من الواضح أن روسيا تبنت لحد كبير في ردها على مشروع القرار البريطاني سردية الحكومة السودانية (رويترز)
قطع الفيتو الروسي على مشروع قرار بريطاني في مجلس الأمن الدولي الطريق على ما يبدو أمام إعادة تأهيل مليشيا الدعم السريع المتمردة على الدولة السودانية عسكريًا، وسياسيًا، وما يستتبع ذلك من تأهيل حاضنتها السياسية المعروفة باسم تنسيقية تقدّم برئاسة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك.

فالحاضنة السياسية يريدها المشروع الغربي في السودان أن تنصب ممثلًا وحيدًا للمجتمع المدني، بينما يراد لمليشيا الدعم السريع أن تحل محل الجيش السوداني في إطار مشروع تفكيكه على غرار الجيش العراقي، فقد ظلّ الجيش السوداني عقبة كأداء في وجه مشروع إعادة صياغة الدولة السودانية بما يتوافق مع المصالح الغربية في السودان التي تستهدف موقعه الجيوستراتيجي وموارده الطبيعية غير المحدودة.

وقد غلف مشروع القرار البريطاني بأهداف تبدو ظاهريًا منطقية، مثل تعزيز الإجراءات الدولية الخاصة بتسهيل التدخل الإنساني، بيدَ أن روسيا بررت موقفها الرافض بأنه تدخل غربي غير متوازن يهدد سيادة السودان.

إن هذا التطور عكس تعقيدات العلاقات الدولية، وتوازنات القوى داخل المجلس، ويطرح تساؤلات حول تداعياته على الأوضاع السودانية، خاصة في ظل تصاعد الأزمة الإنسانية والسياسية.

ولا شك أن الرفض جاء في صالح الحكومة السودانية، إذ تعترض على عدة نقاط حواها مشروع القرار، مثل: الإشارة إلى الجيش، ومليشيا الدعم السريع بصيغة مشتركة (أطراف الصراع) الأمر الذي يضع المليشيا في مستوى واحد مع الجيش، بل اشتراك كليهما في جرائم الحرب، بينما تقدم الحكومة السودانية سردية مختلفة تصف المليشيا بأنها فصيل متمرد على الدولة حاول الاستيلاء على السلطة بالقوة بالتخابر مع أطراف خارجية.

كذلك تحدث القرار عن مفاوضات سياسية، الأمر الذي يعني لدى السودان إعطاء مشروعية سياسية للمليشيا، وتجاوزًا مقصودًا عن سقوطها الأخلاقي. إن السودان اليوم يبدو أنه يقف عند مفترق طرق، حيث سيكون لخياراته المستقبلية في تعزيز تحالفاته مع روسيا أو البحث عن حلول متوازنة دورٌ محوري في تحديد مساره على الساحة الدولية.

تحفظات السودان على القرار
ظل السودان يتابع بقلق التدخلات البريطانية غير الحميدة في شؤونه الداخلية التي ازدادت وتيرتها بعد سقوط النظام السابق في أبريل/ نيسان 2019، ولعب السفير البريطاني آنذاك دورًا رئيسًا في صياغة المشروع الذي تقدم به عبدالله حمدوك دون علم مجلس السيادة ورئيسه عبدالفتاح البرهان، وأدى ذلك إلى قدوم بعثة الأمم المتحدة (يونيتامس) برئاسة فولكر بيرتس بقرار من مجلس الأمن بالرقم 2524 في 3 يونيو/ حزيران 2020، بمزاعم مساعدة السودان على الانتقال إلى الحكم الديمقراطي من خلال بناء مؤسسات مدنية قوية، وتسهيل العملية الدستورية، والانتخابات الديمقراطية.

وأبدى الجيش السوداني تحفظات شديدة على دور فولكر، متهمًا البعثة بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، خاصةً خلال الأزمات بين المكوّنين العسكري، والمدني حيث اتهم رئيس البعثة بالانحياز لقوى الحرية والتغيير، ومحاولة تمكينها وانفرادها بالسلطة عبر مشروع سياسي رعاه فولكر سمي بـ “الاتفاق الإطاري”، وهي ذاتها التي عدلت مسماها إلى تنسيقية تقدم، وتتولى اليوم الترويج للمشروع البريطاني في السودان.

