البيان الختامي لاجتماع القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الاطاري
تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT
أديس أبابا 14-15 أغسطس 2023م
نحــو بناء جبهة مدنية واسعة ورؤية سياسية لإنهاء الحروب وتأسيس وإعادة بناء الدولة السودانية الجـديدة
عقدت القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الاطاري اجتماعاً حضورياً مهماً بمدينة أديس أبابا العاصمة الأثيوبية، وذلك في الفترة من 14 إلى 15 أغسطس 2023، بحث الاجتماع أنجع السبل لإنهاء الحرب، والتدابير اللازمة لبناء جبهة مدنية عريضة تضم كافة القوى الرافضة للحرب والداعمة للتحول الديمقراطي، وتصميم عملية سياسية جديدة ذات مصداقية وشفافية تخاطب جذور وأسباب الحرب وتداعياتها ومآلاتها، وشاركت في الاجتماع القيادات السياسية والمهنية والمدنية المنضوية تحت آلية التنسيق المشترك بين القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الاطاري.
تقدم الاجتماع بالشكر لجمهورية أثيوبيا الفدرالية الديمقراطية حكومةً وشعباً على استقبال القادمين من جحيم الحرب، ولجهودهم من أجل إنهائها وترحيبهم بقيام هذا الاجتماع.
ترحم الاجتماع في فاتحة أعماله على من فقدوا أرواحهم شهداءً في الحرب من المدنيين والعسكريين، وتمنى عاجل الشفاء للجرحى والمصابين وعميق التضامن مع كل الذين شردوا من ديارهم وفقدوا ممتلكاتهم وأن هذه التضحيات لشعبنا ستثمر بذورها المروية بدماء الشهداء ودموع الجرحى والمعتقلين والنازحين واللاجئين المشردين من ديارهم بتأسيس وإعادة بناء الدولة السودانية الجديدة.
خلص الاجتماع بعد مداولات مستفيضة إلى الآتي:
أولاً: المسألة الإنسانية وحماية المدنيين وانتهاكات حقوق الإنسان:
1- أدان الاجتماع الجرائم الجسيمة والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان التي نتجت عن هذه الحرب وعلى رأسها جرائم القتل والسلب والنهب واحتلال البيوت من قبل قوات الدعم السريع، وجرائم القتل والقصف الجوي للمدنيين والاعتقالات التعسفية وحماية أنشطة وفعاليات فلول النظام البائد من قبل القوات المسلحة السودانية، إضافة إلى جرائم تأجيج الحرب وتحويلها لحرب أهلية تنشط فيها كوادر وكتائب فلول النظام البائد.
2- شدد الاجتماع على ضرورة وقف جميع أنواع الانتهاكات فوراً وإجراء تحقيق مستقل حولها يحدد المنتهكين ويحاسبهم مع اعتماد آليات فاعلة لإنصاف الضحايا ومحاسبة الجناة وجبر الضرر وتعويض المتضررين. ودعا الاجتماع المجتمع الإقليمي والدولي لوضع قضية حماية المدنيين وإيصال المساعدات الإنسانية لجميع المتضررين في مقدمة أجندته.
3- تقدم الاجتماع بالشكر الجزيل لكل دول الاقليم التي فتحت حدودها والدول الصديقة التي سارعت بإرسال المساعدات الإنسانية للمتضررين منذ أيام الحرب الأولي ولكن معظمها للأسف الشديد لم تجد طريقها للمستحقين كما شدد على ضرورة عدم تعطيل أعمال الإغاثة والسماح بدخول العاملين فيها للسودان وعدم إعاقة عملهم بواسطة الأطراف المتقاتلة.
4- قرر الاجتماع استمرار التواصل مع حكومات دول الاقليم ومخاطبتهم حول المزيد من الدعم والمساعدة لتحفيف معاناة السودانيين الفارين من الحرب.
