الصراع حول إعادة تعريف ما يمثله الإسلام في عالم القرن 21.. قراءة في كتاب
تاريخ النشر: 23rd, November 2024 GMT
لقد بدأت المعركة على الإسلام مع نزول الوحي. وتنوعت صورها والمشاركين فيها عبر العصور المختلفة، وتعددت أهدافها ووسائلها؛ لكنها اتخذت في هذا القرن والقرن الماضي صورا جديدة تغلفها مسميات جديدة للإسلام. وفي هذا الإطار نقدم عرضا لكتاب د. جيمس دوروسي "المعركة على روح الإسلام: تعريف العقيدة الإسلامية في القرن الحادي والعشرين"، والذي صدر عن دار باليغراف ماكميلان بلندن في يوليو 2024.
وللكاتب مجموعة من الدراسات والمقالات حول هذا الموضوع منشورة بمركز بيجين السادات للدراسات الاستراتيجية، والذي عرفه بأنه متخصص في خطوط الصدع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في العالم الإسلامي، وهو تعريف يفسر لنا سر اهتمام المركز والصحافة الإسرائيلية والمراكز البحثية الغربية بما يكتبه، وخطورة ما تضمنه الكتاب الذي نقدم عرضا له في هذا المقال.
أهمية الكتاب
يأتي الكتاب في وقت تُرسم فيه الخرائط الإقليمية والدولية، وتتنافس القوى الدولية والإقليمية على السيطرة والهيمنة، وتتبارى الأنظمة المستبدة على تقديم الولاءات والتنازلات ومبررات البقاء في الحكم عبر محاولة السيطرة على القوة الناعمة لهذا الدين وتطويعها لمصالحهم، يقول مؤلف الكتاب:
ـ "المعركة على روح الإسلام" هي صراع لإعادة تعريف ما يمثله الإسلام في عالم القرن الحادي والعشرين. وهي أكبر بكثير من مجرد مواجهة وقمع الإسلام السياسي. إنها معركة طويلة الأمد منذ عقود من أجل القوة الدينية الناعمة، تتنافس فيها دول من الشرق الأوسط وآسيا على: الاعتراف بها كزعيمة للعالم الإسلامي، وأن تكون محركات لتفسير "معتدل" ومتسامح وتعددي للإسلام.
إن جهود السعودية والإمارات لتعريف "الإسلام المعتدل" على أنه أكثر ليبرالية اجتماعيا مع خضوعه لحاكم استبدادي، هي محاولة: لضمان بقاء النظام، وتعزيز تطلعاته لقيادة العالم الإسلامي، ودرء التحديات المتجذرة في فروع متنوعة من التيارات الدينية المحافظة المتطرفة.ـ يستخدم المتنافسون الدين لكسب التأييد والتعاطف في أروقة السلطة في الولايات المتحدة وأوروبا، وكذلك بين المجتمعات اليهودية والمسيحية المؤثرة.
ـ إن جهود السعودية والإمارات لتعريف "الإسلام المعتدل" على أنه أكثر ليبرالية اجتماعيا مع خضوعه لحاكم استبدادي، هي محاولة: لضمان بقاء النظام، وتعزيز تطلعاته لقيادة العالم الإسلامي، ودرء التحديات المتجذرة في فروع متنوعة من التيارات الدينية المحافظة المتطرفة.
ـ تكتسب المعركة أهمية إضافية في الشرق الأوسط، حيث يحاول الخصوم تخفيف حدة التوترات الإقليمية من خلال إدارة نزاعاتهم وصراعاتهم؛ بدلا من حلها. ويركز الخصوم على التنافس على القوة الناعمة؛ بدلا من مواجهة القوة الصلبة التي غالبا ما تشمل وكلاء بالمنطقة كأطراف فاعلة.
عرض موجز للكتاب
عندما ألغى أتاتورك الخلافة العثمانية، قال عبد الله بن الحسين مؤسس الأردن: "لقد انتحر الأتراك. فقد كانت الخلافة أعظم القوى السياسية لديهم. أود أن أشكر مصطفى كمال، فالخلافة عربية، كان النبي عربيا، والقرآن باللغة العربية، ويجب أن يكون الخليفة عربيا من قريش. وقد عادت الآن إلى الجزيرة العربية". لكن ذلك لم يحدث، إذ لم يُظهر القادة العرب اهتمامًا بعودتها، وركزت الحركات السياسية الإسلامية المبكرة على إحياء خلافة طموحة كهدف بعيد المدى بدلاً من كونها هدفًا فوريًا.
وبعد مرور قرن، لم تعد الخلافة هي محور الصراع الإسلامي العالمي. بدلاً من ذلك، تتورط القوى الإسلامية في الشرق الأوسط وآسيا في صراع ديني متعمق "على روح الإسلام"، للسيطرة على قوته الناعمة، وتوظيفه لتحقيق النفوذ والهيمنة الجيوسياسية. والمتنافسون في هذا الصراع متعددون، منهم: تركيا والسعودية والإمارات وقطر وإندونيسيا والمغرب، دون فائز واضح؛ لكن مسار المعركة يدور حول:
ـ تعريف الإسلام وشكل الإيمان في القرن الحادي والعشرين.
ـ الطاعة المطلقة للحكام، وتحويل المؤسسات الدينية إلى أدوات للدولة.
