البروفسور وهيب عبدالرحيم باهديله في رحاب العُلماء الخالدين
تاريخ النشر: 19th, November 2024 GMT
لقد برع البروفسور في مجال اختصاصه الدقيق في أمراض النساء والولادة في زمن ماض كان فيه عدد الاختصاصين محدودي العدد والعدة ، لكنه برز كفارس نبيل يحمل قلمه ومشرط عملياته ، وسماعته الفضية وجاكيته الأبيض النقي من كل شوائب الوقت وأدرانه ، هكذا خاض الحياة ومعترك العمل في مستشفى /عبود بخور مكسر رحمة الله عليه.
لقد اختار بلد الاغتراب الاختياري بلغاريا الأوروربية الجميلة ، وهو من يحمل في روحه الرومانسية الطبية في سلوك حياته العام والخاص أجمل الخواص والصفات البشرية ، لأنه لم يستطع تحمل العيش تحت وزر وثقل نتائج الصراعات التي نشبت في عدن بين شراذم القبائل الماركسية المتخلفة النزقة في أحداث 13 يناير 1986 م المشؤومة ، وفضّل العيش منزوياً في ظلال الثقافة العلمية الأوروبية ذات النفس والروح ( السلافية ) المتميزة حول العالم ، هؤلاء النوع من البشر الأنقياء الأصفياء هم صنف نادر من البشر في هذه الحياة ، يحتجبون بغلاف واق و شفاف عن تأثير رذاذ المجتمعات المأزومة والمتناحرة ، ولهذا عاش مع زوجته البلغارية المثقفة وابنته الحسناء ذات الثقافية الأوروبية الناضجة.
تعرفت على البروفسور الجميل في نهاية السبعينات من القرن العشرين حينما كنا وعدداً من الأصدقاء نتردد على سكنه وفلته الأنيقة البيضاء في المدينة البيضاء بخور مكسر ،كنا نتردد عليه باستمرار أنا ومجموعة من الأصدقاء منهم البروفسور / عبدالقادر محمد علوي العلبي ، والبروفسور / محمد طه شمسان مقطري ، والبروفسور / أحمد سالم الجرباء البابكري وآخرين لم أعد أتذكرهم ، كان طبيب وإنساناً نوعياً في سلوكه وتصرفاته وأحاديثه الشيقة ، وكان يقدم الخدمات الطبية المجانية للمرضى القادمين من أرياف اليمن .
لم يكن البروفسور / باهديله طبيباً اختصاصياً منغلقاً على تخصصه أو
على أبحاثه وقراءاته فحسب ، لا .. بل لقد كان ناشطاً ثقافياً وسياسياً حزبياً من الطراز الرفيع ، وكان أحد نشطاء حزب المفكر اليمني الكبير / عبدالله عبدالرزاق باذيب رحمة الله عليه.
وفي مطلع الثمانينات عُين كأول نائب أكاديمي لكلية الطب والعلوم الصحية في جامعة عدن ، وكرم في الذكرى الأربعين لتأسيس جامعة عدن بالميدالية الذهبية باعتباره أحد المؤسسين الأوائل في الجامعة.
لماذا نكتب نحن الأحياء عن أحبابنا وأصدقائنا الذين سبقونا إلى حياة الخلود الأبدي تاركين لنا الدنيا بما فيها من متاعب وهموم وآهات ؟
لكنهم في ذات الوقت تركوا لنا أيضاً أعمالاً وآثار اً يشار لها بالبنان ، دعونا نجتهد هنا في هذه العجالة وربما قد مررنا عليها في مرثيات سابقة لأحباء آخرين :
أولاً: نحن الأحياء تلزمنا أخلاقياتنا بأن نُدوّن عن اصدقائنا ممن فقدناهم أجمل ذكرياتنا ومعايشاتنا التي لازلنا نتذكرها ونعشق سماع تردادها حتى في لحظة خلوتنا مع ذواتنا للمراجعة والتذكر والاستمتاع بلحظاتها.
ثانياً: نستذكر أعمالهم وإنجازاتهم العظيمة والتي قدموها أثناء سير أعمالهم وحياتهم المليئة بالجهد والنشاط المثمر و والذي تركوه كتراث وإرثٍ
للأجيال المتعاقبة، وندعو الله جل في علاه بأن تشملهم رحمته وغفرانه وتوبته ، إنه سميع مجيب.
ثالثاً: لكل فقيد منا (رحمة الله عليه وأسكنه الجنة الواسعة) ، أحباباً وأبناء وأقارب ومحبين ومريدين ومتشيعين ، يشعرون بامتنان عظيم كما نظن ونعتقد ، بأن أحبتهم لم يتم تغييب ذكراهم وذكر مناقبهم بعد ان توفاهم
الأجل، وظل ذكر أعمالهم يتردد في وسائل الإعلام ومجالس الذكر الطيب ، وتلهج ألسنة الناس بذكرهم وذكر مناقبهم الباقية للناس.
