تحل ذكرى استشهاد الشيخ عز الدين القسام الذي قضى في 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 1935، بعدما اكتشفت القوات البريطانية تواجده في منطقة ما بين مدينتي جنين ونابلس مع 11 شخصا من أتباعه المقاومين.

وكانت نتيجة المعركة وحصار وضع نهاية لعمل مقاوم استمرار لسنوات ضد الاستعمار الفرنسي في سوريا والانتداب البريطاني في فلسطين.



واستشهد القسام حينها مع ثلاثة من مجموعته في الاشتباك وهُم يوسف عبد الله الزيباوي وعطية أحمد المصري وأحمد سعيد، فيما جرح نمر السعدي وأسعد المفلح، بينما اعتقل حسن الباير، وأحمد عبد الرحمن، وعربي البدوي، ومحمد يوسف، وحكم على كل منهم بالسجن مدة 14 عاما.



ووضع استشهاد القسام نهاية لمرحلة من المقاومة المنظمة غير المسبوقة في فلسطين، لكنه أسس لبداية أخرى تمثلت في الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، واستمر اسمه حاليا مع كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، والذي يوصف بأنه المسؤول عن أكبر عملية ضد الاحتلال الإسرائيلي في العصر الحديث، وهي طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

يُصادف اليوم الذكرى ال ٨٨ لاستشهاد الشيخ عز الدين القسام بعدما حاصرته القوات البريطانية في أحراش جنين طالبة منه الاستسلام.
جوابه كان :
"وإنه لجهاد، نصرٌ أو استشهاد".
٢٠ تشرين الثاني ١٩٣٥. pic.twitter.com/fwgkPXJGMi — دانيال ???? (@DanielHasRisen) November 20, 2023
كيف عاش؟
ولد باسم مركب وهو محمد عز الدين عبد القادر القسام عام 1882، في قرية جبلة التابعة لمحافظة اللاذقية السورية، وتلقى تعليمه الأول في كتاب الشيخ محمود وزاوية الإمام الغزالي بقريته، ومن ثم انتقل في الرابعة عشرة من عمره إلى القاهرة لإكمال دراسته في الأزهر حيث التقى واستلهم من الشيخ الإصلاحي الكبير محمد عبده ورشيد رضا وغيرهم.

وبعد نحو عقد من الزمن عاد إلى بلدته عام 1906 ليُدّرس في كُتاب والده بجبلة وعُين إماما وخطيبا في مسجد إبراهيم بن أدهم، وعندما غزا الجيش الإيطالي ليبيا في عام 1911، صعد الشيخ القسام إلى منبر مسجد المنصوري داعيا إلى الجهاد.

وسرعان ما قام بتجنيد عشرات الشباب للقتال في طرابلس، بعدما بدأت إيطاليا حصار المدينة عقب تنسيق مع فرنسا لتقسيم المستعمرات، وجمع مئات الشباب وتواصل مع الحكومة التركية وأخذ موافقتها على نقل المتطوعين عبر ميناء إسكندرون، فمكثوا 40 يوما ولم تأتهم الباخرة للإبحار.

ورغم ذلك أصر القسام على النجدة فانتقل سرا إلى الأراضي الليبية، وأنجز جزءا من المهمة بإيصال التبرعات السورية إلى ليبيا ولقاء الشيخ عمر المختار.

عندما نشبت الحرب العالمية الأولى عام 1914 تطوع عز الدين القسام للخدمة في الجيش التركي، وأرسل إلى معسكر جنوب دمشق، والمرجح أنه اعتزل القتال حين أعلن الشريف حسين الثورة على الأتراك، وعاد إلى بلده عام 1916، لأنه رفض أن يرفع السلاح في وجه أخيه العربي.

نأى عز الدين بنفسه عن التأثر بالنزعات العرقية التي تخطط لانفصال العرب عن الترك بقيادة الجمعية العلمية السورية، التي تأسست عام 1868، كما رفض مساوئ الاتجاه القومي الطوراني، الذي كان يسعى لطمس الهوية العربية ومحاصرة لغة الضاد.

