اتفق اللبنانيون منذ أكثر من نصف قرن ومعهم الملايين من العرب على ألا يستقبلوا شروق الشمس إلا ومعه صوت فيروز -التي تحتفل اليوم بعيد ميلادها الـ90- وألا تستحق سهراتهم الليلية الوقت والجهد إلا برفقة الصوت نفسه.

ورغم ذلك، لم تكن فيروز يوما فتاة أحلام أي واحد من الملايين الذين عشقوها والمنتشرين عبر كوكب الأرض بكامله، ذلك أن "جارة القمر" التي ولدت في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1934، تحولت إلى معنى يتجاوز كونها مطربة جميلة تغني للحب والحرب والأحلام إلى كونها رمزا لوطن، يغني ويصنع الموسيقى على وقع الرصاص والقنابل والصواريخ، وإرادة النصر.

ولعل بداياتها الفنية المبكرة تؤكد أن أعمال هذه الموهبة الجبارة والشخصية الساحرة، سواء كانت أغنيات أو مسرحيات غنائية، ولدت بينما يرتفع صوت الرصاص في الخلفية، فقد واكب هوسها المبكر بالموسيقى نكبة 1948، واحترفت الغناء بشكل فعلي مع بداية الخمسينيات، حيث خلت الساحة إلا من صوت القضية الفلسطينية، التي تقبع في القلب من فنها، لتنضج فيروز وتصبح واحدة من أشهر وأنجح مطربات العالم العربي.

لكن الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975 طعنتها في القلب، فغطى صوت الرصاص على صوتها الذي ينادي بحب لبنان دون تصنيف، لكنها انتهزت فرصة دعوتها للغناء في فرنسا، لتغني "بحبك يا لبنان، بشمالك، بجنوبك، بسهلك"، وظلت فيروز تقاوم الحرب والطائفية والمناطقية حتى عاد لبنان موحدا، فعادت القضية الفلسطينية وحدها إلى صدارة المشهد.

اشتهرت الفنانة اللبنانية بالتدقيق الشديد في اختياراتها، والتفكير مرات ومرات قبل اتخاذ القرار، وعدم التردد في البعد عما يمكن أن يكون أقل مما اشتهرت به من رقي ودقة وجمال في اختيار أعمالها الأغنية، فقد سجلت ما يقرب من 1500 أغنية، ولكنها أصدرت منها 800 أغنية، بالإضافة إلى 85 ألبوما منذ بدايتها حتى عام 2017.

كما شاركت في 12 عمل مسرحي و4 أفلام وعدد من السهرات الدرامية وقدمت عددا من البرامج التلفزيونية، وتم تكريم فيروز في أغلب الدول العربية، وحصلت على أرفع الأوسمة في كل من فرنسا والولايات المتحدة.

من الحفل الذي أحيته المطربة اللبنانية فيروز في العاصمة اللبنانية بيروت بتاريخ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2010 (الفرنسية) موسيقى من نافذة المطبخ

نهاد وديع حداد، الفتاة الطيبة التي لا تخلو من بساطة، كانت تقف في نافذة المطبخ، لتسمع الموسيقى والغناء من راديو الجيران لأن أسرتها البسيطة لا تملك راديو، فالأب يعمل في الطباعة والأم ترعى الأبناء الأربعة نهاد وهدى وآمال وجوزيف.

لم تنجح الطفلة الخجولة في تكوين صداقات كثيرة، لكنها استطاعت أن تلفت الأنظار إليها لتصبح الصوت الأبرز في حفلات مدرستها، وفي أحد أيام عام 1947، التقت الملحن سليم فليفل الذي اكتشف أنها تملك صوتا جميلا، فدفع بها للمشاركة في كورس الإذاعة، كما التحقت بمعهد الموسيقى، وتم ضمها إلى فرقة الإذاعة الوطنية اللبنانية.

وبعد 4 سنوات من الدراسة في المعهد، نجحت أمام لجنة فحص الأصوات المؤلفة من الموسيقار حليم الرومي ونقولا المني وخالد أبو النصر، وقدم لها الرومي ألحانا لأغنيات خاصة بها لأول مرة وأطلق عليها اسم "فيروز".

حب وزواج وألحان

سمع الأخوان رحباني فيروز، بينما كانا في بداية مشوار احترافهما للفن عام 1950، أعجب عاصي بصوت المطربة الجديدة، لكن منصور أكد أنها لا تصلح للغناء الراقص.

