مما يزيد في صدق كتابة الإنسان وجعل ما يكتبه يلامس قلوب القراء، معايشته تفاصيل القضية التي يكتب عنها، سواء فرحا أو حزنا، وإلا سيقل تأثير الكاتب بالقرّاء، وسيفتقدون دسم الدهشة في كلماته.
حاولتُ مرارا الكتابة عن تجربة النزوح والنازحين، لم يكن الأمر سهلا، ولم تسعفني الكلمات؛ لأني لم أكن أحد أعضائها بالمعنى الدقيق للكلمة بعد، صحيح أنني كنتُ مسئولا عن مخيم أمير للنازحين في محافظة رفح جنوب قطاع غزة، لكن لم أعش بخيمة، على اعتبار أن محافظتي لم يصلها إشعار بالإخلاء بعد، وهنا يمكن الاستعانة بالمثل الشعبي القائل "الشوف مش زي الخراف" يعني "من يرى ليس كمن يسمع".
أما منذ شهر أيار/ مايو 2024 إلى الآن -وإلى أجلٍ غير مسمى- فقد دخلتُ نادي النازحين بما فيه من ألمٍ ومعاناة، فالآن أكتبُ ودمعُ العينِ ينسكبُ عن تجربةِ النزوح.
فالنزوحُ أيها السادة ليست كلمة تُقال، أو فعلا يمارسه الإنسان وهو في كامل الفرح والسرور، بل يمارسه وهو في كامل القهر والحرمان، وهو أن يخرج من بيته بعد وصول إخطار له من طائرات الاحتلال، أو وصول صواريخ الاحتلال لتجبره دونما تفكير على إخلاء بيته أو منطقة سكناه ليصبح هائما على وجهه يبحث عن مأوى له ولعائلته، وهنا يُصاب الإنسان بالخوفِ والقهر حين يشعر بأن عليه إخلاء بيته الذي بناه على مدار سنوات، وله في كل ركنٍ درايةٌ ورواية.
لقد كنت مسئولا عن مخيم أمير للنازحين في محافظة رفح جنوب قطاع غزة، والذي يحتوي على 100 خيمة بعدد أفراد يصل إلى 800 شخص، ولكل فرد احتياجات حسب سنه وجنسه.
كنت أتابع أمورهم باهتمام وتلبية ما يمكن من احتياجاتهم من خلال التواصل مع المؤسسات المانحة والداعمة، كما كنا ننفذ أنشطة ترفيهية خاصة بالأطفال وندوات توعوية للنساء، وفتحنا مركزا لتحفيظ القرآن كان مقره في الطابق الثاني من بيتي حتى نشعرهم بالأمان.
كنت أرى في أعينهم الأسى وأستمع لقصصهم فلكل إنسان قصة، منهم من كان يتجهز للسكن في شقته الجديدة الجاهزة لكن الحرب لم تمهله، ومنهم من لم يمر على سكنه في شقته سوى أيام أو أشهر قليلة، ومنهم من لم ينته من تجهيز بيته، ومنهم من لم يسدد أقساط بيته الجديد بعد، ولكل نازح رواية لا تكفي لسردها ألف ليلة وليلة.
وبالعودة لعنوان المقال، فـ"أن تكون نازحا!"، يعني:
- أن تبدأ رحلة البحث عن مقومات الحياة من مأكل ومشرب وملبس منذ طلوع الشمس حتى بعد غروبها، وأبسط مثال قد تمشي مسافة نصف كيلومتر حتى توفر عبوة ماء.
- أن تقضي وقتا طويلا في البحث عن الحطب والكرتون لمعاونة زوجتك في صناعة الخبز لأطفالك في ظل انعدام الغاز.
- أن تبقى لمدة أسبوعين وأكثر دون استحمام، وملابسك دون تبديل؛ لأنك لم تتمكن من إحضار ملابسك كاملة حين غادرت منزلك..
- أن قضاء حاجتك يسبب لك حرجا، فكل مخيم فيه حمام عام، ودخولك أنت أو أحد أفراد أسرتك للحمام يشعركم بالحرج خاصة النساء، وحتى الحمامات التي تكون داخل الخيمة تخضع لقانون الدور والترتيب.
- إن معاناتك تتفاقم بوجود أطفال ومرضى وكبار السن، فجميعهم يحتاجون لطعام خاص ورعاية خاصة وهدوء وراحة، وهذه الأمور يتعذر توفرها دوما.
- ألا تشعر بالأيام وهي تمر سريعا، فما أن يبدأ الأسبوع حتى ينتهي، وربما هي نعمة.
- أن تهتم بمتابعة الأخبار لتعرف أين وصلت الأمور، ثم تصاب بخيبة أمل حين لا تأتي الأخبار بما يسر القلب.
- أن تصبح خبيرا بكل أنواع الطقوس المجتمعية التي كانت في بلدك وأنت لا تعرفها.
