شبكة صينية تتوسع في أفريقيا فما أهدافها وكيف تعزز نفوذ بكين عالميا؟
تاريخ النشر: 20th, November 2024 GMT
في التاسع من يناير/كانون الثاني عام 2005، وقّعت الحكومة السودانية اتفاق سلام شامل مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بهدف إنهاء أطول حرب أهلية في أفريقيا.
لم تقض الاتفاقية على التوتر فورا، لكنها قضت على ثلاثة أرباع حصة السودان من النفط لصالح الكيان الوليد، الذي ما لبث أن تحول إلى دولة جنوب السودان عام 2011.
لقد فتحت بكين الباب للاستثمار في أفريقيا مطلع الألفية، وكان السودان مكانا مثاليا لرأس المال الصيني. بدأت الشركات الصينية على إثر ذلك سريعا في إرسال الخبراء والعمال إلى السودان، لكن التوترات التي شهدتها البلاد امتدت لتطال العمال الصينيين كذلك. ففي نهاية يناير 2012، اختُطف 29 عاملا صينيا في هجوم لقوات الحركة الشعبية لتحرير السودان جنوب كردفان، وفي غضون عشرة أيام، استطاع الجيش السوداني التفاوض وتحرير المختطفين جميعًا.
ربما كان الأمر ليختلف لو كان المخطوفون عمالا فرنسيين أو إسرائيليين على سبيل المثال، فقد شنَّت فرنسا وإسرائيل، والولايات المتحدة وبريطانيا وحكومات أخرى في العالم، عمليات عسكرية محدودة لإنقاذ مواطنين مدنيين خُطفوا خارج حدود البلاد. ولكن الصين، التي كانت تحت ضغط إعلامي وشعبي لتوفير حماية أفضل لعمالتها الخارجية، اكتفت بإرسال مستشارين عسكريين غير مسلحين لمساعدة الجيش السوداني، والذين نجحوا في النهاية في استعادة المختطفين من غير إثارة حساسيات أو مقارنات قد تُعقد بين الصين والقوى الاستعمارية الغربية التي طالما شوهد جنودها بأسلحتهم أو فوق مدرعاتهم ودباباتهم في دول القارة المختلفة.
يمكن تفسير السلوك الصيني بالعبارة التي تُنسب إلى زعيم البلاد السابق "دينغ شياو بينغ"، الذي وضع ملامح سياسة الصين الخارجية في ثمانينيات القرن الماضي بقوله: "انتظر حتى يحين وقتك وابق بعيدا عن الأضواء". ووفقا لذلك، سَعَت الصين في تلك الحقبة إلى تعزيز اقتصادها وقاعدتها التكنولوجية في المقام الأول مع تجنُّب الصراعات المباشرة قدر الإمكان.
وقد ظلّت بكين في أغلب الأوقات محايدة و"غير مرئية" حتى نسي الغرب أنها خصم محتمل. ورغم أن الصين أحد الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، فإنها نادرا ما استخدمت حق النقض (الفيتو)، واكتفت في أحيان كثيرة بالامتناع عن التصويت أو الدعوة العقلانية إلى الالتزام بالقانون الدولي، عوضا عن رفض القرارات التي أرادت أميركا وحلفاؤها تمريرها.
غير أن النمو المتزايد للاقتصاد الصيني وتوسُّع استثماراته خارجيًّا أظهر الحاجة لحماية مصالح بكين المنتشرة في العالم. ويبدو أن مبدأ "تجنب الأضواء" والنأي عن الشؤون الخارجية لم يعُد صالحا لمواكبة طموحات بكين في الوقت الحالي، إذ يشير تقرير صادر عن الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية إلى وجود 84% من الاستثمارات الخارجية الصينية في بلدان ذات أخطار أمنية ذات مستويات متوسطة أو عالية، ويأتي على رأس تلك الأخطار الإرهاب، والقرصنة، وانعدام الاستقرار السياسي.
يرى كريستوفر سبيرين، الأستاذ في قسم الدراسات الدفاعية بالكلية العسكرية الملكية الكندية، أن بكين كانت راغبة في الاعتماد على القوات المحلية في البلدان التي تجري فيها استثماراتها، إلا أن الحكومات المضيفة عادة ما تعجز عن توفير الحماية الكافية للعمالة أو المنشآت الصينية، لأن الهيئات العسكرية والشرطية في تلك الدول غالبا ما تتقاضى أجورا زهيدة وتتحمل فوق طاقتها وتفتقر إلى التدريب الجيد.
وفي الوقت ذاته لا تزال بكين متحفظة إلى حد كبير بشأن نشر قواتها المسلحة في الخارج، خاصة أن أحد الاتهامات الغربية الرئيسية التي تواجه الوجود الصيني في البلدان النامية أو غير المستقرة هو أن بكين تمارس شكلا جديدا من الاستعمار. كما أن المنشورات الرسمية لجيش التحرير الشعبي الصيني تعكس معارضته لتمركز القوات الصينية خارج البلاد دون تفويض دولي، وهو أمر طالما أثار جدلا واسعا في أروقة الحزب الحاكم حول كيفية التوفيق بين السياسة الخارجية التي ترغب في التمدد والتنافس من جهة، والقوات المسلحة المتحفظة من جهة أخرى.
قبل حادثة السودان، وتحديدا في عام 2004، وبعد مقتل 11 عاملا صينيا بهجوم شنَّه مسلحون على موقع إنشاءات شمالي أفغانستان، بدا أن بكين عثرت أخيرا على الطريقة التي تُمكِّنها من حماية مصالحها الخارجية دون تعارض مع مبدئها التاريخي المتمثل في تجنب نشر قواتها المسلحة في الخارج.
فقد لجأت الصين إلى الاستعانة بشركات الأمن الخاصة (PSCs: Private Security Companies) أو ما يُعرف بـ"المقاولون الأمنيون"، بالتزامن مع إرساء مبدأ "من يُرسل هو المسؤول"، في إشارة إلى أن المؤسسات العاملة خارج البلاد هي المسؤولة عن أمن موظفيها وحماية منشآتها في الدول الأجنبية؛ وهو ما يُعَد إلزامًا لتلك المؤسسات باستخدام شركات الأمن الخاصة الصينية.
