استقطاب الكفاءات أو قرصنة الغرب الجديدة!
تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT
استقطاب الكفاءات أو قرصنة الغرب الجديدة
يأتي الغرب ويستقطب أطباء ومهندسين وخبرات رفيعة التكوين مجانا، دون مقابل. إنها عملية قرصنة بكل ما تحمله الكلمة من معنى!
ينبغي البحث عن آليات وقف هذه الهجرة النوعية، لأنها تعني عرقلة التنمية في دول كثيرة تبحث عن الخروج من مأزق الفقر والتخلف.
التهميش الأكبر في الحديث عن الهجرة هو عدم التركيز الكبير على هجرة الكفاءات واليد العاملة ذات التكوين العالي من العالم الثالث الى الغرب
يعلن الغرب محاربة الهجرة غير النظامية في حين يستنزف بدرجة خطيرة للغاية كفاءات وخبرات دول فقيرة استثمرت الكثير من الأموال في تكوينها.
استعمر الغرب معظم العالم الثالث، وسرق موارده وخيراته الطبيعية، والآن يستقطب الكفاءات في عملية سرقة بحلة جديدة، مدمرا بذلك نموه الطبيعي.
تمارس دول الغرب إغراء كبيرا لجلب الكفاءات من مهندسين وأطباء وعلماء وأكاديميين، برواتب تكون أضعاف المرات مقارنة بالرواتب في الوطن الأم.
تحتاج نخب الكفاءات ذات التكوين العالي والرفيع إلى الحرية لتبدع لكن دول العالم الثالث تفتقد الحرية وتراجعت فيها الديمقراطية خاصة بعد جائحة كورونا.
* * *
يعلن الغرب محاربة الهجرة غير النظامية، وفي الوقت نفسه يقوم باستنزاف الكفاءات والخبرات من الدول الصاعدة والدول التي تصنف ضمن العالم الثالث إلى مستوى خطير للغاية، لاسيما وأن الدول الفقيرة استثمرت الكثير من الأموال في تكوين هذه الكفاءات، بما فيها أموال مصدرها قروض من المؤسسات الدولية. وهذا الوضع المقلق يتطلب إجراءات لمواجهة هذه الظاهرة مثل التعويض.
وعمليا، وطيلة الثلاثين سنة الأخيرة، يحضر موضوع الهجرة، خاصة في شقه غير النظامي، أو غير القانوني أو السري في مختلف وسائل الإعلام الدولية.
وتطالعنا الصحافة الأوروبية والعربية بشكل يومي بمآسي الهجرة في البحر الأبيض المتوسط، أو معاناة الافارقة في الحدود بين الساحل ودول المغرب العربي، كما يحدث حاليا في تونس وقبلها في المغرب والجزائر، وانتقلت هذه المآسي إلى بحر المانش بغرق قوارب انطلقت من سواحل فرنسا نحو بريطانيا.
وفي الطرف الآخر من العالم، يجري الحديث يوميا عن قوافل الهجرة من دول أمريكا اللاتينية نحو الولايات المتحدة، علاوة على الهجرة من جنوب شرق آسيا إلى أستراليا.
ساهمت الهجرة في تغيير سياسي كبير في الدول الغربية، إذ لا يمكن فهم ظهور اليمين القومي المتطرف في مختلف الدول الأوروبية بعيدا عن توظيف ما يجري تصنيفه «خطر الهجرة» على هوية البلدان الأوروبية.
كما لا يمكن فهم ظاهرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بعيدا عن الرؤية السلبية للقوميين البيض الأمريكيين للهجرة اللاتينية وأساسا المكسيكية.
ويستلهم ترامب وأنصاره أطروحتهم حول الهجرة اللاتينية من كتاب «من نحن» وهو آخر كتاب للمفكر الجيوسياسي صامويل هنتنغتون الذي حذّر من المخاطر الاجتماعية والسياسية في حالة بلوغ الهجرة اللاتينية 25% من سكان الولايات المتحدة.
وعلاقة بالهجرة، هناك تهميش لهجرة من نوع آخر وهي، هجرة ونزوح مواطني دول العالم الثالث بينهم، إذ يشتكي الأوروبيون من نازحي العراق وأفغانستان وسوريا ضمن دول أخرى، في حين دول مثل تركيا ولبنان استقبلت ملايين المهاجرين والنازحين.
يبقى التهميش الأكبر في الحديث عن الهجرة هو عدم التركيز الكبير على هجرة الكفاءات واليد العاملة ذات التكوين العالي من العالم الثالث الى الغرب ونتائجها السلبية الكبيرة على الدول الأم. وفي الواقع يتعلق الأمر بعملية استقطاب وتهجير تكاد تكون قسرية لسببين، وهما:
في المقام الأول، تمارس الدول الغربية إغراء كبيرا لجلب الكفاءات من مهندسين وأطباء وعلماء وأكاديميين، حيث تقدم رواتب تكون أضعاف المرات مقارنة بالرواتب في الوطن الأم.
في المقام الثاني، تنتمي الكفاءات واليد العاملة ذات التكوين العالي والرفيع إلى النخبة. وتحتاج النخبة إلى الحرية لكي تبدع في وطنها، علما بأن العديد من دول العالم الثالث تفتقد للحرية، أو تراجعت فيها الديمقراطية خلال السنوات الأخيرة وبالخصوص بعد الجائحة.