5- دعا الاجتماع لضرورة بناء شبكة وطنية لإيصال المساعدات الإنسانية، وحث الأسرة الدولية لدعم واسناد المجتمع المدني السوداني العامل في المجال الإنساني من أجل مساعدته في الاستجابة الفعالة للكارثة الإنسانية الماحقة.
6- أشاد الاجتماع بروح التكافل لدى الشعب السوداني الذي استقبل ملايين النازحين في المدن والقري، وبالإسهام الكبير أيضاً الذي لعبته غرف الطوارئ المشكلة بالأحياء من شباب وشابات لجان المقاومة والمبادرات الإنسانية بالولايات.
7- دعا الاجتماع لضرورة إنشاء مرصد مستقل يراقب ويرصد الجرائم والانتهاكات التي حدثت وتحدث في هذه الحرب وتحديد مرتكبيها والتوثيق الجيد الذي يسهم في محاسبة المنتهكين وانصاف الضحايا وجبر الضرر.
8- قرر الاجتماع تنظيم زيارات لمعسكرات اللاجئين السودانيين في دول الجوار بعد التنسيق مع السلطات المختصة في البلدان المستضيفة.
9- وجه الاجتماع مكوناته المنتشرة في بلدان الاقليم بالتعاون مع الجاليات السودانية الموجودة بها لتشكيل فرق عمل لإسناد ومساعدة السودانيين الذين استقروا ببلدان الاقليم بسبب الحرب.
10- قرر الاجتماع تكليف د. عمر أحمد صالح كمنسق لآلية العمل الانساني.
ثانياً: رؤية إنهاء الحروب وتأسيس وإعادة بناء الدولة السودانية الجديدة:
أجاز الاجتماع بعد نقاش مستفيض رؤية شاملة لانهاء الحرب وإعادة تأسيس الدولة السودانية ونلخصها في الآتي ذكره:
أسباب وجذور الحرب:
حرب 15 أبريل هي نتاج عقود من تراكمات سلبية، صاحبت أنظمة الحكم الوطني منذ فجر الاستقلال، وغياب المشروع الوطني الذي يحظى بإجماع كافٍ، وفي هذا فإننا لن نبدأ من فراغ بل نستصحب كل إيجابيات تجربتنا ومؤسساتنا الوطنية والبناء عليها في إطار مشروع التأسيس والنهضة وإعادة البناء.
بلغت الأزمة الوطنية قمتها خلال حقبة حكم نظام الانقاذ الذي ارتكب خطايا عظيمة على رأسها تقسيم السودان وحروب الابادة الجماعية التي شنها في دارفور وجبال النوبة والنيل الازرق وشرق السودان، واستخدم خطابات العنصرية والكراهية كوقود لتغذية هذه الحروب. أدى حكم الإنقاذ الشمولي لثلاثة عقود لأن يختطف حزب المؤتمر الوطني المحلول وواجهاته السياسية أجهزة الدولة لا سيما المؤسسة الأمنية والعسكرية وعمدوا علي تخريب الانتقال، ودفعوا بالمؤسسة العسكرية إلى انقلاب 25 اكتوبر 2021م الذي واجه مقاومة جسورة حتى فشل الانقلاب، ومن ثم اشعلوا الحرب في 15 ابريل 2023م لقطع الطريق على العملية السياسية واستكمال الاتفاق الاطاري، مستخدمين في ذلك واقع تعدد الجيوش الذي صنعوه وانخراطها في الصراع السياسي، وصعدوا من خطاب الحرب ظناً منهم انهم سيحرزوا نصراً سريعاً يعيدهم الي سدة الحكم وبعد فشلهم في ذلك فإنهم يسعون لإطالة أمد الحرب وتحويلها إلى حرب أهلية شاملة بتصعيد خطاب التحشيد والكراهية والاثنية والمناطقية.
