القاهرة- مستعدا للروتين اليومي استيقظ الطفل سليمان (13 سنة) ووضع كتبه وكراساته بالحقيبة، ودع والديه لكنه لم يتمكن من الذهاب إلى المدرسة، وأدرك والده في الساعات الأولى من صباح 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أن عملية "طوفان الأقصى" سيعقبها عدوان صوب المدنيين يستهدف أولا المناطق الشمالية لقطاع غزة حيث تقطن الأسرة.

في التاسعة صباحا انتهت الأسرة -التي تسكن في حي الشجاعية– من لملمة احتياجاتها الأساسية في حقائب قليلة، تاركة البيت الذي يضم كل ذكرياتها واتجهت إلى حي الرمال.

وبعد أقل من أسبوع نزحت إلى مخيم النصيرات، ثم انتهت إلى رفح حيث عانت داخل خيمة لمدة 4 أشهر، قبل أن تنجح محاولتها في الانتقال إلى مصر قبل يوم واحد فقط من إغلاق معبر رفح في 30 مايو/أيار الماضي.

من الشجاعية إلى القاهرة مر الطفل سليمان وإخوته الثلاثة برحلة يشيب لها الولدان، محاولين -بدعم المحيطين- تجاوزها والالتفات إلى مسارهم التعليمي مرة أخرى.

سارع والدا سليمان إلى تسجيله بمباردة "أحفاد الزيتون" المعنية بتقديم الدعم التعليمي والتأهيل النفسي لأطفال غزة، في محاولة لتخفيف معاناته.

أحفاد الزيتون

الحزن على أهل غزة والغضب من تواطؤ العالم وعجزه عن التدخل كلها مشاعر أثقلت قلب الشابة المصرية إسراء علي (35 سنة) التي زارت في يناير/كانون الثاني الماضي سيدة من غزة وصلت إلى القاهرة للعلاج من مرض السرطان بصحبة أطفالها الثلاثة الذين لا يتجاوز عمر أكبرهم 8 أعوام.

لاحظت إسراء أن سلوكيات الأطفال تشير إلى اضطرابات نفسية بسبب ما مروا به من أهوال في غزة وافتقادهم أبيهم الذي تعثر سفره برفقتهم، وبشكل عفوي بثت مقطعا مصورا عبر منصة تيك توك تتحدث فيه عن معاناة تلك الأسرة وعن أهمية تقديم دعم نفسي لأطفال غزة الذين وصلوا إلى مصر خلال الشهور الأخيرة.

وتقول إسراء للجزيرة نت إنها فوجئت بالتفاعل الكبير، فبعد ساعة واحدة فقط من نشر الفيديو تواصل معها 32 متخصصا في المجال النفسي والتعليمي والتربوي يرغبون في التطوع لتنفيذ اقتراحها، وبعد أيام قليلة زاد العدد إلى أكثر من 8 آلاف راغب في التطوع.

إسراء أسست مبادرة أحفاد الزيتون التطوعية بشكل مجاني لفائدة أطفال غزة (الجزيرة)

وتضيف إسراء أن ملامح الاقتراح العفوي بدأت تأخذ شكلا مفهوما، إذ ستكون مبادرة تعليمية وتربوية تقدم الدعم لأطفال غزة، وفي غضون فترة وجيزة بدأت بمساعدة زوجها في استخراج التصاريح اللازمة لذلك حتى تم افتتاح المبادرة في أواخر مايو/أيار الماضي.

وتلقت المبادرة دعما واسعا، وتم تجهيز المقر عبر التبرعات العينية وتكفلت إسراء وزوجها مع بعض الأصدقاء بالإيجار الشهري، كما تضيف.

وأقبل أهالي الأطفال على التسجيل في المبادرة حتى وصل عدد الراغبين في الحصول على كافة أنواع الدعم نحو ألفي طفل.

