بنك السودان المركزى يستيقظ ولكن بعد …
تاريخ النشر: 21st, November 2024 GMT
بنك السودان المركزى يستيقظ ولكن بعد…
************************************
بروفسور احمد مجذوب احمد على
10 نوفمبر 2024
*******^*******^*^^^*******^****
طالعنا السيد محافظ بنك السودان ببيان عن الغاء فئات عملات من التداول بسبب مخاطر تتهدد الوضع النقدى فى البلاد، وقد لجأ البنك المركزى لذلك لأن نهبا قد اصاب المؤسسات وتزويرا قد اعترى عملتنا الوطنية بعد مضي 18 شهرا من حدوث الكارثة الاقتصادية المالية والنقدية.
نحن نكتب هنا عن البنك المركزى المؤسسة التى تمثل ضلعا اساسياً فى النشاط الاقتصادي المالي والنقدي والمصرفي.
أين كانت طيلة هذه الفترة السابقة التى امتلأت بالمقالات والتنبيهات للمخاطر المحدقة بالاقتصاد من جراء عمليات النهب والسلب والتدمير للبنى التحتية الاقتصادية التى قام بها المتمردون، فطالت ذات البنك المركزي رئاسته وفروعه وكافة الأجهزة المصرفية، منذ اللحظات الأولى للتمرد، ما حدث لم يكن سرا مكنونا، وإنما حدث وثقته فيديوهات التمرد قبل أن توثقه كمرات الشرفاء من أبناء هذا الوطن الغالي.
وقد كتبت – وكتب غيري – منذ الأيام الأولى منبهين لأهمية المعالجة الاقتصادية واتخاذ التدابير اللازمة للإصلاح اولا بأول وتقليل الآثار السالبة وتجنب الأضرار.
ففى 3 يونيو 2023 كتبت “أن الملف الاقتصادي لا ينفصل عن الملفات الأخرى ويزيد عليها بأنه يمثل القاعدة الأساسية التى تساعد على سلامة سير الملفات (الأمنية والانسانيةوالإعلامية والخارجية) وأكدت أن معالجة التحدي الاقتصادى تمكن من تأمين مسيرة القوات المسلحة في تحرير وتأمين الوطن).
وذكرت في موضع آخر من ذات الخطة
عن أهمية تكوين مجموعة عمل للملف الاقتصادي من المختصين فى الجانب الحكومي والقطاع الخاص تتفرع عنها مجموعات عمل متخصصة مثل: القطاع المالي – القطاع النقدي والمصرفي –
الصادر (مؤسسات وسلع واجراءات)
واختصاص مجموعات العمل هذه هو (اصدار القرارات الإدارية والمالية اللازمة لتسهيل تنزيل الاجراءات الاقتصادية وحشدالموارد لمقابلة الأولويات وتقنين هذه الاجراءات، واستدعاء الكوادر المفتاحية فى وزارات القطاع الاقتصادى للعمل مع وزير المالية فى تنفيذ البرنامج الاسعافي المتناسب مع الظروف الأمنية وقيادة مجموعات العمل المتخصصة. والجهات المستهدفة : (المالية / البنك المركزى / الجمارك /الضرائب/الزراعة/المعادن /الكهرباء/ الصناعة …الخ).
كما اقترحت الآتى فى محور تمكين الجهاز المصرفي من ممارسة مهامه المصرفية:
– اصلاح نظم الدفع القومية ونظم شركة (EBS)
– اصلاح النظم التقنية الداخلية لكل مصرف والتأكد من وجود واستخدام النسخ البديلة والاحتياطية لتأمين المعلومات.
– تمكين المصارف من مقابلة السحب على الودائع بمنحها تسهيلات تمويلية لسد العجز السيولي المتوقع.
– معالجة مشكلة شبكات الاتصال لأنها روح التقنية المالية.
– دراسة العمليات التمويلية للقطاع الانتاجي والخدمي والتجاري بإعادة جدولتها.