شركات أمن ليست "خاصة" على الإطلاق
"يرفض العاملون في هذه الصناعة وعملاؤهم استخدام كلمة مرتزقة بسبب وصمة العار المرتبطة بها، ويمنحون هؤلاء المقاتلين مسميات جديدة، مثل مقدمي خدمات الأمن والمقاولين العسكريين وغير ذلك، لكن تلك المسميات ليست أكثر من تعبير مُلطَّف".
شون ماكفَيت، أستاذ الإستراتيجية والعلاقات الدولية بكلية الدفاع الوطني الأميركية وجامعة جورجتاون بواشنطن.
يرى بول نانتوليا، الباحث في المركز الأفريقي للدراسات الإستراتيجية أن وصف شركات الأمن تلك بكلمة "خاصة"، أمر مضلل وغير دقيق في السياق الصيني، إذ إن الصين دولة حزبية تشترط على مؤسساتها الانصياع لتوجيهات الحزب الشيوعي الحاكم، كما أن أي شركة صينية تضم 3 أفراد أو أكثر يجب عليها إنشاء ذراع للحزب الحاكم داخل هيكلها، كما تحظى الدولة بـ 51% على الأقل من أسهم أي شركة أمنية خاصة؛ مما يعني أن تلك الشركات ليست "خاصة" على أرض الواقع.
ويحدد مركز فينيكس الدولي للأبحاث 8 شركات أمن خاصة صينية مملوكة كاملة للدولة ضمن الشركات العشر الأكثر نشاطا في هذا القطاع. أضف إلى ذلك أن أغلب العاملين في هذا القطاع عسكريون متقاعدون خدم بعضهم في القوات الخاصة الصينية، أو أفراد سابقون في الشرطة الصينية لا يزال أغلبهم يتمتع بعلاقات وثيقة -وإن كانت غير مباشرة- مع السلطات الصينية. وفي الوقت ذاته، فإن ذلك يقدم صورة لنوعية التدريبات البدنية والقتالية التي يتلقاها مقاولو الأمن الصينيون، التي تشبه إلى حد كبير التدريبات العسكرية الرسمية، نظرا لأن الشركات والعاملين بها على علاقة بالجهات الحكومية بشكل أو بآخر.
تجري غالبية تدريبات مقدمي خدمات الأمن في كلية الأمن والدفاع الدولية في بكين، وتشمل التأهيل البدني وتدريس الفنون القتالية، ودورات مهارات التفاوض والمراقبة وجمع المعلومات الاستخبارية المحلية، إضافة إلى طُرق إدارة الأزمات وإجراءات الإنقاذ والاستجابة للطوارئ مع التدريب على أساليب الحماية الشخصية. وقد رصد مركز فينيكس تطوُّر صناعة الأمن الخارجي الخاص في الصين، حيث بدأت المؤسسات الصينية الكبيرة (خاصة تلك التابعة للدولة) في استثمار الأموال والأفراد في قطاع الأمن الخارجي في أعقاب عام 2004.
ويشير المركز إلى أن بكين رغم تأخُّرها في الاهتمام بهذا القطاع مقارنة بقطاع الأمن الخاص المحلي، فإن سوق الأمن الخارجي الصيني شهد نموا سريعا مدفوعا بالاحتياجات الأمنية الخارجية الضخمة في السنوات الماضية. ووفقا للتقديرات الأولية، بلغ حجم هذا السوق 10.3 مليارات دولار أميركي عام 2015، وبلغت نفقات الأمن الخارجي لـ3 من الشركات الصينية العملاقة (سينوبك وبِتروتشاينا وسينوك) نحو ملياريْ دولار؛ مما جعل القطاع جاذبا للمزيد من شركات الأمن الصينية. ورغم ذلك فإن فينيكس تقدِّر أن فجوة الطلب في السوق لا تزال كبيرة، والدليل هو تكرار وقوع حوادث خارج الصين، إذ تشير الأرقام إلى وقوع 350 حادثة أمنية تتعلق بشركات صينية في الخارج فيما بين عاميْ 2010 و2015، فيما لا تتوافر معلومات دقيقة حول السنوات التي تلي ذلك.
تشير التقارير أيضا إلى أن الصين امتلكت 4 آلاف شركة مسجلة عام 2013، مع عمالة تقدر بنحو 4 ملايين موظف، أغلبهم من العسكريين المتقاعدين وأفراد الشرطة المُسرَّحين. وبحلول عام 2017، بلغ عدد شركات الأمن الخاص الصينية نحو 6 آلاف شركة، منها حوالي 20 تمارس أنشطتها في الخارج لحماية المصالح الصينية والاستثمارات المملوكة للدولة. ووفقا لمعهد مركاتور للدراسات الصينية، فقد وظَّفت شركات الأمن الصينية أكثر من 3 آلاف فرد خارج البلاد، وهو رقم يتجاوز عدد الأفراد الذين قدمتهم الصين لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، البالغ 2534 جنديا وشرطيا في يونيو/حزيران 2020.
ومع ذلك، تشكك تقارير عدة في الرقم الفعلي للمقاولين الأمنيين الصينيين الذين يعملون خارج البلاد مشيرةً إلى أن العدد الفعلي أعلى من الرقم المعلن بكثير، حيث توظِّف 3 شركات أمن صينية (من بين 6 آلاف شركة عاملة) نحو 65 ألف مقاول أمني يعملون في أفريقيا وجنوب آسيا والشرق الأوسط والصين، وتوظّف شركة "بكين ديوي" للخدمات الأمنية المحدودة وحدها قرابة 20 ألف شخص في 37 دولة، ولديها ما لا يقل عن 3 آلاف موظف أجنبي في فروعها الخارجية.
بعيدًا عن الأضواء.. في قلب أفريقيا
"لا يمكن فصل تاريخ المرتزقة عن تاريخ الحروب، فهُم موجودون منذ فجر التاريخ وحتى ظهور الشركات العسكرية الخاصة مؤخرًا".
مالتي ريمان، الأستاذ المساعد بقسم الدفاع والشؤون الدولية بأكاديمية ساندهِرست العسكرية الملكية في بريطانيا.
