اليونسكو والفكر التنويري: تراث البشرية في دائرة الخطر
تاريخ النشر: 21st, November 2024 GMT
وافقت اليونسكو في اجتماعها الاستثنائي الذي عقدته في باريس يوم الإثنين في 18 نوفمبر، على حماية 34 موقعًا أثريًا لبنانيًا، استجابة لجهود مكثفة بذلتها وزارة الثقافة اللبنانية لإقناع المجتمع الدولي بأهمية حماية التراث الثقافي اللبناني بعد تعرضه للقصف الإسرائيلي المتعمد.حيث تعرضت مدينة بعلبك، التي تعد من أبرز مواقع التراث العالمي، لأضرار كبيرة نتيجة الغارات الجوية الإسرائيلية.
أما مدينة صور، المعروفة بتاريخها الفينيقي العريق، فقد كانت هدفًا لسلسلة غارات جوية إسرائيلية دمرت أحياء كاملة تقع قرب مواقع أثرية بارزة مدرجة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو. كما طال الدمار شارع صور البحري وبعض البيوت الأثرية بالقرب من مينائها العريق، مما أدى إلى تشويه جزء كبير من هويتها الثقافية والتاريخية. ناهيك عن خطر الانهيار الكامل لمواقعها الأثرية على المدى الطويل بحسب تقرير المجلس الدولي للآثار والمواقع (ICOMOS)، نتيجة الاهتزازات المتكررة العنيفة التي تتعرض لها المدينة جراء القصف الإسرائيلي العنيف.
الاعتداءات الإسرائيلية لم تقتصر على بعلبك وصور، بل امتدت لتشمل مواقع أثرية وتاريخية أخرى، مثل سوق النبطية، الذي دُمر بشكل شبه كامل، وهو سوق تاريخي يمتد عمره لأكثر من أربعة قرون، ويُعتبر رمزًا للحركة الاقتصادية والاجتماعية في الجنوب اللبناني. كما استُهدفت منازل تراثية وقُرى تاريخية، منها قرية "رسم الحدث" في سهل البقاع، التي شهدت تدمير بيوتها الحجرية القديمة وأشجارها المعمرة بفعل القصف.
كما طالت الاعتداءات دور العبادة التاريخية، مثل كنائس بعلبك القديمة، ومساجد عدة، منها مسجد "كفر تبنيت" ومسجد النبي شعيب في بليدا، التي تعود للعصر العثماني، وتعرضت مآذنها ومبانيها للتدمير الجزئي أو الكلي.
الهجمات الإسرائيلية على المواقع التراثية اللبنانية ليست مجرد أعمال عسكرية، بل هي انتهاك واضح لاتفاقية لاهاي لعام 1954 التي تنص على أن "أي ضرر يلحق بالممتلكات الثقافية هو ضرر للتراث الإنساني ككل". وهي استراتيجية إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى طمس الهوية الثقافية والتاريخية للشعب اللبناني، تحت حجج مفتعلة مثل "الاستخدام العسكري" أو "الدروع البشرية" لتبرير استهداف هذه المواقع.
بعلبك وصور من قوائم الحماية إلى قوائم الاستهداف الأسرائيلي
بعلبك، مدينة الشمس، أقدم مدن العالم، ليست مجرد مدينة لبنانية، إنها شهادة حية على تعاقب الحضارات التي أسهمت في بناء الهوية الثقافية للبنان. تحولت بعلبك في العصور الرومانية، إلى مركز ديني ضخم، حيث شُيدت معابد مثل معبد جوبيتر وباخوس وفينوس، وهي رموز للهندسة المعمارية المتقدمة في ذلك العصر. لكنها قبل ذلك كانت مدينة فينيقية تجسد التفاعل الحضاري بين الشرق والغرب. احتضنت بعلبك التراث الإسلامي أيضًا، حيث أُضيفت اللمسات الإسلامية إلى معالمها الأثرية، مما جعلها رمزًا للتنوع والتعايش الثقافي. هذا المزج بين الحضارات يجعلها إرثًا إنسانيًا يتجاوز حدود لبنان ليصبح جزءًا من التراث العالمي.