كما كتبت فى 26 سبتمبر 2023 في مقال عن اسباب تدهور سعر صرف الجنيه، وعن دور نظم التقنية المصرفية فى تسهيل التحويل من حساب لحساب وإنشائها لسوق مواز واسع خارج رقابة البنك المركزى، وذكرت أن المشكلة ليست فى النظم التقنية المالية والمصرفية، لأن المصارف لا تملك تقييد المودع عن التصرف فى وديعته، وإنما فى البنك المركزي الذى يصدر السياسات الموجهة للمصارف لضبط وتنظيم التحويل من حساب لحساب.
وما كتب عن الاقتصاد ومؤسساته والبنك المركزى وسياساته، كان كافيا للمساعدة فى تنبيه القائمين على حجم التحديات والمخاطر لاتخاذ التدابير اللازمة لمعالجة القائم منها والمتوقع، لكن : أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا… لمن تنادي.
سؤال يخطر على بال كل عاقل: أين كانت قيادة البنك المركزي السابقة والحالية من هذه التطورات؟! هل كانوا نائمين أو منومين طيلة الفترة الماضية، ثم فجاة تذكروا أن هناك أموالاً منهوبة من البنوك ومن المواطنين؟ والكل يعلم أن ذات رئاسة وفروع البنك المركزى نهبت بما فيها مطابع العملة، وهل البنك المركزى لم يعلم بذلك طيلة الفترة الماضية، فى حين أن القاصي والداني يعلم أن أوراق البنكنوت المنهوبة تم تداولها قبل أن يتم ترقيمها ولا حتى قصها.
ولكن لئن تأتى متاخرا خير من ألا تاتي، وهذا القرار يتطلب جملة من التدابير، فتغيير واستبدال العملة إجراء متزامن يتم إعلانه و تنفيذه فى الظروف العادية عند استلام العملات الجديدة، بالسحب التدريجى للعملة الملغاة والتعامل بالجديدة، او فى الظروف الطارئة يتم الاستبدال الفورى عند إكمال اجراءات طباعة واستلام العملة البديلة، لأن التأخير عن التنفيذ قد يدفع بكثير من العملاء لاتخاذ اجراءات تحميهم من إيداع أموالهم خاصة المشكوك فيها لدى البنوك، مثل شراء العملات الأجنبية مما يؤدى لانخفاض سعر الصرف الذى يشهد تحسنا خلال الأسابيع الماضية، أو شراء سلع (محاصيل وغيرها) وهذا الاجراء يضعف أثر السياسة خاصة فى حق المستهدفين بها، وتنقل العبء لآخرين يصبحوا ضحية، ولهذا فلابد من تبني حملة إعلامية مصاحبة لهذه الاجراءات لضمان تحقيق أهداف سياسة استبدال العملة حتى تحقق أهدافها.
كما ينبغي المحافظة على ثقة الجمهور في النظام المصرفي، لأن اهتزاز هذه الثقة يؤدى إلى إحجام المودعين عن الإيداع وازدياد السحب للمبالغ المودعة. وهذا عمل يؤكد الحاجة لخطة إعلامية سابقة تخلق قدرا من الطمأنينة.
لأن المحافظ إن لم يكن قد اتخذ التدابير اللازمة قبل القرار، فإن قراره هذا سيكون بمثابة القشة التى قصمت ظهر البعير.
أشار البيان إلى أن دوافع ذلك هو: وجود عملات مجهولة المصدر ؟ وهنا فإن على البنك المركزى إعلان الجمهور بنوع وخصائص العملة مجهولة المصدر ، لأنه لا يقل اهمية عن اجراءات الالغاء والاستبدال، حتى يراجع كل مواطن ما بحوزته من عملة، وهو يعلم مصدرها الذى استلمها منه، ولا أظن أن اجهزتنا الأمنية والاستخباراتية وفنيي البنك المركزي والمصارف لا يعلمون مصدر وصفات هذه العملة.