كما تكون للنخبة تطلعات في مجال اختصاصها، بينما مفهوم الكفاءة في الرقي في العمل يغيب كثيرا لصالح الزبونية والقرابة العائلية والقرب من السلطة، أو التحول إلى بوق للحاكم. وعديدة هي الأمثلة في هذا الشأن، ومنها في دول المغرب العربي.
معالجة الخلل المذكور الوارد في السبب، أي غياب الحرية، يتطلب الكثير من الوقت، وهو رهين بنضالات الشعوب. بينما يختلف الأمر في حالة السبب الأول، رغم أنه أقل تأثيرا من السبب الثاني. لقد نجحت دول غير ديمقراطية في التقدم مثل حالة إيران ودول شبه ديمقراطية مثل تركيا، وذلك بالحفاظ على أطرها وتفادي هجرتها.
وعلاقة بهذا، إن استقطاب الدول الغربية للأطر من العالم الثالث يعتبر عملا غير أخلاقي، سواء من الناحية السياسية أو المعنوية، لأنه استنزاف لقدرات دول العالم الثالث، ويترتب عنه مزيد من تدمير هذه الدول.
ومن ضمن الأمثلة، يعمل الغرب على استقطاب الأطباء، وينتج عن هذا العمل ترك مستشفيات العالم من دون أطباء، وأحيانا يؤدي هذا إلى موت الكثيرين بسبب نقص اليد العاملة في المجال الطبي.
ويمكن الاستشهاد بحالتي استقطاب فرنسا وكندا للأطباء من المغرب والجزائر، وخلال السنوات الأخيرة استقطاب مهندسي الحاسوب والبرمجيات.
في الوقت ذاته، قامت الدول الفقيرة بالاقتراض من المؤسسات المالية الدولية التي يسيطر عليها الغرب، مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، لتكوين جيل من الكفاءات، وتثقل هذه الديون كاهل الدول الفقيرة.
وفي آخر المطاف، يأتي الغرب ويستقطب أطباء ومهندسين وخبرات رفيعة التكوين مجانا، ومن دون مقابل. إنها عملية قرصنة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
في الماضي، استعمر الغرب جزءا كبيرا من العالم الثالث، وقام بسرقة موارده وخيراته الطبيعية، وما زال يسيطر على نسبة منها بطرق مختلفة مثل حالة النفط والذهب واليورانيوم، وعرقل النمو الطبيعي لهذه الدول.
ويقوم الآن باستقطاب الكفاءات في عملية سرقة في حلة جديدة، مدمرا بذلك نمو هذه الدول الطبيعي. في هذا الصدد، وبراغماتيا، يجب على الدول الفقيرة مطالبة الغرب بالتعويض عن استقطابها لهذه الأطر، سواء من خلال الحصول على تعويضات مباشرة، أو إعادة النظر في نسبة فوائد القروض أو إلغاء بعض القروض برمتها مثل قروض التعليم.
في الوقت ذاته، ينبغي البحث عن آليات وقف هذه الهجرة النوعية، لأن هذه الهجرة تعني عرقلة التنمية في دول كثيرة تبحث عن الخروج من مأزق الفقر والتخلف.
*د. حسين مجدوبي كاتب وباحث مغربي
المصدر | القدس العربيالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: الغرب استقطاب الكفاءات الخبرات العالم الثالث الهجرة غير الشرعية دول العالم الثالث الدول الفقیرة دول الغرب
إقرأ أيضاً:
نبوءة ميرشايمر.. هل اقتربت الحرب المدمرة بين أميركا والصين؟
في فبراير/شباط الماضي اتخذ الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب وإدارته قرارًا بفرض رسوم جمركية على جميع واردات الصلب والألومنيوم الصينية إلى الولايات المتحدة في أول استهداف من قبل إدارة ترامب لبكين خلال ولايته الجديدة.
وتعد بكين المنتج الأول للصلب عالميا، ورغم أن أميركا أصبحت تستورد القليل من الصلب مباشرة من الصين، منذ التعريفات التي فرضها ترامب خلال ولايته الأولى وأبقت عليها إدارة جو بايدن، فإن الصلب الصيني كان يشق طريقه إلى أميركا عبر أطراف أخرى، حيث يتم شراء بعضه من قبل دول أجنبية وإعادة شحنه إلى الولايات المتحدة.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2تعلموا من الصين كيف تديرون ظهوركم لأوروبا وأميركاlist 2 of 2الصين وأميركا في 2025 والصراع الذي قد يغير شكل العالمend of listوكما هو متوقع لم يتأخر الرد الصيني طويلا، حيث أعلنت بكين أنها ستفرض رسوما جمركية بنسبة 15% على الواردات الأميركية من الدجاج والقمح والذرة والقطن، وبنسبة 10% على اللحوم الحمراء ومنتجات الألبان، وهو ما ينذر بالمزيد من التوترات التجارية بين البلدين.
وتعكس حرب التعريفات المحتدمة تلك مخاوف أميركية واضحة من الصعود الاقتصادي للصين بعد زهاء عشرين عاما من النمو المذهل والمستدام الذي جعل بكين منافسا حقيقيا للولايات المتحدة على صدارة الاقتصاد العالمي (17.8 تريليون دولار هي الناتج الإجمالي لبكين مقابل 27.7 تريليون دولار للولايات المتحدة وفق بيانات البنك الدولي لعام 2023).