في كتابه "المرتزقة الجدد: الجيوش الخاصة وما تعنيه للنظام الدولي" يرى شون ماكفَيت أن أفريقيا بوصفها بؤرة للصراع المسلح مؤهلة لأن تكون بيئة جاذبة لصناعة الأمن الخاص. وتحظى الشركات الصينية العاملة في قطاع الأمن الخاص بعقود عمل في نحو 15 دولة أفريقية (قرابة ثلث دول القارة)، وهو أمر ليس مستغربا نظرا لتزايد تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني في القارة منذ عام 2003، حيث تشير التقارير الرسمية الصينية إلى ارتفاع تلك الاستثمارات من 75 مليون دولار أميركي عام 2003 إلى نحو 5 مليارات دولار عام 2021، متجاوزة استثمارات الولايات المتحدة منذ عام 2013. وقد كانت الدول الأفريقية الأكثر استقبالا للاستثمارات الصينية عام 2021 هي جمهورية الكونغو الديمقراطية وزامبيا وغينيا وجنوب أفريقيا وكينيا.
ويشمل التعاون الأفريقي الصيني قطاعات عدة، أبرزها الطاقة والتعدين والبناء والزراعة والاتصالات. وتشير البيانات إلى أن الشركات الصينية العاملة في القارة والمملوكة للدولة حققت إيرادات بلغت 51 مليار دولار عام 2017، ووفقا للمكتب الوطني الصيني للإحصاء، صارت بكين مسؤولة عن مشاريع بناء في أفريقيا أكثر من استثمارات فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة مجتمعة. وفي عام 2021، انتقل قرابة 90 ألف عامل صيني إلى أفريقيا بحثا عن فرص عمل في إطار مبادرة الحزام والطريق، ومن ثمَّ وَصَل عدد المهاجرين الصينيين في القارة إلى نحو مليون ونصف، كما يعمل أكثر من 10 آلاف شركة صينية هناك منذ عام 2017.
وفقا للمركز الأفريقي للدراسات الإستراتيجية ظهر مقاولو الأمن الصينيون داخل القارة لأول مرة عام 2010 بغرض حماية السفن الصينية من القراصنة الصوماليين في خليج عدن. وفي عام 2011 تعاونت الشركات الأمنية مع قوات البحرية الصينية والجيش الشعبي أثناء إجلاء 30 ألف مواطن صيني من ليبيا. ورغم الوجود المحدود لتلك الشركات في البداية، فإنها سرعان ما نمت خلال العقد الماضي، حيث تعمل في الوقت الحالي نحو 9 من أبرز شركات الأمن الخاص الصينية في منطقة جنوب الصحراء الكبرى، وتدير مشاريع مبادرة الحزام والطريق.
يتجنَّب مقاولو الأمن الصينيون عادة جذب الانتباه، إذ يعملون حصريا داخل المنشآت الصينية دون تدخل في السياسة الداخلية للدول الأفريقية، لأن الصين لا ترغب في عقد مقارنة بين مقدمي الخدمات الأمنية التابعين لها وأفراد مجموعة فاغنر الروسية المشبوهة أو شركة الأمن الأميركية المنحلة "بلاك ووتر" التي اشتهرت بتجاوزاتها في العراق. كما أن بكين تحظر على العاملين في قطاع الأمن الخاص حمل السلاح مع وجود استثناءات قليلة، وهو ما يحصر دور أغلب شركات الأمن الصينية في تدريب القوات المحلية وتقديم المشورة أو التعاون الاستخباري والإشراف على العمليات.
يعكس ذلك رغبة بكين في الحفاظ على وجود عسكري غير واضح في القارة وتجنب صورة القوة الاستعمارية. وعلى سبيل المثال تعاون الجيش السوداني -كما ذكرنا في بداية المقال- مع مقاولين أمنيين يُعتقد أنهم ينتمون إلى مجموعة "في إس إس" (VSS) الأمنية الصينية، في أثناء إنقاذ 29 عاملا صينيا مختطفا في جنوب كردفان عام 2012، وبحسب ما ورد، لم يكن الصينيون مسلحين واكتفوا بالإشراف الميداني وتقديم المشورة للجيش السوداني خلال إطلاق سراح الرهائن.
وقد أوضح لي شين، الضابط السابق في القوات الخاصة بجيش التحرير الشعبي الصيني العامل حاليا في مجموعة "في إس إس" الأمنية، أن عدم حمل السلاح يُشكِّل عقبة للعاملين في قطاع الأمن الخاص، لكنه أكد أن بإمكانه استخدام ما تعلمه أثناء خدمته في جيش التحرير الشعبي كي يقدِّم اقتراحات أمنية ويضع خططا متقدمة بالتعاون مع القوات المحلية، وكذلك الإشراف على عمل تلك القوات ميدانيا.
ومع ذلك، تشكك تقارير عدة في صورة "خدمات الأمن غير القتالية" التي تُصدِّرها بكين عن مقاوليها الأمنيين بتأكيد حظرها التسليح على قطاع الأمن الخارجي، حيث تتحايل بعض الشركات باللجوء إلى تسليح أفرادها سِرًّا عبر شراء أسلحة محلية من البلد المضيف، خاصة إذا ما كانت تلك البلدان تعاني من اضطرابات أو تفتقر إلى لوائح صارمة بشأن الحدِّ من انتشار الأسلحة ومراقبة أنشطة شركات الأمن الأجنبية. وأحيانا ما تحصل شركات الأمن الصينية على الأسلحة عبر إقامة شراكات مع شركات أمن محلية مُصرَّح لها بحمل الأسلحة واستخدامها. وقد يشرف مقاولو الأمن الصينيون على استئجار مرتزقة أفارقة مسلحين وتدريبهم ثم الاستعانة بهم ميدانيا، وهو ما يضع العدد المعلن لمقاولي الأمن التابعين للصين داخل أفريقيا محل شك.
تُعَد شركتا الأمن الخاصتان: "بكين ديوي" و"هواشين جونغ آن" الأبرز على الساحة الأفريقية، كما تمثلان استثناء لقرار حظر التسليح الذي تفرضه بكين على قطاع الأمن الخارجي. وتتضمن خدماتهما تقديم المرافقة البحرية والبرية وتوفير الحماية للمنشآت والسفارات الصينية والحماية الشخصية للمسؤولين الرفيعي المستوى، وكذلك مكافحة أعمال القرصنة والإرهاب؛ مما يجعلهما مطلوبتين دائما في خليج عدن وخليج غينيا حيث تزداد هجمات القراصنة على الأساطيل التجارية.