ولذلك فشلت البعثة في تحقيق اختراقات ملموسة في العملية السياسية، مثل: حل الأزمات بين المدنيين والعسكريين، أو تحقيق تقدم في الانتخابات والانتقال الديمقراطي. ونتيجة لنشاط دبلوماسي سوداني في أروقة الأمم المتحدة لم تُجدد ولاية البعثة في يونيو/ حزيران 2023، وأنهيت مهمتها رسميًا في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، مع رحيل فولكر بيرتس عن منصبه، بعد تقديمه استقالته.

لقد تعمد مشروع القرار المرفوض ألا يدين إدانة صريحة لا مواربة فيها جرائم مليشيا الدعم السريع وهي جرائم أشارت إليها تقارير أممية، ومنظمات دولية، وهـذا ما أثار حفيظة الحكومة السودانية التي تنظر بريبة لكل أمر تحركه بريطانيا.

إن جوهر مشروع القرار يساوي بين الحكومة، والمليشيا بالطلب المتساوي من الأطراف بالكف عن الخروقات، وظلت السفيرة البريطانية لدى الأمم المتحدة تردد: “الجانبان – الجيش، والمليشيا – يرتكبان انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، بما في ذلك اغتصاب النساء، والفتيات على نطاق واسع”.

بينما تتجاهل بريطانيا أن المدنيين السودانيين يهربون من مناطق سيطرة المليشيا إلى مناطق سيطرة الجيش. لقد تحدث مشروع القرار عن ضرورة فتح معبر “أدري”، متجاهلًا الشروط السيادية للحكومة على المعبر ومحاذيرها بخصوص استغلال المعبر لتهربب السلاح والإمداد للمليشيا عبر تشاد.

ويرى السودان كذلك أن مشروع القرار تجاهل شكوى تقدّم بها تتهم دولًا بتقديم السلاح والدعم للمليشيا. يشار إلى أن مجلس الأمن كان قد طلب من المليشيا فك حصارها على مدينة الفاشر عاصمة إقليم دارفور، وسط تقارير تؤكد استهدافها المستشفيات وفقًا لمنظمة أطباء بلا حدود، ومع ذلك لم يشر مشروع القرار لمثل هذه النقاط المهمة المتعلقة بحماية المدنيين. ونسيت بريطانيا أو تناست أن ذات مجلس الأمن كان قد أصدر في 2004 القرار رقم 1556، كان قد طالب الحكومة السودانية حينها بنزع سلاح الجنجويد، ووقف العنف، لكن اليوم تريد بريطانيا مساواة الجنجويد بالجيش السوداني.

انعكاسات الفيتو الروسي على السودان
من الواضح أن روسيا تبنت لحد كبير في ردها على مشروع القرار البريطاني سردية الحكومة السودانية، وتوصيفها للأزمة. وبدا ذلك من خلال مرافعة المندوب الروسي الدائم لدى الأمم المتحدة، ديميتري بوليانسكي الذي قال: إنه “لا ينبغي أن يفرض المجلس هذا الاتفاق بطريقة متبّلة بنكهة استعمارية”. مضيفًا: إن “المشكلة الرئيسية في المسودة هي أنها تتضمن فهمًا خاطئًا لمن يتحمل مسؤولية حماية المدنيين، ومن يجب أن يتخذ قرارًا في شأن دعوة القوات الأجنبية إلى السودان”.

شهد السودان قرارات أممية عديدة، أبرزها المتعلقة بالنزاع في دارفور، أو الأزمات المتلاحقة منذ سقوط نظام عمر البشير، ولكن الموقف الروسي ظل ثابتًا في رفض أي ضغوط غربية، قد تُضعف نفوذ موسكو الإقليمي.

