تشهد مناطق الشمال السوري الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية ارتفاعا مستمرا في عدد السكان تخطى 6 ملايين، بحسب إحصائية فريق "منسقو استجابة سوريا" لعام 2024، وتعد هذه النسبة مرتفعة قياسا إلى المساحة الجغرافية لتلك المناطق، التي لا تتجاوز 10% من مساحة سوريا.

وتشكل هذه الكثافة السكانية التي تنمو بشكل متسارع تحديا إنسانيا كبيرا، إذ تزيد من مأساة المنطقة التي تعاني أصلًا من شح الموارد الاقتصادية والطبيعية وتهالك البنية التحتية، إضافة إلى تعدد الجهات العسكرية المسيطرة عليها وما نتج عنها من حالة عدم الاستقرار.

وفي ظل هذا الواقع المتردي، يرى مراقبون أن الارتفاع المستمر في أعداد السكان، وحصرهم بمنطقة جغرافية محددة وسط غياب أي بادرة للوصول إلى حل سياسي للأزمة السورية، يطرح كثيرا من التساؤلات حول مستقبل هذه المنطقة.

نمو الكثافة السكانية نموا متسارعا في الشمال السوري يشكل تحديا إنسانيا كبيرًا يزيد من مأساة المنطقة (غيتي) نمو متسارع للسكان

في عام 2023، بلغ عدد سكان الشمال السوري نحو 4.1 ملايين، وارتفع إلى نحو 5.1 ملايين في عام 2024، بحسب المكتب الأممي لتنسيق الشؤون الإنسانية في سوريا (أوتشا)، وهذا يعني زيادة سكانية تقدر بحوالي مليون نسمة، أي تقريبا 24.4% خلال عام واحد.

وقدّر فريق "منسقو استجابة سوريا" -في إحصائية أصدرها في نوفمبر/تشرين الثاني الجاري- نسبة النمو السكاني في هذه المناطق بنحو 27.92% مقابل معدل وفيات يبلغ 6.88% من كل ألف نسمة.

وبشكل عام، تعاني الفرق والمنظمات في الشمال السوري من صعوبة في عمليات الإحصاء بسبب وجود حكومتين في تلك المنطقة (مؤقتة في ريف حلب الشمالي والشرقي، وحكومة إنقاذ في مدينة إدلب وأجزاء من أرياف حلب وحماة)، مما زاد من تعقيد الواقع الميداني هناك.

وبالإضافة إلى النمو الطبيعي في هذه المناطق الناتج عن ارتفاع عدد الولادات وانخفاض نسبة الوفيات، تشكل حركة النزوح المستمرة من مناطق النظام السوري بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية عاملا إضافيا في ارتفاع عدد السكان، إذ يدخل العشرات وربما المئات شهريا إلى مناطق سيطرة المعارضة بهدف الهجرة إلى أوروبا، إلا أن صعوبة العبور إلى تركيا تدفعهم للاستقرار في الشمال السوري.

كذلك لا تزال هذه المناطق هي الوجهة الأولى لكل عمليات العودة الطوعية أو الترحيل للسوريين من تركيا، إذ تكشف البيانات الرسمية أن عدد السوريين في تركيا يتناقص تدريجيا، فقد شهدت البلاد منذ عام 2016 عودة أكثر من 715 ألف سوري إلى وطنهم. ومنذ يونيو/حزيران 2023 عاد 160 ألف لاجئ إلى سوريا في إطار "العودة الطوعية" التي ترتبط بإنشاء "مناطق آمنة "في شمالي سوريا.

إضافة إلى ذلك، شهدت هذه المناطق في الآونة الأخيرة لجوء الآلاف من الجنوب اللبناني إثر التصعيد الإسرائيلي، وفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين "يو إن إتش سي آر" (UNHCR).

يذكر أنه في ظل التوترات المحلية والإقليمية يبقى عدد السكان في هذه المناطق قابلا للزيادة والنقصان، ويبقى خاضعا لتغيير خرائط السيطرة العسكرية بين قوات المعارضة من جهة، وقوات كل من النظام السوري وسوريا الديمقراطية (قسد) من جهة أخرى.

