تشارك الفنانة التونسية درة فى مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته الـ45، بفيلم «وين صرنا»، الذى ينافس ضمن مسابقة آفاق السينما العربية، واختارت «درة» هذه المرة أن تكون خلف الكاميرا، وتقدم العمل كمخرجة للمرة الأولى فى مشوارها الفنى.

فيلم «وين صرنا؟» يحكى عن «نادين»، شابة من غزة، وصلت إلى مصر بعد ثلاثة أشهر من الحرب، رفقة ابنتيها الرضيعتين، اللتين أنجبتهما قبل الحرب ببضعة أشهر بعد معاناة خمس سنوات، وتنتظر زوجها الذى لم يتمكن من الانضمام إليها إلا بعد شهرين.

 

وقالت «درة» فى حوار لـ«الوطن»، إنها تسعى إلى تقديم وجهة نظرها من خلال عمل إنسانى يحمل قيماً سامية وهادفة، وكان هدفها فى المقام الأول أن يقدم الفيلم رسالة داعمة للشعب الفلسطينى.

تمنيت أن يشاهد الأجانب هذا العمل ليتعرفوا على حقيقة ما يجرى فى «غزة»

لماذا بكيتِ فى العرض الخاص لـ«وين صرنا»؟

- هذا أصدق وأفضل شعور بالنسبة لى، فبعد انتهاء العرض الخاص بالفيلم شعرت بفرحة عارمة، خاصة أن الجمهور قام بتصفيق حاد بعد انتهاء العرض، فكانت دموع فرحة، لأننى منذ البداية كنت أشعر أننى أريد تقديم رسالة محددة للجمهور، لعل وعسى يشاهده الأجانب ويأخذون عبرة من أحداث الفيلم، وأيضاً كان يهمنى بشدة آراء الفلسطينيين، فحاولت إبراز زاوية واحدة من زوايا كثيرة مروا بها.

أظهرت مشاعر الأمل والأمان خلال الأحداث.. من أكثر الرسائل التى أسعدتنى طلب فئة كبيرة من الفلسطينيين مشاهدة العمل

لماذا اخترتِ القضية الفلسطينية أن تكون هى عنوان تجربتك الإخراجية الأولى؟

- القضية الفلسطينية ممتدة عبر عقود، واختيارى لها لم يكن وليد اللحظة، فالأمر يشغلنى منذ فترة طويلة، وكنت أتمنى تقديم فيلم ملىء بالمشاعر الصادقة والحقيقية، فالفيلم لم يلم بكل تفاصيل القضية الفلسطينية، وليس عملاً توثيقياً لما يحدث فى فلسطين وغزة، ولكنه عمل يبرز مشاعر وأحاسيس شخصيات عاشت الألم وتأثرت به وبتفاصيله، وسعيدة بمشاركة تلك التجربة ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائى ضمن مسابقة آفاق السينما العربية، فهذا شرف كبير لى.

ما الرسالة الأساسية من الفيلم التى أردتِ تقديمها للجمهور؟

- منح الأمل لأى شخص يشاهد الفيلم، هذا هو الهدف الأساسى من تقديم هذا العمل، وذلك لأن الفيلم الوثائقى والتسجيلى له خصوصية لا يمكن الخروج عنها، وقد وصلتنى رسائل كثيرة من الجمهور من الدول العربية، ومن أكثر الرسائل التى أسعدتنى أن هناك فئة كبيرة من الفلسطينيين يريدون مشاهدة الفيلم، وطلبوا منى ذلك.

هل هدف الفيلم تحقيق أى مكاسب مادية بعد عرضه سينمائياً؟

- لم أفكر فى ذلك الأمر مطلقاً، فلم يكن هدفى تحقيق أى مكاسب تجارية، لأننى تحمست لتقديم تجربة فنية مُفعمة بالمشاعر والأحاسيس، خاصة أننى تأثرت بشدة بما يحدث حالياً مع أهل غزة، والفيلم يعكس واقع القضية الفلسطينية من خلال قصة حقيقية لأسرة عاشت ظروف الحرب، وهو ما أثر فى نفسى، وأردت أن أنقله بصدق إلى الشاشة.