ولذلك يخشى كثير من المراقبين أن يتحول السودان إلى ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى، وساحة لصراع النفوذ بينها، حيث تسعى كل من روسيا والولايات المتحدة، والغرب إلى تعزيز مواقعها في بلد غني بالموارد. وهناك من يعول على الدبلوماسية السودانية في حسن إدارة علاقاتها مع هذه الأقطاب، بما يكفل للسودان تحقيق مصالحه، وتجنب استخدام المؤسسات الدولية في التدخل في شؤونه.

لقد ظلت روسيا تعزز منذ سنوات علاقاتها مع السودان، سواء عبر التعاون الاقتصادي أو الدعم السياسي، لا سيما منذ توقيع اتفاقيات عسكرية مع الخرطوم تشمل إنشاء قاعدة بحرية روسية على البحر الأحمر. وينظر إلى الفيتو الروسي بأنه يرسل رسالة دعم ضمنية من موسكو للسودان، في انتظار تعزيز السودان تعاونه مع روسيا سياسيًا وعسكريًا.

كما أن استمرار الدعم الروسي قد يشجع السودان على الانضمام إلى تكتلات دولية مثل “بريكس”، بما الأمر الذي يدعم سياسة روسيا في مواجهة الهيمنة الغربية. لكن من جهة أخرى قد يؤدي رد فعل الغرب على الفيتو الروسي إلى تصعيد الأزمات الداخلية، والخارجية التي تواجه السودان.

التحديات المحتملة – وفق المشفقين – تتراوح بين العقوبات الاقتصادية، العزلة الدبلوماسية، وتعزيز دعم المعارضة، غير أن الضغط الغربي على السودان ليس بالأمر الجديد، وقد استطاع النظام السابق في ذروة هذا الضغط أن يستخرج البترول، وينجز مشاريع ضخمة في مجال البنية التحتية، بل تمكن من إنشاء صناعة حربية مكنته من الاكتفاء الذاتي في جانب كبير من احتياجاته، كما تمكن من تصدير الفائض لدول الجوار.

أما الضغط عبر دعم الحركات المدنية المعارضة، سواء من خلال التمويل أو التدريب السياسي، فهو قائم الآن، وما مشروع القرار الأخير، ومن قبل بعثة فولكر إلا جزء من هذا السياق.

لقد بدت بريطانيا غاضبة بسبب إحباط مشروعها في مجلس الأمن، وظهر الغضب البريطاني من خلال تصريحات وزير الخارجية ديفيد لامي الذي قال: “دولة واحدة وقفت في طريق تحدُّث المجلس بصوت واحد. دولة واحدة هي المعرقلة وهي عدوة السلام. إن الفيتو الروسي (عار)”.

ونسي الوزير البريطاني أن بلاده تقف وحدها كثيرًا ضد قرارات أممية لأجل إنقاذ أطفال غزة من الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني الأعزل.

د. ياسر محجوب الحسين
الجزيرة نت

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الحکومة السودانیة الجیش السودانی الفیتو الروسی الأمم المتحدة مشروع القرار الدعم السریع مجلس الأمن من خلال

إقرأ أيضاً:

الدعم السريع: الحكومة الجديدة تهدف لتحقيق السلام والوحدة

سكاي نيوز عربية – أبوظبي/ قال مستشار الدعم السريع، مصطفى محمد إبراهيم، إن الحكومة الموازية في السودان المزمع توقيع ميثاقها السياسي في العاصمة نيروبي، تهدف إلى تحقيق السلام والوحدة في البلد الذي يشهد حربا منذ أبريل 2024 بين الجيش والدعم السريع.

الحكومة الموازية التي يعتزم الدعم السريع ومجموعة من القوى السياسية والحركات المسلحة الإعلان عنها في مناطق سيطرة الدعم السريع، تأتي في وقت عصيب يمر به السودان، حيث تعاني البلاد من انقسام سياسي وحالة من الفوضى الأمنية.