ـ جوهر العلاقة بين الدولة والدين، والدور الذي يجب أن تلعبه الدولة في تطبيق الأخلاق الدينية.
ـ مكانة الدين في التعليم والقضاء والسياسة.
ونظرا لأنه صراع على القوة الناعمة للدين، فقد أصبحت الحدود بين الدولة والدين أكثر غموضًا من أي وقت مضى خاصةً في البلدان الأكثر استبدادًا. وقد صمم المستبدون الاعتدال الديني للحفاظ على سيطرتهم مع تلبية متطلبات التنويع الاقتصادي، وتطلعات الشباب إلى تجربة دينية أقل تقييدا وطقوسا، مع الحفاظ.
السعودية اللاعب الرئيسي منذ الستينيات
بدأت "المعركة على روح الإسلام" على يد السعوديين خلال الستينيات، إذ وضعوا الأساس الأكثر تركيزًا وتمويلًا لحملة الدبلوماسية العامة الإسلامية لتعزيز الإسلام المحافظ. وقد اعتبرت القوى الغربية آنذاك هذه الجهود جزءًا من جهودها العالمية لاحتواء الشيوعية.
قامت السعودية بهذه العملية من أعلى إلى أسفل كمبادرة ممولة من الحكومة إلى حد كبير. ونجحت، بمرور الوقت، في الحصول على دعم شعبي واسع النطاق. وذهب الجزء الأكبر من الأموال السعودية إلى مؤسسات دينية وثقافية محافظة للغاية وغير عنيفة في بلدان متعددة. وكان بعض المتلقين للسخاء السعودي سياسيين؛ والبعض الآخر لم يكونوا كذلك. وقد امتد الجهد الديني السعودي، بعد الثورة الإيرانية عام 1979، لمواجهة المد الشيعي الإيراني، عبر الاستعانة الانتقائية بوكلاء في مختلف دول الشرق الأوسط، ومولت المملكة بشكل مباشر الجماعات المسلحة ردًا على ظروف محددة: أفغانستان ضد السوفييت في الثمانينات، وباكستان لدعم الجماعات المعادية للشيعة والمناهضة لإيران، والعراق الذي شهد تمردًا مناهضًا للشيعة، وإيران في محاولات لإثارة الاضطرابات العرقية. وتم نقل الأموال يدويًا، أو عبر رجال الأعمال والصرافين والبنوك المختارة، أو عبر أسماء تجعل من الصعب تعقب المتبرعين.
محمد بن سلمان ونهج جديد
مع صعود محمد بن سلمان، تبنت المملكة نهجًا جديدًا. قلل الأمير محمد بشكل كبير من دور الشخصيات والمؤسسات الدينية المحافظة للغاية، وخفض التمويل العالمي للنشاط الوهابي، وعزز حقوق المرأة، وبنى قطاع ترفيه على النمط الغربي، في سعى لتصوير المملكة وتقديم إسلامها كمتسامح طموح منفتح يهدف إلى فتح أبوابها. وعلى سبيل المثال، كانت "رابطة العالم الإسلامي" سابقا وسيلة للترويج عالميا ل"لإسلام المحافظ"؛ لكنها الآن تبني علاقات أقوى مع الجماعات اليهودية والمسيحية الإنجيلية، وحولها بن سلمان إلى منبر لنشر رؤيته حول "الإسلام المعتدل". وفي الوقت نفسه، تراجعت تبرعات المملكة الموجهة دينيًا، ويتم تنقية الكتب المدرسية، وهناك تغيير في لغة هذه الكتب فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل.
وبينما تطبق المملكة قوانين صارمة بشأن التبرعات الخيرية للخارج، فإن تمويل المقاتلين الذين يخدمون أهدافها الجيوسياسية يظل غامضًا. وقد ذكر متشددون باكستانيون تدفق أموال كبيرة إلى المدارس الدينية المحافظة على الحدود الباكستانية مع إيران وأفغانستان. وذكروا أن هذه الأموال كانت تُوجه عبر مواطنين سعوديين من أصول بلوشية، وغالبًا ما تُنقل في حقائب، في وقت كان صانعو السياسة الأمريكيون يقترحون فيه زعزعة استقرار النظام الإيراني عن طريق دعم الحركات الانفصالية العرقية.
الدور الإيراني بعد ثورة 1979
كانت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 بمثابة الشرارة التي أطلقت مرحلة جديدة من التنافس السعودي الإيراني الذي اجتاح تدريجيا الشرق الأوسط ومناطق آخرى، مع الاختلاف بينهما في مفاهيم القوة الدينية الناعمة. كان التركيز الأساسي للسعودية عقائديا؛ بينما ركزت إيران الثورية على الحصول على القوة الصلبة، ومحاولة تصدير الثورة، ثم اتجهت إيران إلى رعاية وتجنيد الجماعات الشيعية بالمنطقة كخط دفاع أول بالنسبة لها. وفي جنوب شرق آسيا وغرب أفريقيا، ركزت إيران على القضايا الدينية والاجتماعية.
