ترامب في عصر نهاية الاستثناء الأميركي
تاريخ النشر: 20th, November 2024 GMT
في توصيف أهمّ أحداث الساعة، قد لا نبالغ إذا قلنا إن دونالد ترامب انتصر حقًا في مرحلة نهاية الاستثناء الأميركي، الذي تراجع تمامًا في الحدث الفلسطيني. إذ رأيناها راعية للإبادة وسفيرة للموت، يشهد بذلك عهد الرئيس جو بايدن، الذي ظهرت فيه إدارته واهنة، متواطئة، ومخادعة على نحو أفقدها الثقة والاحترام في المجتمع الدولي بدرجة غير مسبوقة.
صحيح أن اختيار الشعب الأميركي واجب الاحترام وهو المعني الأول بالأمر، لكن حظنا العاثر شاء أن يؤدي ذلك الاختيار، في الزمن الذي نعيشه، إلى تعميق جراحنا وتلويثها. ذلك أن مؤشرات الرعاية الأميركية وتبنيها مخططات وطموحات الحركة الصهيونية، فتحت الأبواب واسعة لشرور لا حصر لها في العالم العربي، وما يحدث في غزة مقدمة صادمة لنا لا تخطئها العين.
كان مفهومًا أن تفقد الحكومة الإسرائيلية توازنها بعدما فوجئت بالهزيمة التي تلقتها يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، لكن ما جرى منذ اليوم التالي مباشرة أن الإدارة الأميركية أصيبت بما يشبه الذعر واللوثة، فتصرّفت لا باعتبارها مساندةً أو حتى شريكًا، وإنما باعتبارها كفيلًا حمل على عاتقه ليس فقط مسؤولية خوض المعركة إلى جانب إسرائيل، بل ضامنة لنتائجها أيضًا.
فلم تعمد إلى إغراق إسرائيل بالمال والسلاح والذخيرة فحسب، وإنما استخدمت نفوذها للضغط على حلفائها الغربيين، وتحييد أنظمة العالم العربي، وتعطيل دور المنظمات الدولية، وخداع الدول المعنية، وتعبئة الرأي العام وتضليله لصالح إسرائيل من خلال الترويج لأكاذيبها في شيطنة الفلسطينيين.
بل وسعت إلى إطالة أمد الحرب لتمكين إسرائيل من بلوغ أهدافها، حتى استخدمت «الفيتو» ثلاث مرات؛ لمنع مجلس الأمن من إصدار قرار بوقف إنساني للقتال. وقد مررت سريعًا على تلك العناوين للتذكير فقط، لأن التفاصيل التي تابعناها على البث المباشر ملأت الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي طوال العام المنقضي.
الخلاصة أن الدعم غير المسبوق الذي قدمته إدارة بايدن لإسرائيل ظهر بوضوح في اليوم التالي لطوفان الأقصى؛ إذ لم يكتفِ ما أعلنه الرئيس بايدن عن صهيونيته، ودعمه «المتين والمطلق»، بإرسال تعزيزات قتالية وعسكرية لإسرائيل، وإنما تحول إلى بوق للأكاذيب الإسرائيلية، مدعيًا أنه رأى بأم عينيه صور أطفال رضع إسرائيليين قطعت المقاومة الفلسطينية رؤوسهم، وهو ما أحرج البيت الأبيض، حتى اضطر متحدث باسمه إلى «توضيح» أو سحب الادعاء الكاذب.
ولم تمضِ أيام قليلة حتى كان وزير خارجية بلاده أنتوني بلينكن في تل أبيب، بصفته الرسمية ولكن كيهودي أيضًا. وبصفته المزدوجة تلك، فإنه ظل يتفنن في الكذب والتضليل الذي لا يليق بدبلوماسي محترف، فضلًا عن ممثل لدولة كبرى.
هذا الموقف الأميركي كان له صداه في عدة اتجاهات. فقد كان بمثابة إعطاء ضوء أخضر وغطاء شرعي وسياسي لإسرائيل لكي تمارس كل جرائمها، وتذهب في ذلك إلى أبعد مدى، غير مبالية بالقانون الدولي الإنساني، أو بالأمم المتحدة، أو العدالة والمنظمات الدولية أو حتى بالرئيس الأميركي نفسه.
كما كان مشجعًا لأهم الدول الغربية لكي تغض الطرف عن تجاوزات إسرائيل وجرائمها، فضلًا عن أنه كان حافزًا لتحييد النظام العربي ودوله استجابةً للضغوط التي مارستها عليها واشنطن.