أسس انهاء الحروب تأسيس واعادة بناء الدولة السودانية الجديدة:
يجب ان تنتهي هذه الحرب عبر حل سياسي سلمي يؤدي لاتفاق وطني على مشروع سوداني نهضوي جديد قائم على المواطنة المتساوية والديمقراطية والسلام والتنمية المستدامين والعدالة الاجتماعية والانتقالية والمحاسبة والشفافية وتوازن المصالح بين المركز والاقاليم، ويبني على إيجابيات تجربتنا ومؤسساتنا الوطنية في إطار مشروع التأسيس والنهضة وإعادة البناء.
*مبادئ انهاء الحروب وتأسيس واعادة بناء الدولة السودانية الجديدة:*
1- الحفاظ على وحدة السودان وسيادته على أسس عادلة ومنصفة لجميع أبنائه وبناته.
2- التأسيس لنظام حكم مدني ديمقراطي حقيقي في جميع المستويات يختار فيه الشعب من يحكمه عبر انتخابات حرة ونزيهة في دولة تخضع لحكم القانون وتحفظ حريات وحقوق الانسان.
3- وقوف الدولة على مسافة واحدة من الأديان والثقافات وتجريم كل أشكال التمييز.
4- يكون نظام الحكم فيدرالياً يقوم على الاعتراف بالحق الاصيل لاقاليم السودان في ادارة شؤونها
5- تبني نظام اقتصادي مختلط يحمي مصالح الشرائح المنتجة والضعيفة ويعمل على استدامة البيئة والموارد الطبيعية، ويعزز من نظم الرعاية والحماية الاجتماعية ويتعاون مع المؤسسات المالية والاقتصادية الإقليمية والدولية بمنهج يقوم على الشراكة المنتجة الموجهة لخدمة السودان ويوفر الحماية والرعاية الاجتماعية للفقراء وللمنتجين.
6- بناء جيش واحد مهني وقومي يعكس تعدد السودان وتنوعه بصورة حقيقية وينهي وضعية تعدد الجيوش وينأى عن السياسة كلياً وعن النشاط الاقتصادي ويخضع للسلطة المدنية، وينقى من وجود عناصر النظام السابق وأي وجود سياسي آخر، ويجرم الانقلابات العسكرية وتكوين أي مجموعات مسلحة لا سيما المجموعات التي تسلح على أساس حزبي أو قبلي وجهوي، ويلتزم بالقانون الدولي ومواثيق حقوق الانسان العالمية والإقليمية.
7- ابتدار عملية شاملة للعدالة الانتقالية مـن خـلال تطبيـق مجموعـة مـن التدابير القضائية وغيـر القضائيـة والعدالة الجنائية الدولية تعالـج مـن خلالها مسـألة الانتهاكات الجسـيمة لحقـوق الإنسان التـي جـرت أثنـاء الحرب وفي العقود السابقة وتحول دون ارتكاب جرائم جديدة تأكيدا لمبـدأ عـدم الإفلات مـن العقـاب وإنصـاف الضحايـا وجبر الضرر والتأسيس لعقد اجتماعي جديد.
8- تفكيك نظام 30 يونيو وما جرى بعد انقلاب 25 أكتوبر ويشمل ذلك إنهاء هيمنة الحزب المحلول وإعادة تأسيس وبناء مؤسسات الدولة على أساس صحيح يجعل منها معبرة عن تعدد وتنوع السودان وملتزمة بالمهنية والكفاءة وأسس الحكم الرشيد.
9- سن السياسة الخارجية للبلاد بطريقة متوازنة تقوم على المصالح المشتركة وتحقق التعاون الإقليمي والدولي في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.
*ثالثاً: العملية السياسية المفضية لإنهاء الحروب والتأسيس للدولة السودانية الجديدة:*
أكد الاجتماع على ان المبادئ التي تتأسس عليها العملية السياسية يجب أن تكون على النحو الآتي:
1- الحرب ليست الطريق الصحيح لتسوية الصراعات السودانية، ويجب أن تبدأ العملية السياسية بوقف الحرب ومن ثم مخاطبة جذورها عبر حل سياسي سلمي شامل ينهي الحروب ويؤسس للدولة السودانية الجديدة.