وتوضح إسراء أن المقر لا يتسع لأكثر من 350 طفلا من سن السادسة حتى الـ17، وبالتالي يتم استقبالهم على مراحل تمتد كل واحدة 3 أشهر، وقد بدأت المرحلة الأولى في أواخر مايو/أيار الماضي، ثم بعدها المرحلة الثانية منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

إسراء في حديث مع عدد من أطفال غزة الذين احتضنتهم المبادرة (الجزيرة) تغييرات إيجابية

تقدم المبادرة دروسا في اللغتين العربية والإنجليزية والحساب للأطفال دون سن الـ11، أما من هم أكبر من ذلك فتقدم لهم دروسا في الاقتصاد وتحليل البيانات واللغة الإنجليزية والعلوم وبرامج التسويق ومهارات التواصل وتطريز المنسوجات على أشكال الموروث الفلسطيني.

وتقول إسراء إن كل الأطفال يباشرون دروسهم عبر منصات رقمية تابعة لوزارة التعليم الفلسطينية، أما المبادرة فتوفر لهم تواصلا واقعيا مع التعليم.

وتشير إلى نجاح المرحلة الأولى، إذ عاد معظمهم إلى طبيعتهم واحتاج عدد قليل جدا منهم للاستمرار بالمرحلة الثانية، وتؤكد "لقد أصبحوا أطفالا عاديين يلعبون ويضحكون، ولديهم أصدقاء وأحلام للمستقبل".

في القاهرة تبدو الحياة عادية، لكن الصغيرة سلمى (16 سنة) لا تستوعب التباين بين وضعها الجديد وذلك الذي تركته في غزة.

في أبريل/نيسان الماضي تركت سلمى ما وصفته بالويل والخوف في وطنها منتقلة مع أسرتها إلى القاهرة، وتقول "كان قرار الرحيل صعبا، لكن لم يعد في مقدرتنا الاستمرار وسط كل ذلك الدمار".

ظلت سلمى غير متقبلة في البداية التغيير الذي حصل لها، لكن بمرور الوقت أدركت أن "الحياة تسير على أي حال"، كما تقول للجزيرة نت.

مبادرة أحفاد الزيتون تسعى إلى توفير بيئة آمنة لأطفال غزة (الجزيرة)

عرفت سلمى عن مبادرة "أحفاد الزيتون" من أولاد خالتها الذين سبقوها في الالتحاق بالمرحلة الأولى منها، ولم تتردد بالتسجيل في المرحلة الثانية.

وتقول "هنا أنا مبسوطة، أتعلم الإنجليزية والاقتصاد والبرمجة، وأمارس الأنشطة الترفيهية، وأكوّن صداقات".

تعرفت على لمى التي صارت صديقتها وتتشاركان أوقاتا ممتعة مع البقية، وعاشت لمى هي الأخرى الويل والخوف والصدمة من التباين بين القاهرة وغزة.

وتوضح للجزيرة نت "خلال الحرب عشت مع أسرتي في مدرسة، وحين تحسنت الأوضاع قليلا استأجر أبي محلا تجاريا انتقلنا للعيش فيه"، وفي فبراير/شباط الماضي خرجت مع أمها وإخوتها من غزة فيما بقي الأب هناك.

وتتابع أنها "تحب" هذه المبادرة، وأنها لا تحلم الآن إلا بانتهاء الحرب ورؤية والدها.

البرمجة ضمن البرامج التعليمية التي توفرها المبادرة (الجزيرة) تأهيل نفسي

يعد التأهيل النفسي من أبرز أهداف المبادرة، ويتركز عمل المستشارة النفسية سارة عماد الدين على ذلك مع إشعار الأطفال بانتمائهم إلى بيئة آمنة.

وتبيّن سارة للجزيرة نت أن الأهوال التي تعرض لها الأطفال خلال الحرب على غزة سببت لهم صدمات نفسية واضطرابات ما بعد الصدمة، مشيرة إلى أن بعضهم يعانون من الانفصال عن الواقع.

وتتنوع الأساليب العلاجية للأطفال وفقا لأعمارهم، فمثلا تقدم مجموعات الدعم لمن تتراوح أعمارهم بين 13 و17 سنة العلاج بالفن، مثل الرسم.

