الشيزوفرانيا أو الانفصال عن الواقع، ظاهرة منتشرة بين زعماء الدول الاستبدادية بشكل ملحوظ، حيث ينشأ لدى الزعيم إعلاء وهمي للذات، يتخيل من خلاله أنه ما يشبه المسيا / المُخلص في التراث الديني اليهودي، وهو بذلك يرى في أقواله وسلوكياته عبارة عن مثال أو قدوة، وفيهما مناط الحقيقة والخير العام.
في عالمنا العربي اليوم ثلاثة شواهد فجة على ذلك، أولا من الرئيس التونسي قيس سعيد حين يتحدث كثيرا عن الديمقراطية ودور المؤسسات في الدولة، ثن نراه يُجهض الديمقراطية ويخنق الحريات وعمل المؤسسات.
ونشاهد الحالة الثانية مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في حالة الحرب الإسرائيلية على غزة، فيتحدث عن الدفاع عن الفلسطينيين وحقوقهم ودعمهم، في وقت يتواطأ مع الإسرائيليين علنا دون أدنى اعتبار لقضية العرب الأولى.
أما الحالة الثالثة، فهي حالة رئيس النظام السوري بشار الأسد الذي لا يفتأ دائما في التفلسف السياسي، حتى على الزعماء العرب، واستخدام مفردات وتوصيفات لا تتطابق إطلاقا مع سلوكيات النظام.
النظام السوري وقف منذ السابع من أكتوبر العام الماضي موقف المتفرج السلبي، وكأن القضية ليست قضيته ولا معني بها، وبقي هذا الحياد السلبي مستمرا حتى في عز المقتلة الإسرائيلية لقادة وجمهور "حزب الله" اللبناني.ليست حالة الشيزوفرانيا السياسية حالة ملازمة دائما للمستبدين، فقد مر معنا مستبدون واقعيون جدا، يدركون حقيقة الواقع وموازين القوى، بما ينعكس على خطابهم وسلوكهم المُعبر عن هذا الواقع.
في حالتنا السورية، أُذكر بالرئيس الراحل حافظ الأسد الذي كان يتمتع بواقعية سياسية شديدة، انعكست في أقواله وسلوكياته، فلم نجد في خطاباته كلها أي نوع من الميتافيزيقا السياسية، حتى مع إسرائيل كان يستخدم عبارات سياسية بامتياز خالية من أي شحنات أيديولوجية، باستثناء التذكير بالقومية العربية وقضية العرب الأولى، وهذا تذكير سياسي وليس أيديولوجي.
أما حالات الشيزوفرانيا عند الأسد الأب، فكانت تظهر فقط في المجال الاجتماعي حصرا، وليس في المجال السياسي، لأن الهدف دغدغة مشاعر الناس البسطاء، في نوع من الشعبوية التي تلامس أحاسيس الناس.
الأسد.. أمثلة تاريخية
مع بشار الأسد اختلف الأمر، حيث إننا هنا أمام حالة انفصال شديدة جدا عن الواقع، ظهرت منذ تسلمه السلطة في سوريا، حين قال في إحدى خطاباته أنه سيحول سوريا إلى يابان المنطقة، ثم ظهر هذا الانفصال الحاد في أول خطاب له بعد الثورة السورية بأسبوعين، حين ذكر كلمة المؤامرة 13 مرة، ثم أخذ هذا الانفصال يزداد قوة وحدة خلال الثورة ـ لا يتسع المجال لذكرها ـ.
لكن لا مانع من ذكر أمثلة سريعة: تحدث أكثر من مرة عن الديمقراطية السورية وظاهرة التعددية السياسية والحزبية في سوريا، وتحدث مرة أن سوريا لا توجد فيها معتقلات، ثم بلغت انفصاله عن الواقع إلى درجة قال في مقابلة مع قناة "سكاي نيوز" العربية في أغسطس العام الماضي، أن والده الرئيس حافظ الأسد لم يكن له أي دور في وصوله إلى منصب الرئاسة.
