سقط من يدي الأسبوع الماضي كتاب قيِّم مجلَّد بواسطة إحدى المكتبات الشهيرة. تذكرت أن التجّليد مهنة نادرة حتى قال أهل الكتب أنك إذا جلَّدت كتاباً، وتريد أن تتأكد من إتقان التجليد، فاقذف به على الأرض. فإن بقي متماسكاً لم يتناثر ورقه، علمت أن الذي جلَّده قد أحسن وأجاد في صنعة التجليد. وكنت أعرف من كبار المثقفين، من كان يحرص على تجليد محتويات مكتبته كلها مهما كلف الأمر.
وقد مررت بتجربة عجيبة وحزينة في ذلك. فقد استشارني صديق عزيز عمن يجلد له نحو مائة نسخة من إحدى الجرائد. فسألت حتى اهتديت إلى شخص ذي خبرة في هذا المجال. وجمعت بينه وبين الصديق لكي يتفقا على الوقت والأتعاب. وقبل أن يبدأ العمل، قال إنه مستعد أن يجلد مئتي نسخة من أي جريدة بالمجان كي يثبت لنا أنه أهل لهذه المهمة. ولما أنجز تجليد هذه النسخة وثق فيه صديقي وسلمه الجرائد. واتفق الاثنان على إنجاز العمل خلال أسبوعين. أما أنا فقد سلمته بضعة كتب نفيسة من مكتبتي كي يجلِّدها ولكن بعد إكمال تجليد جرائد صديقي.
مرت ثلاثة أسابيع، وراجعته، فاعتذر أنه كان مشغولاً. وبعد شهر قال إنه يريد لقاء الصديق. فرتبت له اللقاء الذي كرر فيه الاعتذار بأنه لم يبدأ العمل بعد. ولما مضى نحو شهرين على الموعد، اتصلت به، فقال إنه لم يفعل شيئاً، وإنه يريد لقاء ثالثاً مع الصديق. قلت له: وما الفائدة من المقابلات دون إنجاز ما وعدت؟ فغضب وأرعد وأزبد. ولما مر الشهر الثالث دون الوفاء بالوعد، قال لي الصديق: قل له يعيد الجرائد. لكنه تعلل بأنه يريد مزيداً من الوقت. وفي الشهر الرابع اتصلت به فقال إنه لا زال يعمل على تجليدها. فانتظرت أسبوعا إضافيا وأخيرا ذهبت إلى منزله. وأعطاني الجرائد وقد وضع الغراء عليها لتجليدها. فسلمتها لصديقي.
واتصل بي الصديق -رحمه الله- وقال لي إن الرجل قد عبث بالجرائد وإن تواريخها تداخل بعضها في بعض. واضطر لأخذها الى القاهرة حيث يوجد أهل صنعة التجليد. ولكن الورّاقين في القاهرة قالوا له بعد الكشف على الشحنة إن الغراء الذي استخدمه المجلد في جدة، كان كثيفاً بحيث لم يستطيعوا تفكيك الجرائد وإعادة ترتيبها حسب التسلسل التاريخي. فقال لهم: جلدوها كما هي.
وبعد ثلاث أو أربع سنين، رأيت الرجل داخلاً إلى مقر الجريدة التي كنت أعمل بها، فرحبت به كأن شيئا لم يكن، وأوصلته إلى القسم الذي يريد. وكنت أتوقع أن يفاتحني في الكتب الستة أو السبعة التي سلمته إياها وهي من عيون مقتنياتي. ولكنه لم يذكرها. ولم يذكر الرجل الذي أفسد جرائده ولو بالتحية.
قال الشاعر:
قد عشت تفجع بالأحباب بعدهمْ
وفناء نفسك لا أبا لك أفجعُ
المصدر: صحيفة البلاد
كلمات دلالية: قال إنه
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: الطعام من مظاهر الفرحة وشكر نعمة الله خاصة في الأعياد
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ان الله عز وجل أشار في شأن الطعام في القرآن إلى جرم تحريم الحلال، وأنه لا يقل جرما من تحليل الحرام؛ وذلك لأن كلاهما مرجعهما عقلية واحدة، وهي عقلية عدم الاكتفاء بالشرع، إما بالزيادة أو النقصان، فالطيبات من الرزق أحلها الله للناس كافة، فيشترك جميع الخلق من الأكل من مائدة الرحمن، وهي الكون الفسيح، فالكل كفل له رزقه ورزقه من الطيبات في هذه الدنيا، أما في الآخرة فإن هذا الرزق يكون خالصا للمؤمنين وحدهم قال تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِى الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [الأعراف :32] .
واضاف جمعة، في منشور له عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ان اليهود حرموا بعض الأطعمة بناء على أن سيدنا إسرائيل (يعقوب) حرمها على نفسه بعض الوقت، ولقد أخبر بالقرآن أن تحريم هذه الأطعمة -حيث كانوا ينكرون على النبي صلى الله عليه وسلم أكله للإبل وهي محرمة عندهم- لم يكن بالتوراة، فقال سبحانه : (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِّبَنِى إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) [آل عمران :93] .
فللطعام مكانة عظيمة وقد قرنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر الله باعتبار أنهما من مظاهر الفرحة وشكر النعمة خاصة في الأعياد فقال صلى الله عليه وسلم : (أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل) [رواه أبو داود].
لعلنا بذلك نكون قد وقفنا على جانب من قيمة الطعام والإطعام في الشرع الشريف، وأثره في أخلاق المسلم وسلوكه، فهذه علاقة حقيقية ولا يشككنا في ثبوتها أن الغرب لم ينشئ (علم نفس الطعام) حتى الآن، فإن كتاب ربنا ينطق بالحق، وهو كنز يمتلأ بالآيات البينات التي ترشد الإنسان إلى سعادة الدنيا والآخرة.