صور: مهد الملاحة وعاصمة الأرجوان
أما صور، سيدة البحار وعروسة المتوسط، فتمتد جذورها إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد.شكلت نقطة التقاء للحضارات المختلفة، من خلال شبكة التجارة الواسعة التي أسسها الفينيقيون، التقت الثقافة الفينيقية بالثقافات المصرية والإغريقية والبابلية والرومانية. هذا التفاعل الثقافي لم يكن مقتصرًا على التجارة فقط، بل امتد إلى الفكر والفن والعلم. استطاع الفينيقيون تحويل مدينة صور، بمهاراتهم الملاحية وابتكاراتهم التجارية، إلى مركز تجاري عالمي. من هذه المدينة انطلقت السفن الأولى التي حملت البضائع والأفكار إلى شمال إفريقيا وجنوب أوروبا. اشتهرت عالميًا بإنتاج صبغة الأرجوان الفريدة، التي استقطبت الملوك والأباطرة من مختلف أنحاء العالم. من صور، أسست أليسار، الأميرة عليسة مدينة قرطاج (تونس اليوم)، التي أصبحت فيما بعد منافسًا تجاريًا وسياسياً للإمبراطورية الرومانية. هذا الامتداد لا يعكس القوة الاقتصادية لصور فحسب، بل قدرتها على التأثير الثقافي عالميًا. استثمرت الحضارة الرومانية في تراث صور وشيدت المعابد والمسارح ومعالم معمارية تاريخية ضخمة، مثل الأعمدة الرومانية والمدرجات التي لا تزال شاهدة على براعة الهندسة الرومانية.
العودة إلى عصور الفوضى
تاريخيًا، كانت هناك حالات عديدة لتدمير التراث الثقافي كوسيلة للسيطرة، حيث دُمرت حضارات كاملة، وتلاشت آثارها بسبب الحروب. في الحربين العالميتين، على سبيل المثال، تعرضت عدة مواقع ثقافية للدمار. والآن، ورغم أن الغرب كان رائدًا في تبني مفاهيم حماية التراث، فإن هذه المبادئ تتعرض للتهديد نتيجة تواطؤ بعض دوله الكبرى والتغاضي على هذه الانتهاكات. إن العودة إلى الأساليب التي تمحو الهوية الثقافية تعني نقضًا كاملًا للمبادئ التي دعمتها المجتمعات الحديثة لسنوات، وتراجعًا إلى عصور الفوضى حيث كانت القوة العسكرية هي المعيار الأساسي، مما يكشف عن بدايات عصر جديد من انعدام القانون تكرسه "الدول المارقة".
قصف التراث: هجوم على الهوية الجماعية
أشار إدوارد سعيد في كتاباته إلى أن تدمير التراث ليس مجرد تخريب مادي، بل جزء من استراتيجية استعمارية تهدف إلى فرض هيمنة ثقافية مفصولة تمامًا عن جذور الشعب الأصيلة. بيير بورديو من جانبه، يرى أن تدمير التراث ليس مجرد هدم للأبنية، بل هو عملية مدروسة تهدف إلى فصل الشعوب عن ماضيها، وإعادة تشكيل وعيها بما يخدم مصالح المستعمر. في الجزائر، استخدمت فرنسا تدمير التراث كوسيلة لكسر الروح الوطنية للشعب الجزائري. إلا أن هذه الممارسات لم تحقق غاياتها، بل شكلت أداة لتوحيد الجزائريين حول هويتهم الثقافية، مما ساهم في إشعال روح المقاومة.
في العصر الحديث، لجأت داعش إلى تدمير مواقع أثرية كجزء من مشروعها لتفكيك الهويات الثقافية. ومع ذلك، أعاد هذا التدمير تسليط الضوء على أهمية حماية التراث كجزء من الهوية الإنسانية. وفي فلسطين، يمثل تدمير المواقع التراثية جزءًا من سياسة أوسع تهدف إلى محو الذاكرة الفلسطينية.
تعرية الفكر التنويري أمام الحروب الحديثة
الفكر التنويري، الذي اشتغل لقرون على تطوير قيم العدالة والحماية الإنسانية والثقافية، يبدوعاريًا أمام إعتداءات إسرائيل التي تعرض نتاجه للدمار. هذا الفكر الذي أنتج منظمات عالمية كاليونسكو وسَنَّ قوانين لحماية التراث، يظهر عاجزًا عن التصدي للقوى العالمية الكبرى التي تعمد إلى تحويل المنظمات الدولية إلى منابر بروتوكولية معطلة الفعالية.
فاجتماعات اليونسكو والجهود المبذولة لتصنيف المواقع الأثرية وحمايتها تُعتبر إنجازات كبيرة في مجال الحفاظ على التراث. لكن في زمن الحروب، يستخدم العدو الإسرائيلي هذه القوائم كأدلة للقصف والتدمير. وأصبحت المواقع الأثرية التي تحمل تصنيفات الحماية أهدافًا مباشرة لإسرائيل. هذه الديناميكية لا تعكس فقط استضعاف الدول التي تُنتهك آثارها، بل تكشف عن أزمة حقيقيقة لدى الفكر الحضاري العالمي. تلك الحضارة الغربية التي عولت على مفاهيم مثل التراث والحداثة، تُظهر تناقضًا حين تُستخدم أدواتها لتدمير ما أنشأته من قيم ومعانٍ. فهذه الجهود التي استثمرت في حماية التراث تُنسف في لحظة، مما يطرح سؤالًا وجوديًا: كيف يمكن لنظام عالمي يروج للحداثة أن يكون عاجزًا عن حماية ما يدّعي الحفاظ عليه؟
المفكر ميشيل فوكو يرى أن سلطة الحداثة تُعيد تشكيل القوانين لتبريرانتهاكاتها، وهو ما يتجسد في حروب "الإبادة الانسانية والثقافية" الإسرائيلية على غزة ولبنان، ما يحرج فكرالتنوير الذي اعتُبر تقدمًا للبشرية، فيما هو يتحول إلى ذراع أخرى تُستخدم لتقويض القيم التي أُنشئ من أجل حمايتها.