كان لقاء عاصي وفيروز الأول في الإذاعة اللبنانية، حين طلب منه الموسيقار حليم الرومي الذي كان رئيسا للقسم الموسيقي بالإذاعة أن يلحن لها بعض الأغنيات، وكانت الأغنيات تبث مباشرة من الإذاعة، وكان على المطربة الصغيرة والملحن أن ينتظرا دورهما حتى يبدأ البث، وعلى عكس فيروز صاحبة الإيقاع الهادئ والمتأمل، وقع عاصي في غرامها، وعرض عليها الزواج، ورفضت، وعرض مرة أخرى ورفضت أيضا، وفي الثالثة وافقت.

وبدا كأن الزواج بين المطربة التي لم تتجاوز الـ16 والملحن الشاب تضمن شرطا سريا اسمه النجاح، فقد كان اجتماعهما في منزل الزوجية بداية لواحدة من أعظم قصص النجاح الموسيقي والغنائي والشعري لكل من عاصي وفيروز ومنصور الرحباني.

ولا تتلخص الظاهرة الفيروزية في صوت جميل واختيارات فنية مثالية فقط، لكنها تتجاوز كل ذلك منذ البداية، حيث تقتحم عالم الغناء الذي اشتهر بالمطولات، بأغان قصيرة، وهي ظاهرة بدت غريبة في البداية، ولكنها حققت نجاحا مبهرا في العالم كله، إذ باعت أسطواناتها ما يقرب من 150 مليون نسخة، ويعود الفضل في ذلك إلى فيروز وعاصي ومنصور الرحباني.

كان كل من عاصي ومنصور هما جناحا النجاح الغنائي والموسيقى، وآلة الإبداع الموسيقى التي لا تنتهي، لكن خلافا شخصيا أنهى العلاقة الزوجية بين فيروز وعاصي، فلم تعد الدنيا كما كانت، لكن فيروز القوية لم تتوقف بعد رحيل عاصي، وانتقلت بكل ثقلها الغنائي إلى ابنها زياد الملحن والموسيقار والصحفي والكاتب، الذي نجح في تجديد شبابها الموسيقي.

ورغم محاولاتها لتقديم مجموعة من الأغاني مع مؤلفين وملحنين مختلفين، فإنها عملت بشكل رئيسي مع زياد الرحباني وقدم لها ألحان أغنيات:

"أنا عندي حنين" "حبيتك تنسيت النوم" "البوسطة" "عندي ثقة فيك" "مش قصة هاي" "بعتلك" "ضاق خلقي" "سلملي عليه" "عودك رنان" "سألوني الناس" "قديش كان فيه ناس" "نطرونا" "حبو بعضن" مقدمة مسرحية "ميس الريم" مساحة مخصصة للمطربة اللبنانية فيروز ضمن معرض "ديفاز" بمعهد العالم العربي في العاصمة الفرنسية باريس (الفرنسية) القضية والمطربة

ولدت فيروز المطربة مع ميلاد القضية العربية والإسلامية الأهم وهي قضية فلسطين، لذلك لم تفترقا أبدا على الأرض أو في فضاء الغناء والموسيقى، وجاء غناؤها للقدس كما لم يغن غيرها، ومن أبرز ما أنشدت "زهرة المدائن" إلى جانب "راجعون" و"يافا" و"سلامي لكم يا أهل الأرض المحتلة"، و"أنا لا أنساك فلسطين"، و"القدس العتيقة"، و"جسر العودة".

لكن فيروز لم تكتف بالغناء، فقد زارت "زهرة المدائن" حينما كانت تحت الإشراف الأردني، وبالتحديد في عام 1963، حيث دعيت للمشاركة في احتفالية بالمدينة، وتوّجه عاصي ومنصور وفيروز إلى فلسطين.

في اليوم الثاني للزيارة، وأثناء تجولها في شوارع القدس، أوقفتها سيدة، ودار حديث بينهما عن معاناة الفلسطينيين بسبب النكبة، وأهدت السيدة الفلسطينية مزهرية، فاستثمر الأخوان الرحباني الموقف لتكون أغنية "القدس العتيقة" التي تقول كلماتها:

"مرّيت بالشّوارع…

شوارع القدس العتيقة…

قدّام الدكاكين إللي بقيت من فلسطين…

حكينا سوا الخبّرية،

عطيوني مزهريّة، قالولي هيدي هدية…

من النّاس الناطرين".

ساهمت أغنيات فيروز بنصيب الأسد في تغذية الوجدان العربي، والدفع بحس الصمود والمقاومة إلى أقصاه في مواجهة العدوان الإسرائيلي، سواء على الفلسطينيين أو في لبنان، ولأكثر من 60 عاما توالت أغاني جارة القمر وقدمت رصيدا من الصمود والتحدي للقضية لم يقدمه موسيقي في الوطن العربي.

