إذا قمت بتسخين وعاء من الماء المغلي على النار، ثم وضعت فيه أنبوبا رفيعا، سيخرج منه بخار ساخن يتصاعد بسرعة نحو الهواء. مع الفارق، يمكن أن يكون هذا التشبيه مفيدا لفهم الاكتشاف العلمي غير المسبوق لـ "المداخن الملحية" في البحر الميت.

وهذه المداخن التي اكتشفها فريق بحثي من مركز هيلمهولتز للأبحاث البيئية في ألمانيا، عبارة عن تركيبات جيولوجية فريدة تتشكل نتيجة تصاعد سائل مالح للغاية من أعماق الأرض على هيئة أعمدة تشبه الدخان الأبيض، ولكن، في هذه الحالة، السائل ليس بخارا، بل محلول ملحي كثيف يتبلور فور خروجه إلى مياه البحر الميت المشبعة بالأملاح.

وهذا الاكتشاف، الذي نشر في دورية "ساينس أوف ذا توتال إنفايرومنت"، يعد خطوة هامة لفهم العمليات الجيولوجية في واحدة من أكثر البيئات قسوة على كوكب الأرض، كما يعد مؤشرا على ظاهرة أخطر وهي "الحفر الانهيارية".

وتعتبر المداخن الملحية ظاهرة فريدة ترتبط بتفاعلات تحت سطحية في قاع البحر الميت، الذي يعد بحيرة ملحية مغلقة تقع في منطقة الصدع العظيم بين الأردن والضفة الغربية وإسرائيل.

الجانب الأردني من البحر الميت (بيكسابي) مداخن الملح

وتم اكتشاف هذه المداخن بواسطة فريق بحثي يقوده العالم كريستيان سيبرت، أستاذ الهيدرولوجيا بمركز هيلمهولتز للأبحاث البيئية، الذي قاد عمليات استكشاف في قاع البحر الميت لدراسة هذه الظاهرة الفريدة، معتمدا على أسلوب "غوص السكوبا"، وفيه يستخدم الغواص جهاز تنفس مستقل يحتوي على الهواء المضغوط، مما يسمح له بالتنفس تحت الماء لفترات أطول مقارنة بالغوص العادي. 

ولم تكن هناك أي مؤشرات جيوفيزيائية سابقة على وجود هذه المداخن، مما يجعل هذا الاكتشاف جديدا تماما على المجتمع العلمي، كما قال سيبرت في تصريحات خاصة للجزيرة نت.

وبالإضافة إلى الغوص، استخدم الفريق أدوات تكنولوجية متقدمة مثل القوارب المسيرة السطحية المجهزة بـ"سونار الجوانب"، وأجهزة قياس الأعماق لرسم خرائط تفصيلية لقاع البحر، ومن خلال هذه التقنيات، تمكن الباحثون من تحديد عدة مواقع تحتوي على المداخن الملحية حول موقع الدراسة، كما أوضح في تصريحاته.

مجموعات من المداخن الملحية التي تشكلت في أعماق البحر الميت (ساينس أوف ذا توتال إنفايرومنت) عملية جيوفيزيائية في الأعماق

وتشكلت المداخن الملحية نتيجة لعملية جيوفيزيائية تحدث في أعماق البحر الميت، فالمياه الجوفية المالحة التي تحتوي على أملاح معدنية ذائبة تتسرب عبر الشقوق في قاع البحر، وعندما تلامس هذه المياه السطحية الباردة، مياه البحر الميت، تتبلور المعادن المذابة، مما يؤدي إلى تراكمها على شكل أعمدة ملحية.

وكمية المياه المتسربة التي تساعد على تشكيل هذه المداخن ليست كبيرة بما يكفي لتؤثر على التركيب الكيميائي للبحر الميت بشكل كبير، إلا أن العلماء لا يستبعدون أن تؤدي الكميات الأكبر من المياه المتسربة مستقبلا إلى تغيير في توازن الأملاح في البحر، كما يوضح سيبرت.

ويضيف أن "الأمر الأخطر هو أن هذه المداخن تكون مؤشرا على ظاهرة أخطر تؤثر على البنية التحتية وهي الحفر الانهيارية".