المعركة تصبح أكثر تعقيدا
بعد التنافس السعودي الإيراني على القوة الدينية الناعمة و"المعركة على روح الإسلام"، دخل معهما لاعبون جدد: الإمارات وتركيا وقطر وإندونيسيا، مما أدى إلى زيادة الخطوط الفاصلة بين القوة الناعمة الدينية والثقافية والقومية البحتة، والصراع داخل المجتمعات الإسلامية على القيم والحريات والحقوق والأنظمة السياسية المفضلة، والجمع بين القوتين الناعمة الدينية والقوة الصلبة، واستخدام الوكلاء:
ـ الحرب التي تقودها السعودية والإمارات لمواجهة إيران في اليمن.
ـ الدعم الإماراتي والمصري والتركي للأطراف المتصارعة في ليبيا والسودان.
ـ التورط التركي والخليجي في سوريا.
هذه التدخلات تكشف عن الانتهازية التي يتبناها معظم اللاعبين. فالإمارات داعية الاعتدال، لا تزال تدعم قوات خليفة حفتر في ليبيا التي تضم صفوفها عددا كبيرا من المقاتلين السلفيين.
اللاعبون والتعامل مع الإسلام السياسي والربيع العربي
كان انبعاث "الإسلام السياسي" نتيجة لثورات الربيع العربي سببا في تغذية أسوأ مخاوف قوى المنطقة سواء في الخليج أو العسكر في مصر. وخلقت الاضطرابات فرصة لتحرك مضاد قادته الإمارات، فأطلقت مشروعا لتسويق "مشروع الإسلام المعتدل المتسامح" الذي يحترم التنوع والحوار بين الأديان. وفي الوقت نفسه، رضخ بن زايد للسلفيين الذين سعوا إلى فرض الشريعة الإسلامية الصارمة على معقل حفتر في شرق ليبيا، بما يتناقض مع وجهة نظره القاتمة حول التيارات والتفسيرات الإسلامية المحافظة. وهي وجهة نظر عبر عنها يوسف العتيبة سفير الإمارات في واشنطن عندما قال: "خاضت أبوظبي 200 عام!! من الحروب مع السعودية بسبب الوهابية".
الإسلام المسيس
لعب بن زايد دورا رئيسيا في تشكيل سياسات بن سلمان ضد الوهابية والانحياز إلى ما يطلق عليه "الإسلام المسيس"، أو "الاتجاه الثالث في الإسلام السياسي"، وهو اتجاه مرتبط ارتباطا وثيقا بسلطة الدولة وخاضع لها. وقد آتت جهوده ثمارها في الترويج لهذا النوع من الإسلام، والترويج الدعائي للإمارات عبر جماعات الضغط الغربية على أنها مجتمع تعددي مستنير متسامح دينيا. كما قدمت نفسها كدولة علمانية على الرغم من أن دستورها يتطلب أن يكون التشريع متوافقا مع الشريعة الإسلامية. وسجلت واحدة من أهم نجاحاتها مع الزيارة البابوية الأولى لها وتوقيع وثيقة الأخوة الإنسانية مع شيخ الأزهر، والتي صاغها قاض مصري. وسعى بن زايد إلى نشر أفكاره عبر إنشاء منظمات دينية خاصة به، وإطلاق برامج تدريب للأئمة غير الإماراتيين، وتشجيع تبني الأزهر للغة معتدلة لمكافحة التطرف والتعصب. وقد حققت الإمارات نجاحات أولية بتدريب الآلاف من رجال الدين الأفغان، وعرضت تقديم خدمات مماثلة للأئمة الهنود.
الإٍسلام الإماراتي والثورة المضادة
النسخة الإماراتية من الإسلام "الإسلام المسيس" عززت الثورة المضادة لمواجهة الجماعات المرتبطة بالإخوان المسلمين وفروع أخرى من الإسلام السياسي. وساعد بن زايد في تدبير انقلاب عسكري بمصر في 2013 أطاح بالرئيس الذي فاز في الانتخابات الحرة والنزيهة الأولى والوحيدة في مصر. وفي 2017، هندست الدبلوماسية الإماراتية السعودية البحرينية المصرية المقاطعة الاقتصادية والسياسية المُنهِكة لقطر التي تُتهم بأنها ركيزة من ركائز الإسلام السياسي.
أدوات التغلل الإماراتي
كان التأثير العالمي المتنامي للإمارات واضحا في قائمة الأشخاص الذين شاركوا في مؤتمر غروزني عاصمة الشيشان 2016 ، الذي حرم الوهابية. كان من بين المشاركين: شيخ الأزهر، ومفتي مصر شوقي علام، وصوفي السلطة علي جمعة المؤيد القوي للرئيس السيسي، وأسامة الأزهري مستشاره للشؤون الدينية، ومفتي سوريا عبد الفتاح بزم المقرب من بشار، والحبيب علي الجفري رئيس "مؤسسة طابة الإسلامية" التي تتخذ من أبوظبي مقرا لها، ومفتي الهند الشيخ أبو بكر أحمد؛ ونظيره الأردني عبد الكريم الخصاونة.