هل كنت تفكرين فى تصوير مشاهد من الحرب بالفعل؟

- جالت بخاطرى أفكار صعبة للغاية وكنت أريد تصويرها خلال أحداث الفيلم، ولكن من الصعب تنفيذها، لأن لها علاقة بغزة والمعبر، وكان من المستحيل أن تحدث فى ظل الظروف الراهنة التى تمر بها البلاد، فكان هذا تقييداً بالتأكيد للإبداع، ولكن حاولت تقديم الفيلم فى أكثر صورة ملائمة، وأيضاً من الصعوبات التى واجهتنى أننى قدمت الفيلم مع أسرة عادية تأثرت بظروف الحرب، ولم أتعامل مع فنانين محترفين.

حرصتِ من خلال الفيلم على تقديم أعمار مختلفة عاشت ظروف الحرب، ما السبب وراء ذلك؟

- هدفى من تصدير الأعمار المختلفة فى العمل هو نقل مشاعر الحرب والخوف بشكل مختلف، فالطفلة الصغيرة كانت حزينة على كتبها المدرسية التى استخدمتها الأسرة لإشعال النيران بديلاً للحطب، وذلك غير المشاعر التى عاشتها الفتاة الجامعية التى تفكر بشكل مختلف عن الأم التى تفكر فى أولادها لدرجة أنها تنسى نفسها، فكل شخص كان لديه مشاعر منفصلة، وهذا يعد صورة مصغرة لما عاشه الشعب الفلسطينى بشكل عام على مدار سنوات طويلة، واكتشفته عندما اقتربت منهم.

الفيلم يحمل العديد من المشاهد الصعبة، ما كواليس مشهد شعور أحد أبطال الفيلم بالذعر بعد سماع صوت طائرة فوق منزله بمصر؟

- المشهد كان معناه عميقاً ومهماً، وهو الإحساس بالأمان، فهذه التفاصيل الصغيرة أهم من عرض مشاهد الانفجارات والحروب، لأن أجواء الحرب خلقت لديهم حالة من القلق جعلتهم يشعرون دائماً بوجود طائرة سوف تقصفهم فى أى وقت، وسوف ترمى قنبلة لتنهى حياتهم فى أى لحظة، وهو مشهد صعب، وفكرة شعورهم بأن هذه طائرة عادية تحمل ركاباً له معان كثيرة، ومعناه الأول هو شعور الإنسان بالأمان، بعد شعوره الدائم بالخوف من الموت فى أى لحظة.

شاهدت أفلاما وثائقية وأعمالا لكبار المخرجين قبل بدء العمل

تقديم فيلم وثائقى يحتاج إلى مقاييس خاصة، هل وجدتِ صعوبة فى ذلك؟

- كنت على دراية كاملة أننى عندما أقدم فيلماً وثائقياً، أننى سوف أسلك طريقاً صعباً، خاصة أن هذا النوع من الأفلام لديه فئة معينة من الجمهور، ولا يهم كل الفئات الأخرى، لذلك قبل بداية التجربة حرصت على مشاهدة كم كبير من الأفلام الوثائقية، وقرأت كتباً كثيرة لمخرجين فى هذا المجال، حتى يخرج العمل بهذه الصورة، لأننى كما ذكرت اعتمدت على المشاعر والأحاسيس بشكل أساسى.

هل اعتمدتِ على ترك مساحة للارتجال؟

- بكل تأكيد، فهناك جمل خرجت من الممثلين بمشاعرهم وأحاسيسهم، لم أجبرهم أن يقولوا جملاً بعينها، ولكنى كنت أترك الجمل تخرج منهم، كنت دائماً أسعى إلى أن يشعروا بحب وثقة وراحة خلال التصوير، لدرجة أنهم يروون تفاصيل حقيقية عاشوها، فكنت أترك مساحة كبيرة للارتجال، ثم أختار ما هو صالح أن يكون موجوداً فى الفيلم، أنا صورت 10 ساعات واكتفيت بساعة و20 دقيقة منها فقط، وكان مهماً بالنسبة لى أن أشاهد كيف تفاعلت الأعمار المختلفة مع أحداث الفيلم.

هل من الممكن أن تُعيد «درة» تقديم تجربة الإخراج مرة أخرى؟

- لم أحسم القرار بشأن هذا الأمر، ولكن من الممكن أن أكرر تلك التجربة مرة أخرى، لأننى أحببت تلك المهنة، لأنها تحمل نوعاً مختلفاً من التحدى، ووجدت تفاصيل ممتعة لم يعشها الفنان، فقد تأثرت بالعديد من المخرجين العالميين خلال عملى على هذا الفيلم، ومن الممكن أن أفكر فى دراسة الإخراج مستقبلاً لتطوير الموهبة.