وعندما وصل الأسطول الفرنسي اللاذقية والساحل السوري، أقدم القسام إلى بيع بيته لتجهيز نفسه للمواجهة وأعلن التحدي ورفض التفاوض، ورد لجنة كراين الأمريكي للاستفتاء على تقرير المصير، وأخذ في التعبئة من المساجد، وتدريب المتطوعين والخروج إلى جبال صهيون للتخفي، واصطياد معسكرات الفرنسيين المحتلين، لتكون هذه النقطة مع جبال العلويين وحلب مراكز الانطلاق الثلاثة ضد القوات الفرنسية.

ولما اشتدت وطأة المقاومين على معسكرات المحتلين حاولت فرنسا استمالة القسام بالعفو والمال والمنصب، فرفض كل شيء وقال للوسيط: "عد من حيث أتيت"، فصدر حكم بإعدام عز الدين وبعض رفاقه، ورصدت قوات الاحتلال جائزة كبيرة لمن يدل عليه.

وبعد اشتداد المطاردة وارتكاب الاحتلال مجازر في القرى بحثا عنه، توجه القسام حيفا وبدء مرحلة جديدة من المقاومة

في فلسطين
استقر عز الدين القسام في مسجد الاستقلال في الحي القديم بحيفا، الذي كان يأوي الفلاحين والطبعة العاملة المتوسطة الذين نزحوا من قراهم بسبب الأوضاع الاقتصادية، ونشط بينهم في محاولة لتعليمهم ومكافحة الأمية التي كانت منتشرة عبر تقديم دروس ليلية لهم.

انضم القسام إلى المدرسة الإسلامية في حيفا ثم جمعية الشبان المسلمين هناك، وأصبح رئيسا للجمعية في العام 1926، وقام بالتدريس في مدرسة البرج ومسجد الاستقلال.



ومع حلول عام 1928، التحق بالمحكمة الشرعية أثناء تأسيسه وترأسه جماعة "الشباب المسلمين" في فلسطين، مستوحيا من تجربة جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها حسن البنا قبيل ذلك في مصر.

كانت الهجرة اليهودية إلى فلسطين في ذروتها، حيث ارتفع عدد اليهود في فلسطين من نحو 175 ألف عام 1931 إلى أكثر من 355 ألف في 1935، وقبل أن يدعو القسام إلى حمل السلاح، ظهرت مجموعات مسلحة تشن عمليات عسكرية ضد المنشآت البريطانية واليهودية في فلسطين.

ولم يصدق الناس في ذلك الوقت أن بريطانيا جادة في تنفيذ وعد بلفور بجعل فلسطين وطن قومي لليهود، وحينها سارع لإطلاق الشرارة الأولى للمقاومة، ولكنه لم يعلن ذلك تصريحا بل كان في شكل تحذيرات كثيرة من الثقة بوعود الإنجليز وتحذيرات أشد من الهجرات اليهودية التي تتدفق بمساعدة الانتداب البريطاني.

وأنشأ القسام ما تُسمى "العصبة القسامية" في صورة مجموعات سرية لمحاربة الاحتلال البريطاني لفلسطين، وحرص فيها على السرية، حيث كان يختار الأفراد بعناية كبيرة، ويؤكد لهم ضرورة التخفي عن عيون الاحتلال البريطاني والعصابات الصهيونية.

وظلت هذه المجموعات تشن هجماتها على الإنجليز لسنوات دون أن تعرف سلطات الاحتلال البريطاني ومخابراته حقيقتها، حتى أعلنها القسام نفسه عام 1935، ولم يوجه الاحتلال إلى القسام أي اتهامات أكثر من التحريض، ولم تعرف النخب المقربة منه ما يقوم به.

وقد نشطت المجموعات القسامية في تنفيذ عملياتها ضد الاحتلال البريطاني منذ عام 1928، وحافظت على سريتها حتى عام 1935، ومع كثرة العمليات في حيفا وملاحظة إصرار عز الدين القسام على الدعوة إلى جهاد المحتل شكت السلطات البريطانية فيه، فاستدعته الشرطة للتحقيق ولكنها لم تدنه لعدم كفاية الأدلة.