النسخة الإماراتية من الإسلام "الإسلام المسيس" عززت الثورة المضادة لمواجهة الجماعات المرتبطة بالإخوان المسلمين وفروع أخرى من الإسلام السياسي. وساعد بن زايد في تدبير انقلاب عسكري بمصر في 2013 أطاح بالرئيس الذي فاز في الانتخابات الحرة والنزيهة الأولى والوحيدة في مصر. وفي 2017، هندست الدبلوماسية الإماراتية السعودية البحرينية المصرية المقاطعة الاقتصادية والسياسية المُنهِكة لقطر التي تُتهم بأنها ركيزة من ركائز الإسلام السياسي.وتمول الإمارات أيضا "منتدى تعزيز السلم في المجتمعات الإسلامية"، الذي أُنشئ ليواجه اتحاد علماء المسلمين الموجود بالدوحة. ويتبني المنتدى مفهوم مكيافيلي للدين كأداة قوية في يد الأمير. وبدأ أفراد الأسرة الحاكمة في مغازلة عبد الله بن بيه نائب رئيس اتحاد علماء المسلمين في أوائل 2013 الذي قبل دعوة الإمارات في نفس الشهر الذي أطاح بمرسي. ويرأس بن بيه مجلس الفتوى، ويتحدث نيابة عن حكومة الإمارات.
تأتي مغازلة الإمارات للشخصيات الدينية المؤثرة في العالم الإسلامي من إدراك بن زايد أنه بحاجة إلى القوة الدينية الناعمة لتبرير استخدام الإمارات للقوة الصلبة في بلدان مثل اليمن وليبيا. وسوف يقرر النفوذ المالي والسياسي للإمارات درجة نجاحها في حملة نشر الفكر السياسي الإسلامي المضاد للثورة. يقول يحيى بيرت، وهو باحث بريطاني مسلم من رجال الدين المدعومين من الإمارات: "ثمن الرعاية الإماراتية للعلماء مرتفع للغاية. إذ أن أي انتقاد لانتهاكات حقوق الإنسان فيها يبدو مستحيلا".
هذا لتغليف الأنيق لحملة العلاقات العامة يمنح الإمارات ميزة تنافسية مع السعودية المكبلة بصورتها كدولة متشددة محافظة تحاول التخلص من السجل المتضخم المشوه بشدة لحقوق الإنسان.
تركيا والتوق إلى المجد الإمبراطوري
تتمتع حملة القوة الناعمة الدينية التركية بميزة قومية وهي الشوق إلى المجد الإمبراطوري الماضي. فأعاد أردوغان مسجد آيا صوفيا الذي حوله آتاتورك إلى متحف، وشرع في حملة دعم المساجد والمجتمعات المسلمة التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية. كما يشير إلى نيته استعادة المجد التركي وموقع بلاده كزعيمة للعالم الإسلامي، وكمدافعة عن المسلمين في جميع أنحاء العالم. وجعل لمؤسسة الديانة التركية دورا رئيسيا في السياسة الخارجية والمساعدات ونشر الشكل المعتدل من الإسلام، وزادت ميزانيتها 27 ضعفا أثناء حكمه. وبذلك غرس نسخته من الإسلام السياسي ضمن مكونات مهمة في استراتيجية تركية متعددة الجوانب لتقوية النفوذ عبر التنمية، والمساعدات الإنسانية، ومشروعات البنية التحتية، والاستثمار، وفتح الجامعات.
ليس أردوغان هو أول زعيم تركي يربط الهوية الإسلامية لتركيا بماضيها العثماني. فقد سبقه رئيس الوزراء تورغوت أوزال في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، إذ كان رائدا في الانفتاح على آسيا الوسطى، وتشجيع الاستثمار التركي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
جمعية نهضة العلماء و"الإسلام الإنساني"
إندونيسيا هي المنافس الجديد على القوة الدينية الناعمة، مستفيدة في ذلك بجمعية "نهضة العلماء" وقدرتها على الوصول إلى ممرات السلطة في عواصم العالم، بما في ذلك واشنطن ولندن وبرلين والفاتيكان ودلهي، وما أقامته من علاقات عمل وثيقة مع القاعدة الشعبية المسلمة في مختلف أنحاء العالم، والجماعات اليهودية والمسيحية البارزة. كان هذا الوصول من خلال تبنيها عام 2015 لمفهوم "الإسلام الإنساني"، والذي يقوم على أن هناك إشكالية في المفاهيم الإسلامية فيما يتعلق بالعلاقة مع غير المسلمين، وعلاقة المسلمين بالدولة والنظام القانوني السائد في الدول التي يقيمون فيها، مما يجعلهم غير قادرين العيش بانسجام وسلام في إطار التعددية الثقافية، والمجتمعات متعددة الأديان في القرن الحادي والعشرين.
كان رئيس وزراء أندونيسيا يأمل في البداية، من خلال تبني "الإسلام الإنساني"، أن تصبح إندونيسيا منارة لتفسير معتدل للدين، فقال في احتفال وضع حجر الأساس للجامعة الإسلامية العالمية في جاوة الغربية: "إنه من الطبيعي والمناسب أن تصبح إندونيسيا المرجع الرسمي الذي يقدم الحضارة الإسلامية".
هناك مخاوف سعودية وإماراتية من أن تظهر إندونيسيا كمنافسة لقوتهما الناعمة الدينية عبر سعي نهضة العلماء إلى دفع مفهوم "الإسلام الإنساني" على مستوى العالم، وأعلى المستويات الحكومية في العواصم الغربية والهند، مدعومة في ذلك برئيس الوزراء الأندونيسي، مما أعطاها قدرة على المنافسة على القوة الناعمة للإسلام مع الإمارات والسعودية اللتين تحظران الأحزاب السياسية، ولا تعملان بالقواعد القائمة بعد الحرب العالمية الثانية: حقوق الإنسان، سيادة القانون، الديمقراطية، واحترام سيادة الدول الأخرى.