وتمارس الشركتان أنشطتهما في بعض المناطق الأكثر اضطرابا في أفريقيا، مثل السودان وجنوب السودان ونيجيريا والصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية. وتمتلك بكين ديوي حوالي 2000 مقاول أمني في كينيا وحدها، ويوفر هؤلاء الحماية لخط السكك الحديدية الذي أنشأته الصين بقيمة 3.6 مليارات دولار بين مدينتي مومباسا ونيفاشا الكينيتين. كما تتولى ديوي حماية مشروع الغاز الطبيعي الذي تبلغ قيمته 4 مليارات دولار أميركي، المدعوم من قبل الصين في إثيوبيا وجيبوتي. ويعدُّ هذا أكبر مشروع تتكفل صناعة الأمن الصينية الخاصة بحمايته.
جدير بالذكر أن الشركة تأسست عام 2011 على أيدي مجموعة من الضباط السابقين في جيش التحرير الشعبي والشرطة المسلحة الشعبية الذين عملوا معا في تأمين أولمبياد بكين عام 2008. وتحظى ديوي بالعديد من العملاء الحكوميين، أبرزهم وزارات الخارجية الصينية والتجارة والتعليم، كما تتولى تأمين شركة الصين للبترول والكيماويات، وشركة إنشاءات الاتصالات الصينية، وشركة هندسة البناء الحكومية، وبنك التنمية الصيني، وتمتلك هذه المؤسسات جميعا فروعا عاملة في شتى أنحاء أفريقيا.
ووفقا لموقعها على الإنترنت، تقول ديوي إنها قدمت التدريب لأكثر من 80 ألف مقاول أمن صيني متمركزين خارج البلاد، وإنها شاركت مع قوات الأمن المحلية في أكثر من 1000 حادث يتعلق بأهداف صينية في دول أجنبية، كما نفذت نحو 3000 دورة تدريبية ميدانية في الخارج. وتوفر ديوي لعملائها خدمات استشارية عدة، تتعلق بالسلامة العامة استرشادا بتقييم المخاطر والمعلومات الاستخبارية المتاحة عبر المراقبة والتحريات الأمنية. وتذكر ديوي أنها تعاونت مع السفارات الصينية والقوات المحلية في بعض الأحداث الخطيرة التي وقعت داخل القارة الأفريقية مثل الانقلابات والحروب الأهلية.
ومع ذلك، تشير التقارير إلى واقعة جرت في جوبا عاصمة جنوب السودان عام 2016، حين استدعيت ديوي لحماية موظفي مؤسسة البترول الوطنية الصينية وإجلاء 330 مدنيا إلى كينيا بعد بدء إطلاق النار بين الفصائل المحلية المتحاربة. وأظهرت تقارير الحادث أن أفراد ديوي لم يكونوا مسلحين في ذلك الوقت فلم يستطيعوا التعامل مع الوضع، واكتشف هؤلاء أثناء تبادل إطلاق النار أن المبنى الذي يتحصنون داخله لن يصمد أمام الرصاص، ولم يكن في مقدورهم إجلاء العمال قبل أن تتعامل القوات الحكومية مع المتمردين.
وفضلا عن تقديم التدريبات والاستشارات الأمنية، تروِّج ديوي لبعض تقنيات الحماية الأمنية، مثل الطائرات المسيّرة وأجهزة الإبهار بالليزر (DW15 Dazzling handheld laser device) التي توفر قدرة دفاعية في السيناريوهات العسكرية الحرجة، حيث يؤدي الإبهار إلى تعمية وتضليل الأسلحة المُوجَّهة أو إبهار المُشغِّلين بشكل مؤقت، كما تُستخدم الأجهزة في التحذير أثناء مكافحة الشغب وفي نقاط التفتيش.
تروِّج ديوي أيضا لروبوتات التخلص من الذخائر المتفجرة (EOD Robot Operator Assistant)، وهي روبوتات تساعد على مسح المناطق المحيطة بالقوات والتخلص من الألغام والقنابل. ويتكوَّن الروبوت من كاميرا مصغرة وأداة تحديد المدى بالليزر مثبتة على منصة عمومية أعلى الروبوت، مع حلقة مصغرة من كاميرات فيديو تمنح المشغلين رؤية بانورامية كاملة بزاوية 360 درجة للمحيط، إضافة إلى مستشعر صغير في المقدمة لاكتشاف العوائق أثناء الملاحة شبه الذاتية؛ مما يقلل من أعباء التشغيل ويمنح المستخدمين حرية التركيز على الاستطلاع والمهام الأخرى.
من جهة أخرى، يبرز دور هواشين جونغ آن الأمني في الأمور المتعلقة بالملاحة البحرية، حيث تقوم الشركة بحماية السفن التجارية من هجمات القراصنة على طول خطوط الاتصال البحرية الحيوية من مضيق ملقا بجنوب شرق آسيا إلى الساحل الصومالي. وخلال عملية التأمين، ينتقل مقاولو الأمن من مواقع تمركزهم في سفن الترسانة إلى إحدى سُفن الشحن أو ناقلات النفط عند الاتصال بهم. وبمجرد صعودهم على متن السفينة يبدؤون ما يُسمى "أمن الشروع" عبر تقوية السفينة بالأسلاك الشائكة وحمايتها بقوة نيران من العيار الثقيل إلى أن تمر من مياه القراصنة، ومن ثم يعود هؤلاء إلى سفينة الترسانة في انتظار العميل التالي.
من النماذج البارزة في صناعة الأمن الصينية "مجموعة الخدمات الحدودية" (Frontier Services Group)، وهي إحدى الشركات الأمنية الهجينة (أي المصممة للاستفادة من الخبرة الأمنية الغربية). وتأسست "مجموعة الخدمات الحدودية" عام 2014 على يد رجل الأعمال الأميركي والضابط السابق في البحرية الأميركية إريك برِنس. ويقع مقر الشركة الرئيسي في هونغ كونغ، وهي تعمل في جمهورية الكونغو الديمقراطية والصومال وجنوب السودان وكينيا ونيجيريا، وتمتلك عقودا مع شركات صينية مملوكة للدولة في مجالات الطيران والنفط والغاز وإنشاء الطرق. وتقدم المجموعة باقة متكاملة من خدمات الأمن تشمل استشارات الأخطار الأمنية والخدمات اللوجستية والتأمين.