2- تؤدي العملية السياسية للاستجابة الفاعلة لحل الكارثة الإنسانية التي نتجت عن الحرب، وحماية المدنيين وفق القانون الإنساني الدولي والكشف والمحاسبة وجبر الضرر عن جميع الانتهاكات الفادحة التي ارتكبتها الأطراف المتقاتلة.
3- تكون العملية السياسية مملوكة للسودانيين وبقيادتهم.
4- تتم بمشاركة كافة قوى التغيير الحقيقي والتحول الديمقراطي، ويجب في هذا الصدد التوسع في إشراك قوي الثورة والتغيير ومشاركة منصفة لممثلي الأقاليم والقطاعات الفئوية ولجان المقاومة والمجموعات النسوية والشبابية والنقابية والمهنية، ويجب أن يكون هنالك تمثيل عادل لأطراف السودان، لا سيما المناطق المهمشة، التي عانت كثيراً وطويلاً من ويلات الحروب. هذه المشاركة يجب أن تشمل الجميع عدا المؤتمر الوطني وواجهاته وحلفاءه الذين ظلوا يعملون من أجل إعاقة التحول الديمقراطي وأشعلوا الحرب.
5- يعمل الدور الدولي والإقليمي على تيسير العملية السياسية وفقاً لإرادة الأطراف السودانية، على أن تتكامل المبادرة السعودية الامريكية مع خارطة طريق الاتحاد الافريقي والايقاد ومقررات مؤتمر دول الجوار ومجهودات المجتمع الإقليمي والدولي الرامية لوقف الحرب لتصبح عملية واحدة بتنسيق بين الميسرين والأطراف السودانية.
6- تسير مفاوضات وقف العدائيات للأغراض الانسانية بين العسكريين والعملية السياسية الشاملة بالتوازي والتكامل بدون اشتراط لتسلسل محدد.
7- تتسم العملية السياسية بالشفافية والملكية والمشاركة للشعب السوداني، وأن توفر الأطراف المنخرطة فيها الأجواء المواءمة لنجاحها.
*رابعاً: بناء الجبهة المدنية العريضة كأساس للحل السياسي الشامل:*
بحث الاجتماع قضية وحدة القوى المدنية الديمقراطية المناهضة للحرب كقضية ذات أولوية، وثمن الجهد الذي بذل في بناء الجبهة المدنية المناهضة للحرب واسترداد الديمقراطية، والمجهودات والمبادرات الأخرى التي طرحتها قوى وشخصيات مدنية ديمقراطية، وأكد على أهمية تنسيق الجهود وتوحيدها والاتفاق على رؤية سياسية وصيغ عمل وتنسيق مشترك، والتوافق على تصميم العملية السياسية وأطرافها وقضاياها وطرق ادارتها، بما يسرع من جهود وقف الحرب وتأسيس وإعادة بناء الدولة السودانية الجديدة.
*خامساً: التعافي الإقتصادي وإعادة الإعمار ومجابهة تداعيات الحرب:*
وقف الاجتماع على الوضع الاقتصادي الذي انهار بفعل الحرب وقرر الاتي:
1- الشروع في تشاور واسع مع المختصين وأصحاب المصلحة لإعداد خطة اسعافية لفترة ما بعد الحرب تتضمن رؤية متكاملة لكيفية اعادة بناء القطاعات الإنتاجية وتأهيل المؤسسات الخدمية وإصلاح النظم والمؤسسات المالية.
2- إحكام آلية توصيل المساعدات، وبرنامج دعم الاسر بحيث يصل للمحتاجين فعلاً في جميع انحاء البلاد
3- الاصلاح المؤسسي لأجهزة الدولة الاقتصادية بحيث تصبح شاملة وذات فاعلية وقادرة على تنفيذ المشروع التنموي المستدام.
4- تبني استراتيجية مكافحة الفقر التي أقرتها الحكومة الانتقالية بما يحقق تطلعات كل السودانيين بعدالة، ويفتح آفاق التعاون الدولي (ازالة الفقر، واعفاء الديون وفق الهيبك).