ومما ينبغى الاهتمام به والترتيب له هو: ما هو تعامل المصارف مع حاملي هذا النوع من العملات مجهولة المصدر؟
من الحقائق المعلومة أن المطابع التى تتعامل فى العملة محدودة ومعروفة عالميا بل حتى الشركات المصنعة لماكينات الطباعة معلومة والشركات المنتجة لورق العملة معلومة، فهل تعجز مؤسساتنا عن معرفة من يشنون عليها مثل هذه الحرب؟ وما هى الضمانات إذا لم تتخذ الإجراءات القانونية اللازمة ضد المزيفين أن تواصل ذات الجهات فى طباعة العملة الجديدة؟
إن التوسع فى التقنية المالية وتحقيق الشمول المالى ونشر نقاط البيع وتسهيل فتح الحسابات واصدار البطاقات الائتمانية هو المخرج من هذه الدوامة، والكل يعلم أن بعض فئات العملة تقل قيمتها عن تكلفة طباعتها، ولا سبيل غير التوسع فى التقنية المالية وسن التشريعات اللازمة التي تنظم ذلك وتلزم جمهور المتعاملين بالدفع عبر بطاقات الدفع الآلي، ولم تعد نظم التقنية المالية مكلفة كما كانت فى السابق، فهي تحتاج فقط للقرارات الحاسمة من الأجهزة المختصة.
ولنا عودة.
مع تحياتي. إنضم لقناة النيلين على واتساب
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: التقنیة المالیة البنک المرکزى البنک المرکزی
إقرأ أيضاً:
الانكشاف أمام التقنية .. أين الطريق؟
ما الذي يجعل الحس البشري المشترك، في عُمان وبلدان الخليج عمومًا، يُقبل بحماس على الفضاء الرقمي؟ أهو مجرد الرغبة الاستهلاكية، كما تتهم مجتمعاتنا عادة، أم أن هناك دافعًا روحيًا أعمق يرى أفقًا غير مرئي لنا الآن في هذا الاتجاه الحديث؟
نتساءل آخذين بنظرنا كل التغيرات الرقمية التي حدثت خلال العقود الثلاثة الماضية من تاريخ الإنترنت، منذ أتاحته لعموم الناس منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وانطلاق الناس في استكشاف الفضاء الرقمي إلى سيطرة المنصات الإلكترونية اليوم عليه، وها هو هذا الفضاء قد تحول في فترة وجيزة إلى فاعل مهم وحاسم، حتى أصبحت محاولة السيطرة عليه واحتكاره وقود الحرب الباردة الثانية، بين أكبر دولتين تستحوذان على هذا الفضاء الرقمي، الولايات المتحدة والصين.
في قراءته للتقنية طرح مارتن هايدجر منذ خمسينيات القرن العشرين زاوية فلسفية مغايرة، فنحن كبشر نريد أن نصبح سادة التقنية، وكلما هددت التقنية سيادتنا استشعرنا الخطر، فيما في الواقع وبعبارة هايدجر «عندما ننفتح على ماهية التقنية نجد أنفسنا وبطريقة غير متوقعة مأخوذين ضمن نداء محرر».
تشير الإحصائيات على مواقع الإنترنت إلى أن نسبة امتلاك الهواتف في بلدان الخليج العربي بشكل عام تتجاوز الـ٩٠٪ من عدد السكان، وتعد بين الأعلى في العالم، ويشير استطلاع الرأي الصادر عن المركز الوطني العماني للإحصاء العام الماضي ٢٠٢٤م أن نسبة المستخدمين للتطبيقات الإلكترونية تبلغ ٩٩٪ من العمانيين، ويتربع الواتساب المملوك لشركة ميتا على عرش تلك التطبيقات، يليه تطبيق اليوتيوب التابع لشركة جوجل وهو المفضل للأطفال العمانيين بنسبة تقارب ٨٠٪ ، مع تفاوت بقية التطبيقات كالانستجرام وإكس - (تويتر سابقًا)، وكل ذلك يفرض واقعًا وآثارًا مترتبة ليس على راسمي السياسات وحدهم، بل على كافة نواحي الحياة.