رابعاً: الخالدون منا وإن فقدناهم أجساداً وصعود أرواحهم لبارئها في السماوات العُلى ، إلا إن أعمالهم وأفكارهم وسلوكياتهم ، ومحاسنهم وإحسانهم تجعلهم خالدين خلود الدهر ، ويعيشوا معنا ما دمنا نسير على هذه المعمورة.
خامساً: أما فئة المبدعين والمفكرين والفلاسفة والأطباء الماهرين المتميزين فهم خالدون خلود الدهر ، وعلينا نحن الأحياء المهتمين ان نوثق ونسجل مآثرهم العلمية والثقافية كي تبقى إرثاً يتوارث للأجيال المتعاقبة.
سادساً: كل الشعوب والأمم الحيه المثقفة والحريصة على تراثها وتراث شخصياتها في العالم أجمع تحفظ وتدون بحرص عال و شديد تاريخ ومدونات مبدعيها في حوافز و سجلات وأضابير ومراكز بحثية تاريخية ، ومتاحف لحفظ تراث أمتها من خلال حفظ تاريخ مبدعيها ورموزها ومميزيها.
سابعاً: يتم تخليد المنجزات الفردية والجماعية للأفراد والنوابغ من نخبة المجتمعات ومنهم كوكبة الأطباء المبدعين أمثال البروفسور / وهيب عبدالرحيم باهديله في السجل الذهبي لتاريخ الأمة.
لقد ودعت اليمن والمجتمع الأكاديمي والثقافي والإنساني في مدينة عدن وصنعاء في تاريخ 1/ نوفمبر /2024 م في مدينة صوفيا / جمهورية بلغاريا واحداً من أنبل وأشرف أبنائها المخلصين للوطن اليمني العظيم و ظل وفيّاً حتى آخر يوم من حياته واقفاً مع وحدة التراب اليمني وشعبه العظيم ، وستظل الأجيال اليمنية تتذكر عمله ونشاطه وتاريخه المهني الطبي بكل تقدير واحترام ووفاء .
بسم الله الرحمن الرحيم ( ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي))
صدق الله العظيم.
رحم الله فقيدنا البروفسور / وهيب عبدالرحيم باهديله ، وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه وطلابه ومحبيه ومريديه الصبر والسلوان إنا لله وإنا إليه راجعون.
الخلاصة:
إن هؤلاء العباقرة أمثال / وهيب عبدالرحيم باهديله هم الميراث المشترك بين شعوب المنطقة كلها وتحديداً بين المدن عدن وصنعاء وحضرموت وإثيوبيا ، هؤلاء الأفراد الاستثنائيين ينبغي ان نتذكر تراثهم وإنجازاتهم العلمية النوعية خلال مسيرتهم العلمية ، هكذا نستطيع نحن الأحياء أن نحافظ على ميراثهم العلمي الإنساني الجميل .
وفوق ذي كل علم عليم
*عضو المجلس السياسي الأعلى في الجمهورية اليمنية /صنعاء
المصدر: ٢٦ سبتمبر نت
إقرأ أيضاً:
الأحياء التخليقية.. نماذج بشرية
أ. د. حيدر أحمد اللواتي **
يطرحُ بعض المُراقبين تحديات اجتماعية من المُتوقع أن تُوَاجِه البشرية جرّاء السماح بتطبيق تقنيات الأحياء التخليقية على البشر؛ إذ يُشيرون إلى مشكلة عدم تكافؤ الفرص؛ لأنَّ الأفراد في الدول المُتقدِّمة والمُتمكِّنة اقتصاديًا سيحصلون على فرص كبيرة لإجراء هذه التغييرات، بينما سيُحرم الأفراد في الدول الفقيرة من ذلك؛ وسيؤدِّي ذلك إلى فوارق جِينِيَّة على المستوى البشري؛ فهناك بشر لديهم جينات قوية وأكثر قدرة على التأقلم مع البيئة ومقاومةً للأمراض، بينما هناك آخرون لا يملكون مثل هذه الجينات المُتطوِّرة، وسيؤدي ذلك إلى أبشع صور الاستغلال!
ومما يزيد من فرص حدوث هذا النوع من الفوارق الجينية أنَّ عددًا من الدول الغنية كالسويد والنرويج والدنمارك، قد تسمح باستخدام هذه التقنيات وتنتشر في مجتمعاتها بشكل أسرع؛ وذلك لانعدام القيود الدينية تقريبًا في تلك المجتمعات الغنية. ولا بُد من الإشارة إلى أنَّ عمليات اختيار الأجنة بناءً على الخارطة الجينية للجنين، أصبح معمولًا به في عدد من الدول، ويُوَفِّرُه عددٌ من الشركات المُتخصِّصة في مجال قراءة الخارطة الجينية؛ فعملية التخصيب الصناعي في العادة تؤدي إلى تخصيب عدد من البويضات، وبالتالي ومن خلال قراءة الخارطة الوراثية لتلك الأجنة المُتكوِّنة، يتم اختيار الجنين الأصلح، والذي يتميز بخارطة جينية أفضل.