5- حشد الموارد وتوفير الآليات لكل مكونات المجتمع السوداني المتضررة من الحرب وتحتاج للمساعدة داخل السودان وخارجه.
6- الاتفاق على مشروع شامل لإعادة الاعمار وانشاء البنية التحتية الضرورية للتنمية والخدمات في كل ربوع السودان، والتخطيط لإعادة النازحين واللاجئين لمناطقهم (الانتاج والخدمات).
7- انشاء صندوق لتمويل صغار المنتجين وتخصيص نسبة للمرأة والشباب، والتمييز الايجابي للمناطق المهمشة.
8- انشاء صندوق لتعويض ضحايا الحروب يمول من الدولة السودانية ومساهمات الأسرة الدولية.
9- التواصل مع المؤسسات الدولية لاستئناف تعهداتها ما قبل انقلاب 25 اكتوبر، ومواصلة العمل في المشروعات المتفق عليها.
10- تعزيز التعاون التنموي الاستثماري مع المجتمع الدولي والاقليمي، والشراكات الاستثمارية مع الدول الشقيقة والصديقة.
*سادساً: الوضع التنظيمي للقوى المدنية الموقعة على الاتفاق الاطاري:*
1- أشاد الاجتماع بتطور العلاقة بين القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الاطاري، والتي تشمل طيفاً واسعاً من المكونات السياسية والمدنية والمهنية، وأكد على الانفتاح لتوسيع التنسيق مع كافة القوى المناهضة للحرب.
2- أمن الاجتماع أيضاً على تطوير صيغة العمل التنظيمي المشترك بين القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الاطاري وكلف لجنة لبحث الخيارات المختلفة ومناقشتها ضمن هيئة التنسيق المشترك بغية التوصل للصيغة الأمثل للعمل المشترك خلال الفترة القادمة.
3- كلف الاجتماع هيئة التنسيق للترتيب في أقرب وقت ممكن لاجتماع موسع للقوى المدنية التي شاركت في العملية السياسية وورش عملها والتي شهدت مشاركة واسعة لقوى متنوعة من مختلف أرجاء السودان.
*ختاماً:*
اننا نؤكد أن بلادنا ستتجاوز محنة الحرب وستخرج وهي أقوى وأجمل وأفضل مما سبق، لذا فقد عزمنا على بذل أقصى الجهد لإنهاء هذه الكارثة التي أحلت بشعبنا وجعلها آخر حروب بلادنا التي وسمت تاريخها الماضي وأعاقت تطورها ونماءها واستقرارها وذلك عبر وضع حلول حقيقية لأزماتنا التاريخية والمعاصرة. اننا ندعو شعبنا الصابر المثابر لمحاربة خطابات الكراهية التي تعمل على تمزيق وحدة وطننا وهتك نسيجه الاجتماعي، إننا نؤمن أن المستقبل أفضل مما مضى متى ما توحدت إرادة القوى الوطنية الديمقراطية في السودان وخلصت نوايا الجميع من أجل انهاء الحرب وتأسيس وإعادة بناء الدولة السودانية الجديدة.
أثيوبيا – أديس أبابا
15 أغسطس 2023م
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: العملیة السیاسیة من أجل
إقرأ أيضاً:
عودة الظل القديم: خطاب البرهان وإعادة بناء السلطة على أنقاض الثورة
طلال نادر
كاتب وصحافي من السودان
بينما يقترب السودانيون من الذكرى السادسة لفض اعتصام القيادة العامة، اللحظة التي أعلن فيها الجيش انحيازه الصريح للثورة ومشروعها المدني، خرج الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان بخطابٍ في بورتسودان بدا فيه التباعد مع تلك اللحظة التاريخية لا تخفيه الكلمات، بل تؤكده الصياغة والمضمون. لم يكن الخطاب مناسبة عابرة، بل إعلان سياسي عن شكل الحكم القادم، حيث تعود السلطة إلى نقطة الارتكاز القديمة: البندقية، لا الشراكة؛ مركز القرار الأحادي، لا الإرادة الجماعية.