زهرة المدائن

وجددت هزيمة 1967 جرح القدس الذي يأبى أن يلتئم، فكان أن قدم الأخوان رحباني كلمات "زهرة المدائن" لتكون بشرى بـ"الغضب الساطع الآتي"، وتشهد وصفا لآثار القدم الهمجية في المدينة ولتصنع حالة وجدانية تمزج بين الغضب والأمل والحنين للمدينة:

لأجلك يا مدينة الصلاة أصلّي

لأجلك يا بهيّة المساكن يا زهرة المدائن

يا قدس يا مدينة الصلاة أصلّي

عيوننا إليك ترحل كل يوم

تدور في أروقة المعابد تعانق الكنائس القديمة

وتمسح الحزن عن المساجد

يا ليلة الإسراء يا درب من مرّوا إلى السماء

عيوننا إليك ترحل كلّ يوم وإنّني أصلّي

أنا وشادي

بعد 20 عاما من النكبة وبالتحديد عام 1968، غنت فيروز "أنا وشادي" التي صدرت عام 1970، وتحمل الأغنية كل عناصر الدراما، وكل عناصر القصة كما ينبغي لكاتب أن يبدع، عن الطفلين اللذين كانا يلعبان على الثلج، وفي أحد أيام اللعب ذهب شادي ولم يعد، وظلت فيروز تنتظر شادي 20 عاما:

ويبعد، يبعد بالوادي

ومن يومتها ما عدت شفته

ضاع شادي

والتلج اجا وراح التلج

عشرين مرة اجا وراح التلج

وانا صرت اكبر وشادي بعده صغير

عم يلعب ع التلج

ع التلج

أجراس العودة

أخيرا، وفي دمشق عام 1966، لم تكن الضفة وغزة قد احتلتا بعد، لكن فيروز أطلقت نداء العودة الذي يبقى خالدا حتى تتحقق العودة، والأغنية من ألحان الأخوين رحباني وكلمات سعيد عقل:

سيف فليشهر في الدنيا ولتصدع أبواب تصدع

الآن الآن وليس غداً أجراس العودة فلتقرع

أنا لا أنساكِ فلسطين ويشدّ يشدّ بي البعد

أنا في أفيائكِ نسرين أنا زهر الشوك أنا الورد

سندُكُّ ندكّ الأسوارا نستلهم ذاك الغار

ونعيد الى الدار الدارا نمحو بالنار النار

فلتصدع فلتصدع أبواق أجراس تقرع

قد جن دم الأحرار الآن الآن وليس غداً

أجراس العودة فلتقرع

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات زهرة المدائن

إقرأ أيضاً:

العيلفون الأبية.. وأسطورة السيف والأمير!

* كتب كثيرون عن صمود أبطال القيادة العامة وسلاح الإشارة وقلعة الدروع (المدرعات) وسلاح الذخيرة الشجرة وفرسان تكساس (سلاح المهندسين) في وجه قرامطة العصر الحديث، وكتبوا عن شجاعة وإقدام وبسالة عقارب كدراوية (سلاح الذخيرة الكدرو)؛ وكتبوا عن جرأة وفراسة أسود حطَّاب.

* كتبوا كذلك عن الصمود الأسطوري لفاشر السلطان (أداب العاصي وشنب الأسد)، التي تعرضت لقرابة المائتي هجوم وصمدت حتى تحولت إلى أسطورة للصمود ومقبرة للغزاة الأوباش.

* كتبوا أيضاً عن صمود حامية سنار الأبية العصية (عاصمة المملكة الزرقاء)، وعن أسطورة الفرقة (22 بابنوسة).. إخوان اللواء الفارس معاوية والعميد البطل حسن درموت الذين أذاقوا المتمردين الويل، وعن صمود ورجولة وجرأة وشجاعة أبطال الفرقة (14) مشاه كادوقلي، الذين واجهوا قوات المليشيا وقوات الحلو في وقتٍ واحد، وقهروهما معاً، لكن قليلين تطرقوا إلى الصمود الأسطوري الذي أظهره معسكر سلاح المهندسين العيلفون، بقيادة قائده الفارس البطل سعادة العميد الركن أمير إبراهيم سعيد (الدفعة 43)، ومن بعده سعادة العميد الركن سيف اليزل خليفة (الدفعة 42)، وهو صمود باذخٌ وفريد، سيخلده التاريخ، ويستحق أن تُكتب تفاصيله بماء الذهب، وأن يُدرَّس في أكبر الأكاديميات العسكرية في العالم أجمع.