إعلانهذه المنافسة الاقتصادية تخفي بين طياتها صراعا سياسيا أكبر حول هوية من يهيمن على النظام العالمي خلال العقود القادمة. فمنذ سقوط الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات، انفردت الولايات المتحدة بالقرار العالمي بلا شريك، ولم ينازعها أحد هذه الهيمنة أو يقارب.
ولكن اليوم، تعترف إستراتيجية الأمن القومي الأميركية بأن الصين هي الفاعل الوحيد الذي لديه "الرغبة والقدرة" على تغيير النظام العالمي، وما يجعل الأمور أسوأ -من وجهة نظر أميركية- أن ذلك الفاعل يأتي من فضاء سياسي وثقافي مختلف تماما عن الفضاء الغربي الذي هيمنت قيمه وأنظمته على العالم خلال العقود الماضية.
بالنظر إلى هذه الحقيقة، لا يعد الصراع بين واشنطن وبكين اليوم مجرد صراع بين فيلين ضخمين يتحركان فوق الرقعة الدولية، بل منافسة تعيد تشكيل العالم الذي نعرفه، وهو ما يجعل الأمر مثار اهتمام لحقل دراسات العلاقات الدولية.
وبينما تتقدم الصين بخطى حثيثة لتصبح قوة عظمى على الصعيد العالمي يتزايد الاهتمام بنظرية دشنها في تسعينيات القرن العشرين، جون ميرشايمر عالم السياسة الأميركي الشهير، وتعرف باسم "الواقعية الهجومية" وهي تحمل تنبؤا متشائما لمستقبل النظام الدولي بشكل عام وللصراع الأميركي الصيني بشكل خاص.
الواقعية.. بين الدفاعيين والهجوميينينقسم منظرو العلاقات الدولية في الوقت الراهن تيارين رئيسيين، التيار الواقعي والتيار المثالي. ويعتقد أن التيار المثالي "الليبرالي" -الأحدث- نشأ من رحم حركة التنوير الأوروبية، وتقوم نظريته على عدة افتراضات على رأسها رفض الاعتراف بأن التنافس على القوة أو الصراع حالة طبيعية للعلاقات بين الدول، وفي المقابل اعتقاد أن الغاية النهائية للجميع هي تحقيق الاستقرار والسلام العالمي.
وقد تلقى أنصار هذا التيار دفعة قوية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وهيمنة أميركا وحدها على العالم وسقوط جدار برلين الذي كان إيذانا بانضمام شرق أوروبا إلى قافلة الديمقراطية الليبرالية.
إعلانساعتها، سرت موجة من التفاؤل بشأن مستقبل النظام العالمي، إثر انتهاء الصراع الأيديولوجي بين الشرق والغرب بانتصار الليبرالية بشقيها السياسي المتمثل في "الديمقراطية التمثيلية" والاقتصادي المتمثل في الرأسمالية والسوق الحرة، وظهرت تنظيرات تعكس هذا الطابع المتفائل مثل نظرية "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" لعالم السياسة الأميركي فرانسيس فوكوياما الذي توقع متفائلا نهاية الصراعات بين الدول باعتناق العالم كله للديمقراطية الغربية.
ولأن الديمقراطيات لا تتقاتل (كما اعتقد المثاليون وقتها) فالأمل قائم في أن حالة الحرب ستكون من التاريخ وأنه لن يكون هناك حاجة للاقتتال مستقبلا.
وقد امتد هذا التفاؤل ليشمل العلاقات بين الغرب والصين، مفترضا أن التطور الاقتصادي في بكين سيقوّي الطبقة الوسطى التي ستحول الصين في نهاية المطاف إلى دولة ديمقراطية باعتبار أنه "لا ديمقراطية بدون طبقة وسطى" حسب ما انتهى إليه بارينغتون مور، عالم الاجتماع والفيلسوف والمؤرخ الأميركي، في عمله الكبير "الأصول الاجتماعية للديمقراطية والدكتاتورية".
على الجانب الآخر، يؤكد أنصار النظرية الواقعية على الطبيعة التنافسية والصراعية للنظام الدولي، ويرون أن القوة شيء لا بد منه في العلاقات الدولية، ويشككون في دور الأخلاق وتأثيرها في مجال السياسة الدولية.
وبغض النظر عن مسماه الأكاديمي وتطور رؤاه النظرية، فإن ذلك التيار هو الذي ساد فعليا خلال معظم فترات التاريخ البشري، حيث تعود جذور النظرية الواقعية إلى أعمال ثوقيديدس، وهو مؤرخ وجنرال يوناني اشتهر بأفكاره حول الحرب البيلوبونيسية بين أثينا وإسبرطة، التي رأى أنها نشبت جراء مخاوف إسبرطة من الصعود الكبير لقوة أثينا، ومنه استقى عالم السياسة الأميركي غراهام تي أليسون مصطلح "فخ ثوقيديدس" لوصف النزعة الواضحة للحرب عندما تشعر قوة عظمى بالتهديد من قبل قوة جديدة صاعدة.