تستفيد الجمعية برفض "الوجه العربي للإسلام" الموسوم بالتطرف في الغرب. وهناك بعض العناصر الغربية مهتمة ب "الإسلام الآسيوي"، الذي يبدو لهم أكثر اعتدالا وتسامحا من الإسلام العربي.
بين التجاهل والتنسيق
خلال معظم العقد الماضي، اختارت دول الخليج تجاهل جمعية "نهضة العلماء"، المنافس الأقوى المحتمل لتفسيرهم للدين، ورفض أمين رابطة العالم الإسلامي الالتقاء بهم. لكن في 2018، وتلبية لاقتراح محاور أمريكي، تم اللقاء في مكة بين الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي وزعيم جمعية نهضة العلماء.
إندونيسيا هي المنافس الجديد على القوة الدينية الناعمة، مستفيدة في ذلك بجمعية "نهضة العلماء" وقدرتها على الوصول إلى ممرات السلطة في عواصم العالم، بما في ذلك واشنطن ولندن وبرلين والفاتيكان ودلهي، وما أقامته من علاقات عمل وثيقة مع القاعدة الشعبية المسلمة في مختلف أنحاء العالم، والجماعات اليهودية والمسيحية البارزة.لا يمكن للسعودية والإمارات تجاهل الجمعية، فهي أكبر وأقدم جمعية إسلامية رسمية في العالم، عدد أعضائها 90 مليون على مستوى العالم، ولها حزب سياسي ممثل في الحكومة، وسلطة دينية خاصة بها، ووصول إلى أروقة السلطة في العالم، وبنية تحتية تعليمية واسعة النطاق، وميليشيا قوية يبلغ قوامها خمسة ملايين. لذا، قامتا بالتواصل معها في محاولة لاستمالتها، مع منافستها في الوقت نفسه.
الخلاصة
يرى الكاتب أن المعركة الكبرى على القوة الناعمة للإسلام هي إلى حد كبير معركة حول تعزيز النفوذ العالمي والإقليمي؛ ولا علاقة لها بمفاهيم الإسلام المعتدل على الرغم من ادعاءات مختلف المنافسين، ومعظمها دول استبدادية مع القليل من الاهتمام بحقوق الإنسان وحقوق الأقليات أو الحريات الأساسية. لكن تأتي إندونيسيا خارج الإطار التقليدي والمحافظ، فجمعية نهضة العلماء، حازت على الاحترام والاعتراف الدوليين باحتضانها "إسلام إنساني" يعالج المفاهيم الإسلامية التي تعتبرها قديمة كالخلافة، بما يشكل تحديا للجهات الفاعلة القوية في "المعركة على روح الإسلام". ولا تزال "نهضة العلماء" تواجه تحدي التغلب على وجهة النظر العربية التي عبر عنها عبد الله الأول ملك الأردن بعد نهاية الخلافة بأنها يجب أن تعود إلى العرب.
يثير المدح المبالغ فيه الذي كاله المؤلف ل"جمعية نهضة العلماء" الكثير من التساؤلات حولها: هل هي كيان مواز في أندونسيا وجنوب شرق آسيا على غرار جمعية فتح الله جولن في تركيا؟ ما هي حدود علاقتها بإسرائيل واليمين الصهيوني فقد زار زعيمها فلسطين المحتلة والتقى بنتنياهو؟ وهل هي محاولة لتدجين الإٍسلام وإخراج نوع منه متوافق مع الغرب قيما وسلوكا، ومنفصل عن قضايا العالم الإسلامي، وفاقد لأسباب المقاومة؟ وهل هي محاولة أيضا لاختراق الجاليات المسلمة بالغرب وإضعاف دورها في نصرة قضايا العالم الإسلامي؟ وهل يكون الإسلام الإنساني الذي تدعو إليه الجمعية مدخلا لشرق أوسط جديد تكون إسرائيل عضوا مقبولا وفاعلا فيه؟ هذا على الرغم من أن القاعدة الأساسية للجمعية مؤيدة لفلسطين مثل باقي الشعب الأندونيسي.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب عرض اسلام كتاب عرض تعريفات كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القرن الحادی والعشرین السعودیة والإمارات جمعیة نهضة العلماء على القوة الناعمة الدینیة المحافظة الإسلام الإنسانی الإسلام المعتدل الإسلام السیاسی العالم الإسلامی الإسلامیة فی الشرق الأوسط من الإسلام هی محاولة فی العالم السلطة فی بن سلمان بن زاید على أن التی ت فی ذلک فی هذا
إقرأ أيضاً:
هل يمكن أن نتحدث عن أمن قومي فلسطيني اليوم؟ قراءة في كتاب
الكتاب: رؤية حول الأمن القومي الفلسطيني المفهوم.. التحديات.. الفرص.. سبل التعزيزالكاتب: علاء جمال النجار
الناشر: مركز الجزيرة للدراسات 2024
عدد الصفحات: 251 صفحة
ـ 1 ـ
يعرض الباحث علاء جمال النجار قصة الكتاب المؤلمة التي تجعله يقرأ بالقلب والعقل معا: فقد شاءت الأقدار أن ينهي تحرير الكتاب ومراجعته عندما اشتد العدوان الإسرائيلي على غزة في معركة طوفان الأقصى "حيث هدير الطائرات الصهيونية، ودوي القصف المدفعي الغاشم، وأزيز الشظايا المتطايرة من حولي، ورائحة أشلاء الشهداء المنبعثة من بين زكام البيوت المدمرة، وقد انقطعت خدمات الكهرباء والاتصالات والانترنت عن الشعب المحاصر، وقد نهش التجويع أمعاءنا". ومن شأن هذا السياق أن يدفعه إلى التريث.