لا ريب في أن مفاجأة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، أشاعت فرحة عارمة في عالم الفلسطينيين وعموم العرب، حتى إن كثيرين رفعوا سقف الأحلام عاليًا، واعتبروا ذلك من علامات التمهيد لتحقيق حلم عودة الوطن السليب.
وكان من أهم دواعي الفرحة أن ما جرى يومذاك كان يجسد لأول مرة هزيمة الجيش الإسرائيلي في مواجهة المقاومة الفلسطينية. ولكن دخول الإدارة الأميركية بكثافة على الخط، ابتداء من 8 أكتوبر/ تشرين الأول، أحدث تحولًا دراميًا كبيرًا في موازين المعركة غير المتكافئة بطبيعة الحال؛ إذ أصبحت المقاومة الفلسطينية مشتبكة مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
فتبددت بذلك نشوة الفلسطينيين بمضي الوقت، بعد أن ألقت واشنطن بثقلها في المعركة كأنها تخوض حربًا عالمية ثالثة، بينما وقف العالم العربي الذي اعتبر فلسطين قضيته الرئيسية متفرجًا لا يحرك ساكنًا، سواء بالإسناد أو بالإغاثة.
حسب تقرير لجامعة براون الأميركية، والذي نشرته «تايمز أوف إسرائيل» في 7 أكتوبر/ تشرين الأول، أرسلت إدارة بايدن مساعدات عسكرية خلال عام القتال في غزة بقيمة 17.9 مليار دولار، وهو أعلى رقم قُدم لإسرائيل في عام واحد.
كما سلمتها قنابل خارقة للأقبية زنة الواحدة منها 2000 رطل (والتي أُلقي 80 قنبلة منها لاغتيال السيد حسن نصر الله)، كما أنها أنفقت 4 مليارات دولار لتجديد القبة الحديدية وأنظمة الدفاع الصاروخي. وهذه البيانات متاحة حسب التقرير، لأن إدارة بايدن لم تكشف عن حجم المساعدات التي قُدمت بوسائل أخرى إلى إسرائيل.
هذه المساندة العسكرية الأميركية الكبيرة كان لها مردودها في ثلاثة اتجاهات:
أولًا: شجعت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على التشدد والتمادي في موقفه التفاوضي الذي رفض فيه مطالب المقاومة الأساسية، وفي مقدمتها وقف القتال الكامل، والانسحاب من كل القطاع، وعودة المهجرين غير المشروط إلى دورهم. ومن ثم أطلقت يد نتنياهو إلى أبعد مدى في الحرب، بما في ذلك تنشيط حملة الإبادة والتهجير من القطاع. ثانيًا: أقدمت إسرائيل على تحدي النظام الدولي ممثلًا في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية التابعة لها مع الازدراء بالقانون الدولي. ومن ثم عدم المبالاة أو الاكتراث بالمحكمة الجنائية الدولية أو محكمة العدل الدولية. وهو ما أدى إلى إصدار قانون يحظر وجود وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) في إسرائيل، ورفض استقبال الأمين العام للأمم المتحدة إلى إسرائيل واعتباره شخصًا غير مرغوب فيه، حتى إن ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة دعا إلى إلغائها وهدم مبناها في واشنطن. ثالثًا: أدت تلك الأجواء إلى زيادة قوة وشعبية أحزاب اليمين المتطرف في الساحة الإسرائيلية. إذ لم تعلن فقط ضرورة استمرار الحرب، واحتلال غزة، ونشر المستوطنات، وبسط السلطة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وإنما ذهب أحد وزراء الحكومة، بتسلئيل سموتريتش، إلى أبعد مدى، حين تحدث عن إقامة دولة يهودية تضم ست دول عربية. وإذ تصور نتنياهو أنه صار صاحب اليد الطولى في المنطقة، فإنه رفع صوته عاليًا متحدثًا عن تغيير خرائط منطقة الشرق الأوسط؛ لكي تواكب التغيير الإستراتيجي القادم في ربوعه.في هذه الأجواء ظهر الرئيس الأميركي الجديد، الذي أجمعت التقارير على أن نتنياهو كان في انتظاره، ويعول الكثير على تسلمه منصبه في شهر يناير/ كانون الثاني القادم، حتى قرأت في أحد التعليقات أن رئيس الوزراء الإسرائيلي سيعتبر نفسه منتصرًا بمجرد وجوده في البيت الأبيض، وهو ما لا أستبعده؛ لأن سجل الرجل في ولايته الأولى يؤيد ذلك.