تجدر الإشارة إلى أن برِنس امتلك سابقا شركة "بلاك ووتر" الأمنية الأميركية ذات السمعة السيئة، كما شغل منصب المدير التنفيذي بها قبل استقالته عام 2009 إثر تعرض الشركة لانتقادات حادة على ضوء اتهامها بانتهاك حقوق المدنيين العراقيين إبان الاحتلال الأميركي للعراق. وتتلقى "مجموعة الخدمات الحدودية" تمويلا من مجموعة سيتيك (CITIC) المملوكة للدولة المعروفة سابقًا بـ"شركة الصين الدولية الاستئمانية للاستثمار". وفي إطار إستراتيجية وضع معايير أمنية جديدة، استحوذت "الخدمات الحدودية" على حصة مِلكية تبلغ 25% من كلية الأمن والدفاع الدولية في بكين، المسؤولة عن تدريب مقاولي الأمن الصينيين.
إن أقرب نظير للخدمات الحدودية بين شركات الأمن الخاصة الصينية هو "مجموعة الأمن الخارجي الصينية" (China Overseas Security Group)، التي تتألف من تحالف 5 شركات أمن صينية خاصة وتوظف أكثر من 20 ألف شخص. وتمارس المجموعة أنشطتها في عدة دول أفريقية، منها جيبوتي وإثيوبيا وكينيا ونيجيريا وموزمبيق والصومال، ويقع مقرها الرئيسي في بريطانيا.
علاوة على تقديم الخدمات الأمنية، يُنظَر إلى المقاولين الأمنيين في أفريقيا بوصفهم جزءا من حملة لتسويق الأسلحة الصينية داخل القارة، حيث يقوم هؤلاء بالإعلان عن المعدات الأمنية وبيعها للشركاء المحليين، ويترافق ذلك أحيانا مع ظهور مطوري الأسلحة والشركات الأم في معارض الأسلحة الدولية الكبرى في الدول الأفريقية إلى جانب شركات الدفاع الرائدة في الصين. وتشير مؤسسة الأبحاث والتطوير "راند" (RAND) إلى أن 7 بلدان أفريقية تلقت أسلحة صينية وتلقت في الوقت ذاته خدمات من متعاقدي الأمن الخاص الصيني.
وتتنوع الصادرات بين المقاتلات الجوية والمركبات المدرعة والصواريخ الدفاعية. ومن بين هذه الدول إثيوبيا حيث تعاقدت على 32 مدفع هاوتزر صيني ذاتي الدفع (SH-15 Howitzers) من عيار 155 ملم، الذي يبلغ مداه الصاروخي 53 كيلومترا، مع قدرته على استخدام القذائف الموجهة بالليزر. أما السودان فقد حصل على مقاتلات خفيفة من طراز "تشِنغدو جي-7" ومقاتلات نفاثة متعددة المهام من الجيل الرابع من طراز "تشِنغدو جي-10″، إضافة إلى طائرات الهجوم الأرضي "نانتشانغ كيو-5".
يقارن الخبراء بين شركة فاغنر الروسية المشبوهة وشركات الأمن الصينية، حيث إن شبكات النموذجيْن الروسي والصيني تتميَّز بعلاقات غامضة مع جيوش الدولة المالكة لها، وتكتنف السرية المهامَّ التي تقوم بها، كما تمتلك نقاطا دفاعية بحرية في الأماكن التي تمارس فيها الحكومة الروسية أو الصينية نفوذا، فضلا عن انعدام الشفافية المؤسسية والاقتصادية في البيانات المعلنة من جانبها. ورغم ذلك، فإن شركات الأمن الصينية تتولى في المقام الأول مهام الحراسة التي لا تتطلب أسلحة فتاكة، على عكس قوات فاغنر شبه العسكرية المجهزة من أجل الحرب. أما إذا طُلب منها تولي مهام أكثر خطورة في الخارج، فإن عناصر هذه الشركات الصينية يعملون مستشارين بتوظيف وإدارة الموظفين المحليين الذين قد يكونون مُسلحين.
وقد نالت الصين عام 2010 عضوية الرابطة الدولية لقواعد السلوك (International Code of Conduct Association ICoCA) مع 6 دول أخرى، وهي الرابطة المسؤولة عن معايير صناعة الأمن الخاص وممارساته وفق وثيقة مونترو. وتركز مونترو على الجانب الدفاعي، حيث لا يجوز للشركات الأمنية الخاصة استخدام الأسلحة النارية ضد الأشخاص إلا في حالة الدفاع عن النفس أو الدفاع عن الآخرين ضد التهديد الوشيك بالموت أو الإصابة الخطيرة، أو لمنع ارتكاب جريمة خطيرة تنطوي على تهديد للحياة؛ مما يعني أن الشركات العسكرية والأمنية الخاصة لا يجوز لها استخدام العنف الهجومي نيابة عن عملائها التجاريين.
ومع ذلك، رُصِدَت عشرات الحالات التي خرج فيها أفراد شركات الأمن الصينية عن الإطار القانوني في بعض دول أفريقيا، حيث اعتقلت سلطات زامبيا عام 2018 مواطنيْن صينيَّيْن كانا يقدمان تدريبا عسكريا غير قانوني لأفراد في شركة أمن محلية. وفي زيمبابوي أطلق حارسان صينيان النار على نجل عضو برلماني في العام نفسه، وفي كينيا أيضا قُبض على مقاولي أمن صينيين بسبب حيازتهم معدات عسكرية ونظام اعتراض اتصالات غير قانوني.
يوجد تخوُّف دولي من محاولة بكين التفاوض على شروط عمليات الشركات الأمنية الخاصة الصينية على أساس ثنائي مع الحكومات المضيفة في البلدان التي تعمل فيها، إذ يمكن لبكين تعديل هذه الشروط استنادا إلى النظام التنظيمي الوطني لشركات الأمن في كل دولة على حدة. وفي الوقت ذاته يميل الأفارقة إلى الحذر من مقاولي الأمن الأجانب باعتبارهم يعملون في "الظل" دون مساءلة مناسبة، وهو تصور متجذر في تاريخ أفريقيا المعقد والمرير مع المرتزقة والقوى الاستعمارية. وفي حالة الصين، قد تتضخم موجة الخشية والنفور، رغم محاولة بكين النأي عن صورة المستعمر، وذلك بسبب إستراتيجية التشارك الاقتصادي التي تنتهجها وتتقاسم عبرها الحكومة الصينية والنخب المحلية الحاكمة ثروات أفريقيا دون بقية أبناء البلاد.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات أبعاد الخدمات الحدودیة قطاع الأمن الخاص الشرکات الصینیة التحریر الشعبی الخاصة الصینیة القوات المحلیة ملیارات دولار الأمن الخارجی فی قطاع الأمن فی الوقت ذاته جنوب السودان خدمات الأمن خارج البلاد صناعة الأمن فی أفریقیا فی الخارج شرکات أمن آلاف شرکة فی القارة صینیة فی أن بکین ومع ذلک أکثر من ت الصین إلى أن ف شرکة ن صینی التی ت ت بکین
إقرأ أيضاً:
معلومات الوزراء: تغير المناخ يؤثر عالمياً على الأمن الغذائي ويدفع بالملايين للنزوح
أصدر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، تحليلاً جديداً تناول من خلاله مفهوم تغيُّر المناخ ومسبباته وتداعياته على مختلف المناطق، كما استعرض تأثيره على الأفراد والشركات، مع توضيح أبرز مقترحات مواجهته.