أزمات اقتصادية حادة

مع تلك الزيادة السكانية واستمرار تدفق النازحين داخليا وعودة اللاجئين من دول الجوار، زاد الضغط على الموارد الطبيعية المحدودة في تلك المناطق، والتي لا تضم ثروات باطنية وتقتصر مواردها الطبيعية على المياه والزراعة، ورافق زيادة الطلب على السكن تقلصٌ ملحوظ في مساحة الأراضي الزراعية عقب إنشاء العديد من المخيمات والكتل السكنية عليها.

هذا الواقع خلق الكثير من الأزمات الاقتصادية والمعيشية، منها وصول نسبة العائلات التي تعيش تحت خط الفقر إلى نحو 91%، أما نسبة الجوع فقد تخطت 41% من إجمالي العائلات الفقيرة، في حين تجاوزت نسبة البطالة 88%، بحسب فريق "منسقو استجابة سوريا".

ويأتي ارتفاع أسعار المواد الأساسية وانخفاض القدرة الشرائية لدى المدنيين بشكل واضح نتيجة ارتفاع أسعار صرف الدولار الأميركي مقابل الليرة التركية، وزيادة معدلات التضخم الذي تجاوز عتبة 75.4% كنسبة وسطية، في مقدمة الصعوبات المعيشية التي يعاني منها سكان الشمال السوري.

 

المغربل: ضعف الأمن الغذائي سيتفاقم مع النمو السكاني غير المدروس في الشمال السوري (الفرنسية) آثار سلبية

وعن هذه التأثيرات، يوضح الباحث في الشؤون الاقتصادية عبد العظيم المغربل أن هذه الزيادة غير المنتظمة ستترك آثارا عميقة على القطاعات الاقتصادية بشكل كامل. ففي قطاع العمل والصناعة، سيؤدي ارتفاع أعداد السكان إلى زيادة كبيرة في القوى العاملة غير المؤهلة، مما يرفع معدلات البطالة التي تشهد مستويات عالية أساسًا، ومع ضعف الاستثمارات اللازمة، سيواجه سوق العمل صعوبة في استيعاب هذه الأعداد، مما يزيد من انتشار العمالة غير المنظمة وضعف الإنتاجية.

ويضيف المغربل، في حديثه للجزيرة نت، أن ضعف الأمن الغذائي سيتفاقم مع النمو السكاني غير المدروس لأن زيادة الطلب على الغذاء ستشكل ضغطا على القطاع الزراعي الذي يعاني أصلاً من محدودية الموارد والمعدات الزراعية وارتفاع تكلفة الإنتاج وتأثر الأراضي الزراعية بالقصف المستمر، لأن المنطقة ما زالت تعتبر منطقة حرب، واقتصادها هش لكونه يعتمد منذ سنوات على المساعدات الإنسانية الطارئة.

وكان تقرير صادر عن المكتب الأممي لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) في أكتوبر/تشرين الأول 2024 أشار إلى أن هناك نحو 3.6 ملايين نسمة يعانون من انعدام الأمن الغذائي في مناطق الشمال السوري.

تحديات أمنية واجتماعية

هذه الحالة الاقتصادية والظروف المعيشية الصعبة لا بد أن ينتج عنها تحديات ومشاكل اجتماعية وأمنية، منها على سبيل المثال الضغط المتزايد على المنظومة الصحية والخدمية.

كذلك الأمر بالنسبة للتعليم، إذ يضطر الكثير من الأطفال إلى ترك مدارسهم لمساعدة ذويهم في العمل لتأمين الاحتياجات الأساسية، وهذا ما نتج عنه -إلى جانب عدة عوامل أخرى- وجود أكثر من مليون طفل وطفلة لا يذهبون إلى المدارس في تلك المناطق، وذلك بحسب تقرير أصدره مكتب "أوتشا" في سوريا في يونيو/حزيران الماضي.

من جانبه، يؤكد الباحث المختص بقضايا السكان والمجتمع في شمالي غربي سوريا بسام سليمان أن زيادة الكثافة السكانية تتطلب مضاعفة قدرات القطاع الصحي الذي يعاني من نقص حاد في الموارد الطبية والمرافق في ظل نقص الدعم، مما سيؤدي إلى تزايد حالات الأمراض المعدية نتيجة الاكتظاظ وسوء الخدمات الصحية وغياب الأمن الصحي.