وتضيف عماد الدين أنهم يستطيعون من خلال طريقة ومضمون الرسم والألوان المستخدمة فهم الكثير عن الجوانب النفسية للطفل.

وتوضح أن الشفاء أو تجاوز الصدمات يحدث تدريجيا، ولكن في بعض الأحيان يحتاج بعض الأطفال للتدخل الطبي، وهو ما تخبر به سارة أهل المعني بالأمر.

الرسم وسيلة أطفال غزة للتعبير عن دواخلهم (الجزيرة)

اعتقدت سحر شعث أن الخروج من غزة والعيش في القاهرة سيساعدان أطفالها الثلاثة على استرداد عافيتهم النفسية، لكنها تفاجأت بأنهم ما زالوا على حالتهم، بل وزاد عليهم الشعور بعدم الانتماء إلى المكان الذي انتقلوا إليه.

وتقول سحر للجزيرة نت "فقد أطفالي معظم أصدقائهم خلال الحرب، واستسلموا لفقدان الثقة في أنفسهم والانغلاق عن المجتمع حين وصلوا إلى مصر"، لكن الأمور تغيرت عندما علمت من بعض السيدات الفلسطينيات عن "أحفاد الزيتون".

وتضيف سحر -التي كانت تعمل ناشطة مجتمعية في غزة- "تفاجأت بأن المبادرة مجانية، نعيش ظروفا مادية صعبة بسبب الحرب، ومنذ قدومنا إلى مصر ونحن ندفع الكثير".

في البداية رفض الأطفال الانضمام إلى المبادرة، لكن ومنذ اليوم الأول لذهابهم لاحظت سحر التأثير النفسي الإيجابي عليهم، فلم يتوقفوا عن الحديث حول الأنشطة التي مارسوها هناك، مثل الموسيقى والألعاب الرياضية والتطريز.

صارت المبادرة بديلا عن المدرسة لأطفال سحر، وتوضح أنهم يحضرون دروسهم عن بعد مع وزارة التعليم الفلسطينية، لكنهم افتقروا إلى روح المدرسة والتفاعل مع المعلمين والتلاميذ، و"هو ما توفره لهم بجدارة أحفاد الزيتون".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات لأطفال غزة للجزیرة نت أطفال غزة إلى مصر

إقرأ أيضاً:

مصر تواجه الإدمان مبكرًا| أول دولة تطبق برنامج (CHAMPS) لحماية الأطفال.. واستشاري مخ وأعصاب يوضح مخاطره الجسيمة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أعلنت الأمم المتحدة مؤخرًا عن اختيار مصر كأول دولة في العالم لتطبيق مبادرة خدمات الوقاية المعززة للأطفال (CHAMPS)، والتي تهدف إلى تعزيز قدرة الأطفال على الصمود منذ الولادة وحتى سن 18 عامًا، لحمايتهم من تعاطي المخدرات والتحديات المرتبطة بالنمو في مختلف المراحل العمرية. 

التزام سياسي واستراتيجية وطنية لمكافحة الإدمان 

يأتي تنفيذ المبادرة في إطار الاستراتيجية الوطنية لمكافحة المخدرات (2024-2028)،وتهدف إلى بناء مجتمع خالٍ من المخدرات من خلال تزويد الأفراد بالمعرفة والمهارات الحياتية اللازمة لمواجهة مخاطر التعاطي، مع التركيز على الفئات الأكثر عرضة للخطر. 

دعم حكومي لتعزيز جهود الوقاية والعلاج 

تمثل المبادرة  خطوة رئيسية نحو تأمين مستقبل أكثر أمانًا للأطفال، حيث تعتمد على أساليب وقائية قائمة على الأدلة العلمية. وأوضحت أن وزارة الصحة والسكان تعمل بالتعاون مع الشركاء الدوليين لتعزيز جهود الوقاية والعلاج، من خلال توفير خدمات تأهيلية شاملة ومجانية للأفراد المتأثرين باضطرابات تعاطي المواد المخدرة، وفقًا للمعايير الدولية المعتمدة. 