إعلانعلى مدار التاريخ، طرح الواقعيون أفكارهم حول دور القوة في تشكيل النظام الدولي والدور الهامشي للأخلاق في هذا السياق، وقد تفاوتت تلك الأفكار في مدى تماسكها وحتى "تطرفها" كما فعل نيقولا ميكافيللي الفيلسوف الإيطالي الشهير الذي انتقد النزعة الأخلاقية في السياسة، وتوماس هوبز، فيلسوف السياسة الإنجليزي الذي طرح أفكاره حول حالة "الفوضى الطبيعية" التي وصفها بأنها "حرب الكل ضد الكل".
ورغم أن اهتمام هوبز تركز في المقام الأول على العلاقة بين الأفراد والدولة فإنه أشار إلى أنه بمجرد قيام الدول، يصبح التحرك نحو القوة والسلطة أساسا لسلوكها؛ مما يدفعها إلى محاولة استغلال الدول والشعوب الأخرى.
غير أن أفكار الواقعيين القدامى (التقليديين) من أمثال هوبز وميكافيللي تعرضت لنقد شديد بسبب اختزالها للعوامل المؤدية للصراع في النزعات الشخصية والطبائع الشريرة للبشر وبقدر أقل في الموقع الجغرافي للدول وطبيعة نظامها السياسي، وهو ما تطلب ظهور جيل جديد من الواقعيين يقدم إطارا نظريا أشمل وأقدر على تفسير الصراعات الدولية.
في مقدمة هؤلاء يجيء اسم كينيث والتز الذي وضع في كتابه الصادر عام 1979 بعنوان "نظرية العلاقات الدولية" حجر الأساس لما باتت تُعرف بـ"الواقعية الجديدة" أو البنيوية، وإسهامها الأهم حول "الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي".
يرى والتز أنه بخلاف الدول، بمختلف هياكلها السياسية، التي تكون غالبا منظمة في صورة هيراركية فإن النظام الدولي "فوضوي" بطبعه بغض النظر عن هوية الفاعلين الأساسيين فيه. وداخل هذا النظام الدولي الفوضوي فإن جميع الدول لديها وظائف متشابهة تقريبا وهي تختلف فقط من حيث تفاوت "القدرات" وليس الأدوار، وعلى رأس هذه الوظائف مسألة "ضمان البقاء والسعي للأمن".
إعلانوفي مسألة الأمن، ينقسم الواقعيون على الأغلب إلى شطرين: الشطر الأول، الأكثر تفاؤلا، هم أنصار ما تُعرف بـ"الواقعية الدفاعية" أمثال ستيفن والت وباري بوزان ممن يرون أن الدول سرعان ما ستدرك أن تكاليف الحرب تتجاوز فوائدها بشكل جلي، وأنه في غياب أي تهديد واضح فإن الدول لا تمتلك حافزا واضحا لاعتناق نظرة أو تبني سياسة ذات طابع توسعي.
يعد الأمن إذن من وجهة نظر الواقعيين الدفاعيين مسألة "دفاعية بحتة"، وبالنسبة لهؤلاء فإن التعاون بين الدول يظل أيسر وأكثر قابلية للتحقق في معظم الحالات من الصراع بينها، وأن تكاليف الدفاع "بما يشمل حوز الأسلحة الدفاعية" أقل من تكاليف التوسع.
وفي مقابل هذه النظرة المتفائلة، تبرز نظرة قاتمة يرى أنصارها أن الدول لا تسعى إلى الأمن بمعناه السلبي أو الدفاعي، بل تسعى إلى مراكمة القوة وتوسيع الفوارق بينها وبين الدول الأخرى، وأن السبيل الوحيد لبقاء الدول هو أن تصبح دائما "أكثر قوة"؛ مما يقودها لخوض صراع لا يمكن لجمه على النفوذ، وتبنّي رؤية توسعية على حساب الآخرين.
يرسم الواقعيون الهجوميون رابطة مباشرة بين مراكمة القوّة وبين الأمن، فضمان الأمن يفرض على الدولة مضاعفة قدراتها باستمرار وتحقيق الأفضلية على الخصوم، ولن يتأتى لأي دولة أن تتمتع بالأمن المطلق إلا إذا امتلكت وضعا مهيمنا في النظام الدولي أو على الأقل في محيطها الإقليمي.
وفي هذه الحالة فإن تلك القوة العظمى أو المهيمنة سوف تتمكن من ردع خصومها المحتملين وإرغامهم على تقديم تنازلات؛ مما يساعدها على تقوية وضعها، وفي حال إخفاقها في تحقيق هذه الأفضلية فإن الخصوم سوف يمتلكون الفرصة لتقوية أنفسهم على حسابها، وهو ما يحولهم بمرور الوقت إلى مصدر تهديد لها، وساعتها تصبح الحرب أو الصراع مسألة وقت لا أكثر.
مأساة سياسة القوى العظمىيعد جون ميرشايمر، عالم السياسة الأميركي أبرز منظري الواقعية الهجومية، وقد طرح أفكاره حول ذلك الأمر في كتابه "مأساة سياسة القوى العظمى" مشيرا إلى أن النظام الدولي يتمتع بخمس خصائص أساسية تعمل مجتمعة لتجعل الصراع على القوة هو المحرك الأساسي لسياسة الدول، التي تسعى دائمًا إلى زيادة قوتها على حساب خصومها ومنافسيها.
إعلانأول هذه الخصائص هي فوضوية النظام الدولي التي تعد حجر الأساس الذي تنطلق منه رؤى الواقعيين، وتعني باختصار أن النظام الدولي يخلو من سلطة عليا تمنع اعتداء أي دولة على أخرى وتلجأ إليها الدول الأكثر ضعفا لحمايتها من تغول الدول الأقوى، وبالتالي لا سبيل سوى اعتماد كل دولة على نفسها في حماية وجودها.