فـ:
ـ العدوان حدث فارق في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يمكن أن يغيّر على الأرض الكثيرَ من المعطيات ذات الشأن بأمن الفلسطينيين.
ـ والبحث العلمي يحتاج الهدوء والرصانة ويتجنب اللحظات الانفعالية التي يمكن أن تؤثر في موضوعية النتائج غالبا.
ولكن ما حسم أمره أنّ "العمر غير مضمون" وأن احتمالات الموت في غزة أكبر من احتمالات النجاة. هذا فضلا عن عسر تغيّر الموضوع جوهريا مهما تكن نتائج هذه المعركة لتعلّقه بمسألة إستراتيجية، يقول: "فلست أدري هل سأحيي لأرى هذا الكتاب خارجا إلى النور، مطبوعا منشورا لمن يهمه الأمر من القراء، أو قد يمزقني صاروخ صهيوني غادر قبلها، ويدفنني تحت الركام، كعشرات آلاف الشهداء الأبرار من أبناء شعبنا الفلسطيني المظلوم".
ـ 2 ـ
يعدّ "الأمن" حاجة ضرورية للبقاء بالنسبة إلى الإنسان، وأولوية يعمل على ضمانها بعد أن أدرك أن سلامته وخلاصه الفرديين لن يتحققا إلا بتحقق أمن المجتمع. وتاريخيا يعدّ توقيع معاهدة ويستفاليا سنة (1648) أول اتفاقية دبلوماسية دولية في العصر الحديث، فقد أنهت عقودا من الحروب الدينية في أوروبا المسيحية بعد أن كانت الإمبراطورية الرومانية وفرنسا وأسبانيا والسويد وهولندا والدويلات الجرمانية المتصارعة تنخرط فيها. فأرست نظامًا جديدًا قائما على مبدأ احترام سيادة الدول. ومنذ ذلك التاريخ ظهرت دراسات الأمن القومي وارتبطت بعمل الدول المتزايد على الحيلولة دون التهديدات العسكرية الخارجية.
صمود الشعب الفلسطيني على أرضه وعدم تخليه عن المقاومة بأشكالها المتنوعة، كالمقاومة المسلحة، والشعبية والفردية العامل الديموغرافي نتيجة تزايد أعداد الفلسطينيين مقابل الإسرائيليين ودور فلسطيني الشتات كلّها من عناصر القوة.استخدم هذا المصطلح أوّل مرة سنة (1947)، عند تأسيس مجلس الأمن القومي الأمريكي. ومنذ ذلك الحين أخذ مفهومه يدور حول فكرة مركزية، مدارها على ما يضمن وجود الدولة واستمرارها وسلامة أركانها، ويكفل شروط استقرارها، ويلبي احتياجاتها ويؤمّن مصالحها، من قيم وسياسات وأهداف. ثم أصبح فرعا من علومي الدراسات الإستراتيجية والعلاقات الدولية. وتأخذ دلالاته المختلفةُ المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية بعين الاعتبار. وتقترب من مفهوم الإدارة العليا للدولة. وتتجه اتجاهين أولهما تقليدي تهيمن عليه الرؤية الواقعية التي تضيّق مفهومه وتكاد تختزله في الدولة وما يتعلّق بها من قوة عسكرية. أمّا ثانيهما وقد ظهر بداية من تسعينيات القرن العشرين، فيتوسّع ليشمل أبعادًا أخرى غير عسكرية. وبالأساس هو ينادي بوضع أمن الأفراد على رأس الأولويات بدلا من أمن الدولة. ويرى أن أغلب تهديدات أمن الشعوب لا تَصْدر بالضرورة من جيوش دول الجوار، بقدر ما تأتي من عناصر غير عسكرية مثل الفقر والمرض والجور السياسي والاقتصادي داخل الدولة نفسها.
ـ 3 ـ
تمثل فلسطين حالة نادرة في الواقع الدولي. هي تواجه استعمارا استيطانيا منذ ما يزيد عن القرن، أي منذ الانتداب البريطاني ثم النكبة سنة 1948 ثم التوسّع بعد الهزيمة العربية سنة 1967. وهذا ما أضر كثيرا بشرطين من شروط قيام الدولة، هما وحدة الأرض والشعب. ولعلّ السؤال الذي يطرح في السياق الراهن هو: كيف يمكن الحديث عن أمن قومي وعن سبل دراسة شروطه في ظل غياب احتلال الأرض، وفي ظل نظام دولي يتصف بالفوضوية وتصادم المصالح وتواطؤ معلن على الحق الفلسطيني.
