الملح والمصائب الزرقاء!
من قلم د. ماجد توهان الزبيدي
سمعتُ من بعض اقاربي أن أجدادي وأعمامي منذ ثلاثينيات القرن الماضي يحرصون على عدم نشر “الكشك”أو “الجميد”(مادة اساسية للطبخة الأولى:المنسف) على حبال بيوت الشعر ،او في “سدور” خارجها تحت أشعة الشمس،لئلا يراها الناس من حولنا فتصيبنا عيون بعضهم بالحسد الذي ينعكس في العادة مصيبة او مصائب في روح او جسد أحدنا!
وقد يكوت أولئك القوم من أهلي من المعذورين في إعتقادهم سالف الذكر لما كانوا عليه من جهل عقلي في ضوء غياب المدارس او الكتاتيب عن مرابعهم التي كانت في أغلبها بيوت من الشعر أو خرابيش أو خيام متنقلة في سفح جبل أو تلة أو بطن واد أو في سهل ممدود،بعيدا عن المدن او القرى التي كانت مأهولة سكانيا ومستقرة المقام وتنعم بدور كتاتيب او بعض الصفوف المدرسية مما يعطيهم أفضلية في سبق معرفة أحكام الدين والتفكير الأقرب للرصانة والشرع والعقل معا ،واكثر بعدا عن خرافات الأعراب الي لا نهائيات لها!
لكنك قد تخرج من عقلك وثوبك معا إن قلت لك أن مجموعات سكانية عربية في الشهر الحالي ومن معارفنا وولد رجالاتها ونسائها قبل ثلاثين سنة ،يزيد او يقل قليلا ،ودرست في جامعات حكومية وتعيش في قرى لصيقة بمدن ،في حضرة التلفزيون وشبكة الإنترنت ماتزال تعيش على خرافات مماثلة!
فقد أقسمت جارتنا”أم أنس”أول من امس، وهي سيدة متزنة ووازنة ،معروفة بصدقها لدى قاطني 16 شقة تؤلف بنايتنا، انها صُدمت بعنف عندما طلبت لأول مرة من جارتها “ام إيناس”(خريجة كلية علوم من جامعة حكومبة وتسكن وسط مدينة) بضعة غرامات من الملح إلى أن يحضر زوجها فيشتري كيسا من السوق المجاور!
كانت صدمتها وماتزال ان جارتها وصديقتها التي تشرب معها القهوة كل يومين مرة،قد رفضت الطلب!قائلة:”أًطلبي جارتنا كل شيء بالبيت بإستثناء الملح!
ردت أم انس في الحال بعد ان تأكدت من جدية جواب أم إيناس: انا لا اريد منك سوى ملعقة صغيرة من الملح فقط!
.كل شيء تحت امرك سوى الملح!(اجابت أم إيناس) طيب! ممكن ياجارتي من تفسير عقلي أقتنع به لماذا ترفضين إعطائي ملعقة قهوة من الملح؟
ردت أم إيناس بكل جدية وثقة: والله يا ام أنس ياغالية أن حمولتنا إذا أعطت أحدا ملحا ستصاب بإحدى مصيبتين أو بالإثنتين معا : حلول الفقر المدقع حالا ،و/او ربما تفقد عزيزا عليها من ولد او بنت أو اب او ام!
ضربت أم انس راسها بيديها دون إنتباه،وأغلقت بابها دون إستئذان من جارتها أو توديعها،ثم جلست في صالون بيتها واضعة راسها بين يديها ،صافنة مع نفسها كالبلهاء إلى أن حضر زوجها ،فقدمت له وجبة الغداء دون ملح! ثم راحت تتحدث مع نفسها ،كمن مسه جني او عفريت فجاة في ظلام دامس!!