بعد ذلك تأتي الخصيصة الثانية وهي امتلاك ما تُعرف بـ"الدول العظمى" دون غيرها قوة عسكرية هجومية كبيرة؛ مما يمنحها موقعا أفضل في النظام الدولي ولكنه يزيد في الوقت نفسه من التنافس فيما بينها.
يزداد هذا التنافس حدة في ضوء الخصيصة الثالثة للنظام وهي عدم وجود طريقة تتأكد عبرها الدول من نيات بعضها؛ مما يجعلها في حالة شك دائم، واستعداد لاحتمال تعرض مصالحها للاعتداء، خاصة أن خريطة التحالفات الدولية دائمة التبدل والتغير.
فمثلا الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي تحالفا معًا ضد ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، ولكن سرعان ما بات العداء بينهما هو السائد بعد زوال الخطر المشترك الذي كان يهدد كلا منهما.
في خضم هذا الوضع الدولي الملبد بالغيوم، يعد البقاء هو الهدف الأسمى للدولة، والبقاء يستند إلى الأمن وتعد الدول المنافسة هي التهديد الرئيسي للأمن وهذه هي السمة الرابعة للنظام الدولي، أما السمة الخامسة فهي أن الدول التي تتصرف في هذا المناخ هي فواعل "عقلانية" إجمالا، أي أن تصرفاتها يمكن أن تفسر في أغلب الأحيان وفق حسابات المكسب والخسارة وليس بناء على العواطف كما يفعل البشر عادة.
تعمل هذه الخصائص الخمس، بحسب ميرشايمر، على جعل الدول تتصرف بعدوانية اتجاه الدول الأخرى متى شكّت في نياتها، أو حتى بمجرد ارتفاع مكانتها في النظام الدولي؛ مما يجعلها تمثل تهديدا لموقع القوة المهيمنة.
ويخبرنا التاريخ القريب عن الطريقة التي تعمل بها هذه الدينامية، فخلال حقبة الحرب العالمية الثانية وما بعدها، مثلت الولايات المتحدة أكبر قوة عسكرية عالميا، وكانت هي مصدر التسليح لدول الحلفاء بعد انخراطها في الحرب، وكانت أول البلدان حصولا على القنبلة النووية واستخدامًا لها عندما قصفت هيروشيما وناغازاكي، وظلت تحرص دائما على أن تكون لها يد السبق على خصومها.
إعلانبيد أنه حين امتلكت الولايات المتحدة القنبلة النووية، أشعلت التنافس النووي الذي كانت شرارته حاضرة بالفعل خلال الحرب، التي كان طرفها الآخر، وهو الألمان، يسعى بدوره لامتلاك السلاح الأقوى الذي سينهي كل الحروب.
وداخل معسكر الحلفاء أنفسهم، عقد السوفيات العزم على امتلاك ترسانتهم النووية الخاصة ونجحوا في إجراء أول تجربة نووية ناجحة عام 1949، فاقت توقعات الأميركيين الذين اعتقدوا أن السوفيات لن ينجحوا في تصنيع قنبلة نووية قبل منتصف الخمسينيات.
منذ ذلك الحين، غذت الشكوك المتبادلة سباق تسلح نووي ظل قائما طوال الحرب الباردة واستمر إلى ما بعدها، فحين صنع الأميركيون القنبلة الهيدروجينية 1951 سار السوفيات على خطاهم وصنعوا قنبلتهم بحلول عام 1955.
وعلى إثر ذلك التنافس كاد العالم يشهد حربًا نووية في أزمة الصواريخ الكوبية 1962 عندما علمت الولايات المتحدة أن الاتحاد السوفياتي نشر منظومة صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية في كوبا، فسارعت إلى التصعيد، قبل احتواء الأزمة بإلغاء السوفيات خطتهم.
في نهاية المطاف، اقتنع الأميركيون والسوفيات بأن أيا منهم لن يكون بمقدوره فرض الهيمنة على الآخر من خلال السلاح النووي لأن كل طرف يملك منه ما يكفي تماما لتدمير الآخر، بل وإفناء الحضارة البشرية عن بكرة أبيها؛ مما أدى إلى سيادة حالة من "السلام النووي" فرضتها الحسابات العقلانية للمكسب والخسارة.
وفي نهاية المطاف، كانت الحرب الباردة بمنزلة سلام ممتد أوجده التوازن بين القوتين الكبيرتين، وإن جادل بعض المفكرين من العالم الثالث بأنها لم تكن سلاما إلا في الكتلتين الغربية والشرقية وليس في دول الجنوب العالمي.
سياسات الهيمنةبعد انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات، بدا أن الولايات المتحدة في طريقها إلى الهيمنة المطلقة على العالم في غياب قوة منافسة.
إعلانورغم أن هذا صحيح نسبيا فإنه سرعان ما ثبت أن الهيمنة المطلقة مهمة مستحيلة حتى في غياب المنافسين لأن العالم كبير جدا، تغطي المياه مساحة شاسعة من سطحه، بحيث لا تمتلك أي دولة بمفردها إمكانيات وموارد تكفي لفرض السيطرة الفعلية على سائر العالم.