أشار التحليل إلى أن تغيُّر المناخ يُعد أحد أخطر التحديات البيئية الأكثر إلحاحًا في العصر الحديث؛ حيث يؤثر بشكل مباشر على الأفراد، من خلال مظاهر هذا التغيُّر التي تشمل ارتفاع درجات الحرارة، والتي تهدد الصحة العامة، لا سيما لدى الفئات الأكثر ضعفًا مثل الأطفال وكبار السن، كما يؤدي إلى تراجع الموارد الطبيعية، مثل المياه والغذاء، نتيجة لاختلال أنماط هطول الأمطار؛ مما يؤثر سلبًا على الإنتاج الزراعي، ويهدد الأمن الغذائي، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية وزيادة الأعباء المعيشية، بالإضافة إلى ذلك، تتسبب الكوارث الطبيعية المتزايدة، مثل الفيضانات والجفاف، في فقدان المنازل وتشريد الملايين؛ مما يؤدي إلى أزمات إنسانية واجتماعية، كما تتأثر سبل العيش؛ حيث يواجه العاملون في الزراعة والصيد والسياحة تحديات تهدد استقرارهم الاقتصادي.
أوضح التحليل أن تغيُّر المناخ يُشير إلى التغيُّرات طويلة الأمد في درجات الحرارة وأنماط الطقس، والتي قد تحدث بشكل طبيعي نتيجة للتقلبات في النشاط الشمسي أو الانفجارات البركانية الكبرى، ومع ذلك، فمنذ القرن التاسع عشر أصبحت الأنشطة البشرية هي العامل الأساسي وراء تغيُّر المناخ، وقد أكد علماء المناخ أنها مسؤولة بشكل كامل عن الاحترار العالمي خلال القرنين الماضيين؛ إذ تؤدي الأنشطة البشرية إلى انبعاث الغازات الدفيئة التي تُسهم في رفع درجة حرارة الأرض بمعدل أسرع من أي وقت مضى، وذلك خلال الألفي عام الأخيرة على الأقل.
أضاف التحليل أن متوسط درجة حرارة سطح الأرض أصبح الآن حوالي 1.1 درجة مئوية أكثر دفئًا مما كان عليه في أواخر القرن التاسع عشر، أي قبل الثورة الصناعية، ويُعد العقد الماضي (2011-2020) الأكثر دفئًا على الإطلاق، ويرجع ذلك بشكل رئيس إلى حرق الوقود الأحفوري، مثل الفحم والنفط والغاز. وينتج عن احتراق هذه المصادر انبعاثات الغازات الدفيئة (غازات الاحتباس الحراري)، التي تعمل كغطاء يحيط بالأرض؛ مما يؤدي إلى احتباس حرارة الشمس، وارتفاع درجات الحرارة العالمية.
ذكر التحليل أن ثاني أكسيد الكربون والميثان يُعدوا من الغازات الدفيئة الرئيسة المسؤولة عن تغيُّر المناخ؛ حيث تنتج هذه الغازات من استخدام البنزين في وسائل النقل أو حرق الفحم لتدفئة المباني، كما أن إزالة الغابات تُسهم في إطلاق كميات إضافية من ثاني أكسيد الكربون، وتُعد الطاقة والصناعة والنقل والمباني والزراعة واستخدام الأراضي، من بين القطاعات الرئيسة المسببة لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
وعند وصول الاحترار العالمي إلى 1.5 درجة مئوية، ستصبح موجات الحر أكثر شدة، وستمتد الفصول الدافئة لفترات أطول، بينما ستتقلص الفصول الباردة، أما في حال ارتفاع درجة الحرارة العالمية إلى 2 درجة مئوية، فستصل موجات الحر المتطرفة بشكل متكرر إلى مستويات حرجة؛ مما يشكل تهديدًا مباشرًا للزراعة والصحة.
أوضح التحليل أن تأثيرات تغيُّر المناخ لا تقتصر على ارتفاع درجات الحرارة فقط، بل تمتد لتشمل تغييرات واسعة في مختلف الأنظمة البيئية والمناطق الجغرافية، والتي ستزداد حدتها مع استمرار الاحترار، وتشمل هذه التأثيرات:
-تغيُّر أنماط هطول الأمطار: حيث من المتوقع أن تزداد نسبة الهطول في المناطق الواقعة عند خطوط العرض العليا، بينما ستنخفض بشكل ملحوظ في أجزاء واسعة من المناطق شبه الاستوائية، كما ستتغير أنماط الأمطار الموسمية وفقًا لكل منطقة، مع حدوث فيضانات متكررة بالتزامن مع موجات جفاف أكثر حدة بعدد من المناطق.
-ارتفاع مستوى سطح البحر: سيستمر مستوى سطح البحر في الارتفاع على مدار القرن الحادي والعشرين؛ مما سيؤدي إلى تفاقم الفيضانات الساحلية في المناطق المنخفضة، وزيادة معدلات تآكل السواحل، ومن المتوقع أن تتحول الأحداث المتطرفة لارتفاع مستوى سطح البحر، التي كانت تحدث مرة كل 100 عام، إلى ظواهر سنوية بحلول نهاية القرن.
- ذوبان الجليد وفقدان الغطاء الثلجي الموسمي: سيؤدي الاحترار المستمر إلى تسارع ذوبان التربة الصقيعية، واستمرار فقدان الجليد البحري في القطب الشمالي خلال فصل الصيف، إلى جانب تراجع الأنهار الجليدية والصفائح الجليدية.