فهو صاحب فكرة صفقة القرن، الذي اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، كما اعترف بضم الجولان السوري المحتل لدولة الاحتلال، وله باعه المشهور في ميلاد اتفاقات أبراهام، فضلًا عن أنه عبّر عن عدم ارتياحه؛ لصغر حجم إسرائيل، وتمنى لها أن تنجح في حل ذلك في الفضاء العربي الرحب، الذي يُذكر له كرمه مع «الأغيار».
وفي ضوء تلك الخلفية، فلنا أن نقول إن الرئيس بايدن إذا كان قد أعلن عن هواه الصهيوني ورفع سقف طموحات نتنياهو عاليًا، فإن خلفه ترامب من متعصبي ذلك المذهب. والفرق بينه وبين سلفه، أن الأول أعلن عن اعتقاده علنًا، في حين أن الثاني حريص على أن يؤكد وفاءه وغيرته بالأفعال المتلاحقة التي عبرت عن استدامة موقفه.
وكان ذلك واضحًا بشدة في ترشيحاته لفريق عمله بعد استلامه السلطة، حيث ضم عناصر من المتطرفين الموالين لإسرائيل. ورد عليه نتنياهو بالمثل حين عين المستوطن المتطرف يحيئيل ليتر سفيرًا لبلاده في واشنطن، الذي كان عضوًا في جماعة كاهانا التي كانت مصنفة أميركيًا بالإرهابية.
أما أكثر ما يقلقنا في العالم العربي، فهو مزايدتُه في الانحياز لإسرائيل وعداؤُه للفلسطينيين الذي عبّر عنه في ولايته الأولى، الذي انضافت إليه أجندة قوى اليمين الصهيونية الحاكمة في الوقت الراهن، التي لا سقف لطموحاتها وتوسعاتها لما يُسميه دولة اليهود التوراتية المتجاوزة لأرض فلسطين.
ومن مقتضى تلك السياسة أن يؤدّي إلى قهر الفلسطينيين، والضغط على الدول العربية أولًا لتوسيع نطاق التطبيع، ويؤدي ثانيًا لاستخدام «الحلفاء» العرب في ممارسة الضغط لصالح الطرف الإسرائيلي. كما يقتضي ثالثًا اللجوء إلى قطع الطريق على إيران وتصفية نفوذها أيًا كان شكله في المنطقة.
ومن شأن ذلك أن تصبح اليد العليا لإسرائيل في الشرق الأوسط، بحيث يتسع نطاق التطبيع، مما يفضي في نهاية المطاف إلى الدخول في طور التركيع. وهي ليست قراءة للمستقبل، لكنه مجرد احتمال يستدعي القلق والاستنفار، مبني على تصريحات تتناقلها وسائل الإعلام لوزراء ومسؤولين في الحكومة الإسرائيلية.
وذلك الاحتمال لم يستبعده خبير معروف كالسيد عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية ووزير خارجية مصر السابق. إذ أدلى بحديث مطول لصحيفة المصري اليوم التي أبرزت على صدر صفحتها الأولى في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني عناوين جاء فيها: «التوسع الإسرائيلي يهدد السعودية ومصر» و«ما قلته عن مخططات الاحتلال معلومات وليس رأيًا».
إن العمل مستمرٌّ على قدم وساق لتغيير الحقائق على الأرض في غزة ومحيطها؛ لكي يتسلم ترامب منصبه على واقع جديد تُجرى المساومة عليه. وإجراءات ضم الضفة وإغراقها بالمستوطنات لم تعد تمنيات تتحدث عنها الصحف؛ لأن شركات المقاولات الإسرائيلية المدنية تزرع أعمدة الإسمنت في أرجاء القطاع، وأخرى تحاول تسويق وبيع أراضٍ فلسطينية لليهود في كندا وشمال الولايات المتحدة الأميركية.
ونشطاء الأحزاب التوراتية يعتبرون أنفسهم سائرين على طريق إقامة دولة اليهود التي تستعيد ما يسمونه أرض إسرائيل. ولا غرابة في أنهم يعتبرون أن الظروف مواتية لهم محليًا وغربيًا وإقليميًا، أقله من حيث إنهم لا يرون قوة معتبرة في الكرة الأرضية تضغط عليهم لوقف تقدمهم.