لذلك فإن الولايات المتحدة وحتى في ذروة قوتها لم تهيمن على كل مناطق العالم وذلك بسبب ما يسميه ميرشايمر "القوة المانعة للمياه"، أي وجود مساحة شاسعة من المياه تفصلها عن العالم.
ونتيجة لذلك، تعين على الدول العظمى أن ترسم أهدافها ومجالات نفوذها تباعا، ففي البداية يتعين عليها أن تسيطر على محيطها الإقليمي، بحيث تأمن أنه لن يصبح أبدا هدفًا لهجوم من جيرانها، ويتطلب ذلك أن تكون أقوى من جيرانها بفارق واضح لا يمنحهم هامش المناورة لمعاداتها.
ثم بعد ذلك، على كل دولة عظمى أن تمنع منافسيها المباشرين من ممارسة دور مهيمن في محيطها ذلك، لأن تلك الدولة أو الدول المنافسة متى أمنت جانب محيطها ستحاول أن توسع نفوذها، وساعتها من الممكن أن تسعى لاختراق الحديقة الخلفية لمنافسيها.
بعد ذلك يأتي دور بسط الهيمنة إلى بقية العالم ومحاولة اختراق المحيط الإقليمي للمنافسين بما يبقيهم دائما مشغولين بتأمين أنفسهم وجوارهم الإقليمي عن التوسع في بقية العالم.
يجادل ميرشايمر بأن تلك المبادئ تفسر سلوك الولايات المتحدة الأميركية منذ نشأتها حتى الآن، وستفسر تبعا لذلك سلوك أي قوة عظمى في العالم، لقد نشأت الولايات المتحدة كمستعمرات صغيرة أخذت في التوسع حتى وصلت إلى المحيط الهادي غربا، واستولت على تكساس من المكسيك، واشترت ألاسكا من روسيا ولويزيانا من فرنسا وغزت كندا سعيا لضم أجزاء منها.
إعلانوعندما أمنت الولايات المتحدة جوارها الإقليمي، تدخلت في العالم القديم لأجل فرض التوازن والحيلولة دون هيمنة الدول العظمى الأخرى على مناطقها، كما فعلت بدخولها الحرب العالمية الأولى عام 1917 إلى جانب كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا ضد ألمانيا والنمسا والدولة العثمانية.
وفي الحرب العالمية الثانية دخلت الولايات المتحدة الحرب على جبهتين، الأولى في أوروبا إلى جانب بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي ضد ألمانيا لإنهاء سيطرة الألمان على أوروبا بعد هزيمة فرنسا وبريطانيا عام 1941.
وبعد الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر، أعلنت الحرب ضد اليابان وكرست جانبا كبيرا من قواتها لمحاربة الإمبراطورية اليابانية التي كانت تسيطر على مساحات شاسعة من محيطها الإقليمي الخاص على اليابسة الآسيوية في كوريا والفلبين وإندونيسيا والصين، وانتهت الحرب باستسلام اليابان في أغسطس/آب 1945.
وبعد هزيمة فرنسا في معركة ديان بيان فو الشهيرة على يد الثوار الفيتناميين الشيوعيين بقيادة هوشي منه عام 1954، خشيت الولايات المتحدة من انتشار الشيوعية الذي سيعني امتداد الهيمنة السوفياتية إلى جنوب آسيا؛ مما دفعها إلى إرسال قواتها لدعم حكومة فيتنام الجنوبية الحليفة ضد الفيتكونغ (الشيوعيين) في الشمال واستمرت الحرب لمدة 18 عامًا.
وفي ثمانينيات القرن العشرين دعمت الولايات المتحدة المقاتلين الأفغان الذين كانوا يحاربون القوات السوفياتية التي دخلت أفغانستان لدعم الحكومة الشيوعية، وفي التسعينيات قادت الولايات المتحدة تحالفا دوليا ضد العراق لوأد طموحاته المزعومة للهيمنة على منطقة الخليج والشرق الأوسط.
الصين ضد أميركايرى ميرشايمر أن الصين، بوصفها قوة عالمية صاعدة، تسير على نفس الخطى التي سارت عليها أميركا قبل عقود.
في البداية، تسعى بكين لتكون القوة المهيمنة في محيطها الإقليمي، لكنها تجد أن ذلك المحيط ليس خاليا وأن عليها أن تشتبك مع النفوذ الأميركي فيه، بداية من تايوان التي تعتبرها الصين جزءًا من أراضيها والتي تحظى بحماية أميركية واضحة، وصولا إلى كوريا الجنوبية واليابان، وهما خصمان رئيسيان للصين وحليفان رئيسيان للولايات المتحدة يستضيفان العشرات من القواعد العسكرية الأميركية وعشرات الآلاف من الجنود الأميركيين.
إعلانلذلك مثلما تمثل الصين تحديا للولايات المتحدة، فإن أميركا هي أكبر تحدّ للصين لأنها توجد في حديقة الصين الخلفية، مانعة إياها من امتلاك الهيمنة المطلقة في محيطها الإقليمي.
تاريخيا مرت العلاقات الصينية الأميركية بمنعطفات عدة، منذ انتصار الشيوعيين في الحرب الصينية الأهلية، وقيام جمهورية الصين الشعبية 1949، دعمت الولايات المتحدة القوميين الصينيين الذين انتهت الحرب بهزيمتهم وفرارهم إلى جزيرة تايوان، ومنذ ذلك العام انقسمت الصين إلى دولتين، الأولى في البر الرئيسي وهي جمهورية الصين الشعبية، والثانية في جزيرة تايوان يحكمها القوميون وتتحالف مع الولايات المتحدة.