"قد بلغت"
بعد تزايد مراقبة القسام وملاحقته مع كل من له صلة به، قرر إعلان الحركة القسامية مخافة أن تختفي قبل أن تظهر، ومع تزايد معدلات الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين رأى أنه من الواجب إعلان الثورة، وفي تشرين الأول/ أكتوبر 1935 ألقى آخر خطبه في جامع الاستقلال.

وجاء في الخطبة الشهيرة: "أيها الناس، لقد علمتكم أمور دينكم حتى صار كل واحد منكم عالما بها، وعلمتكم أمور وطنكم حتى وجب عليكم الجهاد، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، فإلى الجهاد أيها المسلمون، إلى الجهاد أيها المسلمون"، ثم اختفى.

وتوجه عز الدين القسام إلى جنين، وكانت خطته التخفي والاستمرار في العمليات ضد الانتداب والعصابات الصهيونية، وأثناء التنقل بين القرى اكتشفت القوات البريطانية مكان المجموعة وتوجهت قوة كبيرة إلى هناك وحاصرتهم فدارت بين الجانبين معركة استمرت لمدة 6 ساعات تقريبا.

وبحسب كتاب "عز الدين القسام"، فإنه جرى نقل الشهداء إلى حيفا، وتمت الصلاة عليهم في جامع الاستقلال، وشُيّعت جثامينهم في تظاهرة وطنية كبرى، نادت بسقوط الإنجليز، ورفض الوطن القومي لليهود.

وبعد استشهاد القسام، لم تنتهِ المقاومة بل كانت الانطلاقة الجديدة لها في فلسطين؛ وبهذا أكد مؤلف كتاب "زعماء الإصلاح الإسلامي"، محمد مورو، أن لـ"استشهاد القسّام وكفاحه دورا في نشر الوعي والثورة، وأثراً مهماً في اندلاع الثورة الوطنية الكبرى في فلسطين سنة 1936، التي امتدت 3 سنوات، وظل التنظيم الذي شكله عز الدين ينفّذ العديد من العمليات الفدائية ضد اليهود والإنجليز".

الإمام المجاهد عزالدين القسام: "ليس المهم أن ننتصر المهم قبل كل شيء أن نعطي من أنفسنا درسا للأمة و للأجيال القادمة"#التناصح pic.twitter.com/9ObFGGPT7f — قناة التناصح (@TanasuhTV) May 19, 2021
"ولادة جديدة"

بعد استشهاد القسام بنحو 7 شهور، ولد طفل فلسطيني على أرض قرية الجورة، التابعة لقضاء المجدل جنوبي عسقلان، واسمه أحمد إسماعيل ياسين، الذي أسس لاحقا حركة حماس وكان زعيمها التاريخي.

وتزامن تأسيس حماس مع بداية الانتفاضة الأولى، حيث أصدرت الحركة بيانها الأول في 14 كانون الأول/ ديسمبر 1987 بعد خمسة أيام فقط من بداية الانتفاضة، وسرعان ما حققت الحركة نجاحا وانتشارا شعبيا واسعا في الأوساط الفلسطينية.

وكان الجهاز العسكري لحماس حسنها يُسمى "المجاهدون الفلسطينيون" بقيادة الشيخ صلاح شحادة (جرى اغتياله عام 2002) قد بدأ في عملياته العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتمكن من خطف وقتل الرقيب الإسرائيلي آفي ساسبورتس في شباط/ فبراير 1989، والجندي إيلان سعدون في أيار/ مايو من العام نفسه.



وترتبط قصة سعدون بالشيخ ياسين بشكل مباشر، ففي أيار/ مايو 1989، وبعد وقت قصير من اختطاف واختفاءه، تم اعتقال الشيخ، وتبين في التحقيق معه أنه أعطى تعليماته لعناصر حماس بخطف الجنود وقتلهم ودفنهم، ليتم إجراء المفاوضات حول إعادة الجثث مقابل إطلاق سراح عناصر حماس.

وقال رئيس مخابرات مصلحة السجون تسفي سيلا الذي كلفته حكومة الاحتلال بجمع المعلومات الجنائية والأمنية من داخل السجون، إن أحمد ياسين رفض فرصة الحرية والإفراج عنه مقابل تسليم جثة الجندي سعدون، بحسب تقرير لصحيفة "هآرتس" نشر عام 2009.