ما خططك لعرض الفيلم بعد نجاحه جماهيرياً فى مهرجان القاهرة السينمائى؟

- سوف يتم عرض فيلم «وين صرنا» ضمن فعاليات مهرجان أيام قرطاج السينمائى، وسوف تكون هناك خطة لعرضه فى أكثر من دولة عربية دون الاقتصار على المهرجانات فقط، لأن جمهور المهرجانات له خصوصية محددة، وهم فئة بعينهم، وأنا أريد أن يشاهد الفيلم فئة كبيرة من الجمهور، لذلك أتمنى عرضه على منصة حتى يكون متاحاً للجميع.

بكاء كندة علوش

استقبلت ردود فعل إيجابية ولم أكن أتوقع كل هذا الحب، ولا أريد أن أنسى شخصاً، ولكن الجميع كان يقف على قدم وساق من أجل متابعة الفيلم، ووصلتنى رسائل إيجابية حول الفيلم، ولا يمكن أن أنسى رد فعل كندة علوش، التى حضنتنى بشدة بعد مشاهدة الفيلم، ودخلنا فى نوبة بكاء شديدة تأثراً بأحداثه، وأيضاً وجدت دعماً كبيراً من الفنانة هالة صدقى وسوسن بدر، وإشادة كبيرة من المنتج جابى خورى، وهذا بالنسبة لى تقدير غالٍ، وذلك لقيمته الكبيرة فى صناعة السينما.

 

 

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: مهرجان القاهرة السينمائى القضیة الفلسطینیة وین صرنا کبیرة من

إقرأ أيضاً:

8 سنوات على رحيل السيد ياسين.. أستاذ الباحثين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق إرث فكرى وثقافى وإسهامات تجاوزت حدود الزمنالكاتب والمفكر الراحل السيد يسين

لما يقارب قرن من الزمان، امتدت رحلة الكاتب والمفكر الراحل السيد يسين الفكرية، كانت حافلة بالقراءة والكتابة والمساهمات المؤثرة، ليس فقط فى المجال الأكاديمي، بل أيضًا فى تكوين أجيال واعية بما يدور حولها من تحديات وصراعات، ومدركة للأخطار التى واجهت الوطن فى لحظاته الحرجة، والمراحل التى احتاج فيها إلى البناء والتطوير. 

كان السيد ياسين بالنسبة لرواد علم الاجتماع السياسى بمثابة شيخ المشايخ، إذ ساهمت أبحاثه الاستراتيجية فى تشكيل الخطاب الثقافى وصياغة الوعى المجتمعي. ومنخلال موقعه كمدير لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الذى تولاه منذ منتصف السبعينيات وحتى منتصف التسعينيات، لعب دورًا يفوق تأثير العديد من الوزراء والسياسيين، حيث أسهمت رؤاه فى وضع الخطط التى شكلت الأسس الثقافية للمجتمع المصري؛ كما أثرى وجوده المركز العربى للبحوث والدراسات بمؤسسة "البوابة نيوز"، والذى تولى مسؤوليته فى المحطة الأخيرة من رحلته الحافلة. فىأعقاب نكسة 1967،شهد السيد ياسين حالة الإحباط التى سادت المجتمع، لكنه لم يتوقف عند حدود الشعور بالهزيمة، بل رأى أن مفتاح الفهم يكمن فى دراسة العدو. لذلك،التحق بمركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية بمؤسسة الأهرام عام 1968، وهو المركز الذى تحول لاحقًا إلى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، والذى ترأسه منذ تأسيسه حتى عام 1994.

وبعد مغادرته مركز الأهرام، واصل مسيرته البحثية عبر المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية، ثم أسس فى 2012 "المركز العربى للبحوث والدراسات" بالتعاون مع الكاتب الصحفى عبد الرحيم علي، ليضم مجموعة من أبرز الباحثين فى مجالات الاقتصاد، السياسة، الاجتماع، والإعلام.

