمضي قدما على الرغم من المشاكل السياسية التي كانت تواجه مصر في حربها في اليمن أو في صراعها مع إسرائيل، لكن كانت عملية إنقاذ الآثار تمضي قدما، وكان السد العالي يرتفع يوماً بعد يوم، لكن كانت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية تخطط لعدوان على مصر وقع صباح ٥ يونيو ١٩٦٧.
لقد احتفى العالم بالانتهاء من إنقاذ آثار النوبة ٢٢ سبتمبر ١٩٦٨، بعد أن تم إنقاذ أروع ما خلفته الحضارة المصرية القديمة، وتبدو المفارقة العجيبة واللافتة للنظر، فقد دعمت بعض الدول الأوروبية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية العدوان الإسرائيلي على مصر ١٩٦٧، ولعلها مفارقة غريبة ولافتة للنظر، فقد كان الضمير الإنساني أكثر تحضرا وهو يشارك في إنقاذ درة الحضارة الإنسانيةــ ما أحوج العالم المعاصر في ظل هذه الأزمات المتلاحقة أن يعتصم بالثقافة والوعي، وأن يستعيد روحه الإنسانية. بكل تأكيد فإن الثقافة بإنسانيتها المفرطة جديرة بأن تبدد ما أفسدته السياسة في كثير من دول العالم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة الأمریکیة وزیر الثقافة المصری مشروع السد العالی الحضارة المصریة الدول الأوروبیة جمال عبد الناصر آثار النوبة هذا التراث دول العالم کثیر من وهو ما بعد أن
إقرأ أيضاً:
إثيوبيا تحت وطأة الزلازل| هل يزيد سد النهضة من خطر الهزات الأرضية؟
تشهد إثيوبيا تزايدًا ملحوظًا في عدد الهزات الأرضية التي سجلتها خلال العامين الماضيين، مقارنة بالفترة التي سبقت ملء خزان سد النهضة، حيث كانت إثيوبيا تسجل قرابة 5 هزات أرضية سنويًا كمتوسط لعدد الزلازل التي تحدث بها طيلة 12 شهرًا، لكن العدد قفز إلى ما يزيد على 30 هزة سنويًا خلال العامين الأخيرين مع ملء خزان السد الذي وصل إلى 60 مليار متر مكعب من المياه، وهي السعة التخزينية القصوى للخزان.
زلازل إثيوبيا في 2024وكشف الدكتور عباس شراقي، أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، عن زيادة عدد الزلازل التي شهدتها إثيوبيا في 2024 مقارنة بالأعوام السابقة.
وقال شراقي، إن إثيوبيا شهدت في السنوات الأخيرة، خاصة خلال هذا العام، ارتفاعًا ملحوظًا في عدد الزلازل، حتى نهاية هذا العام، إذ تم تسجيل 41 زلزالًا متوسط الشدة في إثيوبيا، مقارنة بـ 5 إلى 6 زلازل سنويًا قبل بناء سد النهضة.
وأوضح أن المنطقة الإثيوبية تعد واحدة من أكثر المناطق نشاطًا للزلازل في القارة الأفريقية، نتيجة وجود الأخدود الأفريقي العظيم، الأخدود الأفريقي العظيم يُعد أكبر فالق على اليابسة في الكرة الأرضية، إذ يقسم إثيوبيا إلى نصفين، ونتج عنه براكين ساهمت في تكوين الجبال الإثيوبية، ما يجعل وقوع الزلازل في هذه الطبيعة الجيولوجية النشطة أمرًا معتادًا.
وبين أن المتغير الأبرز في المنطقة هو سد النهضة، الذي يمتلك بحيرة تمتد على طول 120 كيلومترًا وتخزن نحو 60 مليار متر مكعب من المياه، نظرًا لوجود الأخدود الأفريقي، تحتوي الكتلة الأرضية الإثيوبية على العديد من التشققات والفوالق، ما يؤدي إلى تسرب جزء من مياه بحيرة السد إلى باطن الأرض، والذي يُساهم في انزلاق الطبقات الأرضية، والوزن الهائل للمياه المخزنة، والذي يُقدر بـ60 مليار طن، يُشكل ضغطًا كبيرًا على القشرة الأرضية المتشققة.