وفي حديثه للجزيرة نت عن التأثيرات الاجتماعية، يقول سليمان إن قدوم أعداد كبيرة من النازحين يؤدي إلى تغيير في التركيب السكاني للمنطقة، مما يخلق كثيرا من المشاكل الاجتماعية بين النازحين والسكان المقيمين، فهذه الزيادة الكبيرة في منطقة منهارة اقتصاديا ينتشر فيها الفقر وتقل فرص العمل ويتدنى مستوى التعليم كلها عوامل تساعد على ظهور مشاكل اجتماعية مثل تعاطي المخدرات وازدياد معدلات الجريمة والانتحار.

وعن التحديات الأمنية، يرى سليمان أن الاكتظاظ السكاني، وخاصة في المخيمات، يشكل بيئة مهيئة للظواهر الاجتماعية السلبية، إلى جانب أن هذه الزيادة السكانية المترافقة مع ظروف تؤدي إلى ضعف السلطات تدفع نحو انتشار ثقافة الثأر في ظل انتشار السلاح بين السكان.

تحديات الإغاثة والمساعدات الإنسانية

وفي مقابل هذا، يشكل ملف المساعدات الإنسانية المقدمة إلى مناطق الشمال السوري عاملا ضاغطا على السكان بسبب تسييس هذا الملف، إذ أصبحت هذه المساعدات أداة للتجاذبات السياسية بين الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة في الملف السوري، مما يضاعف العبء على المنظمات الإنسانية المحلية والدولية التي تسعى جاهدة لسد الفجوات في الخدمات المقدمة، لكنها تجد نفسها عاجزة أمام الطلب المتزايد.

وكان فريق "منسقو استجابة سوريا" أصدر بيانا في يوليو/تموز الماضي كشف فيه أن كمية المساعدات الإنسانية الواصلة انخفضت بمقدار 62.4% مقارنة بالعام الماضي.

وفي وقت سابق، أكد مصدر في وكالة "أوتشا" للجزيرة نت أن البرنامج أوقف دعمه للمنظمات بسبب انخفاض التمويل، إذ إن منظمة الغذاء العالمي كانت تُدخل شهريا 260 ألف سلة لمناطق الشمال السوري، إلى جانب مشاريع التعليم والمياه المقدمة من المنظمة الدولية للهجرة "آي أو إم" (IOM) والتي يستفيد منها عشرات آلاف النازحين.

وفي سبيل سعيها لتحسين الواقع الإنساني والخدمي، أعلن المنسق المقيم للشؤون الإنسانية للأمم المتحدة لدى سوريا آدم عبد المولى في بداية نوفمبر/تشرين الثاني الجاري إطلاق "إستراتيجية التعافي المبكر" في سوريا للسنوات ما بين 2024 و2028، إلا أن هذه الخطوة لاقت انتقادات من المعارضة السورية.

إذ أكد مدير وحدة تنسيق الدعم منذر سلال أن الأمم المتحدة تطرح حلولا تبدو ظاهريا مناسبة من حيث تأكيدها على التعافي المبكر عن طريق مساعدة الشعب السوري اقتصاديا ليصبح قادرا على الاكتفاء ذاتيا، ولكن من الواضح -يستدرك سلال- أن الأمم المتحدة وعن طريق هذه الإستراتيجية تحاول تقديم منافع سياسية للنظام عبر طرح أن صندوق التعافي المبكر يجب أن يكون في مناطق النظام، وهذا لاقى معارضة من منظمات المجتمع السوري ومن المعارضة السياسية.

ويرى سلال، في حديثه للجزيرة نت، أن هذه الإستراتيجية بحد ذاتها تعتبر شيئا من الالتفاف على الحل السياسي الذي يطمح المجتمع السوري للوصول إليه، وقد تكون أيضا تسمية مغلفة لـ"إعادة الإعمار" لأن هناك خطا أحمر لكثير من الداعمين لإعادة الإعمار بسبب العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على النظام السوري.