الخطاب جاء في توقيت رمزي محمّل بالذاكرة الوطنية، في لحظة يتصاعد فيها الانهيار المؤسسي، ويتعمق فيها الشرخ بين السلطة والمجتمع. لكنه لم يحمل أي نبرة نقد ذاتي، أو إشارة إلى مسؤولية سياسية عن الحرب الجارية أو الانقلاب على مسار الانتقال. بل بدا الخطاب، من بدايته إلى نهايته، تعبيرًا صريحًا عن مشروع مضاد للثورة، يُعيد تعريف مفاهيم الشرعية والهيبة الوطنية على أسس القوة لا الحوار، ويفتح الباب لترميم النظام القديم بآليات جديدة.
تكمن خطورة خطاب البرهان في كونه يمثل تتويجًا لمسار بدأ منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021
في خضم الخطاب، قال البرهان عبارته الأكثر وضوحًا وصراحة: "ما في مجد للساتك تاني.. المجد للبندقية بس". لا يمكن اعتبار هذه الجملة مجرد سخرية من أسلوب احتجاجي شعبي. بل إنها، بما تحمله من دلالات، إعلان سياسي صريح عن نهاية عهد الاحتجاج السلمي بوصفه مصدرًا للشرعية، وتأكيدٌ أن السلاح هو من يقرر من يحكم، ومن يُسمع صوته، ومن يُقصى. جاءت العبارة في لحظة متعمدة، وتكررت بصيغة تؤكد أنها ليست انفعالًا خطابيًا، بل موقفًا يُراد له أن يُكتب كعنوان للمرحلة القادمة.
التحوّل الخطابي في هذا المستوى لا يُقرأ بمعزل عن مسار ما بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021، حين أُطيح بالحكومة المدنية وشُطبت الوثيقة الدستورية عمليًا، وعادت السلطة إلى قبضة العسكر دون شراكة. منذ ذلك الحين، مضى الجيش في إعادة هندسة الحقل السياسي، فتم تعطيل المؤسسات، وتفكيك القوى المدنية، ثم جاءت الحرب في أبريل 2023 لتكمل ما بدأه الانقلاب، هذه المرة من داخل المعسكر العسكري نفسه. وفي هذا السياق، لا يبدو خطاب البرهان الأخير إلا تتويجًا لهذا المسار، وشرعنة لغوية للعنف بوصفه أداة الحكم الوحيدة.
وفي مقابل هذا التمركز حول السلاح، قدّم البرهان تطمينات شكلية حين نفى وجود أي تحالف مع عناصر النظام السابق، قائلاً: «ما يُشاع عن دور المؤتمر الوطني أو الإسلاميين في هذا الصراع عارٍ عن الصحة». لكنه، وفي السياق ذاته، دعا إلى «إشراك كل المكوّنات، حتى من غادروا مواقعهم يوم الاعتصام». هذا التناقض لا يمكن فصله عن محاولة تبييض التحالفات القديمة، وتقديمها هذه المرة تحت لافتات الوحدة الوطنية والمصالحة المجتمعية، من دون أي التزام بالعدالة أو الاعتراف بالانتهاكات التي ارتكبتها تلك القوى.