وكشف سيلا: "بعد عامين من الحديث معه، جاءتني السلطة وقالت: اذهب إليه واطلب جثة الجندي المفقود سعدون، وفي المقابل إسرائيل مستعدة للإفراج عنه، وكان رده: لا يوجد يهودي في العالم يعرف عن أحفادي، عن شوقي إلى الحرية، أنت الوحيد الذي يعرف الحقيقة، وكيف أعيش، وكم أريد الحرية".

وبينما تشابه موقف الشيخ ياسين بموقف القسام الذي رفض الاستمالة بالعفو والمال والمنصب، جاء أيار/ مايو 1990 وتشيكل حماس جناحها العسكري باسم كتائب عز الدين القسام الذي حل محل كتائب "المجاهدون الفلسطينيون".

استمرت العمليات العسكرية لحماس في السنوات اللاحقة، فبحسب دراسة كتبها غسان دوعر، نفذت حماس 138 عملية عام 1993 خسر الكيان الإسرائيلي فيها حسبما أعلن بنفسه 79 قتيلا و220 جريحا.

ورغم دخول منظمة التحرير الفلسطينية في تسوية مع "إسرائيل"، وإعلان اتفاقية أوسلو بين الجانبين في العام ذاته، وتوليها إدارة الضفة وقطاع غزة، ما أدى إلى انخفاض حاد في وتيرة الأعمال العسكرية لحماس؛ فإن ذلك لم يمنع ظهور "العمليات الاستشهادية" فيما بعد.
شهدنا أنهم قد جاهَدوا صَيفًا وشِتاءً، في عِزِّ الصقيعِ، وتحتَ وهجِ الشمس، في أيامِ الفطرِ، وأيامِ الصيامِ، في الأشهُرِ الحُرُمِ، وغيرِها..
جَاهَدوا فوقَ الأرضِ وتحتها، علی اليابسةِ، وفي البِحار، في وسط الشوارعِ، وبينَ الرُّكام.
إن كانَ منهُم عِشرونَ صَابرونَ؛ فإنهم يغلِبوا… pic.twitter.com/K6UsF24N1W — أدهم شرقاوي (@adhamsharkawi) November 6, 2024
واستمرت هذه العمليات خلال الانتفاضة الثانية، وتوسعت دائرتها وأساليب المواجهة فيها خلاصة خلال تصاعد العدوان على قطاع غزة عام 2021 (عملية سيف القدس)، وأخيرا بحرب الإبادة الحالية المستمرة (طوفان الأقصى).

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية سياسة عربية القسام فلسطين بريطانيا بريطانيا فلسطين كتائب القسام القسام المزيد في سياسة سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة عربية سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الاحتلال البریطانی عز الدین القسام القسام الذی القسام إلى فی فلسطین

إقرأ أيضاً:

3 مقترحات مسمومة قُدّمت للمقاومة.. ما هي؟

ليست حماس في وضع تُحسد عليه؛ الضغوط تنهال عليها من كل جانب، إسرائيل تستأنف حرب التطهير والإبادة معتمدة تكتيك "الترويع والصدمة"، حرب تسلك مسارين متوازيين، أولهما؛ مسار الاغتيالات النوعية، الذي يحقق نجاحات مهمة بعد شهرين من الهدوء، كانا كافيَين على ما يبدو، لتحديث بيانات وإحداثيات "بنك الأهداف" الإسرائيلي.

وثانيهما؛ مسار ترويع المواطنين بالقصف الجوي والبحري والبري، وإجبار مئات الألوف منهم على النزوح للمرة العاشرة على أقل تقدير منذ بداية الحرب، وسط تعهدات معلنة بالشروع في تنفيذ خطة ترامب لتهجير السكان، وإنشاء إدارة خاصة بإنجاز هذه المهمة تتبع وزارة الحرب، وأحاديث تصدر عن المستويين السياسي والعسكري بقضم القطاع وإخضاعه لحكم عسكري، دائم أو مؤقت.