* قوة صغيرة، قليلة العدد، محدودة التسليح، تتبع لسلاح المهندسين (مدعومة بكتيبتين تتبعان للشرقية، إحداهما بقيادة العقيد البطل النور طيبة) كانت موجودة في معسكر صغير المساحة في مدينة العيلفون؛ استطاعت أن تصمد في وجه حصار طويل وغاشم وهجمات متتالية وقصف عنيف استمر أكثر من عام.

* حُوصرت تلك القوة وقُصفت وجُوِّعت ومع ذلك صمدت وتحملت وقاتلت قتال الأبطال، بل نجحت في مهاجمة المتمردين وضربهم بعمليات خاصة متقنة، حتى تم فك الحصار عنها اليوم بالتحامها مع قوات الجيش وهيئة العمليات ودرع السودان وسهل البطانة والمستنفرين في مساءٍ أغر سالت فيه دموع الرجال وزغردت فيه الحرائر العيلفون وتقافز أطفالها فرحاً وحبوراً وشكراً للمولى عز وجل.

* ما لا يعرفه كثيرون أن الضابط العظيم،سعادة العميد الركن (الكلس) سيف اليزل خليفة وسعادة العميد الركن الفارس الشجاع أمير (ابن مدينة العيلفون الأبية) قادا ذلك الصمود الأسطوري بكفاءةٍ نادرة، وشجاعةٍ لافتة، ولزما جنودهما وقاتلاً معهم كتفاً بكتف في الخنادق، بل إن الأخير رفض أن يخرج من المعسكر حتى لإنقاذ أسرته الصغيرة، واكتفى بإرسال أحد جنوده لهم بعد أن اجتاح الأوباش العيلفون ونكلوا بأهلها.

* وظَّف الضابطان العظيمان كل خبراتهما العسكرية والإدارية لتنظيم القوة المحدودة، وتجهيز دفاعاتها بمعية زملائهما ضباط وضباط صف وجنود المعسكر، ونجحا في قفل كل الطرق المؤدية إلى المعسكر، ثم حوَّلاه لاحقاً إلى أرضٍ للقتل، كلما هاجمه الجنجويد، فأبادا منهم الآلاف، ونجحا في طردهم من المدينة لاحقاً، ثم توسعا في الدفاعات وأذاقا الأوباش الويل بعمليات خاصة، حتى هربوا خارج العيلفون.

* على هامش المعارك أدار سيف اليزل ورفيقه أمير معركةً أخرى بالغة القسوة والشراسة، استهدفا بها توظيف الموارد المحدودة للذخيرة والطعام والأدوية، كي يمكنا جنودهما من مواصلة الصمود، وسجّلا نجاحاً تسير بذكره الرُكبان.

* اليوم يحق لهما أن يحتفلا بنصرهما المؤزر، ويحق لنا أن نحتفل معهما، وأن نحملهما على رتاج القلب أو صدر الغمامة، ونرسم لهما لوحات الحب والولاء والتقدير بكل ألوان العلم، بعد أن قهر فرسان العيلفون الحصار واستعادوا مدينتهم الجميلة وغسلوا وجهها الوضاء من درن الأوباش.

* التحية لأسود العيلفون الذين سطروا ملاحم للمجد والكبرياء والبطولة، وأصبحوا عنواناً للشجاعة والبسالة والصمود، والمحبة وكامل التقدير لقائدهم سيف السودان الصقيل ولرفيق دربه الأمير البطل، ولضباطهما الفرسان وجنودهما الفدائيين الذين كانوا عند حسن قادتهم، وقبل ذلك عند حسن ظن كل أهل السودان، الذين احتفلوا اليوم بعودة العيلفون الأبية (أرض التقابة والسجادة والقرآن) لحضن الوطن الغالي.. والله أكبر ولا نامت عيون العملاء والخونة والجنجويد.. إن الجنجويد لأنجاسٌ مناكيد.

د. مزمل أبو القاسم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • وزارة الثقافة اللبنانية تقرر بدء مشروع لتحويل منزل فيروز إلى متحف
  • بدء مشروع لتحويل منزل المطربة فيروز إلى متحف
  • لبنان.. بدء مشروع لتحويل منزل فيروز إلى متحف
  • بملابس ملفتة.. خطيبة مسلم تثير الجدل في عيد ميلادها
  • غزة.. قلعة الصمود الأسطوري
  • العيلفون الأبية.. وأسطورة السيف والأمير!
  • نادية الجندي تهنئ زينة بعيد ميلادها
  • الظلم وقدرة الإنسان على الصمود أمامه
  • عروس البحر بلمسات باربي.. دينا المصري تتألق بإطلالة ساحرة في عيد ميلادها
  • أكاديمي فرنسي: الأمل أيضا قد يقتل في غزة