ترك السيد ياسين إرثًا فكريًا غنيًا، من بينه مؤلفات مهمة فى علم الاجتماع والسياسة، ساهمت فى تشكيل وعى أجيال من الباحثين والمفكرين. وعلىمدار مسيرته الفكرية، نال العديد من الجوائز والتكريمات، منها وسام الاستحقاق الأردنى من الطبقة الأولى عام 1992، ووسام العلوم والفنون والآداب عام 1995، وجائزة الدولة التقديرية فى العلوم الاجتماعية عام 1996. واستمر عطاؤه حتى آخر أيامه. وفىصباح يوم 19 مارس 2017، رحل عن عالمنا، تاركًا وراءه إرثًا فكريًا سيظل مصدر إلهام للأجيال القادمة. "البوابة" تحتفى بذكرى الأستاذ الذى يظل باقياً بيننا بأفكاره وإرثه الغنى سواء بمؤلفاته أو بالعديد من الباحثين الذين ساروا على الدرب وما زالوا يواصلون دورهم التنويرى والفكرى.. حيث يكتب خصيصاً فى هذه الذكرى إثنان من كبار الباحثين المرموقين واللذان عملا لسنوات مع الأستاذ الراحل الكريم، وهما المفكران الكبيران نبيل عبد الفتاح ود. يسرى العزباوى.

نبيل عبدالفتاح يكتب: السيديسين.. كبيرنا الذي علمنا السحرنبيل عبدالفتاح

نظرة طائر على مسارات تطور الفكر المصرى الحديث منذ منتصف القرن الثامن عشر، وأواخر القرن التاسع عشر، حتى القرن العشرين، تشير إلى أدوار بعض الأساتذة الكبار المعلمين الذين أسهموا فى نقد الموروثات التقليدية التى يُعاد إنتاجها على الرغم من أنها مستمدة من سياقات واقع تاريخى قديم منذ قرون، حاملةً معها ظروف عصرها، وثقافته وقيمه وأسئلته، من خلال الاجتهادات الفقية أو الكلامية وأعراف الجماعات فى هذه العصور الماضية، ويراد لها أن تحكم حياة المصريين، والمجتمعات العربية، على الرغم من التحولات الكبرى والقطيعة مع هذه العصور التى مضت. على عديد المستويات .

هذا الدور النقدى الخلاق، ظل محصوراً فى بعض هؤلاء الأساتذة الكبار، الذين صدموا العقل المصرى النقلى المسيطر، وخاصةً لدى رجال الدين، بعضهم الآخر ساهم فى محاولة بناء الجسور بين متغيرات العصر الحديث، والمعاصر، وبين النص المقدس من خلال آليات التأويل للنصوص الدينية المقدسة والسّنوية من خلال المقاربة التوفيقية، التى تحولت لدى بعضهم إلى التلفيق بين بعض المتناقضات. بعضهمالاخر لعب دوره النقدى، والتحليلى، من خلال الاطلاع على مصادر التجديد، والتطور فى العلوم الاجتماعية، والقانونية، والسياسية، والفلسفية والسيوسيولوجية والأدبية، وفى ذات الوقت قاموا بدور المعلمين، من خلال دورهم فى نقل المعارف الحداثية وشبه الحداثية فى تخصصاتهم، أو فى عديد من فروع العلوم الاجتماعية، إلى أجيال متعاقبة من تلاميذهم، سواء فى الجامعة ومراكز البحث، أو الصحافة، وكتاباتهم الصحفية، أو مؤلفاتهم العديدة.

الأستاذالمعلم السيد يسين، يمثل واحداً ممن جمعوا فى أعطافهم، وأدوارهم العامة، وإنتاجهم العلمى، غالب هذه الأدوار فى فكره وشخصه.

جاء السيد يسين من مصادر تكوينية متعددة، من الفكر الإسلامى، ومصادره من خلال الانخراط فى أثناء دراسته الثانوية، فى بعض الفكر الإسلامى النقلى مع مقاربات جماعة الإخوان المسلمين، من خلال أحد أساتذته من ذوى العقول المنفتحة، على الرغم من أنه كان ضريراً لكن عقله المتميز، كان يطرح الأسئلة المختلفة، ويحاول الإجابة عليها.

كانت بصيرة أستاذه حادة، حتى بعد دراسته فى كلية الآداب، من هنا استلهم السيد يسين من أستاذه رحابة العقل النقدى، ومعرفة بعض الموروث الفقهى والكلامى، وثقافة السؤال. انتقلالسيد يسين من مقاربة بعض الخطاب فى المسجد، إلى كلية الحقوق، وامتلك ملكة الخطابة الشفاهية، المحمولة على الأسئلة. منخلال الدرس الأكاديمى فى كلية الحقوق بجامعة الأسكندرية، حيث عالم التجريد، والانضباط فى التفسير والتأويل للأنساق القانونية، والنصوص فى كافة فروع القانون العام، والمدنى، والدولى، والتجارى، والبحرى، والشريعة الإسلامية.