لا يرى الباحث في ذلك أي تعارض. ويرى ضرورة التفريق بين مستويين من التحليل، يتعلّق الأول بوجود المفهوم في حد ذاته وهو الأمن القومي الفلسطيني، والثاني يتعلّق بتحقّق الأداة الكفيلة بتحقيق هذا المفهوم وهي الدولة المستقلة. وانطلاقا من رصده للتجارب الأمنية المختلفة ينتهي إلى أنّ جوهر الأمن يختلف من دولة إلى أخرى، تبعا لاختلاف مصالحها وقدراتها، وأن للبلدان المحتلة، بشكل خاص كياناتها السياسية الثورية وأجهزتها الأمنية، التي عملت على تأمين المصالح الوطنية بالقدر المستطاع حتى قبل انتصارها وتحقيق استقلالها.
وهذا يؤكّد أنّ احتلال فلسطين لا يعني عدم وجود أمن قومي. ذلك أنّ هذا الهاجس يلازم كل الكيانات السياسية وأنّ للشعب الفلسطيني مصالحه العليا لا بدّ من حمايتها. ويرصد مراحل تطور العمل الأمني الفلسطيني من مرحلة اللا أمن في الفترة (1948-1967 إلى مرحلة حرب التحرير الشعبية في الفترة (1967-1982) إلى مرحلة ما بعد خروج منظمة التحرير من بيروت، في الفترة (1983 ـ 1987)، عندما انتقلت قيادة منظمة التحرير الفلسطيني إلى تونس، إلى مرحلة المقاومة الشعبية ممثلة في الانتفاضة من سنة 1988 ـ 1994 إلى مرحلة ما بعد قيام السلطة الفلسطينية، من سنة 1994-2007 التي شهدت تأسيس الأجهزة الأمنية الحكومية الفلسطينية إلى مرحلة الانقسام السياسي التي بدأت سنة (2007)، واتسمت بظهور أجهزة أمنية حكومية في غزة موازية لحكومة الضفة الغربية.
ويستنتج أنه كان للفلسطينيين دائما، وعلى أرض الواقع أجهزتهم العسكرية والأمنية، متمثلة في أجهزة السلطة الفلسطينية، وأجهزة المقاومة. "وبالتالي فإن مفهوم الأمن القومي ينطبق على الحالة الفلسطينية، مع تميزها بخصوصية معينة. ورغم أن الفلسطينيين ليسوا أمة قائمة بذاتها، ولا يشكلون قومية خاصة بهم، بل هم جزء من القومية العربية؛ إلا أنه لا غضاضة في استخدام مصطلح الأمن القومي الفلسطيني".
ـ 4 ـ
استنادا إلى كل ما تقدّم، يعرّف الباحث علاء جمال النجار الأمن القومي الفلسطيني إجرائيا بأنه "حماية الشعب الفلسطيني ومصالحه ـ في داخل فلسطين وخارجها، ويشمل السياسات والأنشطة التي تهدف إلى ضمان بقاء وسلامة الشعب، وتحرير أرضه وحمايتها، وصون كيانه السياسي، وحماية مصالحه القومية، وتوظيف كافة موارده لتحقيق أهدافه العليا، وعلى رأسها إقامة دولته المستقلة". ويقسّم المصالح الفلسطينية العليا إلى:
ـ المصالح الحيوية ممثلة في صيانة وحدة الشعب وضمان التمثيل الفلسطيني الجامع وبناء الاقتصاد الوطني المقاوم المتحرر من قيود التبعية الاقتصادية للاحتلال.
ـ المصالح الجوهرية ممثلة في بقاء الشعب الفلسطيني وضمان ديمومته على أرضه والحيلولة دون إبادته توفير ملاذ آمن له ودرء خطر التهجير أو ما يسميه "الإسرائيليون" بالترانسفير والدفاع عن الأرض وحدودها ومواردها والتمسك حق العودة، أملا في التحرر من الاحتلال وحق ممارسة تقرير المصير .
ـ 5 ـ
يبحث لاحقا في تحديات الأمن القومي الفلسطيني ضمن الدائرتين الفلسطينية و "الإسرائيلية"، مستطلعا آراء نخبة من الشخصيات القيادية الفلسطينية حول أبرز التحديات التي تواجه الفلسطينيين. ويهدف من ذلك إلى رصد التحديات التي تستهدف الأمن القومي وإدراك طبيعتها ودوافعها وتداعياتها، وتحديد طبيعة القيم الوطنية المستهدفة. ويرى أنّ المبحث يتطلّب الصراحة والجرأة والموضوعية والأمانة.
يصطدم الباحث حين يتناول تحديات الأمن القومي ضمن الدائرة الفلسطينية، بأزمة المشروع الوطني الذي يعاني هشاشة في النظام السياسي وانقساما حادّا بسبب الدور الذي تمارسه السلطة الفلسطينية وفق اتفاقيات أوسلو وبسبب غياب العقيدة الأمنية الوطنية الموحدة الموجهة لعمل الأجهزة الأمنية وانتشار فوضى السلاح والانفلات الأمني ومشكلة العمالة والجاسوسية لصالح العدو. أضف إلى ذلك قضايا مختلفة منها استشراء الفساد في المؤسسات والهشاشة الاقتصادية وما نجم عنها من ترد للأوضاع المعيشية وحالة التشرذم القسري التي يعيشها الفلسطينيون في معازل جغرافية متباعدة.