أما على صعيد الإصلاح المؤسسي، فقد تحدّث البرهان عن "مراجعة الأنماط العقيمة" في الخدمة المدنية، في تكرار لعبارات فضفاضة تُلقى في كل خطاب رسمي منذ عقود. لم يتضمن الطرح أي التزام زمني أو خطة عملية أو مساءلة سياسية عن مسؤولية الحكم الحالي في ما وصلت إليه مؤسسات الدولة. وكأن الأزمة الإدارية نشأت من ذاتها، لا من قرارات سياسية تفتقر للشفافية والمهنية والعدالة في التوزيع. وفي مقطع آخر، عرض البرهان استعداد الدولة للعفو عن من "يضع السلاح ويتبرأ من الذنوب"، في إشارة إلى عناصر الدعم السريع. لم تأت هذه المبادرة في سياق تسوية سياسية متكاملة، بل كترتيب أمني هدفه اختراق صف الخصم وتفكيكه. لا حديث عن محاكم، أو تحقيقات، أو تعويضات، أو حتى إطار عدالة انتقالية يحترم ذاكرة الضحايا. كل شيء في الخطاب ينتمي إلى منطق الغلبة العسكرية، لا التفاوض أو الإصلاح.
تكمن خطورة خطاب البرهان، إذًا، لا فقط في عباراته اللافتة أو في نزعته الواضحة لتمجيد القوة، بل في كونه يمثل تتويجًا لمسار بدأ منذ انقلاب 25 أكتوبر 2021، حين قررت المؤسسة العسكرية إجهاض الشراكة الانتقالية مع القوى المدنية، وأغلقت الباب أمام مشروع تأسيس دولة قائمة على المشاركة والتوازن. ذلك الانقلاب لم يكن مجرد لحظة تعطيل دستوري، بل كان الترس الأول في ماكينة إعادة إنتاج السلطة الأحادية، التي لا ترى في المدنيين شركاء، بل خصومًا أو ديكورًا مؤقتًا.
الآن، وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على ذلك المسار، وبعد اندلاع الحرب التي فجّرت تناقضات التحالف العسكري – الأمني، يبدو أن خطاب البرهان الأخير ليس إلا إعادة ترسيمٍ علني لهندسة سياسية تُقصي الثورة وتُعيد تموضع الجيش كمركز القرار المطلق. أما "المجد للبندقية" فليست فقط عبارة قيلت في لحظة تعبئة، بل شعار المرحلة القادمة: مرحلة يُعاد فيها تعريف الوطنية من منظور عسكري صرف، وتُعاد فيها كتابة الرواية الرسمية للتاريخ، بحيث يُمحى صوت الشارع، ويُختصر الوطن في فوهة بندقية.
ما يجعل هذا الخطاب أكثر إرباكًا وخطورة هو توقيته، الذي يتزامن مع اقتراب ذكرى مجزرة القيادة العامة، ومع استمرار النزوح الجماعي وانهيار الاقتصاد والمؤسسات. فبدلاً من الاعتراف بالأخطاء، أو تقديم رؤية سياسية تفتح الباب أمام تسوية وطنية شاملة، اختارت السلطة أن تصعّد خطابها وتُحكِم قبضتها، وتستبدل شعار الثورة بآخر مضاد له تمامًا. في هذا السياق، يبدو أن المستقبل الذي يُراد للسودانيين أن يدخلوا إليه ليس امتدادًا لأحلام ديسمبر، بل انقطاعٌ حادٌ عنها. إنه مستقبل تُفرَغ فيه الثورة من مضمونها، وتُعاد فيه النخب القديمة بمسميات جديدة، وتُرسم فيه العلاقة بين المواطن والدولة على أساس الطاعة لا المشاركة، وعلى أساس المجد للبندقية لا للمبادئ.
لم يكن الخطاب مناسبة عابرة بل إعلان سياسي عن شكل الحكم القادم حيث تعود السلطة إلى نقطة الارتكاز القديمة
يبقى السؤال المفتوح: كيف يمكن لقوى الثورة، التي صنعت التاريخ في الشارع لا في مكاتب التفاوض، أن تواجه هذه الموجة المضادة؟ وهل يُمكن لنداءات الحرية والسلام والعدالة أن تستعيد صوتها وسط ضجيج الرصاص؟ ما هو مؤكد حتى الآن، أن السلطة اختارت موقعها بوضوح، ولم تعد تناور: لقد قالتها صراحةً، إن المجد للبندقية… فهل سيقبل الناس بذلك؟
نقلا عن "ألترا صوت"