في البداية، لم تعترف الولايات المتحدة بجمهورية الصين الشعبية وظلت علاقة العداء تحكم البلدين حتى شعرت واشنطن بأنها بحاجة إلى الصين لاحتواء الاتحاد السوفياتي؛ مما دفع نحو تحول تاريخي بإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين مطلع السبعينيات. ومنذ ذلك الحين بدأت بكين تخوض تحولا اقتصاديا خاصا، وحققت منذ ذلك الحين معدلات نمو إعجازية.
ووفقا لنبوءة ميرشايمر، فإن الثروة تعد بمثابة "قوة كامنة" بمعنى أن أي دولة تمتلك فائضا كبيرا منها سوف تتحول إلى قوة عسكرية كبيرة بمرور الوقت.
ورغم أن الولايات المتحدة لا تزال صاحبة اليد العليا عالميا على صعيد القوة العسكرية، فإن الصين تعتبر ثاني أكبر مُصنِّع عسكري في العالم، وتسود الآن حالة من القلق الشديد في واشنطن من احتمال تفوق الصناعات العسكرية الصينية على نظيرتها الأميركية في المستقبل القريب في حين يشتكي البنتاغون من أن الصناعة العسكرية الأميركية تكافح للحاق بمعدل تقدم الصناعات العسكرية الصينية، وأنها لا تزال تفكر بعقلية عصر السلم، في الوقت الذي تعمل فيه الصناعات العسكرية الصينية بمنطق زمان الحرب.
إعلانعلى صعيد الإنفاق العسكري لا تزال الولايات المتحدة في المركز الأول بفارق كبير عن باقي منافسيها، بل تكاد تمثل نصف الإنفاق العسكري العالمي كله، بحوالي 883 مليار دولار في عام 2024، لكن هذه الفجوة تضيق إذا أخذنا بالاعتبار مسألة تعادل القوة الشرائية والنفقات غير المعلنة للجيش الصيني.
لا تزال واشنطن كذلك في المرتبة الأولى على صعيد نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج القومي الإجمالي بنسبة 3.4% رغم أن هذه النسبة انخفضت كثيرا مقارنة بنسبة 7% في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.
في المقابل نما الإنفاق العسكري الصيني بشكل كبير خلال العقود الماضية، وحسب الأرقام الرسمية تنفق الصين نحو 219 مليار دولار مقارنة بـ25 مليارا تقريبا في عام 1995، وهناك بعض التقديرات التي ترى أنه بأخذ مسألة تعادل القوة الشرائية في الاعتبار فإن هذا الرقم يرتفع إلى ما بين 500 و700 مليار دولار، وهو ما يجعله يقترب جدا من السقف الأميركي.
وبالطبع يوجه الجزء الأكبر من هذا الإنفاق لتقوية الترسانة العسكرية الصينية، في نطاقات مختلفة، جميعها مخصص لزيادة قدرة الصين على فرض نفوذها في محيطها الإقليمي ومواجهة الحصار الذي تفرضه عليها الولايات المتحدة.
بادئ ذي بدء، تسير الصين بخطى حثيثة في طريقها إلى أن تصبح القوة البحرية الكبرى في العالم عام 2035، بل يعتقد أنها حققت ذلك بالفعل (على الصعيد الكمي المتعلق بعدد السفن وليس النوعي الذي تتفوق فيه الولايات المتحدة حتى الآن).
وفيما بين عامي 2014 و2018 أنزلت الصين إلى المياه عدد سفن أكبر من مجموع ما لدى ألمانيا والهند وإسبانيا وبريطانيا مجتمعة، ويعد الأسطول البحري الصيني أداة رئيسية لفرض هيمنة بكين ومنافسة الولايات المتحدة في البحار الإقليمية المحيطة بالصين، ولاحقا في المياه البعيدة منها إذا لزم الأمر.
إعلانوبالتزامن، شرعت الصين في تقوية سلاحها الجوي بما يخدم الغرض ذاته. فمثلا تشير التقديرات إلى أن مدى الطائرة "إتش-20″، وهي قاذفة صينية يعتقد أنها ستصدر خلال سنوات قليلة، يبلغ حوالي 8500 كلم، ومن المتوقع أن تسع القاذفة حمولة لا تقل عن 10 أطنان، تستوعب الأسلحة التقليدية والنووية.
وفي ضوء ذلك، سيعزز إدخال القاذفة بشكل كبير مدى الصين الإستراتيجي؛ مما يسمح لها بتهديد أهداف داخل وخارج سلسلة الجزر الثانية، بما فيها القواعد العسكرية الأميركية الرئيسية في غوام وهاواي.
والواقع أن ذلك كان دائما هدف الصين، سواء أثناء تطويرها للقوة البحرية المتنامية أو ترسانتها الصاروخية بما في ذلك الصواريخ الفرط صوتية، وأحدثها "دونغ فينغ-27″، وهو الأخير ضمن سلسلة صواريخ تحمل الاسم نفسه الذي يعني "رياح الشرق"، ويُعتقد أن مداه يقترب من 8000 كلم، وهو مدى الصواريخ الباليستية العابرة للقارات.
