رحل محمد حسن وهبه، وما الذي تبقى من زيت القناديل؟
تاريخ النشر: 21st, November 2024 GMT
صديق عبد الهادي
(1)
للشاعر الألماني "برشت" او "بريخت" كما ينطقه آخرون، قصيدة بليغة، محتواً ونصاً، وخاصة عند الإطلاع على تلك النسخة من ترجمتها البديعة التي بذلها صديقنا ومربينا العزيز دكتور محمد سليمان. ولتلك الدرجة التي يحار فيها المرء في أي لغةٍ أصلٍ كتبها "برشت"؟! وقد جاءت القصيدة تحت عنوان "أسئلةُ عاملٍ قارئ".
إنه لمن الصعب الإقتطاف منها، لأن الإقتطاف يهدمها مبناً ومعناً، أو يكاد! ولكن، لابد مما ليس منه بد. إذ يقول/
"منْ بنى طيبة ذات الأبواب السبع
الكتب لا تحوي غير أسماء الملوك
هل حمل الملوك كتل الصخر يا ترى؟!
وبابل التي حُطِمتْ مرات عديدات
منْ أعاد بناءها كل هذه المرات؟!
وفي أي المنازل كان يسكن عمال ليما
الذهبية المشرقة؟!
وفي المساء - حين إكتمل سور الصين العظيم –
أين ذهب البناؤون؟!
روما الجبارة مليئة بأقواس النصر
منْ شيَّدها؟
وعلى منْ إنتصر القياصرة؟!
وهل كانت بيزنطة الجميلة تحوي قصوراً
لكل ساكنيها؟!".
كلما أطلَّتْ هذه القصيدة أمامي ساءلتُ نفسي، ألا تنطبق تلك التساؤلات، الثرة والغارقة في الجدل، على النشاطات الإنسانية والنضالية في حقول الحياة الأخرى؟، وبالطبع، دائماً في البال أولئك "الفعلة" "المجهولين" "تحت الأرض"، الذين كلما تحطمت "بابلنا"، أو كادت، أعادوها لنا في كامل عافيتها وبهائها!
كان الراحل محمد حسن وهبه، وعن جدارة، أحد أولئك الــــــــ"تحت الأرض"، ولشطرٍ كبيرٍ من حياته.
(2)
تعرفت على رفيقنا الراحل في تقاطعات "العمل العام"، بعد عودة الحياة الديمقرطية إثر إنتفاضة مارس/أبريل في العام 1985. فمن الوهلة الأولى لا يعطيك الإنطباع بحبه للعمل العام وحسب وإنما، وفي يسر، بأنه إنسانٌ صُمم لذلك. رجلٌ سهل وودودٌ وذو تجربة صلدة، تتقمصه روحٌ آسرة ومتأصلة لا فكاك للمرء من إيحائها، بأنك تعرفه ومنذ زمن طويل. كان يتوسل المزحة ودونما تكلف في تجاوز المواقف المربكة، وكم هي غاصةٌ بها الحياة ومسروفةٌ بها غضون العمل العام ومطارفه!
عملت في صحبته وصحبة صديقنا المناضل الراحل محمد بابكر. والأثنان كانا يمثلان مورداً ثراً في التصدي لقضايا العمل العام، وخاصةً النقابي. طاقات مدهشه يحفها تواضع جم، أكثر إدهاشٍ هو الآخر. تعرفت على الراحل محمد بابكر في قسم المديرية بسجن كوبر إبان نظام المخلوع نميري ولفترة امتدت لأكثر من عام. وهو الذي قدمني للراحل "محمد حسن وهبه"، ومنذها كانت صداقة ثلاثتنا.
جرتْ انتخابات النقابات الفرعية منها والعامة في العام 1988، وفازت "قوى الإنتفاضة"، التي كانت تضم كل الإتجاهات، ما عدا الإسلاميين الذين كانوا يمثلون او بالأحرى يطلق عليهم "سدنة مايو". فازت "قوى الإنتفاضة" بما مجموعه 48 من عدد 52 نقابة عامة لاجل تكوين الإتحاد العام للموظفين في السودان.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما تمّ بعد إنتفاضة مارس/ ابريل 1985 في شأن إستعادة النقابات وفرض شرعيتها من خلال الإنتخاب الحر والديمقراطي هو ما لم تنجح في فعله قوى الثورة عقب ثورة ديسمبر 2018 مما كان له الأثر الكبير في كشف ضعف الثورة وفي وتأكيد غفلتها. فلقد ظلت كل القوانين كما هي وكأن ثورة لم تكن!