عالم كلية الحقوق والدرس الأكاديمى فى رحابها، هو عالم النصوص والنظريات، والمفاهيم، والاصطلاحات، والأهم ملكات التحليل والتأويل والتفسير، والانضباط .عالمسيادة التجريد، والشكلانية – إلا بعض الاستثناءات -،وهو ما أجاده "الأستاذ المعلم"،وأيضاً مع معرفته بالشريعة، والتناقضات بين عالم النقل، والعقل، بين الأشاعرة، والمعتزلة.

بعد تخرجه من كلية الحقوق،عُين بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية، وانتقل إلى عالم فكرى أوسع، حيث دراسة الظواهر الاجتماعية، والمشكلات والأزمات المجتمعية، وعالم ماوراء النظام القانونى الكلى، وأنظمته الفرعية، حيث فضاءات القوة، والسلطة، والمصالح الطبقية، المسيطرة التى تفرض نفسها بقوة فى القانون، والسياسة، والاجتماع ومسارات الحياة والتمييزات الطبقية الحادة والقاسية فى مجتمع متخلف تاريخياً.. إلخ.

درس السيد يسين علم الاجتماع وفروعه، ومارس البحث الحقلى والتطبيقي، ومعه علم الاجتماع القانونى، فى تكوين ذى مستويات رفيعة وعميقة، ومعه تغيرت مقارباته للقانون ،والسياسة، والسلطة، والأدب، والفنون، والثقافة.. إلخ.

تعرفت على أفكار الأستاذ المعلم السيد يسين من خلال كتابه "السلوك الإجرامى ومعاملة المذنبين"،وأنا طالب فى كلية الحقوق فى السنة الأولى، ومن خلاله فتح أمامى افاق واسعة فى دراسة السلوك الإجرامى والعقابى من خلال التحليل السوسيو قانونى والواقعى مستصحباً الواقع الموضوعى، واختلالاته ومصادره التى تنتج السلوك الإجرامى.

ثم كتاب "أسس البحث الاجتماعى" مع آخرين، و"التحليلالاجتماعى للأدب"،و"الشخصيةالعربية بين مفهوم الذات وصورة الآخر (١٩٧٣)، والسياسة الجنائية المعاصرة.. كتب تفتح آفاق جديدة أمام العقل والوعى السياسى والقانونى والاجتماعى.

ثم تعرفت شخصياً عليه من خلال أستاذى الكبير الدكتور حسام عيسى، الذى رشحنى إليه، وذهب معى إلى منزله، وتحاورنا، وطلب خطة بحث عن الصراع بين القانون الحديث، وبين التقاليد فى مصر واليابان، وذلك بعد نقاشات وأسئلة، ومحاولته استكشاف عقل هذا المحامى الشاب الذى يعمل فى مكتب سابا باشا حبشى، أحد أكبر رجال القانون المصريين الذين عرفتهم المحاماة، وهاجر إلى أمريكا مع زميله الأستاذ سامى فهمى الذى عمل مستشاراً لشركة أرامكو، وكان سابا باشا قد وضع اتفاقيات النفط بين الشركة والحكومة السعودية، وعمل سابا باشا أستاذاً للشريعة الإسلامية فى جامعة كولومبيا، وفتح مكتباً للمحاماة فى نيويورك، وتسلم المكتب فى القاهرة تلامذته عادل كامل وشفيق إلياس. كانالمكتب أحد مدارس المحاماة والقانون فى مصر والشرق الأوسط كله.

الأستاذالمعلم بعد أن طلب وضع خطة للبحث، وقمت بها – ١٧ صفحة بخط اليد – طلبنى لمقابلته مساءاً فى منزله بجوار المركز القومى للبحوث القانونية والاجتماعية وكان قريباً من منزلنا بالمساكن الشعبية بالكيت كات، وكان يُعد للسفر فى فجر ذات اليوم لأحد المؤتمرات فى الولايات المتحدة، وقال لى: هل ستستمر فى طلب الدخول إلى النيابة العامة، أم حسمت أمرك للعمل فى مجال البحث العلمى الاجتماعى؟، قلت بحسم: أناأقرب إلى عالم العقل والبحث والأفكار.. كرر السؤال مراراً، قلت: حسمت أمرى.. قال: عندما أرجع من المؤتمر بأمريكا، سوف أعينك مع وحيد عبد المجيد.. وفعلها الأستاذ المعلم، وانتقلت للعمل باحثاً بالمركز مع أخى وصديقى العزيز الباحث الكبير والمثقف البارز منذ شبابه وحيد عبدالمجيد.. كان سمت الأستاذ المعلم هو علامة السيد يسين، يبدع الأفكار، ويتابع تطورات الفكر العالمى على نحو ما تشير كتبه، حول ظواهر وتحولات عالمنا المتغير، وواقعنا الاجتماعى والسياسى المضطرب منذ عصر السادات إلى أن توفاه الله.