وإذا ما عنّ لأحد أن يتساءل: ماذا يكون الرد على ما يُحاك لنا؟ فربما تطوع أحد حسن النية بالرد قائلًا إن القمة العربية الإسلامية أصدرت بيانًا قويًا في ذلك عقب اجتماع الرياض في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، دعت فيه المجتمع الدولي، ضمن أمور أخرى، لأن يقوم بما عليه في الموضوع.
وإذ لاحظت أن حديث سموتريتش، الوزير الإسرائيلي السابق ذكره، تزامن مع القمة، والذي دعا فيه إلى ضم الضفة لإسرائيل في العام القادم، فإن تعقيبي على ما قيل يتلخص في أن ذلك البيان، الذي احتفى به الإعلام العربي، يعد بمثابة شهادة غياب لا تستر العورة ولا يُعول عليها. ومن ثم، فمكانها في الأرشيف بالكاد.
لذلك لم يعد أمامنا سوى أن نتضرع إلى الله، راجين أن يشملنا بواسع رحمته إكرامًا لدماء الشهداء وأشلائهم، وليس بعدله، الذي لا يفوز به إلا من يستحقه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات العالم العربی تشرین الأول إسرائیل فی
إقرأ أيضاً:
هذه هي المخططات الخفية التي تُدبّرها إسرائيل لتركيا
لم يعد اليمين الأكثر تطرفًا في إسرائيل، يبدي أي قدرٍ من الحياء أو التحسب والحذر، وهو يبوح بما يختزنه في عقله الأسود، من مخططات ومشاريع، تكاد تطال مختلف دول المنطقة ومجتمعاتها، وتمسّ بالعمق، أمنها واستقرارها وسيادتها وسلامة أراضيها ووحدة شعوبها.
آخر الصيحات التي خرجت من أفواه قادته، جاءت على لسان الوزير جدعون ساعر، ودعوته لتشكيل "حلف أقليات" في الإقليم، تستند إليه إسرائيل في استهداف أعدائها من شرقي المتوسط إلى ضفاف قزوين.
لم يكن الرجل قد قضى سوى أيام قلائل، في منصبه على رأس وزارة الخارجية، إثر انقلاب نتنياهو على وزير دفاعه، حتى بدأ يُلقي على مسامعنا، بعضًا من فصول "نظرته الإستراتيجية" للإقليم، الذي تشكل إسرائيل فيه، "أقلية وسط أغلبية معادية"، مُقترحًا البحث عن "مُشتركات" مع أقليات أخرى، بدءًا بدروز سوريا ولبنان، وليس انتهاء بأكراد سوريا، والعراق، وتركيا، وإيران، فاللعب على ورقة "المكونات"، كفيل بجعل إسرائيل، "أكبر الأقليات وأقواها"، في فسيفساء المشرق العربي وهلاله الخصيب ودول الجوار الإقليمي للأمة العربية.
الأمر الذي يدفع على الاعتقاد الجازم، بأن ساعر لم يعرض سوى رأس جبل الجليد من مشروعه لـ "تجزئة المجزَّأ"، في حين ظل الجزء الأكبر منه، غاطسًا تحت السطح، وهو بالقطع، يشمل مختلف "المكونات" الاجتماعية في دول المشرق وجوارها الإقليمي.
وبالنظر إلى السياق الذي طُرح فيه، "حلف الأقليات" وتوقيت هذا الطرح، يمكن الافتراض، بأن تركيا، قبل غيرها، وأكثر من غيرها من الدول المستهدفة، هي الحلقة الأولى في إستراتيجية التفكيك المنهجي المنظم، لبنية هذه المجتمعات ووحدة وسلامة أراضي هذه الدول.
فأنقرة، رفعت وتيرة انتقاداتها لحرب إسرائيل البربرية على غزة ولبنان، وهي تقدم حماس والجهاد وبقية الفصائل الفلسطينية، بوصفها حركات تحرر وطني مشروعة، في مواجهة "طوفان الشيطنة" و"حرب الإلغاء" اللذين تتعرض له من قبل آلة "البروباغندا" الإسرائيلية، المدعومة من قبل أوساط غربية وإقليمية وازنة.
ولعلّ هذا ما تنبهت إليه القيادة التركية، مبكرًا وقبل أن يُخرج ساعر ما في جوفه، عندما بدأت التحذير من مغبة تطاير شرارات الحرب إلى سوريا، وعلى مقربة من حدودها، بل وإبداء الاستعداد لمواجهة تركية – إسرائيلية إن تدحرجت كرة النار، وعجز المجتمع الدولي عن وقفها.