كان "محمد حسن وهبه" أحد الذين كانوا من وراء إنجاز قيام الإتحاد العام للموظفين، والذي تمً على إثره إنتخاب الراحل محمد بابكر وبشكل ديمقراطي أميناً عاماً له. كان "محمد حسن وهبه" مسؤولنا الأول عن إدارة تلك الحملة وقيادة ذلك العمل. كان أحد المعنيين بإعادة "بناء بابل"، وقد فعل ذلك على أكمل وجه. والآن جاء يوم شكره المستحق.
(3)
لم يجمع بيننا العمل العام لوحده وإنما جمعت بيننا "البراري" بكل تفردها وزخم "قواها الإشتراكية" التليدة إن كان في ترشيحها لـ"فاطمة" أو في تكريمها لـ"سكينة عالم"، والذي كان وبعقودٍ طويلة قبل تجشم "هيلاري" و"كاميلا" لمصاعب المعاظلة مع عتاة الرأسمال!.
كنت أغشاه كثيراً، وليس لماماً، للتزود من معارفه الحياتية ومن فيض روحه السمح، ومن لطائفه كذلك. كنت أسكن "كوريا" ويقطن هو في "إمتداد ناصر". ذات مساء وجدت في معيته المناضل الراحل "يوسف حسين"، وكما هو معلوم فهو رجل صارم القسمات وللذي يراه لأول مرة لا شك أنه سيظن أن هذا الرجل بينه والإبتسام ما تصنعه القطيعة البائنة!. أنهما صديقان، ولكن للمرء أن يعجب كيف تسنى ذلك، فــ"وهبه" سيلٌ متدفق من "الحكاوي" و"المِلَح" والضحك المجلجل؟!
إن لوهبه قدرة فائقة على صناعة الأصدقاء، إن جاز القول.
وهبه حكاءٌ بإمتياز، لا يدانيه أحد. كان يبدع حين يحكي عن طُرَفِ زميله الراحل الأستاذ "أبو بكر أبو الريش" المحامي، الذي تميز هو الآخر بالحس الفكه والروح اللطيف، والطيب. كانت طرفته الأثيرة لوهبه، وهما طلاب في المدرسة الثانوية في مدينة بورتسودان، حين سأل أحد الأساتذة "ابوبكر" عن إسمه بالكامل فقال له :إسمي أبو بكر أبو الريش. فأردف الأستاذ: هل فعلاً اسم أبيك أبو الريش؟، فرد عليه أبو بكر: "بالمناسبة يا أستاذ أمي ذاتها إسمها أبو الريش!"، فإنفجر الطلاب بالضحك. حينما يحكي وهبة هذه الطرفة يحكيها وكأنها حدثت بالأمس، وحتى حينما يعيد "حكوتها" يعيدها بشكلٍ مختلف، في كل مرة، عن سابقتها. فتلك موهبة لا يتوفر عليها الكثيرون!
إن في مرافقة رواد العمل العام من أمثال وهبه، والذين يجمعون كل تلك المواهب، يصير العمل العام وبكل صعوباته وتعقيداته متعة، فضلاً عن كونه في معيتهم يمثل مدرسة حياتية نوعية ترقى إلى مستوى الرسالة المقدسة، التي يكون المرء على إستعدادٍ كاملٍ للتضحية بحياته من أجلها.
(4)
إن رفيقنا الراحل "محمد حسن وهبه" هو أحد الذين قدموا التضحيات الجسام بدون منٍ او سعيٍ مبغوضٍ للشهرة. عاش بسيطاً بين الناس وكريماً ذا "يدٍ خرقاء" حينما يطلب الناس بيته. إنه أحد أولئك الذين هم "زيت القناديل"، الذين تساكنوا، " تحت الأرض "، وتآلفوا مع الحرمان من طيب العيش والأهل، ولردحٍ طويلٍ من حيواتهم! إنه أحدُ منْ عناهم "برشت" أيضاً، حين قال/
"والعظمة تبرز من داخل أكواخٍ بالية
تتقدم في ثقة
تزحم كل الآماد
والشهرة تسأل حائرة - دون جواب –
عمنْ أقْدَمَ، أفْلَحَ، أنْجَزَ هاتيك الأمجاد!
فلتتقدم للضوء وجوهكم، لحظات
فلتتقدم هاتيك المغمورة مستورة
فلتتقدم كي تتقبل من أيدينا
كل الشكر
وكل الحب" (*)
فلك كل الشكر، رفيقنا "محمد حسن وهبه"، ولك كل الحب.