بين التراث والإنسان: الحاجة إلى رؤية شاملة
الحفاظ على التراث الثقافي لا يمكن فصله عن حماية الأرواح التي تُنتجه. البشر هم صانعو الحضارة، وغياب الحماية لهم يجعل أي جهود للحفاظ على التراث مجرد قشرة خاوية. استهداف مواقع مثل بعلبك وصور لا يهدف فقط إلى تدمير الحجر، بل إلى ضرب الروح الإنسانية التي تشكلت عبر قرون من التاريخ. المناشدات الدولية، رغم أهميتها، يجب أن تتحول إلى أدوات فعالة تحمي البشر قبل الحجر. هذه اللحظة الحرجة تتطلب رؤية جديدة تُعيد التفكير في أولويات الفكر الحضاري وتؤكد أن التراث الحقيقي يبدأ بحماية الإنسان.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: حمایة التراث تدمیر التراث تهدف إلى التی ت
إقرأ أيضاً:
تدمير ممنهج .. المتحف القومي تحت الركام والسودانيون في حداد
استفاق السودانيون، أمس الاثنين، على فاجعة مروعة، مع توارد أنباء وصور تظهر الدمار الذي حل بالمتحف القومي في الخرطوم، أحد أبرز المعالم التاريخية في البلاد، والذي كان يضم بين جنباته إرثا حضاريا يمتد لآلاف السنين.
وبدا المشهد قاتما، قاعات خاوية، تماثيل محطمة، وماضٍ سحقته آلة الحرب بلا هوادة.
وعلى وقع هذا الدمار، ضجّت منصات التواصل الاجتماعي بحالة من الحزن والغضب، حيث وجّهت أصابع الاتهام لقوات “الدعم السريع” التي تسيطر على المتحف منذ اندلاع الحرب قبل عامين.
أنقذوا آثار السودان
ووصف البعض ما حدث بأنها “مذبحة للتاريخ”، في وقت كان فيه المتحف يُعدّ من أبرز خزائن التراث السوداني، محتضنا قطعا أثرية تعود إلى عصور مختلفة، بدءا من العصر الحجري، مرورا بحضارات كرمة ونبتا ومروي، وصولا إلى الفترات المسيحية والإسلامية. أصبح اليوم ” خاويا على عروشه”.
وفي خضم هذه المأساة المرعبة ، أطلق ناشطون ومهتمون بالآثار وسم #أنقذوا_آثار_السودان في محاولة للفت أنظار العالم إلى الكارثة الأثرية غير المسبوقة التي يشهدها السودان، وللضغط من أجل اتخاذ خطوات فاعلة لحماية ما تبقى من إرثه الثقافي.
كارثة أثرية غير مسبوقة في السودان.. نهب وتدمير ممنهج للمتحف القومي
وصفت الدكتورة إخلاص عبد اللطيف، مسؤولة المتاحف بهيئة الآثار والمتاحف السودانية، في حديثها لـ”العربية.نت”/”الحدث.نت”، ما حدث بأنه “كارثة تاريخية بكل المقاييس”، مؤكدة أن ما يقارب 90% من المقتنيات الأثرية تعرضت للدمار في واحدة من أبشع عمليات النهب والتخريب التي شهدتها البلاد.
وأضافت عبد اللطيف، بمرارة وحزن، أن المعتدين لم يكتفوا بسرقة الكنوز الأثرية، بل استولوا على الذهب المحفوظ بعد تحطيم أقفاله. وفي مشهد يعكس نية واضحة للتدمير الممنهج، عمدوا إلى إلقاء ما تبقى من القطع الأثرية على الأرض وسحقها بأقدامهم، وكأن الهدف لم يكن مجرد السرقة بل طمس الهوية ومحو التاريخ.
ولم تقتصر أعمال التخريب على نهب المقتنيات بل امتدت إلى مباني هيئة الآثار والمتاحف، حيث تم تدمير الأثاث والأجهزة بالكامل، بما في ذلك أجهزة الحاسوب، في محاولة واضحة لمحو أي أثر للمؤسسة التي تعد الحارس على تاريخ الأمة.