كان الأستاذ المعلم صارماً فى الأمور العلمية، ويتابع مطالعات الباحثين ووالخبراء فى المركز للكتب والمقالات العلمية ،وغيرها من القراءات فى الأدب والفنون والتاريخ والفلسفة.. إلخ. كان –ما أصعب كان- هو المؤسس الحقيقى لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، وواضع أسسه العلمية، وكان يختار الباحثين بعناية فائقة، وبناءاً على اختبارات بحثية وعقلية متتالية، ولا يعين شخصاً إلا بعد إثبات جدارته بالانتماء للمركز.

كان الأستاذ المعلم صارماً فى مساءلة أى باحث أو خبير عن عمله وأدائه البحثى.. كان يجمع بين دور المعلم، ومدير المركز، وبين الكاتب المبدع فى كتاباته، وكتبه العديدة.. كانت معارفه الواسعة بالقانون والسياسة والاستراتيجية والأدب والفنون، تشكل روافد معرفية وأسلوبية فى كتاباته، وفى نسقه اللغوى المتفرد.

كان أستاذى العظيم رغم صرامته الظاهرة وهيبته ذات الظلال المهيمنة على كل من حوله، يمتلك حساً ساخراً، يفجر الضحكات من قلب التناقضات، وتفاهات بعض من فى السلطة، وكان يجيد ببراعة التعامل مع منطق الدولة، ويناور، ويحتوى، ويهاجم فى براعةٍ وذكاء.

كان أستاذنا العظيم، هو كبيرنا الذى علمنا السحر، فى البحث، والكتابة، والمعرفة، ومصادرها المتنامية والمتطورة فى الغرب، وعالمنا العربى. وأيضاًفى فهم عقل الدولة، والبيروقراطية - أصدر كتاباً بالإنجليزية مع الصديق المرحوم د. على ليلة وأستاذ أمريكى - وكيفية التعامل معها مناورةً، وتجاوزاً، ونقداً.

كبيرنا الذى علمنا السحر، أحد بناة العقل المصرى المعاصر منذ النصف الثانى من القرن العشرين، حتى سفره الطويل فى الغروب، ولا يزال أثره قائما فى حياتنا الفكرية المصرية والعربية ،وسيأتى الوقت للكتابة الضافية عنه وعن مركزنا، وغيره من الشخصيات والعقول الكبرى التى تقابلت معها وعرفتها عن قرب.. السلام إلى روحك، وعقلك الكبير أيها المعلم الكبير والمثقف البارز مصرياً وعربياً، وأنت فى سفرك الطويل فى الغروب، أيها الأستاذ المعلم كبير المكانة ورفيع المقام السلام.. السلام.. السلام لروحك الجميلة وعقلك المبدع الوثاب.

د. يسرى أحمد العزباوى يكتب:المفكر الكبير والموبقات السبع للإخواند. يسرى أحمد العزباوى

تمر علينا فى هذه الأيام المباركة الذكرى الثامنة لرحيل المفكر وعالم الاجتماع السياسى الكبير السيد يسين. وفىظل هذه الذكرى العطرة أجد صعوبة بالغة، فى ظل مشاعر غامرة وفياضة، عن أى جانب يمكن الحديث من خلاله عن عالم فذ، ومفكر موسوعي، وباحث متجدد، صاحب مواقف ورؤى، وخط فكرى وعلمى لم يحد عنه يومًا من الأيام. خاضمعارك فكرية عديدة من أجل التنوير والنهضة والحداثة والأمة، ومستقبل أفضل للدولة الوطنية المصرية.