وضمن الدائرة الإسرائيلية تستهدف التحديات في أغلبها إنهاء الوجود السياسي للفلسطينيين . ويعدّ الاختلال المفرط في ميزان القوة لصالح "إسرائيل"، وتطورها التكنولوجي الهائل على رأس هذه التّحديات. فبسببهما تُحتل معظم أراضيهم وتمارس ضدّهم وسياسات "الأسرلة" بدءا بتهويد مدينة القدس. وتُشوّه هويتهم، وتُكسر إرادتهم لتبديد آمالهم بإقامة دولتهم المستقلة. وتتنوع أشكال هذه التحديات بين عنف مباشر صريح، وسياسات استعمارية ممنهجة بعيدة المدى وهيمنة على الاقتصاد.
ـ 6 ـ
ولا تقلّ تحديات الأمن القومي الفلسطيني ضمن الدائرتين الإقليمية والدولية ضراوة. يستعرض الباحث التركيب الجيوسياسي للإقليم لإبراز ذلك. فالدول العربية التي يفترض أن تمثّل الحاضنة الإقليمية للشأن الفلسطيني تعاني من ضعف حدّ من مناعتها القومية أفضى إلى ميوعة مفهوم الأمن القومي العربي وحلت محلّه مقاربات الأمن القطري. وموجات التطبيع مع إسرائيل عاتية الذي قد يتحوّل إلى تعاون أمني يستهدف المقاومة الفلسطينية لخنقها وتطويع فصائلها ويهدّد الأمن الإنساني للفلسطينيين الموجودين في الدول العربية.
فشل دولة الاحتلال في إكمال استعمارها وإفناء وجود الفلسطينيين أو استكمال تهجيرهم، وعقدة الشرعية التي تصاحبها نتيجة فشلها في التحول إلى دولة طبيعية وغياب الاستقرار السياسي الإسرائيلي من العناصر التي تسهم في إبقاء الأمل قائما، خاصّة أنّ الشعوب العربية والإسلامية لا تزال تحافظ على مواقفها الداعمة لفلسطين رغم تهاون ساستها وأنّ النظام الدولي الحالي يشهد بداية راجع الهيمنة الأمريكية و تراجع مكانة "إسرائيل" تبعا لذلك.ولطبيعة النظام الدولي الحالي الذي يهيمن عليه القطب الواحد الأمريكي الأثر المدمر لمقولة الأمن الفلسطيني. فبسببه لا يزال القانون الدولي عاجزا عن حماية الفلسطينيين وإنصافهم. وتبعا لذلك يأتي على رأس التحديات المتولدة من الدائرة الدولية غياب الحليف الاستراتيجي القوي القادر على موازنة القوة لصالح الفلسطينيين في مقابل التحالف الوثيق بين الولايات المتحدة الأمريكية و"إسرائيل" ومقابل الدور الأوروبي المكمل له. ذلك أنّ مفهوم الأمن القومي الفلسطيني لا يتحقّق بمعزل عن واقع النظام الدولي وتطوراته، وتوازنات القوى فيه، أو بمعزل عن المساعدات الغربية التي تبتز القرار السياسي الفلسطيني وتحد من استقلاليته.
ويعرض تحديات دولية أخرى تواجه تحقيق هذا الأمن. العالم ليوم مشغول بقضايا العولمة والتغيرات المناخية وما نشرا من فقر وهجرة سرية. وهذا ما خلق بيئة لا تخدم حركات التحرر الوطني، ولا توفر الحماية للفلسطينيين. بقدر ما تستهدفهم.
ـ 7 ـ
وحتى لا يكون الطرح عدميّا انتهى الباحث إلى تقصّي الفرص تحقيق الأمن القومي الفلسطيني، ضمن استراتيجيات تركز على حل المشاكل. فمن الخطإ حصر تقييم البيئة الإستراتيجية في الجانب العسكري فقط. فمثل الإجراء هذا يحسم التقييم لصالح إسرائيل فيفلّ العزائم. ولا بدّ من البحث في أبعاد جديدة، تتجاوز البعد الكمي العسكري التقليدي لتصل إلى القضايا الاجتماعية والاقتصادية والمعنوية، وإلى الأمل في انقلاب الموازين الإقليمية والدولية.
وللأمن القومي في الدائرة الفلسطينية نفسها العديد من الفرص المتاحة أو الكامنة. فصمود الشعب الفلسطيني على أرضه وعدم تخليه عن المقاومة بأشكالها المتنوعة، كالمقاومة المسلحة، والشعبية والفردية العامل الديموغرافي نتيجة تزايد أعداد الفلسطينيين مقابل الإسرائيليين ودور فلسطيني الشتات كلّها من عناصر القوة. أما في الدائرة الإسرائيلية، ففشل دولة الاحتلال في إكمال استعمارها وإفناء وجود الفلسطينيين أو استكمال تهجيرهم، وعقدة الشرعية التي تصاحبها نتيجة فشلها في التحول إلى دولة طبيعية وغياب الاستقرار السياسي الإسرائيلي من العناصر التي تسهم في إبقاء الأمل قائما، خاصّة أنّ الشعوب العربية والإسلامية لا تزال تحافظ على مواقفها الداعمة لفلسطين رغم تهاون ساستها وأنّ النظام الدولي الحالي يشهد بداية راجع الهيمنة الأمريكية و تراجع مكانة "إسرائيل" تبعا لذلك.