-تغيُّرات في المحيطات: حيث يشهد المحيط ارتفاعًا في درجة حرارة مياهه، وزيادة في موجات الحرارة البحرية، وتحمضًا متزايدًا، وانخفاضًا في مستويات الأكسجين، وهي تغييرات مرتبطة بالنشاط البشري، ومن المتوقع أن تؤثر هذه التحولات على النظم البيئية البحرية والمجتمعات التي تعتمد عليها، وستستمر على الأقل حتى نهاية هذا القرن.
-تأثيرات على المدن: حيث ستتفاقم بعض جوانب تغيُّر المناخ في المناطق الحضرية، لا سيما ارتفاع درجات الحرارة؛ حيث تكون المدن عادة أكثر دفئًا من المناطق المحيطة بها، بالإضافة إلى زيادة مخاطر الفيضانات الناتجة عن الأمطار الغزيرة، وارتفاع مستوى سطح البحر في المدن الساحلية.
علاوةً على ذلك، تُسهم الظواهر المناخية المتطرفة مثل الأعاصير وحرائق الغابات في تدمير المنازل والبنية التحتية؛ مما يجبر الكثيرين على النزوح من مناطقهم، كما أن ارتفاع مستوى سطح البحر يهدد المدن الساحلية؛ مما يجعل السكان أكثر عرضة لفقدان مساكنهم ومصادر رزقهم، ولا تقتصر التأثيرات على الصحة والاقتصاد فحسب، بل تمتد إلى الجوانب النفسية والاجتماعية؛ حيث يزيد القلق بشأن المستقبل مما يتسبب في زيادة مستويات التوتر والاكتئاب بين الأفراد.
استعرض التحليل تأثير تغير المناخ على الأفراد من خلال تسليط الضوء على عدة جوانب رئيسية وهي:
أولاً: تأثيرات تغيُّر المناخ على الصحة: تصف منظمة الصحة العالمية تغيُّر المناخ بأنه أكبر تهديد صحي يواجه البشرية، إذ تُقدر أنه سيتسبب في نحو 250,000 وفاة إضافية سنويًّا بين عامي 2030 و2050، وستكون معظم هذه الوفيات ناتجة عن سوء التغذية والملاريا والإسهال والإجهاد الحراري، على أن الحرارة هي أخطر أنواع الطقس القاسي؛ حيث تُسهم درجات الحرارة المرتفعة في وفيات العمال الذين يعملون في الهواء الطلق، والسياح، والحجاج الدينيين، والأشخاص الذين يعانون من التشرد، لكن تأثير الحرارة لا يقتصر على ذلك، بل يؤثر أيضًا على الصحة الجسدية والعقلية بطرق مختلفة:
1- تسببت فصول الشتاء الأقصر والأكثر دفئًا في انتشار أكبر للأمراض المنقولة عبر الحشرات، مثل داء لايم، وزيكا، والملاريا، وحمى الضنك، وفيروس غرب النيل، وشيكونغونيا.
2- تؤدي موجات الحر، خاصةً عند اقترانها بتلوث الهواء الناتج عن حركة المرور، إلى ارتفاع مستويات الأوزون؛ مما يُسهم في تفاقم العديد من المشكلات الصحية، مثل: الربو ومرض الانسداد الرئوي المزمن.
3- زيادة تركيزات حبوب اللقاح وإطالة مواسم الحساسية، فوفقًا لمؤسسة الربو والحساسية الأمريكية، فإن ارتفاع درجات الحرارة في الولايات المتحدة أدى إلى تمديد موسم حبوب اللقاح بين 11 و27 يومًا خلال الفترة من 1995 إلى 2011.
وأضاف التحليل أن تغيُّر المناخ يزيد احتمال حدوث جائحة جديدة؛ حيث إن ارتفاع درجات الحرارة سيجبر الحيوانات البرية على تغيير موائلها (بيئاتها)، ووفقًا لتقرير نُشر في المجلة العلمية Nature، فقد يؤدي ذلك إلى دفع هذه الحيوانات إلى العيش بالقرب من المناطق المأهولة بالسكان؛ مما يزيد فرص انتقال الفيروسات وحدوث جائحة جديدة.
ويشير التقرير إلى أن "تغيُّر النطاق الجغرافي" سيؤدي إلى تفاعل الثدييات مع بعضها بعضًا لأول مرة؛ مما قد يتسبب في تبادل آلاف الفيروسات. ويؤكد العلماء أنه حتى في حال الحد من الاحتباس الحراري إلى أقل من 2 درجة مئوية هذا القرن، فإن ذلك "لن يقلل من انتقال الفيروسات في المستقبل".
وأوضح التحليل أنه بالرغم من أن التغيُّر المناخي يؤثر على الجميع، فإن بعض الفئات أكثر عرضة للمخاطر الصحية، وتشمل:
1-الأطفال: بسبب جهازهم المناعي غير المكتمل، يكونون أكثر عرضة للإجهاد الحراري والجفاف، كما أنهم أكثر حساسية لتلوث الهواء ودخان حرائق الغابات.
2-النساء الحوامل: يواجهن خطرًا متزايدًا من الإجهاد الحراري أثناء موجات الحر بسبب التغيُّرات الفسيولوجية المرتبطة بالحمل، كما أنهن وأجنتهن أكثر حساسية لتلوث الهواء ودخان الحرائق.
3-كبار السن والأشخاص المصابين بأمراض مزمنة: يكونون أكثر عرضة للجفاف، والإجهاد الحراري، والالتهابات، وتفاقم أمراض القلب والجهاز التنفسي.
4-السكان في المناطق الريفية والنائية وسكان الشعوب الأصلية والأشخاص ذوي الدخل المنخفض: يواجهون مخاطر أكبر بسبب قلة الخدمات الصحية، وزيادة التعرض للكوارث الطبيعية، مثل: حرائق الغابات والجفاف والعواصف وارتفاع مستوى سطح البحر.
ثانياً: التأثير الاقتصادي لتغيُّر المناخ على الأفراد والشركات: أشار التحليل إلى أن موجات الحرارة المرتفعة، والجفاف الطويل الأمد، والفيضانات الشديدة تُسهم في ارتفاع تكاليف المعيشة وجعل الناس أكثر عرضة للمخاطر.
1- التأثير على الأمن الغذائي والأسعار: تؤثر الأحوال الجوية القاسية على إنتاج العديد من المحاصيل الأساسية، مثل الأرز، والقمح، والذرة، والقهوة، والكاكاو؛ مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض الجودة.