بتنسيق تام بين حكومة نتنياهو وإدارة ترامب، تم إجهاض اتفاق وقف النار، الذي توسط لإنجازه فريق ترامب قبل دخوله البيت الأبيض، وقبلت به تل أبيب، وأبرمته حكومة نتنياهو، قبل أن ينقلبَ الحليفان الإستراتيجيان على الاتفاق، ويقطعا الطريق على مرحلته الثانية، ويشرعا في تحميل حماس المسؤولية عن انهياره، لندخل في واحدة من أبشع عمليات "الشيطنة"، تنخرط فيها إدارة ترامب بنشاط أكبر من حكومة نتنياهو، ويعاونها حشدٌ من "ذوي القربى" الذين جنّدوا أنفسهم لتحقيق الغاية ذاتها.

إعلان

ثمة أطراف أخرى ضالعة في ممارسة الضغوط على المقاومة، وبعضها منخرط بكثافة في إستراتيجية "الشيطنة" وتحميل المقاومة وزر فشل الوساطة وعودة الحرب.

هذا ليس بجديد، كثرة من الحكومات استمرأت الضغط على الفلسطينيين حينما تفقد القدرة على التأثير في الموقف الإسرائيلي المتعنّت، حدث ذلك زمن ياسر عرفات، ويحدث اليوم، وبقية القصة معروفة.

أمّا الفاعلون في لعبة "الشيطنة"، فلديهم سجل حافل بالعداء لكل المقاومات بل ولكل حركات الإسلام السياسي، وهم يشهرون مواقف مؤيدة لمشروع ترامب التهجيري، والمصادر المتعدّدة تنقل عنهم استعجالهم تصفية حماس، بوصفها تهديدًا مشتركًا، لهم و"للحليف الإسرائيلي".

حتى الآن، لا شيء مفاجئًا فيما ذهبنا إليه، أو خارجًا عن مألوف توقعاتنا وتوقعات كثرة من المواطنين الفلسطينيين والعرب، فلدى كل واحدٍ منا ذاكرة طافحة بمواقف مماثلة، وفي محطات تاريخية مفصلية.

كتب السير والتاريخ، والتحقيقات الاستقصائية، تكشفت عن فيض "النذالات"، التي من أسف، لم تعد تحرج أصحابها، بل ولا يجدون حاجة لنفيها أو توضيحها، كما كانوا يفعلون في غابر الأزمان.

على أن الجديد المؤسف والمحزن، أن تنضم جوقات من المناضلين الفلسطينيين (سابقًا) وكتاب وباحثون وإعلاميون، و"نشطاء مجتمع مدني" إلى واحدةٍ من أبشع عمليات الضغط والابتزاز للمقاومة وقيادتها، في غزة وخارجها، ودائمًا بدعوى الحرص على وقف شلال الدم، واستنقاذ الأبرياء، وتفويت الفرصة، وتغليب المصلحة العامة، والتعامل بـ"واقعية سياسية" بعيدًا عن الشعارات الطنّانة الفارغة.

هنا، يتعين علينا أن نَتنزّل بالتحليل، طبقة أو طبقتين في العمق، لسبر أغوار هؤلاء، والتعرف على دوافعهم ومبررات انضمامهم لحملات الشيطنة والابتزاز التي تتعرض لها المقاومة.. فليس كل ما صدر أو يصدر عن هذه المواقف، مفصّلًا من "القِماشة" ذاتها.

إعلان

منهم من  تورط في لعبة التكيّف مع مُخرجات الحل الإسرائيلي للقضية الفلسطينية، وينشط في مطاردة المقاومة في الضفة وغزة وعموم المنطقة، لعبته المفضلة: المزيد من "التنسيق الأمني" ومنهم، مهزومون، سكنتهم الهزيمة منذ الأيام الأولى لهذه "المنازلة"، وأخذوا في تسخيف فكرتي الصمود والمقاومة، واستعجلوا البلاء قبل وقوعه.

غالبية هؤلاء غادروا قطاع غزة مبكرًا، فلديهم من الموارد ما يكفي لتمويل إقامة مريحة في عواصم العالم أو غيرها من مدن الشتات.