تتنافس الشركات الكبرى اليوم على إطلاق نماذجها للذكاء الصناعي، وهو ما يثير القلق العام من الآثار المترتبة على ذلك، ونتفق بلا شك مع دعوة جيوفري هنتون الأب الروحي للذكاء الاصطناعي على ضرورة وضع ضوابط آمنة ملزمة للشركات، فالذكاء الاصطناعي لا ينتهك فقط حقوق الملكية الفكرية فحسب، بل وينتهك الخصوصية الفردية، فكل تلك النماذج قائمة على تحليل مستمر لبيانات المستخدمين وسلوكهم، حتى أصبحت الشركات تملك كنوزًا من البيانات هي العمود الفقري لنماذج الذكاء التي تنتجها؛ لكن من وجهة نظرنا وكأي آلة أخرى، فإن الأمر رهن باستخدام الآلة والأداة، والذكاء الاصطناعي يصنع نوعًا من التحدي الجديد، وبلغة هايدجر تجربة انكشاف للإنسان، الباحث منذ الأزل عن جوهره وحقيقته: «تكمن ماهية التقنية في الاستفسار الذي تشكل قوته جزءًا من المصير، يضع هذا الاستفسار الإنسان في كل مرة على طريق الانكشاف».
إن الذكاء الاصطناعي، والعصر الرقمي، واقع وتحد علينا التعامل معه بذكاء وإقدام ودون تخوّف وتهيب، مع الاستثمار الجدي فيه، بدل الانكفاء والانكماش، والانخراط في تقنيات الذكاء الاصطناعي ليس باستهلاكها السطحي، بل باستثمارها وفق خطط محكمة فعالة، ولا شك أن هناك العديد من الخطط المطبقة في هذا المجال، ولعل ما أعلنته مؤخرًا الشركة العمانية للاتصالات عن السحابة السيادية العمانية القادمة يعد مبشرًا على نطاقنا المحلي.
في واقع اليوم فإن جهد غالبية مستخدمي الإنترنت يصب في خدمة مواقع ومنصات خاصة، وأن الأعداد المهولة من الناس التي تنهض كل صباح لتفقد حساباتها على مواقع التواصل، وتعمل وتبذل الوقت والجهد والمال تطوعًا من أجل تلك الحسابات الإلكترونية، وإن بدا ظاهريًا يصب في صالح صاحب الحساب نفسه وانتشاره ومتابعته، لكنه في المحصلة لا يجعله سوى مجرد مُستخدم بين كثر غيره لا حصر لهم على تلك التطبيقات وخوارزمياتها المصممة لخدمة أهداف وثروات مالكيها، وتعزيز مكاسبهم وأرباحهم، ونجد اليوم كثيرًا من المنصات والشركات تطالب مستخدميها باشتراكات شهرية، ولا تكتفي بدفعة واحدة للاشتراك، فهي ليست جمعيات خيرية ولا نواد عامة، بل شركات لها ميزانياتها وتستهدف تعظيم الأرباح، لذا فإن أغراضها تتجاوز الجهد والعمل والتفكير الفردي التطوعي، بالأحرى العبودية الطوعية، حتى قامت تفرض على الناس الرسوم الدورية، وتجني منهم المال بشكل مباشر، وكل ذلك لرفع قيمتها السوقية، وتعظيم ثروات ملاكها، مع أن خبراء اقتصاديين مهمين يعتبرون أن ارتفاع الأسهم التقنية فقاعة سيقترب انفجارها، مثل بول كروغمان حائز نوبل الاقتصاد في مقابلته هذا الشهر مع نيويورك تايمز والمنشورة في الملحق الاقتصادي الأخير بجريدة عمان.
نعم هناك عالم جديد يتشكل، وهو متسارع بطبيعته، ولدينا كل البنية التحتية اللازمة للمساهمة فيه بالحجم المتناسب مع انخراطنا الفعلي فيه، ومن المؤكد أن هذا التحول الكبير، مع كل هذه النسب المرتفعة حسب الإحصائيات له ما له من آثار اجتماعية، غير الآثار الاقتصادية الواضحة، وغير الآثار الثقافية، وكل ذلك يجعل أمام الأفراد والجماعات والمؤسسات تحديات جديدة وواقعًا مختلفًا، فنحن أمام انكشاف جديد لإنسانيتنا، وأمام اختبار حقيقي لكينونتنا وهويتنا كبشر، وهي كينونة لا يكفي رفع الشعارات والعبارات الطنانة لإثباتها، بل هي كعادة كل حقيقة تظهر بالفعل وبالعمل، وما ينتظرنا في الواقع هو الفعل الجاد، لا التعامل السطحي أو الاستعراضي مع الحالة الرقمية، بحيث نعمل على استعادتها من السياق الذي يريد استعبادها، للسياق الذي يحررها ويحررنا معها.