ولا يقتصر الأمر على هذا النوع من البحوث العلمية؛ بل هناك من البشر من جرت "هندسته جِينِيًّا"، لكن هذه العمليات ما زالت محدودة من حيث أعدادها، ولا يُعرَف آثار هذه العمليات، فمثلًا هناك تقنية تُعرف بتقنية الآباء الثلاثة، وقد تمت هذه العملية بنجاح في عام 2016، لزوجيْن أردنيين؛ إذ كانت الزوجة مُصابة باضطراب وراثي يُعرِّض الجنين لاحتمال الإصابة بمرض مُعين بنسبة عالية جدًا، ولحماية الجنين من الإصابة بهذا المرض الوراثي تم أخذ النواة من بويضة الأم المصابة بالمرض الوراثي، ونقَلها إلى بويضة امرأة سليمة سبق نزع نواتها، وبذلك غدت هذه البويضة تحملُ صفاتٍ من امرأتين مختلفتين، وبعد ذلك تمَّ استخدام هذه البويضة في التلقيح الصناعي، وقد تمَّت العملية بنجاح في المكسيك؛ وذلك لأنها لم يكن مسموحاً بها في الولايات المتحدة.
وكما هو واضح فإنَّ نسبة من الجينات- وإن كانت بسيطة للغاية والتي تُقدَّر بأنها أقل من 0.1%- جاءت من الأم المُتبرِّعة بالبويضة، ولذا تُطلق على هذه التقنية "تقنية الآباء الثلاثة"، وقد استُخدِمَت بنجاح أيضًا في بريطانيا عام 2023.
لكنَّ الحدث الأكثر خطورةً وإثارة كان في الصين، وذلك عام 2018، عندما أعلن الطبيب الصيني ولادة أول طفلتين تم هندسة خارطتهما الجِينِيَّة، وذلك بهدف حمايتهما من مرض "الآيدز" الذي كان الأب مُصابًا به، وقد أدّى هذا الإعلان إلى موجة من الشجب والاستنكار، كما تم حبس الطبيب لمدة 3 سنوات لإقدامه على عمليات غير مُرخَّص لها، لكنَّ الطفلتين وُلِدَتَا وهُمَا بكامل صحتهما، وتُعدان أول طفلتين تعرضتا لهندسة جينية وتغيير جيني كبير نسبيًا.
وتُشير بعض الدراسات إلى أن الجينات التي تم هندستها تؤثِّر أيضًا على القدرات الدماغية لهما؛ إذ تقوم بتحسين ذاكرتهما، وترفع مستوى الذكاء عند الطفلتين، وما زالت الطفلتان على قيد الحياة وتعيشان مع أسرتيهما.
إنَّ طبيعة هذه التقنيات أنها تنتشر، بغض النظر عن الحواجز الموضوعة أمامها. وعلى الرغم من المحاولات التي بذلتها الدول المختلفة لمنع انتشار السلاح النووي، إلّا أن هذه المحاولات لم تنجح، وانتشرت هذه الأسلحة. وكذلك الحال مع الأسلحة البيُولوجية والكيميائية، ولذا فإن الوقوف أمام أمواج التقنيات التي تغزو عالمنا لا يُجدي نفعًا في غالب الأحيان.
ومن هُنا، يرى البعض أن اختراع التقنيات وتطويرها لم يَعُد التحدي الذي يواجه البشرية، إنما التحدي يكمُن في السيطرة على التقنيات، بحيث تظل في مجالات مُعيَّنة تُفيد المجتمعات البشرية ولا تضرُّها، وهذا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بثقافة المجتمعات التي تُطوِّر التقنيات والمبادئ والقيم التي تُؤمِن بها، ومن هُنا فإن التقنيات التي يتم إنتاجها في الغرب إنما هي نتاج الثقافة والقيم الغربية، لكنها تؤثر بشكل كبير جدًا على سلوكنا وعلى طريقة تفكيرنا، بحيث غدت أجيالنا اليوم نتاج هذه التقنيات سلوكًا وتفكيرًا، بقدر كَوْنِ هذه التقنيات منتجات لعقول البشر التي انتجتها.
وأخيرًا.. من الخطأ النظر إلى هذه البحوث العلمية على أنها تَرَفٌ فكريٌ؛ بل هي بحوث سيكون لها بالغ الأثر علينا في المستقبل القريب، ولربما ستغدو جزءًا من الاستراتيجية الأمنية لبعض الدول؛ إذ بدلًا من استخدام الآلة الحربية للتخلص من الأعداء، فإنَّ التقنية الحيوية قد تُوفِّر بديلًا طبيعيًا ودون الحاجة إلى خوض حروب طاحنة، ولذا رُبما نشهد في هذا القرن نهاية الانسان بنسخته الحالية؛ لتُنتَج منه نسخةٌ مُطوَرةُ من فصيل "الإنسانيات"، لكن هذه المرة بانتخابٍ بشريٍ وبأجندة سياسية لا بانتخاب الطبيعة!
* سلسة من المقالات عن تاريخ علوم الحياة وحاضرها وفلسفتها والتقنيات القائمة عليها
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
رابط مختصر