ووفقا للتقييم الأولي للجنة المختصة التي زارت المتحف، فإن حجم الدمار هائل، والعبث طال كل شيء تقريبا.
وختمت عبد اللطيف حديثها بمرارة قائلة: “يمكننا استبدال الأجهزة والأثاث، لكن من يعيد إلينا التاريخ الذي سُرق ودُمِّر؟ هذه جريمة لا تُغتفر… ضياع هذه الكنوز هو ضياع لإرث إنساني لا يُقدر بثمن”.
شهادات من الميدان
وفي السياق ذاته، كتب المخرج السوداني الطيب صديق على صفحته في “فيسبوك”: “اليوم زرنا المتحف القومي… لم ينجُ سوى الإله السوداني الأسد أبادماك، والإله آمون إله الكبش، إله وادي النيل، والملك تهارقا، وبعض الجداريات. أما مقتنيات المتحف ومخازن الآثار، فقد نُهبت وسُرقت ودُمّرت… يوم حزين. صادق مواساتنا للآثاريين السودانيين وللشعب السوداني”.
تحفة معمارية وتاريخ حافل
على ضفاف النيل الأزرق، وتحديدا في شارع النيل بمحاذاة قاعة الصداقة، كان يقف متحف السودان القومي شامخًا منذ افتتاحه عام 1971، حاملا بين جدرانه أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، تحكي فصولا ممتدة من تاريخ البلاد، من عصور ما قبل التاريخ إلى الحقبة الإسلامية.
وتعود جذور المتحف إلى عام 1904، حين جرى تأسيسه في كلية الآداب بجامعة الخرطوم، قبل أن يُنقل لاحقًا إلى مقره الحالي، حيث تحوّل إلى إحدى أبرز الوجهات الثقافية في السودان، لا سيما مع احتضانه مقتنيات نادرة من حضارات كوش والنوبة، إلى جانب معابد فرعونية ولوحات جدارية مسيحية.
معابد نجت من الغرق… ولم تنجُ من الحرب
ومن أبرز معالم المتحف، ذلك الفناء الواسع الذي كان يضم متحفا مفتوحا، جرى فيه تجميع معابد ومدافن ونصب تذكارية نجت من الغرق خلال تشييد السد العالي في ستينيات القرن الماضي. وكان المشهد هناك أشبه بلوحة فنية، حيث أُعيد تركيب هذه الآثار حول حوض مائي، ليبدو وكأنها ما زالت قائمة في مواطنها الأصلية على ضفتي نهر النيل.
ومن بين أبرز هذه المعالم:
معابد سمنة شرق وسمنة غرب وبوهين التي تعود إلى العصر الفرعوني. مقبرة الأمير حجو تو حتب، أحد قادة مملكة كوش. أعمدة كاتدرائية فرس، التي تعود إلى الحقبة المسيحية في السودان.
نهب ممنهج وضياع لا يُعوض
لكن هذه المعالم لم تكن في مأمن من تداعيات الحرب المستعرة، ففي سبتمبر (أيلول) الماضي، تعرّض المتحف لواحدة من أكبر عمليات النهب في تاريخه. وكشفت الدكتورة غالية جار النبي، مديرة الهيئة القومية للآثار والمتاحف، عن سرقة الآلاف من القطع الأثرية من المخازن الرئيسية للمتحف.
وأظهرت صور التقطتها الأقمار الصناعية حينها، شاحنات محمّلة بالآثار وهي تتحرك باتجاه جنوب السودان، في تطور أثار مخاوف كبيرة حول مصير هذه الكنوز التاريخية.
ولم يكن المتحف القومي وحده ضحية الفوضى، إذ طالت عمليات التخريب والنهب مواقع أثرية أخرى، من بينها متحف نيالا في دارفور، ومتحف الخليفة عبد الله التعايشي في أم درمان، ومتحف القصر الجمهوري والتاريخ الطبيعي بالخرطوم، ما يعكس حجم الخطر الذي يواجه التراث الثقافي السوداني في ظل الوضع الراهن.
خسارة لا تُعوض
يمثل هذا الاعتداء على المتحف القومي في الخرطوم ضربة موجعة للهوية الثقافية السودانية، إذ يعد واحدا من أهم المراكز التي تحفظ ذاكرة الأمة وتوثّق تاريخها العريق.
وفي ظل هذا الدمار الشامل، تظل التساؤلات قائمة: كيف يمكن استعادة هذه الكنوز؟ وهل ستتمكن السلطات المعنية من ملاحقة المسؤولين عن هذه الجريمة؟
العربية نت
إنضم لقناة النيلين على واتساب