إن احتكار التطبيقات لكل النتاج البشري الخاص بنا، والذي قدمناه تطوعًا، حسب تصورنا، للعالم بأسره، وقع في فخ الواقع المر، وباتت المنصات الإلكترونية تحتكره لنفسها، ولا تسمح بعرضه إلا للمشتركين لديها، أو تجعل الوصول إليه محدودًا خارج نطاق مستخدميها، هذا إذا تركنا جانبًا معوقات البحث داخل تلك المنصات، التي تعتبرها الشركات ملكية خاصة لها حق التصرف بها وببياناتها كما تشاء.
من جهة أخرى لا يمكن إغفال الأثر النفسي للشاشات وكآبتها المعروفة منذ عصر التلفزيون، مع الآثار النفسية المترتبة على ذلك، وكل ذلك ينبغي أن يؤخذ بالحسبان، لأن استهلاك الطاقة والصحة النفسية والذهنية للمستخدمين بهذا الشكل المفرط، مع كل هذه الخوارزميات التي صارت ماهرة في شد الانتباه، واستمرار الجذب، له ارتداداته النفسية والذهنية والصحية على الإنسان والمجتمع، وهو بلا شك يشوش التركيز ويعطل التفكير السليم.
ما زالت الثقافة الشعبية لعموم الناس موضع رهان راسمي السياسات الإعلامية، حتى من عصر ما قبل الإنترنت، ربما لأن راسمي تلك السياسات يرون فيها ثقافة طيعة بلا حسابات ثقافية معقدة، غير أنها تمثل الأغلبية، وكما نجد اليوم فإن كثيرين يطرحون الفضاء الرقمي كميدان جذاب يستقطب الثقافة الشعبية، وهو ميدان يفترض بها تسيده، ومن جهة إيجابية فإن الحالة الرقمية تستثمر الفراغ العام وتوظفه في أبسط الحالات كمستقبل ومتفرج ومستقبل للرسالة، وتستثمر في التحكم المستقبلي بسلوكه، وتريد أن تقود تفضيلاته، خاصة الشرائية، وهي تنجح جزئيًا اليوم في ذلك حيث يحذرنا المحللون الاقتصاديون من حجم استنزاف الاقتصاد بسبب نزعة استهلاك السلع المستوردة المفرطة المهلكة للاقتصادات الوطنية.
فإذا كانت التطبيقات الإلكترونية هي ميدان الثقافة الشعبية، فإن هذه الثقافة نفسها، على صعيد الأفراد، مطالبة أن تتمكن من أدوات مقاومتها للتلاعب التقني والاستعباد الطوعي، وأن تستثمر خاصة حسها النقدي، كي تتريث كثيرًا أمام سهولة النسخ واللصق والنقل الرقمية، وتتجه لثقافة الإنتاج بشكل أكبر، وكل ذلك غير ممكن إذا كانت الثقافة الشعبية منقلبة على أصولها المعرفية الراسخة، وتضرب عرض الحائط بالعلم والمعرفة والخبرة والمبادئ، وتنساق وراء الجموع الكاثرة، والسطحية، فقط لأنها تظهر في الساحات الرقمية بشكل أكثف.
لقد وصلنا إلى اللحظة التي صارت فيها الهوية الرقمية تضارع الهوية الشخصية إن لم تتفوق عليها، وصار فقدان الهاتف النقال أكبر ضررًا نسبيًا من فقدان المحفظة والحقيبة، وصارت غالب الوثائق والتذاكر رقمية، وفي عالم يتجه أكثر فأكثر بهذا المسار نحن محكومون بقبول التحدي والانكشاف الإنساني للذكاء الروحي وينابيعه.