2- تراجع استقرار شبكة الكهرباء وارتفاع التكاليف: حيث تصبح شبكة الكهرباء أكثر عرضة للاضطرابات، حيث يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى زيادة الضغط عليها، خاصة مع تزايد الاعتماد على أجهزة التبريد، كما يواجه مزودو الخدمات أضرارًا متزايدة بسبب الظواهر المناخية المتطرفة، مثل حرائق الغابات والعواصف العنيفة، وفي النهاية، تنعكس هذه التحديات على المستهلكين من خلال ارتفاع تكاليف الكهرباء.
3- ارتفاع حرارة المحيطات يهدد حياتنا واقتصادنا: يشكل ارتفاع مستوى سطح البحر خطرًا غير مسبوق على سلاسل التوريد العالمية، فقد يؤدي إلى تعطيل الموانئ والبنية التحتية الساحلية، كما أن ارتفاع درجات حرارة المياه يُسهم في زيادة شدة العواصف في المناطق الاستوائية؛ مما يعرض الأرواح والممتلكات للخطر، وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن المحيطات تعد موطنًا لغالبية التنوع البيولوجي في العالم، كما يعتمد عليها 3 مليارات شخص في كسب رزقهم، ومع ذلك، تؤدي انبعاثات الكربون الناتجة عن الأنشطة البشرية إلى ارتفاع حرارة المحيطات، وزيادة حموضتها، ونقص مستويات الأكسجين؛ مما يهدد مستقبل الوظائف والصناعات المرتبطة بالبحار.
4- تغيُّر المناخ يدفع بالملايين إلى النزوح: يُعد تغيُّر المناخ أحد العوامل الرئيسة التي تؤدي إلى الهجرة الداخلية؛ حيث يؤثر سلبًا على سبل العيش، ويجعل بعض المناطق غير صالحة للسكن بسبب تعرضها الشديد للظواهر المناخية القاسية، وتشير التوقعات إلى أن 216 مليون شخص قد يضطرون للنزوح بسبب تغيُّر المناخ بحلول عام 2050، وذلك عبر ست مناطق حول العالم، وستكون أكبر أعداد النازحين في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى (86 مليون شخص)، تليها شرق آسيا والمحيط الهادي (49 مليون شخص)، ثم جنوب آسيا (40 مليون شخص).
5- تغيُّر المناخ قد يجعل تأمين الممتلكات أكثر تكلفة: ففي عام 2021 تسببت الكوارث الجوية المتطرفة في خسائر مؤمَّنة بلغت 105 مليارات دولار، وهو رابع أعلى مستوى منذ عام 1970، وذلك وفقًا للتقديرات الأولية لشركة Swiss Re، إحدى الشركات الرائدة عالميًّا في التأمين وإعادة التأمين، ولا يؤدي هذا فقط إلى ارتفاع تكاليف التأمين للجميع، بل قد يجعل بعض الأصول غير قابلة للتأمين تمامًا. ووفقًا لمجلس المناخ الأسترالي، فإن واحدًا من كل 25 منزلًا في أستراليا قد يصبح غير قابل للتأمين بحلول عام 2030.
6- تكاليف باهظة للشركات بسبب المخاطر البيئية: أشارت دراسة صادرة عن منظمة CDP غير الربحية في عام 2021، التي تدير أكبر نظام عالمي للإفصاح البيئي، إلى أن الشركات قد تتحمل ما يصل إلى 120 مليار دولار من التكاليف المرتبطة بالمخاطر البيئية في سلاسل التوريد بحلول عام 2026، وتشمل هذه التكاليف ارتفاع أسعار المواد الخام، بالإضافة إلى تغييرات تنظيمية مثل فرض ضرائب الكربون، وذلك في إطار الجهود العالمية للتصدي للأزمات البيئية.
استعرض التحليل طرق مواجهة تغيُّر المناخ ومنها:
-التمويل المتعلق بالمناخ: يلعب الدعم الاقتصادي دورًا كبيرًا في معالجة تغيُّر المناخ؛ حيث تحتاج الدول النامية إلى 127 مليار دولار سنويًّا بحلول عام 2030، و295 مليار دولار سنويًّا بحلول عام 2050 للتكيف مع تغيُّر المناخ، في الوقت الحالي، يبلغ تمويل التكيف مع المناخ نحو 50 مليار دولار سنويًّا؛ مما يشكل فجوة كبيرة في تلبية الاحتياجات المتزايدة لمواجهة التحديات البيئية.
-التخفيف والتكيف: يجب أن تضمن جهود التخفيف والتكيف مع تغيُّر المناخ عدم تضرر أي فئة بشكل غير عادل، خلال مسيرة الوصول إلى صافي انبعاثات صفرية، ويجب أن تلعب السياسات الحكومية دورًا حاسمًا في الحد من التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية، فعلى سبيل المثال، يمكن دعم إغلاق محطات الطاقة التي تعمل بالفحم، من خلال برامج تأهيل العمال لاكتساب مهارات جديدة تلائم الوظائف المستدامة، كما يمكن توجيه العائدات الناتجة عن تطبيق سياسات مثل ضرائب الكربون لدعم المجتمعات منخفضة الدخل.
-الأمن الغذائي والمائي: يعد تطوير نظم إنتاج الغذاء وتحسين كفاءة استخدام الموارد المائية من الخطوات الأساسية للتكيف مع الواقع الجديد الذي يفرضه تغيُّر المناخ. ومع ذلك، هناك تفاوتات كبيرة في استهلاك المياه بين الدول الغنية والدول منخفضة الدخل، وكذلك بين الفئات الاجتماعية والاقتصادية داخل كل دولة. لذا، فإن ضمان توزيع عادل ومستدام للموارد أصبح أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى.
وأكد التحليل في ختامه أن مواجهة أزمة تغيُّر المناخ، تتطلب تعزيز الوعي واتخاذ تدابير جادة للتخفيف من آثاره والتكيف معها؛ حيث إن المسؤولية مشتركة بين الحكومات والمجتمعات والأفراد، فالتغيير يبدأ من السياسات البيئية المستدامة، مرورًا بالاستثمارات في الطاقة النظيفة، وصولًا إلى تبني سلوكيات صديقة للبيئة. كما يلعب التعاون الدولي دورًا أساسيًّا في وضع سياسات فعالة للحد من الانبعاثات الكربونية، وتعزيز التحول نحو الطاقة النظيفة؛ لضمان مستقبل أكثر استدامة للأجيال القادمة.