ولتخلد روحك في عليين.
___________________.
(*) من قصيدة "تقريظ العمل السري".
نقلا من صفحة الاستاذ صديق عبد الهادي على الفيس بوك
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الراحل محمد العمل العام أبو الریش
إقرأ أيضاً:
أول تعليق من مدحت العدل على حفل تكريم الراحل محمد رحيم
علق الكاتب مدحت العدل، على احتفالية تكريم الموسيقار الراحل محمد رحيم والتى أقيمت مساء أمس الأربعاء بدار الأوبرا المصرية.
ونشر مدحت العدل صور من حفل التكريم وعلق عليها عبر صفحته الرسمية بموقع الصور الشهير انستجرام: كان من دواعي سروري أن أكون جزءاً من حفل تكريم الموسيقار الراحل محمد رحيم، الذي أقيم على المسرح الكبير بدار الأوبرا، بتنظيم من جمعية المؤلفين والملحنين والناشرين وبرعاية وزارة الثقافة.
وأضاف: شكراً لكل من حضر وشاركنا في هذه اللحظات الرائعة التي احتفلنا فيها بإرثه الفني العظيم. ستظل ألحانه وأعماله مصدر إلهام للأجيال القادمة في عالم الموسيقى العربية.
واحتضن المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية، مساء اليوم، حفلًا مميزًا لتكريم الموسيقار الراحل محمد رحيم، بتنظيم جمعية المؤلفين والملحنين والناشرين برئاسة د. مدحت العدل، وتحت رعاية د. أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة. حملت الليلة عنوان "ليلة حب وتكريم.. محمد رحيم"، وأخرجها عادل عبده، فيما قاد الفرقة الموسيقية مصطفى حلمي، بإشراف فني لتامر غنيم.
بدأ الحفل بالسلام الجمهوري، ثم عرض فيلم تسجيلي تناول أبرز محطات مشوار الموسيقار الراحل محمد رحيم. تلاه كلمة افتتاحية ألقاها د. مدحت العدل، وكلمة أخرى من د. أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة، الذي قام بتكريم أسرة الموسيقار وتسليم التكريم لزوجته أنوس كوته.
شهد البرنامج الفني للحفل عرضًا مميزًا من أعمال رحيم، حيث افتتحت الفرقة الموسيقية والكورال بتقديم ميدلي لأغانيه الشهيرة مثل "حبيبي ولا على باله"، "لو عشقاني"، "مشاعر"، و"أنا في الغرام". بعدها، أطل المطرب محمد ثروت بأغنية "يا مستعجل فراقي"، التي أعادت التعاون بينه وبين رحيم بعد سنوات طويلة.
وفي لحظة استثنائية، صعد الفنان تامر حسني ليشارك ماس، ابنة الموسيقار الراحل، في أداء دويتو "يروح البحر"، الذي لاقى تفاعلًا واسعًا من الحضور. تلاه أداء من الفنانة شذى لأغنية "أنا قلبي عشانه داب"، والمطربة سوما التي أبدعت في أغنية "قابلنا".
واصل الحفل تألقه بصعود المطرب محمد محيي الذي قدم أغنيتي "ليه بيفكروني عنيك" و"ياللي بتغيب عليا"، لتتبعها فقرة للفنان إيهاب توفيق بميدلي يضم أغاني "يا سلام" و"اللي مدوبني". واختتمت الحفل النجمة لطيفة بأداء أغنية وطنية مؤثرة بعنوان "مصنع الرجالة"، التي جمعتها برحيم في عام 2014.
ثم صعد جميع النجوم في ختام الحفلة، وغنوا معا أغنية "أحلى اسم في الوجود يا مصر".
حضر الحفل نخبة من صناع الموسيقى ورموز الفن والإعلام، من بينهم الإعلاميون ممدوح موسى، مجدي الجلاد، وجاسمين طه زكي، إلى جانب رموز الموسيقى مثل حميد الشاعري، عزيز الشافعي، عمرو مصطفى، أيمن بهجت قمر، محمد يحيى، المنتج محسن جابر، أمير محروس، ونقيب الموسيقيين مصطفى كامل، أمير طعيمة، حلمي عبد الباقي، رنا سماحة، جاد شويري، شادي شامل، وآخرون، وكان الحفل بمثابة ليلة وفاء واحتفاء بمسيرة موسيقية خالدة تركت أثرًا عميقًا في وجدان الجمهور.