وتكمن أهمية المداخن الملحية في العلاقة بينها وبين تشكيل الحفر الانهيارية في منطقة البحر الميت، التي تؤشر على زيادة احتمالات الانهيارات الأرضية، وهي واحدة من أهم النقاط التي تناولتها الدراسة.

تؤشر مداخن الملح على ارتفاع احتمالات الانهيارات الأرضية (مركز هيلمهولتز للأبحاث البيئية) الحفر الانهيارية

ويقول سيبرت في تصريحه للجزيرة نت "المداخن الملحية تشير إلى عملية تسرب المياه المالحة من الجوف إلى سطح القاع، وهي العملية نفسها المسؤولة عن تكون الحفر الانهيارية، لذلك، فإن المداخن تعتبر علامة تحذيرية على حدوث تآكل في المواد الجيولوجية أسفل قاع البحر، وهو ما يؤدي إلى تكون الحفر الانهيارية".

ويشرح سيبرت هذه العلاقة موضحا أن "الحفر الانهيارية هي أخاديد أو فجوات تنشأ نتيجة لذوبان الصخور تحت الأرض بسبب تسرب المياه المالحة، فعندما تختلط المياه الجوفية المالحة مع الأملاح القابلة للذوبان مثل الهاليت (الملح الصخري)، فإنها تؤدي إلى ذوبان الصخور تحت الأرض وتشكيل فراغات، ومع مرور الوقت، يمكن لهذه الفراغات أن تنهار، مما يؤدي إلى تشكل حفر انهيارية على سطح الأرض، والمداخن الملحية تكون بمثابة دليل على حدوث هذا النوع من التآكل الجيولوجي".

ويضيف أن "هذه الحفر الانهيارية تنتشر حول البحر الميت وتحدث عادة في المناطق القريبة من الشواطئ، وفي بعض الحالات، يمكن أن تظهر في المناطق البعيدة عن البحر، حيث قد يمتد تأثير تسرب المياه المالحة على بعد عدة مئات من الأمتار".

تحديات تواجه البنية التحتية

وتعد " الحفر الانهيارية"، من أكبر التحديات في منطقة البحر الميت لتأثيرها على البنية التحتية والزراعة في المنطقة.

ويقول سيبرت "من المستحيل منع هذه الظاهرة تماما لأنها عملية طبيعية، لكن الطريقة الوحيدة للحد من تأثيراتها هي رفع مستوى البحر الميت، فإذا تم رفع منسوب المياه، فإن ذلك سيمنع تسرب المياه الجوفية إلى قاع البحر، وبالتالي يقلل من تآكل الصخور تحت الأرض".

إلى جانب ذلك، هناك إجراءات وقائية يمكن اتخاذها في المستقبل، مثل مراقبة هذه الظاهرة باستخدام التكنولوجيا الحديثة، مثل الرسم الخرائطي عالي الدقة باستخدام أجهزة السونار والأجهزة الموجهة تحت الماء.

وفي الوقت الحالي، يسعى الفريق البحثي لتقديم طلبات تمويل لاستكمال الدراسات على هذه المداخن الملحية.

ويقول سيبرت: "البحث في هذا المجال يتطلب تقنيات مكلفة لدراسة المياه الجوفية والتفاعلات الكيميائية التي تحدث في أعماق قاع البحر الميت، ومع تقدم الأبحاث، قد تسهم هذه الدراسات في تقديم حلول تقنية للتخفيف من المخاطر المتعلقة بالحفر الانهيارية، وتوفير حماية أفضل للسكان والمزارع والبنية التحتية في المنطقة".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات المیاه الجوفیة البحر المیت تسرب المیاه قاع البحر

إقرأ أيضاً:

رويترز: الألغام الأرضية تشكل تهديدا لرعاة الإبل وقطعانهم في اليمن

تحمل لافتة تحذير من الألغام الأرضية في محافظة مأرب اليمنية رسالة إلى رعاة الإبل بأن خطوتهم التالية قد تكون الأخيرة.