17 تشرين الثاني /نوفمبر 2024
المصدر: سواليف
إقرأ أيضاً:
كيف نصنع للفرح قناعاً ونحن ندفن في الصمت وجوهاً كانت تستحق الحياة
د. الهادي عبدالله أبوضفائر
بأيّ عينٍ، يا تُرى، يُبصرُ أولئك القوم؟ أمن ثُقبِ الظلمة يُطلّون على العالم، أم من عماءٍ روحيٍّ طمسَ فيهم ملامح البصر والبصيرة؟ وأيُّ ضميرٍ ذاك الذي نُزعت منه نبضاتُ الرحمة، حتى غدا يرى في الشفشفة شرفاً يحتفى به، وفي السطو فنّاً يُدرَّس، وفي والاغتصاب تلذذاً وفي القتل وساما يُعلّق على صدر الفروسية؟ من هذا الذي يخرج إلى الناس مزهوّاً، يُبشّر باقتحام البيوت، وطرد الأبرياء العُزَّل، كأنما الرجولة لا تُعرَفُ إلا فوق ركام الضعفاء، ولا تتحقّقُ إلا بإذلال من لا يملكون سلاحاً سوى دموعهم وصمتهم وحقّهم في الحياة. أهي قوةٌ؟ أم جُبنٌ يُقنَّعُ بصليل السلاح؟ أهو نصرٌ؟ أم سقوطٌ في هاويةٍ أخلاقيةٍ لا قرار لها؟
كيف غدا الشرفُ نقيصةً في عرفهم، وانقلبت الموازين، فصار الشرف عاراً، ورجاحة العقل جريمةً؟ والغدر بطولةً، والفجور حلّيةً فاخرة، يتزيّن بها من باعوا ضمائرهم على موائد الدم والسلاح، و تنكّروا لجوهر الانسان، وارتدوا قناع الوحوش طوعاً لا كرهاً. أي منطقٍ يصفّق للتشريد، ويمنح القهر صفة المجد الزائف؟ أي عقلٍ أُطفئت أنوار الفهم فيه، بات يرى في دمار المؤسسات، وتخريب البنى التحتية، شكلاً من أشكال الديمقراطية؟ كيف تُقصف دور العلم ويُقال إنها معاقل للفساد، وتُحطّم الدولة باسم الإصلاح؟ أي فكرٍ سقيم يُشرعن الجريمة تحت عباءة التغيير؟ كيف التصالح مع شعبٍ أُنهك، وأُفقِر، وأُجبر على لملمة جراحه بيديه؟ وكيف العيش مع أناس يرون أطفالهم يلقون حتفهم لا بسبب الجوع والعطش لكن ببنادق من يدعون المدنية يرون في القتل لذة وفي التعذيب متعة، كيف يُعاد بناء وطنٍ تُهدّ أركانه كلما نهض، ويُقابل صبر أبنائه بالقسوة والنكران؟ إنه منطق مقلوب، حيث يُسدل النُبل قناعاً على وجه الخراب، وتُساق الحكمة إلى مذابح الجهالة، ويُوارى الضمير التراب تحت أنقاض تغييرٍ مُدَّعى. أفهذا قدرنا المحتوم؟ أم أننا نشهد انطفاء العقل ورحيل الروح في زمن اختلّت فيه موازين الحياة،
في معسكر زمزم، لا تولد الحياة إلا من رحم وجعٌ نازف، كأن الأرض أقسمت أن تجفّ، والسماء اغلقت أبوابها دون قطرة ماء أو نسمة رحمة. يئنّ النازحون تحت ثقل الجوع، والبرد يتسلل إلى الأجساد الهزيلة، بدون شفقةً. خيامهم نُسجت من خيوط النسيان، لا تصدّ قيظاً ولا تدرأ صقيعاً، ينامون على الأرض، ويقتاتون على ما تجود به يدٌ المنظمات، لا دفء فيها، ولا كرامة. عشرون عاماً، والطفل يولد لا ليحلم، بل ليجوع. والأم تُرضع صبراً معجوناً