بعد التطبيع العربي مع النظام السوري، وبدء الأسد حضور القمم العربية، وبدأ يقدم نظريات فلسفية للقادة الحاضرين عن العروبة، ففي القمة العربية في جدة العام الماضي، قال الأسد "أما سوريا فماضيها وحاضرها ومستقبلها هو العروبة.. لكنها عروبة الانتماء لا عروبة الأحضان.. فالأحضان عابرة أما الانتماء فدائم.. وربما ينتقل الإنسان من حضن لآخر لسبب ما.. لكنه لا يغير انتماءه أما من يغيره فهو من دون انتماء من الأساس ومن يقع في القلب لا يقبع في حضن وسوريا قلب العروبة وفي قلبها".
ومنذ هذه القمة، خلا خطاب الأسد من الحديث عن المؤامرة الكونية التي استهدفت سوريا، وركز على أهمية التوحد العربي ـ العربي، وهذا أمر مفهوم لنظام يسعى إلى العودة للحاضنة العربية.
قمة الرياض
في القمة العربية الأخيرة بالرياض، بلغ الانفصام لدى الأسد مبلغا كبيرا، ففي ظل المقتلة الإسرائيلية لسكان غزة وأهل الجنوب اللبناني، وفي ظل صمت سوري على المستوى السياسي والعسكري، لم يتوان الأسد في استعادة سردية "المقاومة والممانعة" والعمل العربي المشترك لمواجهة إسرائيل، فقال إن "الأولوية حاليا هي لإيقاف المجازر والإبادة وإيقاف التطهير العرقي الذي تقوم به إسرائيل.".
في ظل القوة والتفوق الإسرائيلي العسكري، والضعف العسكري الشديد للنظام السوري، يرى الأسد ويؤمن أن ما يقوم به النظام في هذا الظرف التاريخي هو عمل مقاوم فعلا، بل قد يكون أكثر تقدما من باقي الدول العربية، فمن خلال أرضه تحاول إيران تمرير السلاح إلى "حزب الله" في لبنان، وأن بلده يتلقى الهجمات الإسرائيلية بشكل متكرر ودائم.وعلى ما في هذا الكلام من دعوة فضفاضة لا تحمل أية قيمة أخلاقية وسياسية، إلا أنها تٌعبر عن واقع العجز السوري دون أن يقولها الأسد جهارة، فبخلاف خطاباته قبل الثورة التي كان يتحدث فيها عن الدور السوري في دعم القضية الفلسطينية، تحدث هذه المرة عن عمل عربي مشترك، لأنه لا يستطيع الحديث عن دور سوري، هو غائب تماما منذ أربعة عشر عاما.
بل الأدهى، أن النظام السوري وقف منذ السابع من أكتوبر العام الماضي موقف المتفرج السلبي، وكأن القضية ليست قضيته ولا معني بها، وبقي هذا الحياد السلبي مستمرا حتى في عز المقتلة الإسرائيلية لقادة وجمهور "حزب الله" اللبناني.
ومن شدة سوريالية خطاب الأسد، أنه لم يكتف بكل ذلك، بل انتقد غياب خطة تنفيذية للدول العربية من أجل وقف الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان.
ليس الفصام السياسي إلا عملية جعل الإمكان الواقعي حالة مطلقة ومثالية، بمعنى أنه في ظل القوة والتفوق الإسرائيلي العسكري، والضعف العسكري الشديد للنظام السوري، يرى الأسد ويؤمن أن ما يقوم به النظام في هذا الظرف التاريخي هو عمل مقاوم فعلا، بل قد يكون أكثر تقدما من باقي الدول العربية، فمن خلال أرضه تحاول إيران تمرير السلاح إلى "حزب الله" في لبنان، وأن بلده يتلقى الهجمات الإسرائيلية بشكل متكرر ودائم.