تطبيق المبادرة في المناطق المطورة 

نفذ صندوق مكافحة وعلاج الإدمان والتعاطي إلى أن تنفيذ المبادرة بدأ في المناطق السكنية المطورة ( بديلة العشوائيات) كمرحلة تجريبية، وذلك في إطار استراتيجية الدولة للتنمية الحضرية. وتركز هذه الجهود على توعية الأطفال والمراهقين بمخاطر الإدمان، مع توفير برامج وقائية فعالة تسهم في تقليل معدلات التعاطي. 

رؤية دولية لدور مصر في مكافحة المخدرات 

لمصر لتنفيذ هذه المبادرة يعكس التزامها بمكافحة الإدمان، ودورها الريادي في دعم الجهود الدولية لحماية النشء من المخاطر الاجتماعية والصحية الناجمة عن تعاطي المخدرات. كما يعكس هذا الاختيار نجاح البرامج الوقائية التي نفذتها مصر خلال السنوات الأخيرة، وخاصة في المناطق الأكثر عرضة لانتشار المخدرات.

خطورة الإدمان في سن مبكرة

أكد الدكتور عصام محمود، استشاري المخ والأعصاب، لـ«البوابة نيوز» أن الإدمان في مرحلة الطفولة والمراهقة يمثل خطرًا جسيمًا على تطور الدماغ، حيث تكون الخلايا العصبية في حالة نمو مستمر خلال هذه الفترة. 

وأوضح أن المواد المخدرة تؤثر بشكل مباشر على دوائر المكافأة في الدماغ، مما يؤدي إلى تغيير كيميائي دائم في طريقة عمل الجهاز العصبي، وهو ما ينعكس سلبًا على القدرات الإدراكية للأطفال، ويؤدي إلى مشكلات في التركيز والتعلم والتحكم في السلوك.

الإدمان لا يقتصر على المخدرات

كما أشار الطبيب إلى أن مفهوم الإدمان لا يقتصر فقط على المخدرات التقليدية، بل يشمل أيضًا الإدمان السلوكي مثل إدمان الألعاب الإلكترونية، وسائل التواصل الاجتماعي، والقمار. وأوضح أن هذه الأنواع من الإدمان قد يكون لها تأثيرات مشابهة للمخدرات من حيث التأثير على الدماغ، حيث تعزز إطلاق هرمون الدوبامين المسؤول عن الشعور بالمتعة، مما يجعل الطفل أكثر عرضة للسلوكيات القهرية وصعوبة التحكم في رغباته

مقالات مشابهة

  • «الشارقة الخيرية» تدعم «أطفال الزيتون» بـ 500 ألف درهم
  • «أوقاف الشارقة» تشارك في مبادرة فرحة عيد
  • مكتب أممي: في غزة أكبر عدد للأطفال مبتوري الأطراف بالتاريخ الحديث
  • تقرير مخيف من الأمم المتحدة يكشف عن نصف أطفال اليمن يعانون من سوء التغذية الحاد
  • أحمد موسى يفضح مخططا إسرائيليا لتهجير الفلسطينيين.. ومستشفيات غزة معاناة إنسانية تحت نيران العدوان الإسرائيلي| أخبار التوك شو
  • تسجيل سري للسفير الإسرائيلي في النمسا.. دعا لقتل أطفال غزة (شاهد)
  • مؤسسة المباركة تطلق «حكايا الصباح» لتعزيز مهارات الأطفال في اللغة العربية
  • «لأطفال الزيتون».. «القلب الكبير» تدخل الفرحة إلى قلوب 20 ألف طفل في غزة
  • حرّضت على ضرب أطفال.. فنانة مصرية تثير غضب الجماهير
  • مصر تواجه الإدمان مبكرًا| أول دولة تطبق برنامج (CHAMPS) لحماية الأطفال.. واستشاري مخ وأعصاب يوضح مخاطره الجسيمة