وقد ذكر تقرير صيني تسرب في فبراير/شباط 2023، أن هذا الصاروخ مُصمَّم لتعزيز قدرة الصين على الإبقاء على أهداف أميركية معرضة للخطر خارج سلسلة الجزر الثانية، التي تمثل الحدود البحرية الشرقية لبحر الفلبين، وتمتد بشكل شبه خطي من جزر بونين اليابانية وجزر البركان، مرورا بجزر ماريانا وكارولين الغربية وصولا إلى غرب غينيا الجديدة.
تعد الصواريخ الصينية تحديدا مصدر خطر كبير لأنها ببساطة يمكن أن تغير قواعد اللعبة تماما، فهذه الصواريخ، إلى جانب أنظمة المراقبة والاستهداف المحدثة، ستسمح للصين بمهاجمة حاملات الطائرات الأميركية أو سفن حلفائها الضخمة في غرب المحيط الهادي. كما تمكن الصواريخ بكين من فرص إستراتيجية "حظر الوصول" التي تعني منع منافسيها وفي مقدمتهم الولايات المتحدة من نشر قطعهم في مناطق الصراع منذ البداية.
إعلانتركز الصين حاليا على استخدام صواريخها الباليستية المضادة للسفن، وغيرها مثل صواريخ كروز للدفاع الجوي، وسفنها المتنوعة خاصة النماذج المحدثة جدا من المقاتلات السطحية والسفن البرمائية وأنظمة المراقبة البحرية الخاصة بها، في بناء منطقة حظر وصول صارمة تمتد إلى حدود "سلسلة الجزر الأولى"، وهي أول مجموعة من الأرخبيلات في المحيط الهادي التي تقابل شرقي آسيا، وتبدأ من شمالي إندونيسيا لتمر بالفلبين وصولا إلى اليابان.
وبهذه الوتيرة، يعتقد الخبراء أن الصين ستتمكن بحلول عام 2030 من إحكام السيطرة على هذه المنطقة، وستتحرك سفن البحرية الصينية فيها بحرية تامة، وستُمنع القوات الأجنبية أيًّا كانت من التصرف بحرية فيها.
تصادم حتمي؟منذ عام 2008 لم تقترب أية حاملة طائرات أميركية بالفعل من جزيرة تايوان. يعطينا ذلك لمحة إضافية عن خطط الصين البحرية، فعلى الرغم من أن قدراتها أقل من الولايات المتحدة حتى الآن، فإنها تمتلك نقطة تميز واضحة وهي "محدودية الأهداف".
ففي حين أن قطع البحرية الأميركية تنتشر في كل العالم تقريبا، تركز الصين حتى الآن على هدف واحد هو السيطرة على المياه الدولية المحيطة بها، التي تعتبرها، بشكل أو بآخر، باحتها الخلفية.
غير أن بكين لن تتمكن من تحقيق مراميها في السيطرة الإقليمية، التي تكفل تحقيق الهدف النهائي للدولة (أي دولة) في النظام الدولي وهو الأمن، إلا بالصدام مع الولايات المتحدة التي تفرض عليها حصارا في محيطها الإقليمي.
وبمجرد أن يتسنّى لها فعل ذلك يمكننا توقع ما سيحدث لاحقا: انتشار واسع على مختلف المسارح العالمية ثم منافسة للولايات المتحدة في باحتها الخاصة كما تقول نبوءة ميرشايمر.
تعد تلك وصفة مضمونة لحرب مدمرة، حتى من منظور الواقعيين القدامى من أمثال ثوقيديدس الذين وصفوا تلك النزعة الواضحة للحرب عندما تشعر قوة عظمى بالتهديد من قبل قوة جديدة صاعدة، بما يعني أن مستقبل العالم كله ربما يتوقف على طبيعة الخيارات التي يتخذها القادة الأميركيون والصينيون خلال السنوات القادمة.
إعلانومع ذلك فإن هناك من يقللون من ذلك الاحتمال ويجادلون بأن نظرية ميرشايمر تبالغ في التعويل على القدرات العسكرية وتتجاهل الطرق الأخرى التي يمكن من خلالها للدول أن يمارس بعضها الضغوط على بعض.
تفشل نظرية ميرشايمر كذلك في اعتبار احتمال أن الصين ربما تسعى للالتفاف على الوجود الأميركي مستغلة عامل الزمن دون الدخول في صدام مباشر، حيث ستعمل على تعظيم قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية وتستمر في اتباع مقاربة دفاعية خاصة في محيط إقليمي مليء بالكبار أمثال الهند واليابان وبدرجة أقل إندونيسيا.
كما أن الردع النووي قد يؤدي الدور الكابح الذي مارسه إبان الحرب الباردة، بالنظر إلى امتلاك كل من واشنطن وبكين أسلحة دمار شامل.
في النهاية، إذا تمكنت الصين من تعظيم قدراتها خلال العقود المقبلة من خلال تفادي الصدام مع الولايات المتحدة فلربما ينشأ نظام عالمي جديد ثنائي القطب شبيه بالحقبة السوفياتية، وهو ما يعني عالما أكثر استقرارا وإن بشكل نسبي.
أما إذا تحققت نبوءة ميرشايمر ووقع الصدام "الحتمي" فإننا سوف نودع العالم الذي نعرفه إلى الأبد.