هل من حلول ممكنة؟

أمام هذا الواقع، يبدو واضحا أن هذه المناطق باتت بحاجة إلى حلول دائمة، تتمثل في تقديم الدعم الكافي لإعادة بناء البنية التحتية وخلق فرص اقتصادية وتنموية تعزز قدرة السكان على الاكتفاء الذاتي، إلى جانب ذلك يرى خبراء أن الشمال السوري يحتاج توجيه دعم جاد إلى المشاريع التنموية والتعليمية بما يسهم في توفير بيئة أكثر استقرارًا ويمهّد للأجيال آفاقًا أوسع نحو حياة كريمة ومستقبل أفضل.

ويرى الخبير الاقتصادي عبد العظيم المغربل أن هذه المناطق يجب أن تتخطى فكرة الاعتماد على المساعدات الإنسانية الطارئة، التي بدأت تضعف يوما بعد يوم مقابل الارتفاع المستمر بعدد السكان.

بيد أن الحل الأجدى -برأي المغربل- يتمثل في تطبيق القرارات الدولية الخاصة بالانتقال السياسي في سوريا، وعلى رأسها القرار 2254 الذي يتضمن تشكيل حكومة انتقالية وإعادة النازحين إلى قراهم وبلداتهم التي هجرهم منها النظام.

وبالتالي -يضيف المغربل- يتم توزيع هذا الاكتظاظ السكاني الكبير على مختلف المناطق السورية، بحيث يصبح الشمال السوري قادرا على استيعاب عدد مناسب من السكان.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات المساعدات الإنسانیة مناطق الشمال السوری فی الشمال السوری النمو السکانی هذه المناطق عدد السکان للجزیرة نت فی سوریا إلى جانب أن هذه

إقرأ أيضاً:

FP: هل يتمكن حكام سوريا الجدد من مواجهة المشاكل التي زرعها الاستعمار الغربي

نشرت مجلة "فورين بوليسي" مقالا للزميل الأول لدراسات الشرق الأوسط وأفريقيا في مجلس العلاقات الخارجية ستيفن كوك، قال فيه إن المسألة لم تكن سوى مسألة وقت قبل أن تخترق حقائق الوضع في سوريا الروايات الأخيرة، التي اتسمت في معظمها بالأمل والتفاؤل، حول انتقال البلاد من سلالة الأسد.

في 7 آذار/ مارس، اندلعت انتفاضةٌ ضد النظام السوري الجديد الذي أسسه أحمد الشرع، واشتبكت مع السلطات في اللاذقية وطرطوس وجبلة. بعد أن حقق الأسديون بعض النجاح الأولي، حشدت القوات الموالية للشرع قواتها وقمعت الانتفاضة.

تفاصيل هذه الأحداث غامضة نوعا ما نظرا لسيل الشائعات والمعلومات المضللة التي غمرت منصات التواصل الاجتماعي، فضلا عن ندرة الصحفيين الفعليين في المنطقة.



بحسب من اختار المراقبون تصديقه، كانت هناك إما مجازر بحق العلويين والأكراد والمسيحيين السوريين، أو لم تكن.

كان الشرع على علم بهذه المجازر، أو لم يكن. أما الرئيس السوري، فهو إما جهادي غير متجدد، أو أنه انفصل عن ماضيه ويحاول بناء سوريا جديدة بعد خمسة عقود من حكم عائلة الأسد.

تشير التقارير الموثوقة إلى أن القوات الحكومية والقوات الموالية للشرع سحقت الموالين للأسد بشراسة صادمة خلّفت نحو ألف قتيل، معظمهم من المدنيين.

تفاصيل الانتفاضة - كما هي، وإلى الحد الذي يستطيع المحللون فيه استنباط ما حدث - أقل تعقيدا من التحديات والعقبات التي تعترض بناء مجتمع يتفق فيه الجميع على معنى أن يكون المرء "سوريا".