وأضاف أنه في المستقبل، قد يُصبح سد النهضة نفسه بؤرة زلازل، وعلى الرغم من أن الزلازل الحالية تُعد ضعيفة إلى متوسطة (بقوة 4.5 أو 5 درجات)، إلا أن خطر وقوع زلزال مدمر (بقوة 7 درجات أو أكثر) لا يمكن استبعاده، لافتا أنه في الماضي، كانت الزلازل التي بلغت شدتها 6 درجات في إثيوبيا تُسبب أضرارًا محدودة، لعدم وجود منشآت ضخمة، لكن الوضع الآن مختلف تمامًا، سد النهضة يُعد منشأة ضخمة، وأي زلزال قوي قد يُسبب أضرارًا كارثية للسد والمناطق المحيطة به، متابعًا: “هيبقى في فناء، لأنه هيكون طوفان”.
وعلى الرغم من أن الهزات الأرضية التي وقعت مؤخرًا في إثيوبيا قوية، لكن كان مركزها بعيدا عن المنطقة التي يقع فيها سد نهضة، إلا أن هذا لم يُبعد شبهة أن يكون الضغط على القشرة الأرضية بـ 60 مليار متر مُكعب من المياه سببًا في الزيادة الملحوظة لعدد الهزات الأرضية في العامين الأخيرين داخل إثيوبيا.
من جانبه، أوضح الدكتور هشام العسكري، أستاذ الاستشعار عن بعد في جامعة تشابمان الأمريكية، تأثير الزلازل على بنية سد النهضة، خاصة في ظل تعرض إثيوبيا لزلزال جديد هو التاسع خلال 30 يومًا.
وأشار العسكري، إلى أن الزلازل يمكن أن يكون لها تأثيرات كبيرة على السد، خصوصًا إذا وقع الزلزال بالقرب من المنطقة، على الرغم من أن الزلزال الأخير وقع على مسافة 500 كيلومتر من السد، إلا أن هذا لا يعني أن السد بعيد عن المخاطر، خاصة أن منطقة الفالق الإفريقي تشهد تزايدًا في النشاط الزلزالي.
كما شدد على ضرورة اتخاذ إجراءات وقائية لمواجهة أي تطورات قد تحدث في المستقبل، مؤكداً أهمية إجراء دراسات جيولوجية دقيقة للمنطقة المحيطة بالسد، وتقييم حالته الإنشائية بانتظام لضمان سلامته.
هذه التطورات تأتي في سياق الجدل المستمر حول تأثير سد النهضة على موارد المياه في السودان ومصر، حيث يتابع الخبراء والمواطنون على حد سواء هذه التحولات التي تلقي بظلالها على الوضع المائي في المنطقة.
من جانبها، أكدت الدولة المصرية أنه لا مجال للتنازل أو التفريط عن قطرة مياه واحدة من حصة مصر من مياه النيل، مشيرة إلى أهمية التوصل مع إثيوبيا إلى اتفاق قانوني مُلزِم لتشغيل وإدارة سد النهضة على نهر النيل وعدم التنازل عن قطرة مياه واحدة من حصة مصر المائية.
وقال السفير الدكتور بدر عبد العاطي، وزير الخارجية والهجرة، إن مصر دولة قادرة على الدفاع عن مصالحها وأمنها المائي في قضية سد النهضة الإثيوبي.
ووصف المياه بأنها قضية وجودية وقضية حياة أو موت بالنسبة لمصر، منوها إلى أن مصر الدولة الوحيدة التي تعتمد بشكل كامل على مصدر وحيد للمياه وهو نهر النيل الخالد.
ولفت إلى أن جميع مسارات التفاوض مع إثيوبيا توقفت منذ 2023 نتيجة المراوغة والتفاوض بسوء نية، مشيرا إلى إلى أن هذه المفاوضات التي استغرقت 13 عامًا دون الوصول إلى شيء وكان هناك استغلال للمفاوضات لفرض الأمر الواقع عن طريق بناء السد.
ودعا إلى اتفاق قانوني ملزم حول تشغيل سد النهضة الإثيوبي مشددا على أن الاتفاق يجب أن يتضمن مبادئ قانونية لا يمكن التنازل عنها وأهمها مبدأ عدم إلحاق أي ضرر بمصالح دول المصب فضلًا عن أهمية الإخطار المسبق لأي مشروعات تتم على نهر النيل.
ويذكر أن المفاوضات تجمدت بين مصر وإثيوبيا والسودان وقدمت مصر شكوى لمجلس الأمن الدولي، في سبتمبر الماضي، حيث أكدت مصر إن أديس أبابا ترغب فقط في استمرار وجود غطاء تفاوضي لأمد غير منظور بغرض تكريس الأمر الواقع، وأعلنت مصر مرارا رفضها القاطع لما سمته خارجيتها بالسياسات الأحادية الإثيوبية المخالفة لقواعد ومبادئ القانون الدولي، والتي تشكل خرقا صريحا لاتفاق إعلان المبادئ الموقع بين مصر والسودان وإثيوبيا في عام 2015.