بالمعاناة، وتغني لرضيعها أنشودة الوجعٍ، كأن الحنان في صدرها صبرٌ أكثر منه لبناً. والأمل أصبح شبحاً هشّا، يركض خلف شمسٍ كلما اقتربوا منها ابتعدت. من لم يمت بالجوع أو البرد، تلقّفته نيران الميليشيا، أولئك الذين لا يعرفون للرحمة طريقاً، ولا للكرامة الإنسانية تعريفاً. يضربون، يُهينون، كأن الإنسان في نظرهم جرمٌ يجب محوه، لا روحاً يجب إنقاذها. فكيف يُولد السلام في أرضٍ نُكّست فيها معاني الإنسانية؟ وكيف يُبنى وطنٌ يُجلد أبناؤه لأنهم تمسّكوا بحقّ الحياة،
أيُعقل أن يكون في هذا الكون ساسةٌ يهلّلون لموت شعوبهم؟ يضحكون في جنائزهم، ويرقصون فوق رماد أحلامهم المحترقة، كأن الفقدَ انتصارٌ، وكأن الخراب زينةً؟ أي قلبٍ هذا الذي لا يرتجف حين يختنق طفلٌ أمامه؟ أي روحٍ تلك التي لا ترتعش حين يعلو نواح الأمهات، وتنطفئ الأجساد الصغيرة قبل أن تعرف حتى كيف تبدأ الحكاية؟ إنها ليست جريمة، بل انهيارٌ كاملٌ للأخلاق، سقوطٌ مدوٍّ في هاوية الوحشية، حيث يموت الضمير تحت الأقدام، ويُصفق العقل للباطل
باسم الواقعية، ويُكلّل الدم بالنصر المزيّف. إنها لحظة تستدعي وقفة صادقة مع الذات وسؤالاً وجودياً لا مهرب منه: أين الإنسان فينا؟ أين الضمير حين يغدو الصمت خيانة، والتصفيق طعنة؟ كيف نتجمّل بالكلمات، ونحن ندفن في الصمت وجوهاً كانت تستحق الحياة؟.
هل نحن في حربٍ مع عدوٍ تجرد من كل معنى للخلق والإنسانية، أم أننا في قلب معركة أبعد من مرمى البنادق وأعمق من جراح الأجساد؟ حربٌ صامتة، تسري في عروق الوجود، حيث لا تسقط القذائف على الأرض فحسب، بل على ضمائرنا المُنهكة، وعلى أرواحٍ تنزف ببطء تحت وطأة التبلّد الجمعي. نُصارع فراغ الإحساس البارد الذي لم يعد يوقظه صراخ طفلٍ يتلوّى جوعاً، ولا نحيب أمٍ احتضنت جثة ابنها. في هذا الركام، نُفتّش عن قبسٍ لا يضيء العتمة فقط، بل يُعيد ترميم المعنى الذي تصدّع تحت خيانة نُخب اعتادت التفاوض مع الخراب، وسَكنت في دوائر الفشل. نبحث عن النور الذي يُعيد للحق جلاله بعد أن دنّسته الشعارات، وللإنسان وجهه العاري من الزيف، الذي لم
يختلط برياء الأقنعة، ولا تلوث برائحة الدم المألوف. فمعركتنا، في جوهرها، ليست معركة طلقات وعدد قتلى، بل امتحان للروح، أن نحافظ على إنسانيتنا وسط الخراب، أن نُبقي على الأخلاق حيّة حين يلفظها الواقع، أن ننتصر للكرامة حين تُختنق خلف أسوار التسويف، وأن نذود عن الجمال حين يُشوّه ويُجمَّل القبح بلغة المصالح. هي معركة ضد السقوط الداخلي، ضد تآكل القيم في زحام التبرير، وضد نسيان الإنسان لجوهره، حين تنقلب الوحشية إلى نظام، ويغدو الصمت لغةً رسمية للعالم.
abudafair@hotmail.com