ومنهم من ضربتهم لوثة "العداء للإسلام السياسي والمسلح"، يخشونه ويتمنون له الخسران، حتى أمام عدو قومي اقتلاعي همجي، لا هم قادرون على مقارعته في ساحات السياسة والانتخاب، ولا هم مستعدون لمجاراته في ميادين الحرب والقتال، استعلائيون؛ لظنهم "الواهم" أنهم أنصار الحداثة وما بعدها.

أما الفئة الرابعة، فهم مواطنون طيبون، يريدون الخلاص لغزة بأي ثمن، روّعتهم صور الإبادة والتطهير، الدماء والأشلاء، الخرائب والبحث اليائس عن لقمة عيش أو شربة ماء، هؤلاء نفهم حرقتهم، ونحترم صيحاتهم، ونجد العذر لهم حتى وهم في ذروة القسوة في البوح عمّا يجول في قلوبهم وصدورهم، إنهم أهلنا وربعنا وناسنا.

مقترحات مسمومة

خلال الأسابيع القليلة الفائتة، تفشت في المقالات والتصريحات وعلى صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، عروضٌ مسمومة للمقاومة، دارت في معظمها حول مقترحات ثلاثة:

المقترح الأول

على حماس أن تسلم أمر قيادتها للسلطة الفلسطينية، وأن تتأسى بما فعله حزب الله زمن التفاوض حول اتفاق 27 نوفمبر/ تشرين الثاني لوقف النار، حين أوكل للدولة اللبنانية أمر التفاوض مع الوسطاء، وصولًا لوقف المقتلة.

يتجاهل هؤلاء عن سبق الترصد والإصرار، جملة من الحقائق:

أولها؛ أن لا "نبيه برّي" في سلطة رام الله، يمكن للمقاومة الفلسطينية أن تضع في جيبه مفاتيح التفاوض والاتفاق. المفاوضات مع الوسطاء في لبنان، قادها ثاني اثنين في "الثنائي الشيعي"، ولم تُترك لأنصار اقتلاع المقاومة المبثوثين في الدولة والمجتمع. إعلان

صحيح أن ثمة ما يقال عن علاقة ملتبسة بين أمل بالحزب، وبرّي بحسن نصر الله، وصحيح أيضًا، أن ثمة ما قيل ويقال، عن سطحية "البعد المقاوم" في سلوك أمل ومواقفها، لكن الصحيح كذلك، أن ثمة "وحدة حال" بين الجانبين، أقله عندما يتصل الأمر بـ"العدو الخارجي" للطائفة، بخلاف الحال القائم في فلسطين.

ثانيها؛ أن ثمة في لبنان، ومن داخل البيئة الشيعية – السياسية الحاضنة للحزب، من وقع في إغراء المقارنة بين اتفاق 17 يناير/ كانون الثاني الفلسطيني، واتفاق 27 نوفمبر/ تشرين الثاني اللبناني، ثمّن الأول وانتقد الأخير لعواره ومثالبه، وفي ذلك غمز ولمز، من قناة المفاوض اللبناني حتى وهو ينتمي إلى البيئة والمرجعية ذاتها.

وبصرف النظر عمّا إذا كانت الانتقادات قد صدرت لدوافع سياسية تحركها المنافسة على زعامة الطائفة، كما نُظِرَ إلى تصريحات اللواء جميل السيد، إلا أن "غواية" المقارنة، ظلت حاضرة بقوة. خلاصة القول: ما حكّ جلدك مثل ظفرك.

ثالثها؛ أن صيغة اتفاق 27 نوفمبر/ تشرين الثاني على ما فيه من تنازلات وعيوب، والذي أجازته الحكومة اللبنانية بحضور وزراء حزب الله وموافقتهم، وما تكشّف عن "اتفاق موازِ"، أميركي – إسرائيلي، ينقض الأول، ويتخذ شكل "ورقة تفاهمات ثنائية"، لم تفضِ إلى التزام إسرائيل بمندرجات هذا الاتفاق.

فهي ما تزال تستبيح لبنان، أرضًا وسماء ومياهًا إقليمية، وما زالت تقتل وتدمر وتغتال في طول البلاد وعرضها، وهي تمنع عودة النازحين إلى قرى الحافة الأمامية، وتتمسك باحتلالها خمس قمم جبلية لبنانية حاكمة ومتحكمة، ضاربة عرض الحائط بالاتفاق واللجنة الخماسية المشرفة على تنفيذه.

فيما "الأفق اللبناني" يبدو ملبدًا بمشاريع تصفية الحزب وتجريده من سلاحه، وفرض أبشع أنواع الحصار المالي والاقتصادي عليه. أليس في مجريات ما بعد الاتفاق، درسٌ وعبرة؟ وهل بعد ذلك، تُلام المقاومة الفلسطينية على تمسكها بوقف نهائي للحرب وانسحاب شامل لقوات الاحتلال عن القطاع؟

إعلان المقترح الثاني

على حماس أن تسلم أمرها للجامعة العربية، وفي رواية أخرى، لدول عربية وازنة، لتتفاوض نيابة عنها، علمًا بأن كثرة من القائلين بذلك، هم أنفسهم الذين سبق لهم أن "نعوا" الجامعة العربية بوصفها كيانًا أكل الدهر عليه وشرب، لم يجلب نفعًا أو يدرأ ضُرّا.

لم يستحضر هؤلاء تصريحات الأمين العام حول المقاومة، ولم يكلفوا أنفسهم عناء تقليب صفحات كتاب "الحرب" لبوب وودوردز، لم تشغلهم مراجعة تاريخ حافل من الاستعداء للمقاومة الفلسطينية، زمن عرفات، وبالذات في صفحتها الإسلامية الأخيرة، ولا يجد هؤلاء حاجة لإقناعنا بأن القضية والمشروع الوطني والمقاومة، ستكون بذلك في إيدٍ أمينة.

والمفارقة الغريبة العجيبة، أن بعض أصحاب هذا المقترح، هم من أشد المتحمسين لحكاية "الممثل الشرعي الوحيد"، والمنافحين من فوق المنابر عن "القرار الوطني المستقل".

لم يَكفِ هؤلاء فصول العجز والتواطؤ، وأحيانًا التآمر، التي تكشفت طيلة أشهر الطوفان الخمسة عشر، لم يلتفتوا لإخفاق القمم العربية المختلفة، في فتح معبر أو كسر حصار أو إدخال حبة دواء دون الموافقة الإسرائيلية المشروطة والمسبقة.

نسي هؤلاء أو تناسوا، أن "المقتلة" ما كان لها أن تستمر، ولا أن تبلغ ذروة الدموية والبشاعة لولا هذا الخذلان الدولي، وأن حرب التطهير والإبادة، ما كان لها أن تتطاول في الزمن والمدى، لولا هذا الهوان.

نسي هؤلاء أو تناسوا، أن ثمة ما يشبه التواطؤ، المضمر أحيانًا والصريح في بعض الأحيان، على تجريد المقاومة من "فضل" إلحاق أكبر هزة في تاريخ إسرائيل، حتى وإن كان الثمن، قتل وجرح 7 بالمئة من أهل القطاع، هو نصر للمقاومة.

المقترح الثالث

ذلك الذي يعرِض على حماس الخروج من المشهد، والاختفاء من الصورة، من دون أن يبذل أصحابه جهدًا من أي نوع للإجابة عن سؤال: وأين تذهب الحركة؟ وماذا عن الجغرافيا العربية التي ضاقت بالفلسطينيين، حتى بأسراهم المحررين، من حماس وغيرها؟ وهل حماس حفنة من القيادات وبضع مئات من المقاتلين ليجري تنحيتهم عن المشهد وإخراجهم من الصورة!

إعلان

ألم تصلهم أقوال جنرالات إسرائيل ورؤساء حكوماتها السابقين، ومسؤولين أميركيين، عن الحركة بوصفها "فكرة وأيديولوجيا" متجذرة في أوساط الشعب الفلسطيني، وأن إزالتها من الوجود، هي فكرة "طوباوية" لا أقدام لها لتسير عليها!

ما الذي يقترحه هؤلاء، لا سيما ذاك النفر منهم، من النوع الذي "لا في العير ولا في النفير"، وفي أحسن حالاته، لا يمثل كسرًا عَشريًا من الشعب وبيئة المقاومة؟

دعونا نستحضر صفحة من تاريخ المقاومة الفلسطينية، في العام 1982، بعد خروجها من "لبنان الاجتياحِ وبيروت الحصارِ"، بحماية دولية (أميركية – فرنسية)، إثر اتفاق توسط لإنجازه فيليب حبيب في حينه، يومها كانت الجغرافيا العربية ما زالت قادرة على احتمال الشتات الفلسطيني المقاوم، انتقلت القيادة إلى تونس وتوزّع المقاتلون في عدة دول عربية. فهل إعادة إنتاج هذا المشهد، تبدو أمرًا محتملًا وممكنًا في الشرط العربي الراهن!

ثم، لم يكن قد مضى أسبوعان على "ركوب البحر"، وخروج المقاتلين، حتى شهد مخيم صبرا وشاتيلا واحدة من أبشع المجازر في تاريخ الحروب العربية البينية، أو الحروب العربية – الإسرائيلية.

فهل لدى دعاة اختفاء المقاومة اليوم، ضمانة بأن إسرائيل لن تعيد إنتاج سيناريو المذبحة في غزة، على نطاق أوسع وأبشع مما حصل في مخيمات لبنان، ومن دون ثمن تدفعه؟

هل يعتقدون أن المقتلة التي وقعت حتى الآن، هي نهاية مطاف الإجرام الإسرائيلي، أم أن الشهية الإسرائيلية للدم الفلسطيني، لا يصح في وصفها سوى وصف جهنم التي نقول لها هل امتلأت فتقول هل من مزيد؟

تعكس هذه المقاربة، سذاجة بريئة حينًا ومشبوهة في غالب الأحيان، تركن إلى نيّات والتزامات عدو أثبت للمرة المليون، أنه لا يحفظ عهدًا ولا يلتزم باتفاق، وأن نواياه التهجيرية الطافحة، ستدفعه لفعل ما لم يفعله حتى اليوم، وأن البيئة الدولية التي تسمح له بالإفلات من العقاب، ستجعل من جرائم الهوتو والتوتسي نزهة قصيرة، قياسًا بما يمكن أن يفعله بغزة وأهلها ومقاومتها.

إعلان

وأخيرًا، لا يكتمل هذا المقال، من دون الإشارة إلى ظاهرة "الحكماء بأثر رجعي"، الذين يُخرِجون ألسنتهم اليوم مرددين المقولة الأثيرة على قلوبهم: ألم نقل لكم؟ أما كان يتعين عليكم أن تحسبوا حسابًا لكل شاردة وواردة قبل الشروع في مقامرة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول؟! ألستم تتشاطرون مع إسرائيل المسؤولية عمّا حل بشعبكم من نكبة متجددة؟!

مشكلة هؤلاء، ليس في ادعاءاتهم الزائفة والسخيفة فحسب، بل في الخدمات المجانية الجليلة التي يقدمونها لعدو شعبهم وأمتهم، من حيث يدرون أو لا يدرون.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • شاهد.. نتنياهو يصف فيديو الأسيرين الإسرائيليين بـ "الحرب النفسية"
  • 3 مقترحات مسمومة قُدّمت للمقاومة.. ما هي؟
  • “استئناف الحرب يعرض حياتنا للخطر”.. أسيران “إسرائيليان” محتجزان لدى المقاومة يطالبان بوقف العدوان على غزة
  • سرايا القدس تقصف مستوطنات غلاف غزة
  • عمليات الاغتيال الإسرائيلية لقادة حماس بغزة!
  • القسام تبث فيديو لأسيرين إسرائيليين ينتقدان استئناف حرب غزة
  • القسام تنشر رسالة لأسيرين إسرائيليين.. أخبرهم يا أوهاد (شاهد)
  • وَهم القضاء على المقاومة.. اغتيال قيادات "حماس" سياسة إجرامية هدفها الانتقام
  • جريمة صهيونية جديدة.. أول تعليق من حركة حماس علي إغتيال إسماعيل برهوم
  • جيش الاحتلال يزعم اغتيال قيادي كبير بحركة حماس