لا شك أن الغالبية العظمى من السوريين سيقولون إن جميع سكان البلاد - العلويون والأكراد والدروز والمسلمين والإسماعيليون والمسيحيون والقلة المتبقية من اليهود - سوريون. هذا شعور إيجابي، لكنه شعور هش. وكما رأينا للتو، ففي أوقات الأزمات، يُمكن بسهولة وبعنف الطعن في هذه الفكرة التعددية. وهذا لا يُبشر بالخير لمستقبل البلاد القريب.

تُتيح الظروف الحالية في سوريا فرصة شبه مثالية لأصحاب المشاريع السياسية والقوى الخارجية العازمة على تقويض الشرع وجماعته التابعة سابقا لتنظيم القاعدة، هيئة تحرير الشام. عندما كانت فرنسا قوة استعمارية في بلاد الشام، رسّخت مكانة الطائفتين العلوية والدرزية كأقليات مُفضّلة، بل ذهبت إلى حدّ إنشاء دويلات لكليهما.

وتمّ في النهاية ضمّ هذه الدويلات إلى سوريا، لكن هذا لم يكن الحال بالنسبة للدولة المسيحية التي اقتطعها الفرنسيون مما أسماه القوميون ذوو الرؤية التوسعية لبلادهم "سوريا الطبيعية" لإنشاء دولة ذات هيمنة مارونية تُدعى لبنان. تمّ كل هذا على حساب السكان السنة، الذين كانوا كثيرين وغير مُرتاحين عموما للمشروع الأوروبي في المنطقة.

لقد خلق التلاعب الاستعماري بالطوائف والجماعات العرقية مجموعة من التبعيات المسارية التي ثبت أنه من الصعب على السوريين التخلص منها على مدى المائة عام الماضية.

كان حافظ الأسد، الذي حكم سوريا من عام 1971 حتى وفاته عام 2000، عضوا في حزب البعث - وهو حزب قومي عربي بامتياز. لقد حافظ، مثل الأحزاب والفصائل القومية العربية في جميع أنحاء المنطقة، على وهم أن الشرق الأوسط عربي بامتياز، مما أدى إلى محو التشكيلة الغنية من الجماعات العرقية والدينية التي كانت من السكان الأصليين للمنطقة.

لم يكن التزام حافظ بالبعث مهما كثيرا من الناحية العملية أو السياسية. ربما كان الرجل القوي في سوريا لفترة طويلة، لكنه لم يستطع أبدا التخلص من حقيقة أنه كان علويا - عضوا في مجتمع فقير تقليديا يمارس دينا غير تقليدي وتعاون قادته مع السلطات الاستعمارية الفرنسية.

وعلى الرغم من وجود سوريين من خلفيات متنوعة في هيكل السلطة السورية خلال فترة حكم حافظ الأسد الطويلة، فإنه اعتمد على العلويين كقاعدة لسلطته، مما أدى إلى إعادة خلق وتعزيز الاختلافات الطائفية والعرقية بين السوريين.

خلال فترة حكمه، قيل إن المسيحيين كانوا محميين، والأكراد كانوا يتعرضون للقمع ما لم يُستخدموا ضد الأتراك، وكان العديد من السنة مستائين. تمرد البعض - وتحديدا جماعة الإخوان المسلمين وأنصارها - وأشهرها في حماة عام ١٩٨٢. من جانبهم، مارس الدروز التقية.

هذه تعميمات بالطبع. لم يدعم كل علوي نظام الأسد، ولم يعارض كل سني النظام. كان هناك مسيحيون فعلوا ذلك، وكان هناك دروز وطنيون سوريون. أراد معظم السوريين ما يريده الجميع في كل مكان: عيش حياة كريمة ورؤية أطفالهم يكبرون ويزدهرون. مع ذلك، لا تقلل هذه الفروق الدقيقة من البعد الطائفي للسياسة السورية، وهو قابل للاستغلال.

ليس من المستحيل على السوريين التغلب على المؤسسات الاجتماعية والسياسية التي تقسمهم وتصنفهم حسب الطائفة والعرق، لكن الأمر سيكون في غاية الصعوبة.

من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت السياسة الجديدة في سوريا ستقوض هذه الأنماط، التي ترسخت في سياسة البلاد ومجتمعها على مدى القرن الماضي، أم ستعززها.