وكان السؤال الذى دار فى خلدي، هل أتحدث عن السيد يسين الإنسان، أم عن المشروع العلمى الثقافى الاجتماعى السياسى المتكامل، الذى أفنى فيه حياته البحثية والعلمية على مدار أكثر من ٦٠عامًا. أمأتناول علاقتنا التى تحولت إلى علاقة أبوية علمية كان يسودها الاحترام المتبادل والتقدير. فلميغضب منى يومًا من رأى أخالفه فيه، وهو من هو، بل على العكس كان دائم التشجيع لى، ولغيرى من أبنائه الباحثين الذين لا يزالون فى مقتبل العمر المهنى والعلمي، وأنا بالطبع منهم. كانلدى الأستاذ فضيلة لم أجدها فى غيره، وهى قيامه بالاتصال بما لا يعرفهم من الباحثين والكتاب تليفونيًا ليثنى على أفكارهم ودراساتهم، وذلك بعد تحمل عبء محاولة الوصول إلى وسيلة الاتصال بهم.

السيد يسين كان حالة وشخصية استثنائية، عادة لا تتكرر، تحمل فى طياتها العزة والكرامة والشموخ والهيبة والطيبة والتلقائية التى كان يتمتع بها عمن سواه من معشر الجماعة البحثية. فهوكان لأبناء جيلى من الباحثين والخبراء فى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بمثابة أستاذ الأساتذة، كبار الباحثين والخبراء أمامه، يسودهم التواضع العلمى والمعرفي، ولم لا وهو الذى ساعدهم ليتبوأ كل منهم مقعده فى الجماعة البحثية المصرية. ولميبخل على أحد منهم بما يتمتع به من علم ومعرفة، بل والنصيحة، والمساعدة العلمية لإعداد مشروعه العلمى من ماجستير أو دكتوراة، وما بعد الدكتوراة.

لا تزال أفكار ونظريات عالمنا الجليل، فى المجالين الاجتماعى والثقافى تحديدًا، نبراسًا للكثير من الباحثين وطالبى العلم فى مختلف أرجاء الوطن العربي. وأتذكرجيدًا حينما جلست مع أحد الأصدقاء من الدول العربية الشقيقة أو تحاورنا حول قضية من قضايا وطننا الأكبر إلا وتم استدعاء نظريات الأستاذ وأفكاره، كأحد الحلول والمقترحات للخروج من نفق الأزمات التى يعج بها وطنا العربي، فى ظل مرحلة خطيرة يمر بها النظام الدولي.

كان للأستاذ موقف واضح من ثورة يناير، فهو كان دائمًا التأكيد على أن العبرة بالنتائج والخواتيم وليس بالمقدمات أو بالصوت العالي. لميسقط أبداً الأستاذ تحت وطأة فخ ضغط شباب الثورة أو أفكارهم الجامحة، بل حاول ترشيدها ووضعها فى أطر واضحة فى إطار قراءته التاريخية للثورات المختلفة، بما فيها الثورة الفرنسية والبلشفية. وشاركتمعه فى حوارات مع العديد من المجموعات الشبابية التى ظهرت بقوة على السطح بعد ١١يناير، خلال جلسات حوارية عقدها فى المركز العربى للبحوث والدراسات ومركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ومن خلال تلك المناقشات مع الشباب دائمًا كان يعبر عن تخوفه من الطموح الزائد عن الحد فى ظل نقص وغياب المعرفة لدى هؤلاء الشباب بالواقع المصري، والمحيط الإقليمي، والتغيرات الدولية. فالأستاذكان يؤمن بضرورة الإصلاح التدريجى دون تخوين أو إقصاء. وكاندائم التأكيد على ضرورة دمج الشباب وإعدادهم لتحمل المسئولية تدريجيًا حتى تخرج مصر من عنق الزجاجة إلى بر الأمان فى ظل رغبة بعض الدول فى إضعاف الدولة المصرية فى ظل استمرار موجات من الاضطرابات.

ولقد كان للأستاذ الكبير السيد يسين موقف واضح من جماعة الإخوان. فقدكان يرى أن مشروعها الذى كان يسمى "بالنهضة" سيفشل لا محالة، ليس فقط بسبب عدم وجود مشروع من الأصل، وأنه "فنكوش" على حد تعبيره، ولكن أيضًا لأنه مشروع يعبر عن جماعة وفئة وليس مشروعا للأمة المصرية، فضلاً عن ارتكاب الجماعة لما أسماه الموبقات السبع، وهي: محاولة الانفراد بالسلطة، ووضع دستور على مقاس الجماعة، وممارسة العنف، والامتداد الخارجى للجماعة، وانفرادها بالبرلمان، والتحالف مع الجماعات المتطرفة، وتولى الجماعة سدة السلطة الرئاسية.