وفي كل مرة صدرت فيها عن أنقرة، تحذيرات من هذا النوع، كانت أنظار المسؤولين والناطقين باسمها، تتجه إلى لعبة "المكونات" التي تريد إسرائيل فرضها على الإقليم، بدعم وإسناد من دوائر غربية عديدة، وتحت حجج وذرائع ومزاعم شتى.
مبادرتان استباقيتانفي هذا السياق، يمكن النظر إلى المبادرات الاستباقية الأخيرة التي صدرت عن أنقرة، وأهمها اثنتان: الأولى؛ داخلية، وصدرت عن دولت بهتشلي، حليف أردوغان وزعيم الحركة القومية و"ذئابها الرمادية"، الرامية لإغلاق ملف المصالحة بين أتراك تركيا وكردها، وهي مبادرة كانت مفاجئة لجهة توقيتها والجهة التي صدرت عنها، وسط قناعة عامة بأنها لم تأتِ منبتّة عن السياق الإقليمي، وانفلات "التوحش" الإسرائيلي من كل عقال، وأنها لم تأتِ من دون تنسيق مسبق بين الحليفين: بهتشلي وأردوغان.
صحيح أن المبادرة، فجّرت قلق خصومها الداخليين، بالذات على "ضفتي التطرف القومي" الكردي – التركي، وأنها أثارت انقسامًا بين "تيار قنديل" داخل أكراد المنطقة، وتيار المصالحة والاعتدال، الذي يُعتقد أن عبدالله أوجلان، يقف على رأسه، من مَحبَسه على جزيرة "إمرالي".
وصحيح أن خصوم المصالحة عملوا على تفجير مركبها قبل إبحاره وسط تلاطم أمواج المواقف والمصالح المتناقضة، بدلالة الهجوم على شركة "توساش" في قلب العاصمة التركية في الثالث والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وما أعقبه من تصعيد في العمليات طال مناطق داخل تركيا وخارجها (سوريا والعراق).. لكن الصحيح كذلك، أن قطار المبادرة ما زال على سكته، رغم العرقلة، وأنه قد يواصل مسيره، ما دام أن وجهته النهائية، تحصين الداخل التركي في مواجهة مؤامرات التفكيك.
أما المبادرة الثانية؛ فسابقة على تطورات الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، وإن كانت اكتسبت زخمًا إضافيًا في الأسابيع الأخيرة، والمقصود بها، الرغبة التركية الجارفة بالمصالحة مع دمشق، وعروض الرئيس التركي المتكررة، للقاء الأسد، وإغلاق صفحات الخلاف (الصراع) بين البلدين.. وهي المبادرة، المدفوعة بجملة من الحسابات والاعتبارات التركية، من بينها قضية اللاجئين السوريين، وأهمها "المسألة الكردية".
والحقيقة أن أنقرة، لم تكن بحاجة لأن تنتظر جدعون ساعر ليخرج ما في "صندوقه الأسود" من مشاريع طافحة بالعدائية لتركيا، حتى تبدأ بالتحرك المضاد، وتشرع في العمل على إحباط مراميها وأهدافها، والمؤكد أنها كانت تدرك، أن "النجاحات" التي سجلتها إسرائيل على الجبهة الشمالية مع لبنان، وفي مواجهة حزب الله، وتكثيفها العمليات ضد حزب الله وإيران في سوريا، فيما يشبه الاستباحة الكاملة للأجواء والسيادة السوريتين، من شأنها إحياء النزعات الانفصالية لدى بعض تيارات الحركة الكردية في المنطقة، ما دام أن هذه النزعات كانت قد تغذّت تاريخيًا وتضخمت، على جذع "الغطرسة" و"الاستعلاء" الإسرائيلي.
كما أن التطاول الإسرائيلي المتكرر على إيران، سواء في عمقها أو مناطق نفوذها، وعدم نجاح الأخيرة في بناء معادلة ردع صارمة في مواجهة التهديدات باستهداف برنامجَيها النووي والصاروخي – من ضمن أهداف إستراتيجية أخرى – ساهم بدوره في زيادة المخاوف التركية، من تضخم الدور الإقليمي لإسرائيل، ولجوء تل أبيب لاستخدام أسلحة وأدوات من النوع الذي تحدث عنه ساعر: "حلف الأقليات".