- أن تفرق بين المهم والأهم، والضروري العاجل والضروري غير العاجل.
- أن تدرك أن قيمة المرء فيما يحسنه.
- أن تتأكد بأنك قد تصبح الشهيد التالي.
لكن رغم المصائب في غزة، وخاصة في مخيمات النزوح، رأينا الأمل والعزة والفخر في نفوس الناس فمنهم من تزوج في الخيمة، ومن ناقش رسالة الماجستير في الخيمة، ومن وضعت مولودها في الخيمة، وحفظ القرآن في الخيمة، ومنهن من تَكوّن في رحمها جنينٌ وهي في الخيمة، ومنهم من أكمل فصله الأخير في الجامعة للحصول على بكالوريوس تربية إسلامية وهو في خيمة مثل كاتب هذا المقال.
إجمالا، ما سبق هو غيض من فيض مما نعانيه في مخيمات النزوح، لكن يبقى أملنا بالله قويا ليرزقنا نصرا مؤزرا قريبا عاجلا إن شاء الله، رغم عواصف الشتاء.
وللحديث بقية مع الجرح الثالث من جروح النزوح.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه النزوح مخيم غزة النازحين الاحتلال احتلال غزة نازحين نزوح مخيم مدونات مدونات مدونات مدونات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی الخیمة ومنهم من
إقرأ أيضاً:
السودانيون في إثيوبيا بين تحديات النزوح ومعيقات العودة إلى الوطن
أديس أبابا- بعد عامين على اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، يعيش آلاف النازحين السودانيين في إثيوبيا أوضاعًا معقدة، تجمع بين آمال العودة ومخاوف المستقبل.
يُقدّر عدد السودانيين الذين عبروا الحدود إلى إثيوبيا منذ اندلاع الحرب بعشرات الآلاف، توزعوا على إقليمي بني شنقول-غومز وأمهرة، إضافة إلى العاصمة أديس أبابا.
ويواجه النازحون نقصا حادا في الموارد اللازمة للعودة، كتكاليف النقل، والقدرة على إعادة إعمار منازلهم التي تهدَّمت أو نُهبت، كما أن غياب برامج دعم مالي مباشر يجعل من العودة حلما مؤجلاً.
ويقول المختص بالشؤون السودانية، الدكتور هاشم علي حامد للجزيرة نت، إن النازحين في دول الجوار السوداني يواجهون العديد من التحديات، أبرزها؛ السكن وتكاليف المعيشة والإقامة، إضافة إلى صعوبة الاندماج بسبب عدم معرفتهم اللغة وثقافات تلك الدول.
ويضيف علي حامد، أن النازحين السودانيين في إثيوبيا، صرفوا كل مدخراتهم من أجل السكن والمعيشة، ورسوم التأشيرة التي تجدد شهريا، ما جعل فكرة العودة إلى المناطق المحررة من السودان صعبة للغاية.
ويشكو نازحون غياب آلية واضحة للعودة، إذ تصطدم محاولاتهم بإجراءات حدودية معقَّدة، أو متطلبات قانونية صارمة تتعلق بالإقامة والمخالفات الإدارية خلال فترة نزوحهم.
إعلانوتمنَّى النازح من الخرطوم-الحلة الجديدة، محمد هاشم كمبال، وبعد انتصار القوات المسلحة السودانية، العودة إلى بلاده، وقال للجزيرة نت: إنه ومنذ فراره من الحرب إلى إثيوبيا واجه معاناة كبيرة، وقضى أياما في المساجد والطرقات، لافتا إلى أن تعاضد السودانيين مع بعضهم بعضا ساعده كثيرا في توفير الاحتياجات.
أما النازح من أم درمان، أحمد محمد ياسين، فهو ينتظر تحرير "كل شبر بالسودان" حسب قوله، ليعود ويعيش بأمان. ويقول للجزيرة نت: إنه يتكلف كثيرا بدفعه 100 دولار كل شهر رسومَ تأشيرة وإقامة للسلطات الإثيوبية، إضافة إلى الضروريات الأخرى.
ويضيف إنه وبالرغم من أن المجتمع الإثيوبي "منفتح ويحترم الجميع"، إلا أن تكاليف العيش عالية بالنسبة لهم كنازحي حرب، تركوا خلفهم كل شيء وهاجروا.
دور المنظماتوفي ظل هذه التحديات، يضع النازحون السودانيون آمالهم في جهود المنظمات الإنسانية والهيئات الطوعية التي تسعى إلى تأمين احتياجاتهم الأساسية، أو تسهيل عودتهم بتوفير الدعم اللوجستي والمالي.
كما تتجه الأنظار إلى إمكانية تنسيق مباشر وفعَّال بين الحكومتين الإثيوبية والسودانية، لتطوير خطة عودة طوعية منظمة، تضمن كرامة وأمان العائدين.
وعن إمكانية أي دعم يمكن أن يحظى به النازحون السودانيون من المنظمات الدولية والإقليمية لتسهيل عودة طوعية، قال المختص علي حامد، إن بعضهم بدأ يطرق أبواب المنظمات والسفارات أملا في من يهتم بهم ويعمل لإعادتهم طواعية.
لكن ذلك -حسب علي حامد- يتطلب تنسيقا بين البلدين، لتنظيم عودة آمنة لهم، برا، خاصة في ظل الاشتباكات بين "مليشيا الفانو" والقوات الحكومية بإقليم أمهرة الحدودي مع السودان.
ويقول النازح من محلية نيرتتي في ولاية شمال دافور، صابر آدم، إن الوضع "مؤلم" للسودانيين في كل مكان نزحوا إليه، وأشار إلى أنه يعاني كثيرا، وطالب المنظمات الدولية للمساهمة في إعادة السودانيين إلى بلادهم، خاصة أنهم فقدوا كل شيء، ولم يعودوا يمتلكون ما يمكّنهم من العودة إلى السودان، وهو يكلف كثيرا.
إعلانورغم مرور وقت طويل نسبيا على وجودهم في إثيوبيا، فإن أوضاع النازحين القانونية لا تزال هشة، ويعاني كثيرون صعوبات في الحصول على وثائق إقامة أو تصاريح عمل، ما يؤثر على ظروفهم القانونية والاقتصادية.
وبين نار الحرب والعودة إلى الوطن، يقف النازح السوداني في إثيوبيا أمام معادلة صعبة، فالعودة لم تعد مجرد قرار شخصي، بل ترتبط بتشابكات سياسية وأمنية وإنسانية تتطلب استجابة دولية فاعلة وتنسيقًا إقليميا عالي المستوى، وحتى يحدث ذلك، تبقى أحلام العودة معلقة، تنتظر من ينتشلها من واقع التشرد والشتات.
جهود دبلوماسيةوبينما تستمر الأزمة الإنسانية في السودان، يجد آلاف السودانيين أنفسهم عالقين في إثيوبيا، بين نار الحرب في وطنهم، ومأزق التأشيرات والرسوم الشهرية الباهظة التي تثقل كاهلهم.
وتبذل السفارة السودانية في أديس أبابا جهودا دبلوماسية مكثفة لتسهيل عودتهم الطوعية إلى مناطق آمنة، بعد استعادة الجيش السوداني السيطرة على بعض الولايات.
ووفق تصريحات مسؤول الشؤون القنصلية في السفارة السودانية في إثيوبيا، عوض ميرغني محمود، فإن عدد السودانيين العالقين في أديس أبابا يتراوح بين 3 و4 آلاف شخص، دخل معظمهم من مطار "بولي الدولي" بتأشيرات سياحية، لافتا إلى صعوبة تقديم إحصاءات دقيقة للقادمين عبر معابر أخرى، سوى القادمين عبر المطار المذكور.
وقال المسؤول محمود للجزيرة نت: إنهم تباحثوا مكثفا مع السلطات الإثيوبية، وخاصة وزارة الخارجية وإدارة الجوازات والهجرة، للمطالبة بتجديد الإعفاء من رسوم التأشيرة الذي كان سارياً من فبراير/شباط إلى سبتمبر/أيلول من العام الماضي، كما تم التنسيق مع جهات عدة لدعم العودة الطوعية.
وكشف عن اتصالات بالحكومة الإثيوبية لزيارة مرتقبة لوفد سوداني رسمي من الجهات المختصة، للتشاور معها في إعفاء السودانيين من رسوم تجديد التأشيرة الشهرية.
إعلانوأوضح أن 1500 مواطن سوداني قد سجلوا أسماءهم في قوائم الراغبين في العودة، خاصة بعد تحسن الأوضاع الأمنية وسيطرة الجيش السوداني على العاصمة والمدن الأخرى، موضحا أن الخطوة وجدت تجاوبا كبيرا من الحكومة الإثيوبية.
وأكد أن السفارة والجالية السودانية تقوم "بجهود كبيرة"، حيث تم حصر الذين يرغبون في العودة الطوعية، وطالب العديد من السودانيين بالعودة إلى بلادهم.
بينما ناشد آخرون رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، تسهيل عودة السودانيين في إثيوبيا إلى بلادهم، وإلغاء رسوم التأشيرات الشهرية.
وحسب السفارة السودانية في أديس أبابا، فإن البعثة الدبلوماسية السودانية، كانت قد عقدت اجتماعات بالسلطات الإثيوبية، وبعثت بمذكرات دعت فيها إلى تجديد الإعفاء من رسوم الإقامة التي كانت مفعّلة حتى سبتمبر/أيلول 2024، وذلك لتمكين ما يقارب 4 آلاف نازح سوداني من العودة إلى ديارهم، ولا تزال الجهود مبذولة من السلطات الإثيوبية لمعالجة الأمر إلا أنه لم يصدر قرار بذلك حتى اللحظة.