وفي مقابلة مع سكاي نيوز عربية، أؤكد مصطف إبراهيم أن الهدف من الحكومة الجديدة هو "توفير الأمن والخدمات الأساسية" للمواطنين الذين يعانون من التوترات اليومية بسبب النزاعات المسلحة.
في حديثه عن وضع المدنيين، شدد على أن "حماية المواطنين هي الأولوية"، مشيرًا إلى الأضرار الجسيمة التي تسببها العمليات العسكرية، سواء من قبل الجيش أو المليشيات. هذا التركيز على السلام والأمن يعكس وعيًا عميقًا بالتحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه البلاد.

وأثارت خطوة تشكيل حكومة في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع، في ظل وجود حكومة يقودها الجيش في بورتسودان جدلا كبيرا وأدت إلى انقسام في التحالف المدني المؤيد لوقف الحرب الذي كان يعرف بتحالف "تقدم"، وتشكيل تحالف جديد سمي بتحالف "صمود" بقيادة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك الذي اعلن وقوف التحالف الجديد في موقف الحياد.

وأوجد التباين داخل "تقدم" موقفين يرى أحدهما مواصلة النضال بوسائل العمل المدني الديمقراطي دون تشكيل حكومة وتبنته المجموعة التي انضوت تحت "صمود"، وآخر يرى أن تشكيل حكومة هو أحد الأدوات المطلوبة وهو الموقف الذي تبنته المجموعة المجتمعة حاليا في نيروبي.

وأعلنت نحو 60 من الأجسام السياسية والمهنية والأهلية والشخصيات المكونة لتحالف "صمود" في بيان الثلاثاء رفضها لمقترح تشكيل الحكومة الموازية، وقالت إنها ستلتزم طريقاً مستقلاً لا ينحاز لأي من أطراف الحرب ولا ينخرط فيها بأي شكل من الأشكال، وأكدت أنها ستتصدى لكل فعل أو قول يهدد وحدة البلاد ويمزق نسيجها الاجتماعي.

ورأت مجموعة "صمود" إن الخطوة ستعقد أوضاع البلاد التي تمر بحرب "إجرامية خلفت أكبر كارثة إنسانية في العالم ولا زالت رحاها تدور بشكل وحشي يتزايد يوماً بعد يوم، ليدفع ثمنها ملايين السودانيين الأبرياء، ويتكسب منها دعاة الحرب وعناصر النظام السابق الذين يريدون تصفية ثورة ديسمبر واحكام الهيمنة على البلاد، وإعادة إنتاج نسخة أكثر توحشاً من نظامهم الفاشي الإجرامي صاحب الباع الإرهابي الطويل في زعزعة الاستقرار والمجرب ومعروف النتائج والأثار في محيط جوارنا الإقليمي والدولي".

في ظل الأوضاع الميدانية الحالية وتقاسم الجيش وقوات الدعم السريع السيطرة على العاصمة الخرطوم، أثارت الخطوة مخاوف من احتمال ان تؤدي إلى تقسيم السودان.  

مقالات مشابهة

  • الدعم السريع ترقص في احتفال على الجماجم والأشلاء
  • الجيش السوداني يضيق الخناق على مقار الدعم السريع ويحكم سيطرته على كافوري في الخرطوم بحري
  • الدعم السريع: الحكومة الجديدة تهدف لتحقيق السلام والوحدة
  • محمد ناجي الأصم: حكومة الدعم السريع القادمة بلا مشروع
  • كينيا والأزمة السودانية.. وساطة محايدة أم انخراط في الصراع؟
  • على الحكومة السودانية التحلي بروح المسؤولية وممارسة المزيد من الضغوط على ذلك الروتو المرتشي
  • الخارجية السودانية تدين موقف كينيا تجاه الدعم السريع وتتوعد بحماية سيادتها
  • يا شيخ الأمين أنت مع الجيش ولا مع الدعم السريع؟ شاهد الفيديو
  • الحكومة السودانية ينتقد كينيا لتوفير منصة لقوات الدعم السريع لإعلان حكومة منها  
  • تأجيل توقيع ميثاق الحكومة الموالية لـ«الدعم السريع» إلى الجمعة بحضور شقيق «حميدتي» والحلو… واتفاق على تكوين حكومة «تأسيسية» وإعلانها من داخل السودان