العامل الأميركيلم تكن علاقات تركيا بإدارة بايدن سلسة دائمًا، وغلب عليها التوتر في بعض الأحيان على حساب مقتضيات عضوية البلدين في "الناتو"، ومن بين جملة الأسباب الباعثة على فتور العلاقات وأحيانًا توترها، احتلت "المسألة الكردية" مكانة متميزة في صياغة شكل ومحددات العلاقة مع إدارة بايدن الديمقراطية.
فالرئيس بايدن، عُرِفَ عنه، تاريخيًا، تعاطفه الشخصي مع "الانفصالية" الكردية، وهو كان سبّاقًا من موقعه في مجلس الشيوخ لعرض تقسيم العراق إلى دويلات ثلاث. ودعم بكل قوة، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والأطر والأذرع السياسية والاجتماعية والمالية المنبثقة عنها والموازية لها.
ونافح بقوة أيضًا عن بقاء وحدات من الجيش الأميركي في مناطق شمال شرق سوريا؛ لحماية الحركة الكردية وتدعيمها، إن في مواجهة دمشق وطهران وحلفائهما، أو بالأخص في مواجهة تركيا. وهو أغدق على أكراد سوريا، الأكثر قربًا من "مدرسة أوجلان" والـ "بي كي كي"، السلاح والعتاد، الأمر الذي لطالما قرع نواقيس الخطر في مراكز صنع القرار في الدولة التركية.
وربما لهذا السبب بالذات، سقطت أنباء فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية واكتساح حزبه الجمهوري مقاعد الأغلبية في مجلسَي الشيوخ والنواب، بردًا وسلامًا على تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، فالأول نجح في إقامة "علاقات عمل" مثمرة، ونسج بعض خيوط الصداقة مع الأخير، لأسباب لا مجال للخوض فيها في هذه المقالة، وهو متحرر من أية صلات أو "مشاعر" حيال كُرد المنطقة، والأهم، أنه بادر في ولايته الأولى إلى الإعلان عن نيته سحب قواته من شمال سوريا، وقد يستكمل في ولايته الثانية، ما كان بدأ به، قبل تدخل مؤسسات "الدولة العميقة" الأميركية لإحباط مساعيه آنذاك.
على أن مشاعر الارتياح للتحولات الأخيرة في الإدارة والكونغرس الأميركيين، لا تكفي لتبديد مخاوف أنقرة مما يمكن لتل أبيب، أن تقدم عليه. فالأتراك، بلا شك، يدركون أتم الإدراك، "مساحات المناورة وحرية الحركة" التي تتمتع بها إسرائيل في علاقاتها مع الولايات المتحدة.
ويعرفون تمام المعرفة، أن اليمين الفاشي في تل أبيب، قادر على مغازلة مشاعر اليمين الأميركي المتطرف، ومداعبة أولويات "الدولة العميقة" في الولايات المتحدة، وبالضد من إرادة الإدارة في بعض الأحيان، إن تطلب الأمر و"المصلحة العليا" ذلك. ومن هنا يمكن القول إن مشوار تركيا في تعاملها مع "المسألة الكردية"، لن يكون معبدًا وسلسًا.
أنقرة تعوّل أيضًا على قلّة اهتمام ترامب بالقضية السورية، وتلمّست خلال ولايته الأولى، استعداده للتسامح مع دور روسي متنامٍ في سوريا، وتحبيذه تنامي هذا الدور على حساب الدور الإيراني بالأخص، فيما الرجل ربما يكون مقبلًا على فتح صفحة من التعاون مع الكرملين في أوكرانيا، وملفات أخرى، على الساحة الدولية.
وأنقرة تعوّل أيضًا على ما يمكن لموسكو أن تفعله بوحي من مصلحتها في خروج القوات الأميركية من سوريا، إن لجهة حفز جهودها للمصالحة مع دمشق، أو لجهة التوسط بين القامشلي والأسد، فضلًا عن تخفيف احتقانات علاقاتها مع إسرائيل، في ضوء ما يشاع عن جهود روسية للدخول على ملفات الوساطة بين إسرائيل ولبنان، ونوايا لم تتضح بعد، تنمّ على دعم روسي لقيام سوريا، بدور في الحد من قدرة حزب الله على إعادة بناء قدراته العسكرية، حال وضعت الحرب على هذه الجبهة، أوزارها.
هي مرحلة جديدة، تدخلها العلاقات التركية الإسرائيلية، تحكمها ثوابت ومتغيرات لدى الطرفين، في بيئة محلية وإقليمية بالغة التعقيد، والأيام المقبلة، تبدو محمّلة بكل جديد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية