في غرفة من غرف تطبيق الكلوب هاوس الصوتية اجتمعت نخبة من المثقفين السودانيين لمناقشة مشروع وطني يفترض أن يكون جامعًا، لكن سرعان ما تحولت الجلسة إلى ساحة لتجلي كل مظاهر الذاتية والتعالي. مارسوا أنواعًا شتى من الإقصاء الفكري، وتعمدوا تهميش من بذل جهده بإخلاص لإعادة صياغة الأفكار المطروحة. اتهامات متبادلة، وولاءات خفية لقضايا ضيقة، جعلت المشروع الذي كان يمكن أن يُحدث فرقًا، مجرد ورقة أخرى ضائعة بين صراعات القبيلة، قداسة الحزب، والجهوية المتجذرة والانحياز للذات المريضة والمحاولات المستمرة لصناعة كيانات تخدم أجندة بعينها
هذه القصة، التي تتكرر بصور مختلفة، تُجسد أزمة النخب السودانية التي أسرت طموحاتها الوطنية داخل قوالب ذاتية ضيقة.

بدلًا من تقديم رؤية جامعة تُنقذ السودان من صراعاته المستدامة، باتت النخب تدور في حلقة مفرغة من الانقسامات، تاركة الوطن يدفع ثمن صراعات لا تنتهي.
خارطة الطريق: انتصار للوطن وانتصار للذات السودانية
السودان، في أزمته الراهنة، بحاجة إلى مشروع وطني يتجاوز الحسابات الضيقة ويصيغ مستقبله على أسس متينة من العدالة، القانون، والمؤسسات. لا يمكننا الحديث عن خلاص الوطن دون إدراك أن الانتصار لقضيته ليس فقط انتصارًا جماعيًا لكل أهله، بل هو انتصار لكل فرد سوداني يُدرك أن قيمة الوطن من قيمة الذات.
الانتصار للوطن هو انتصار للذات
إن قضايا السودان ليست مجرد معارك سياسية أو عسكرية، بل هي معارك للكرامة الإنسانية والحقوق الأساسية. عندما ننتصر لقضية الوطن، فإننا نؤسس لذات جماعية تُدرك قيمتها الحقيقية في ظل دولة القانون والمؤسسات. كل خطوة نحو السلام، العدالة، والتنمية هي خطوة نحو تحرير الذات السودانية من إرث القهر، التشظي، والاستبداد.
بناء دولة القانون والمؤسسات
الدولة السودانية الحديثة لا يمكن أن تُبنى إلا على دعائم واضحة:
سيادة القانون ولضمان أن تكون القوانين عادلة وشفافة، تطبَّق على الجميع دون استثناء.
المؤسسات المستقلة: تأسيس مؤسسات تحمي الحقوق، وتدير شؤون الدولة بكفاءة ونزاهة، بعيدًا عن هيمنة أي جهة حزبية أو عسكرية.
المواطنة المتساوية تجاوز الهويات الضيقة لبناء مجتمع يُعلي من قيم العدل والتنوع.
خارطة الطريق: نحو سودان جديد
انتصار شروط الشعب
وقف الحرب عبر مفاوضات شاملة تعكس تطلعات المتضررين، وليس مصالح الأطراف المتصارعة.
وضع العدالة الانتقالية كشرط أساسي، لتعزيز الثقة وبناء مجتمع متماسك.
سيادة القانون وتفكيك المليشيات
حلّ المليشيات المسلحة وبناء جيش وطني مهني، تحت إشراف مؤسسات الدولة المدنية.
حماية حقوق الأفراد والجماعات من خلال تفعيل دور القضاء المستقل.
حكومة انتقالية للكفاءة
تشكيل حكومة انتقالية من التكنوقراط غير الحزبيين، تضع أسسًا متينة لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة.
بناء دستور يرسّخ مبادئ الحرية والعدالة، ويضمن مشاركة كل السودانيين في تحديد مستقبلهم.
4. دولة المؤسسات والانتخابات الحرة:
تنظيم انتخابات حرة ونزيهة، تتيح للسودانيين اختيار قيادتهم على أسس ديمقراطية.
إعادة بناء مؤسسات الدولة لضمان الشفافية والمحاسبة.
الطريق الثالث: الحل الوطني الجامع
إن الطريق الثالث ليس خيارًا ترفيًا، بل هو السبيل الوحيد لإخراج السودان من محنته. هذا الطريق يتطلب قيادة متجردة، تُدرك أن المصلحة الوطنية تتجاوز الحسابات الشخصية والولاءات الحزبية. إنه طريق يُعيد الاعتبار للذات السودانية من خلال وطن قوي، موحد، ومستقر.

انتصار الوطن بداية جديدة للجميع
عندما ننتصر للوطن، فإننا نؤسس لواقع جديد يجعل السودان بيتًا لكل أهله، دون إقصاء أو تهميش. هذا الانتصار هو انتصار لكل سوداني يرى في السلام فرصة لحياة كريمة، وفي العدالة ضمانًا لمستقبل مستدام، وفي المؤسسات ركيزة لدولة تحترم الجميع.
وهذا الطريق هو بداية لتاريخ جديد، حيث تكون قوة القانون هي السائدة، وحيث تنتصر إرادة الشعب على كل أشكال الظلم والفرقة.

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: مؤسسات الدولة

إقرأ أيضاً:

عمق الجروح: مرافعة من أجل عدالة انتقالية سودانية

دكتور الوليد آدم مادبو

“العدالة ليست أن تنتصر، بل أن تعيد للناس إيمانهم بأنهم يستحقون الوطن.”
— نيلسون مانديلا

رغم وجاهة الدعوة إلى عدالة انتقالية مستوحاة من تجربة جنوب أفريقيا، كما أشار الدكتور الوليد أحمد عدلان في تعقيب له على مقالي: "في حضرة الجراح: استعادة التوازن الممكن"، فإننا لا يمكن أن نكتفي بالاستدعاء الرمزي لهذه التجربة دون تفكيك عناصرها وتكييفها مع السياق السوداني المأزوم. فالسؤال المركزي الذي يطرح نفسه هو: من يملك اليوم شرعية إطلاق مبادرة بحجم العدالة الانتقالية؟ إن غياب المؤسسات الوطنية الجامعة، وانقسام النخب، وتآكل ثقة الشارع في الفاعلين السياسيين، كلها تجعل من أي مسار عدالة انتقالية محفوفاً بخطر الاختطاف أو التوظيف الفئوي.

ولهذا، لا بد من استحضار تجارب أخرى لا لمجرد المقارنة، بل لاستخلاص عناصر النجاح والإخفاق: في رواندا، على سبيل المثال، لعب القضاء الشعبي دوراً في إعادة تشكيل الروح الجماعية، لكنه أغفل أسئلة العدالة السياسية والاجتماعية. أما في كولومبيا، فساهم الاتفاق مع الفارك في تقليل العنف لكنه اصطدم بعدم رضا قطاعات شعبية عن “تنازلات غير كافية”. بينما في تونس، انتهت تجربة "هيئة الحقيقة والكرامة" إلى نتائج محدودة بسبب ضعف الإرادة السياسية، مما يعلّمنا أن وجود هيئة لا يكفي ما لم تُسند بشرعية اجتماعية واسعة، وأطر قانونية محمية، وإرادة إصلاحية واضحة.

من هذه التجارب نستخلص درسًا مهمًّا: العدالة الانتقالية ليست مسارًا قانونيًا فحسب، بل عقد اجتماعي جديد، يتطلب شرعية شعبية، وتمثيلًا تعدديًا، وإرادة صادقة. ولذا فإن التحدي في السودان لا يكمن فقط في إنشاء هيئة أو لجنة، بل في ضمان شفافيتها، وتحصينها من التوظيف الفئوي، وجعلها تعبيرًا عن وجدان جماعي، لا إرادة فصيل سياسي.

إننا لا نحتاج إلى عدالة تُستخدم كسلاح انتقائي، ولا إلى مصالحة تُفرض بغير اعتراف، بل إلى عدالة تحقّق التوازن الأخلاقي والسياسي، من خلال إعادة توزيع المعنى والثقة، قبل الثروة والسلطة. ما نحتاجه هو عدالة انتقالية سودانية الأصل، متعددة الأصوات، ضامنة للكرامة لا مُكرّسة للغلبة. عدالة تؤسس لسردية وطنية واحدة، تحوّل المأساة إلى ذاكرة جامعة، وتحرّر المستقبل من سطوة المظلومية العمياء أو الاستعلاء الأجوف.

هناك تشابه في البنية الاجتماعية المعقدة بين السودان ورواندا من حيث تداخل الهويات العرقية والدينية الذي أدى إلى نزاعات دموية؛ هناك تشابه في مركزية الدولة وتاريخ الانقلابات بين السودان وتجربة تشيلي بعد بينوشيه أو إندونيسيا بعد سوهارتو، حيث واجهت الدولة تحديات في إعادة الثقة بين المؤسسة العسكرية والمجتمع، وما شهدته البلاد من انتقالات ديمقراطية معقدة. كما يوجد تشابه في عمق الجروح والانقسامات الإثنية بين السودان وجنوب أفريقيا أو كولومبيا، إذ جرى تحويل الصراع من حالة انتقامية إلى مشروع وطني، عبر آليات للعدالة الانتقالية توازن بين المصارحة والمصالحة.

إن إعادة بناء السودان لا تبدأ من محاكمات شعاراتية، بل من مكاشفة صريحة مع الذات: لقد أخطأنا حين اخترنا التنازع على السلطة بدل التشارك في المسؤولية، وأخطأنا حين قدّمنا الولاء الحزبي أو الجهوي على الولاء الوطني، وأخطأنا بل أجرمنا حين جعلنا الثورة سوقًا للمقايضة، والسياسة مجرد تفاوض سطحي والدين أداة للقمع وليس مظلة للعدالة. أخطأنا حين ظننا أن الانتماء للمركز صكّ نجاة، وأن الهامش مجرد فائض سكاني يمكن تدجينه. أخطأنا حين أنكرنا على الآخرين إنسانيتهم، فخسرنا إنسانيتنا في الطريق.

ولن نستعيد الوطن ما لم نعترف بأخطائنا، إذا لم يكن ذلك بدوافع قيمية فليكن بدوافع مصلحية. فالاعتراف بالمسؤولية الجماعية لا يُعد ترفًا أخلاقيًا، بل شرطًا لازمًا لاستعادة التوازن الوطني. فما وصلنا إليه من انهيار لم يكن وليد لحظة خارجية، بل نتيجة تراكمات داخلية من العجز، والخذلان، والتقاعس عن إنصاف المظلومين، وعن الانتصار للقيم التي تحفظ تماسك المجتمعات وتمنع تغوّل السلطة أو تفكك الدولة.

لم يكن بمقدور أي بلد أن يختـرق صفنا الوطني، لو لم تكن هناك فراغات في الجدار، نتوءات في الوعي، وتشققات في نسيج الكرامة جعلتنا نفقد الثقة في أنفسنا ونتعامل مع الحليف التنموي على أساس أنه عدو وهمي (التعبير بتصرف للأستاذة سارة الحوسني)، أو أن نتوهم الصداقة مع غريم أزلي وعدو استراتيجي. كان والدي كثيرا ما يقول لي: لا تتجلى براعة السياسي يا بُني في قوله "نحن مستهدفون"، إنما في تجنيب شعبه الاستهداف. ولأن الوطن ليس جغرافيا نرثها، بل معنى نصوغه بأفعالنا وصدق مقاصدنا، فإننا لا ننجو إلا حين نصغي لصوت الضمير لا ضجيج الشعارات، وحين نقاوم الإغراء ونرفض الاصطفاف الأعمى، وحين نستنكر دعوات الإقصاء: لا مدنيًا يُقصي العسكري، ولا عسكريًا يحتقر المدني، بل معادلة رشيدة تُقيم ميزان الوطن على ساقين: القوة المنضبطة، والحكمة المستنيرة.

ورغم أن المرافعة الأخلاقية هذه تظل ضرورية، فإننا بحاجة إلى ترجمة هذا الطموح إلى آليات تُصمَّم من الداخل، وتعكس التنوع الحقيقي للمجتمع السوداني، لا أن تُفرض بمنطق الوصاية أو الحسابات السياسية الضيقة. يحتاج هذا الأمر إلى تضافر جهود كل المختصين (قانونيين دستوريين، علماء اجتماع، أساتذة علوم سياسية، اقتصاديين، إلى آخره)، الزعماء الأهليين من قبليين ودينيين، خبراء عالميين لهم تخصصات شتى في حقول المعرفة السودانية المختلفة، شباب الثورة الغيورين وكافة أبناء الوطن الحادبين. نحتاج إلى إعداد جيد قبل أن ندعو الضحية والجلاد إلى قاعة الشعب وإلى ساحة الحقيقة والمصالحة.

حينها لن نحتاج إلى عصا خارجيّة أو مبادرة أممية تُعيدنا إلى جادة الطريق، بل إلى قلوبٍ تعترف، وعقول تُدبّر، وسواعد تتضافر. فالتاريخ لا يرحم المتقاعسين، ولا يسامح المزيفين. فلنبدأ إذن من حيث تتلاقى القلوب لا تتصادم، ومن حيث يُغفر الماضي لا يُنسى، ومن حيث تُبنى الذاكرة المشتركة لا لتثبيت الألم، بل لتحويله إلى حكاية خلاص.

‏April 28, 2025

مقالات مشابهة

  • سخرية من مزاعم ابوظبي تهريب السودان أسلحة عبر المطارات “الاماراتية”
  • لا تكتفي بنهب ذهبه.. الامارات تنهب “آثار السودان” ايضاً (صور)
  • “السودان والإسراف في الإحسان”
  • دفعة طائرات “بوينغ 737 ماكس” الجديدة للخطوط الملكية تخرج من خط التجميع في الطريق إلى المغرب
  • كيف أدت الحرب إلى تغيرات تركيب الطبقة العاملة السودانية؟ (١/٢)
  • أحمد الشرع يحذر قسد: “نرفض الإدارة الذاتية في سوريا”
  • عمق الجروح: مرافعة من أجل عدالة انتقالية سودانية
  • الصحة تحت النار: أثر الحرب على المنظومة الصحية السودانية
  • بين فوضى السلاح وتيه العقل السياسي
  • برنامج “السان والكون” يطلّ عبر منصات العربي+ والعربي تيوب .. رؤية نقدية ساخرة للأحداث السودانية والأفريقية في قالب رقمي