تُفسر هذه السمة "المتأصلة" لماذا، بمجرد أن أقدم الأسديون، الذين تدور مظالمهم ظاهريا حول السلطة والسياسة، على التحرك، بدا أن العنف الذي أعقب ذلك قد اتخذ طابعا طائفيا وعرقيا. ذلك لأن السلطة والسياسة في سوريا متشابكتان بشدة مع هذه الاختلافات.

لا شك أن أشخاصا وجماعات ودولا - إيران؟ روسيا؟ إسرائيل؟ - داخل سوريا وخارجها، سعت إلى تضخيم هذه الاختلافات وتعزيز فكرة أن ما كان يحدث هو هجوم جهادي شامل على الأقليات السورية.

يبدو - من التقارير غير الدقيقة التي ظهرت من غرب سوريا - أن هناك بعض الحقيقة في هذه الروايات. لا يمكن إنكار حقيقة أن أتباع الشرع قتلوا أعدادا كبيرة من العلويين (مع ذهاب البعض خارج البلاد إلى حد التلميح إلى أنهم يستحقون ذلك). رفض ناشطون وشخصيات على مواقع التواصل الاجتماعي الاتهامات الموجهة إلى مؤيدي النظام الجديد بقتل المسيحيين، ولكن يبدو أنهم كانوا مستهدفين. وهذا أمرٌ لا ينبغي أن يُفاجئ أحدا. فالمتطرفون الإسلاميون يهددون رجال الدين المسيحيين وكنائسهم منذ سقوط الأسد.

هذا ليس دفاعا عن الأسديين. فقد كانت سوريا بلدا قمعيا ودمويا للغاية خلال العقود الممتدة بين صعود حافظ الأسد عام ١٩٧١ وسقوط بشار الأسد أواخر عام ٢٠٢٤. وكان تصميم الابن على استخدام القتل كوسيلة للخروج من الانتفاضة ضد حكمه عام ٢٠١١ هو الدرس الذي تعلمه من والده، الذي قتل عشرات الآلاف ردا على انتفاضة حماة عام ١٩٨٢.



بل إن وجهة نظري هي أن السوريين، مثل جيرانهم في لبنان والعراق، من المرجح أن يواجهوا صعوبات في التكيف مع الهياكل الاجتماعية التي أورثهم إياها التاريخ. هناك نماذج قليلة يمكن للسوريين اتباعها. يُسهم النظام السياسي الطائفي في لبنان في التشرذم، بينما يُسهم النظام العراقي في دوامة من الغنائم والاختلال الوظيفي. لقد قال الشرع كلاما صائبا عن كون سوريا لجميع السوريين.

إنها رؤية إيجابية لمستقبل سوريا، يتفق عليها بلا شك الكثير من مواطنيه. ولكن، وبعيدا عن التعبير عن المشاعر، لم يُقدم الرئيس السوري طريقا حقيقيا للمضي قدما. في الوقت الحالي، يحق للسوريين أن يتساءلوا: "إلى أي سوريين يشير؟".

مقالات مشابهة

  • FP: هل يتمكن حكام سوريا الجدد من مواجهة المشاكل التي زرعها الاستعمار الغربي
  • 14 الف نازح من ابناء الساحل السوري الى منطق الشمال
  • رغم التحديات.. الصناعات الدوائية في الشمال السوري تحقق نجاحات غير مسبوقة
  • حملة (عائدون) تُسيّر أولى قوافلها من مدينة إعزاز في الشمال السوري لإعادة الأهالي إلى مناطقهم
  • سوريا التي وقعت في الكمين
  • وزير النفط والثروة المعدنية يرحب بمبادرة دولة قطر الإنسانية لدعم قطاع الطاقة في سوريا
  • الكرملين: المناطق الجديدة التي ضمتها روسيا واقع لا جدال فيه
  • ارتفاع درجات الحرارة ورياح نشطة على أغلب المناطق
  • ارتفاع عدد نازحي الساحل السوري إلى الشمال وجهود أمنية لمنع الفتنة
  • مجلس الشورى يندد بجرائم الإبادة التي ترتكبها الجماعات التكفيرية في الساحل السوري