 

وبعد نزوحهم أو اضطرارهم للتحرك على مساحات أصغر بسبب الحرب، يأمل البدو في استعادة أسلوب حياتهم التقليدي الذي يعتمد على الارتحال الدائم، لكن العثور على أرض آمنة للرعي أمر محفوف بالمخاطر.

 

وقال راعي الإبل عجيم سهيل إن الرعي كان أكثر وفرة في الجنوب، لكن هذه المناطق مفخخة بالألغام الأرضية، وحينما تتوجه أي من الدواب إلى الجنوب، ينفجر فيها لغم. وأضاف أن البدو انتقلوا شمالا هربا من حقول الألغام ومناطق القتال.

 

وتخوض جماعة الحوثي اليمنية المتحالفة مع إيران حربا مع تحالف عسكري بقيادة السعودية منذ 2015. وتوقفت عملية السلام التي ترعاها الأمم المتحدة منذ بدء الحرب بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) في قطاع غزة عام 2023.

 

وعلى الرغم من عدم حدوث تصعيد كبير أو تغير في مواقع الخطوط الأمامية منذ سنوات، فإن الأمم المتحدة تحذر من احتمال تجدد العنف.

 

وأظهر تقرير صادر عن هيومن رايتس ووتش عام 2024 أن الألغام الأرضية التي زرعتها الأطراف المتحاربة لا تزال تقتل المدنيين أو تصيبهم في المناطق التي توقف فيها القتال.

 

وقال الراعي صالح القادري “ناحية الحرب، قُريب الحوثيين، الألغام. هاذي أول مشكلة إلنا”.

 

ووثق تقرير صادر عن منظمة مواطنة وهي منظمة محلية لحقوق الإنسان 537 واقعة لاستخدام للألغام الأرضية في الفترة من يناير كانون الثاني 2016 إلى مارس آذار 2024.

 

وقال عابد الثور المسؤول في وزارة الدفاع التابعة للحوثيين لرويترز إن الجماعة ليست مسؤولة عن زراعة الألغام في محافظة مأرب، وأضاف أن “المرتزقة” هم من زرعوها هناك، وهو المصطلح الذي يستخدمه الحوثيون في وصف خصومهم في الحرب الأهلية. وأضاف أن الألغام زُرعت لإبطاء تقدم الحوثيين هناك.

 

وأفاد برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بأن الألغام الأرضية ومخلفات الحرب القابلة للانفجار تشكل خطرا جسيما على ملايين الأشخاص في جميع أنحاء اليمن.

 

وتعد محافظة مأرب في وسط اليمن واحدة من المحافظات الأكثر تضررا، إذ يقول الرعاة إنهم مجبرون على البقاء في خيامهم خوفا من الألغام الأرضية وعلى تحريك جمالهم في نطاق ضيق.

 

وقال راعي الإبل سعيد أونيج إنهم إذا تركوا الإبل ترعى بلا قيود، فقد تتجه نحو الألغام الأرضية وتخطو عليها، مما يؤدي إلى انفجارها.


مقالات مشابهة

  • سيدة تستنسخ كلبها الميت وتدفع 22 ألف دولار
  • عبد المسيح: العدالة الأرضية تمت بزوال المجرم
  • مليشيا الدعم السريع الإرهابية تستهدف قاعدة مروي الجوية والمضادات الأرضية تتصدّى
  • خبير: المد والجزر في البحر الأحمر ينقي المياه ويعزز جاذبية الشواطئ
  • هل تبقى روح الميت في بيته بعد الوفاة؟.. علي جمعة يوضح الحقيقة
  • الطرق الصوفية المصرية تدين.. تكفيريون هاجموا رواق الإمام الرفاعى بالأردن وإصابة 20
  • أستاذة مقارنة الأديان بجامعة الزقازيق لـ "البوابة نيوز": الحضارة الإسلامية قدمت نموذجًا مبكرًا لاحترام التعددية الثقافية.. ورمضان فرصة للتقارب والتسامح
  • كم يومًا تبقى روح الميت في بيته؟ أسرار البرزخ والعلماء يحسمون الجدل
  • تقرير: الألغام الأرضية تهدد حياة رعاة الإبل في اليمن
  • رويترز: الألغام الأرضية تشكل تهديدا لرعاة الإبل وقطعانهم في اليمن