أما مسألة الرد العسكري على إسرائيل، أو دعم المقاومتين الفلسطينية واللبنانية بالسلاح، أو السماح للشعب السوري بالتظاهر دعما لغزة ولبنان، أو تقديم موقف سياسي حاد، فكل ذلك بالنسبة لدمشق غير مهم، لا لأنه لن يغير من الواقع شيئا فحسب، بل لأن مثل هذه الخطوة إذا ما تمت فإنها قد تكلفه نظامه بالكامل.. مع رداءة الواقع تتعاظم الأيديولوجية وتتفاقم الأوهام.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه بشار الأسد سوريا المقاومة سوريا مقاومة بشار الأسد رأي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة مقالات صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة النظام السوری العام الماضی حزب الله
إقرأ أيضاً:
وزير الداخلية الأسبق في نظام الأسد يسلم نفسه إلى السلطات.. هذا ما نعرفه عنه
أفادت وسائل إعلام سورية، الثلاثاء، بقيام وزير الداخلية السوري الأسبق في حكومة النظام المخلوع محمد الشعار بتسليم نفسه إلى السلطات الجديدة في دمشق، معربا عن استعداده لـ"الحديث بشفافية".
وأظهرت لقطات مصورة متداولة على منصات التواصل الاجتماعي الشعار المفروضة عليه عقوبات غربية، داخل مركبة مع عدد من عناصر الأمن العام في دمشق بعد تسليم نفسه.
اللواء محمد الشعار وزير الداخلية في نظام المخلوع يسلم نفسه للسلطات السورية pic.twitter.com/OKxgiJsv6C — قتيبة ياسين (@k7ybnd99) February 4, 2025
وفي تصريحات تلفزيونية، شدد الشعار على أنه سلم نفسه إلى السلطات الأمنية "طواعية"، وأضاف "أنا كتاب مفتوح، سأتوجه إلى القيادة في دمشق لأدلي بما لدي، وأجيب عن الأسئلة بشفافية ووضوح".
وزعم الشعار أن وزارة الداخلية في زمن نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد "كانت مسؤولة فقط عن السجون الرسمية"، مشيرا إلى أنه "ليس لها سجون مخفية".
من هو محمد الشعار؟
ولد محمد الشعار في ريف اللاذقية عام 1950، وانتسب إلى الجيش والقوات المسلحة عام 1971، حيث تدرج في الرتب العسكرية حتى أصبح أحد أبرز الشخصيات الأمنية في عهد النظام المخلوع.
خدم الشعار في مواقع أمنية حساسة، إذ شغل منصب رئيس فرع الأمن العسكري في طرطوس، ثم في حلب، قبل أن يتولى رئاسة فرع المنطقة 227 بدمشق عام 2006.
كما عمل في لبنان كأحد ضباط شعبة المخابرات العسكرية، وهي الفترة التي شهدت تدخلا أمنيا سوريا واسعا في البلد المجاور.
عام 2011، ومع اندلاع الثورة السورية، تم تعيين الشعار وزيرا للداخلية حتى عام 2018، ليصبح أحد المسؤولين المباشرين عن سياسات القمع الأمني التي انتهجها النظام ضد المتظاهرين، حسب منصات محلية.
برز اسم الشعار بعد تفجير مكتب الأمن الوطني في دمشق عام 2012، والذي استهدف "خلية الأزمة"، وهي مجموعة من كبار المسؤولين الأمنيين في النظام السوري السابق.
أدى التفجير إلى مقتل وزير الدفاع آنذاك داوود راجحة، ونائبه آصف شوكت، والعماد حسن توركماني، ومدير مكتب الأمن الوطني هشام بختيار، بينما كان الشعار الناجي الوحيد من الحادثة.
ويواجه الشعار اتهامات عديدة بارتكابه انتهاكات جسية خلال فترة توليه وزارة الداخلية عقب اندلاع الاحتجاجات الشعبية المناهضة للنظام عام 2011.