الأستاذكان يؤمن بأن الجماعة فى طريقها للزوال، ولم لا، فهو أدرى الناس بها، حيث بدأ حياته عضواً بها، ويحفظ عن ظهر قلب مبادئها وأفكارها غير المعلنة. لكنهسرعان ما تبرأ منها، فهو كان يرى فيها الجمود والخمول الفكري، والاستبداد، وحب الانفراد بالسلطة، وأن سعيها لما تسميه "أستاذية العالم" هو مشروع وهمى ليس له أى أسس ومرتكزات فى العصر الحديث، التى تتمتع فيه الدولة الوطنية بالحق الشرعى فى التحكم فى المقدرات المادية والبشرية دون غيرها من الجماعات الأخرى.

وفى السياق ذاته، أيد الأستاذ خروج المجتمع عن بكرة أبيه فى ثورة ٣٠يونيو والإطاحة بالإخوان. ورأىأن أهم منجزات ثورة يونيو هو استعادة للدولة المصرية المخطوفة من الجماعة التى سعت لتأسيس دولة دينية، يحكمها مكتب الإرشاد، والتنظيم الدولى للجماعة. وأتذكرجيدًا عندما زار الأستاذ فى مكتبه المستشار السياسى للرئيس الإندونيسى فى أواخر عام ٢٠١٣والذى كان له موقف غير مؤيد لثورة ٣٠يونيو، قال له الأستاذ بالحرف "هى ثورة حقيقية قام بها الشعب المصري، والذى يمتلك رأياً مخالفاً يحتفظ به لنفسه، والمقابلة انتهت.. اتفضل". وهو موقف تكرر مع عدد من الباحثين الأجانب الذين زاروا الأستاذ للتعرف على حقيقة ما يحدث بعد ٣٠يونيو.

وفى إطار هذا الحماس لـ٣٠ يونيو حمل الأستاذ على كتفيه مشروعا علميا بارزا داخل المركز العربى للبحوث والدراسات حمل عنوان "إعادة إنتاج الدولة التنموية"،شارك فيه عدد كبير من كبار الباحثين والخبراء فى مختلف التخصصات العلمية، تم خلاله رصد أهم التحديات والمشكلات التى تواجه الدولة المصرية، ووضع سياسات بديلة لها، وتصور شامل أمام صناع القرار للاستدلال به علميًا ومنهجيًا فى التعاطى مع قضايا ومشكلات مصر الثقافية والسياسية والاجتماعية.

كان للأستاذ الكبير، ومنظر العولمة الأول فى الوطن العربي، أو الكاهن الأكبر، كما كان يحب أن يداعبه المفكر الكبير نبيل عبد الفتاح، معاركه الخاصة مع الجهل والكراهية ومع مدعى المعرفة والثقافة، وهى تلك المعارك التى خاضها بشرف كبير، وانتصر فيها انتصاراً ساحقًا.

وفى النهاية، كم كنت أتمنى أن يلقى الأستاذ التكريم المستحق من الدولة المصرية، بإطلاق اسمه على أحد المحاور الرئيسة فى القاهرة أو الإسكندرية، فهو يستحق عن جدارة مثل هذا التكريم، لما قدمه طوال مسيرته العلمية والمهنية فى خدمة مصر الحبيبة. وأتمنىأن يجد هذا المقترح صدى لدى المسئولين فى الدولة المصرية الآن!

مقالات مشابهة

  • الرئيس السيسي: نفقد من 800 لـ 900 مليون دولار كل شهر بسبب ظروف المنطقة
  • 8 سنوات على رحيل السيد ياسين.. أستاذ الباحثين
  • محافظ دمياط يرسل إنذارات أخيرة للمتعدين على الأراضي الزراعية
  • اتجوزت ووالدتي عاشت معاناة بسببي.. محمد رجب يعلن زواجه من فنانة مشهورة
  • عقب الحريق .. «الصحة» تعلن انتظام العمل بالإدارة العامة للتكليف واستمرار تقديم الخدمات
  • الصحة: انتظام العمل بـإدارة التكليف واستمرار تقديم الخدمات كالمعتاد (صور)
  • الصحة تعلن انتظام العمل بالإدارة العامة للتكليف واستمرار تقديم الخدمات
  • الجزيرة في سوريا.. فيلم يحكي قصة 14 عاما للشبكة ويستذكر شهداءها
  • فريق عمل "80 باكو": قدمنا قصص حقيقية.. ودخلنا عالم الكوفيرات
  • ريهام حجاج: التكنولوجيا الحديثة أصبحت أداة خطيرة.. ورسالة «أثينا» تقديم اقتراحات