ترامب وتراجع الحلم الأمريكي
تاريخ النشر: 18th, November 2024 GMT
عبد النبي العكري
ينتصب في جزيرة ليبرتي المُواجهة لميناء نيويورك تمثال الحرية الشهير والذي يستقبل القادمين إلى الولايات المتحدة من جهة البحر شرقا، والتمثال وهو من النحاس عبارة عن امرأة تماثل إلهة الشمس الرومانية بلباس روماني وعلى رأسها تاج يماثل الشمس، وتمسك بيدها اليمنى المرتفعة شعلة الحرية، وتقبض بيدها اليسرى كتاباً مكتوباً عليه بالرومانية (4 يوليو 1776)، وهو تاريخ استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن بريطانيا، وتدوس برجليها على الأغلال المحطمة كرمز لنهاية العبودية.
كما إنه منقوش في قاعدته ما فحواه "تعالوا أيها الهاربون من القمع والخوف والظلم إلى العالم الجديد؛ حيث الحرية والأمان". وقد نصب التمثال في 28 أكتوبر 1886، وهو من تصميم الفرنسي فيردريك بيرتهولد وتنفيذ غوستاف إيفيل وهو هدية من الشعب الفرنسي إلى الشعب الأمريكي بمُناسبة مرور 100 عام على الاستقلال ونهاية الحرب الأهلية بتحرير العبيد في أمريكا في عهد الرئيس لنكولن.
منذ إقامة تمثال الحرية وهو يرمز إلى ترحيب أمريكا بالمهاجرين من مختلف أنحاء العالم الهاربين من القمع والتمييز والاضطهاد والفقر والباحثين عن الحرية والأمان وفرص التقدم في العالم الجديد. ولذلك عرفت أمريكا بأنها أمة من المهاجرين يجمعهم الحلم الأمريكي بفرص غير محدودة. ولا تزال الولايات المتحدة أكبر بلد مستقبل للمهاجرين ومن يتم منحهم الإقامة الدائمة والجنسية الأمريكية وكل من يولد بأمريكا هو أمريكي تلقائيًا.
بالطبع الأمر الآن ليس بهذه الصبغة الوردية والأحلام الجميلة الآن وقد تغيرت أمور كثيرة. وتظهر نتائج الانتخابات الأخيرة وفوز دونالد ترامب بالرئاسة وعودته السريعة للبيت الأبيض وفوز الحزب الجمهوري بالأغلبية في الكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب، استنادا لبرنامج ترامب اليميني فرصة لمراجعة الحلم الأمريكي.
ترامب واستعادة "أمريكا العظيمة"
مثّل انتصار دونالد ترامب على كاميلا هاريس وفوزه بالرئاسة بأغلبية ساحقة لأصوات المجمع الانتخابي وأصوات الناخبين الأمريكيين مفاجأة ومخالفة لتوقعات المختصين وكذلك استطلاعات الرأي العام التي كانت نتائجها متقاربة جدا. ولقد خبر الشعب الأمريكي ترامب في فترة رئاسته الأولى بين عامي 2017 و2020، والتي خسر بعدها منافسا جو بايدن واعتبرها كثير من المحللين أنها فترة استثنائية لن تتكرر والتحذير من خطورة عودة ترامب على النظام الديمقراطي الأمريكي وعهد نذيرا بالاستبداد. لكننا نعرف الآن ماحدث، وأن ترامب سيكمل مابدأه في رئاسته الأولى ولكن على نطلق أوسع وأعمق بكثير في ضوء ما يعتبره تفويضاً قوياً من الشعب الأمريكي لبرنامجه والذي هو جوهر برنامج الحزب الجمهوري بقيادته دون منازع.
ولقد عبرت قيادات الحزب الجمهوري وقيادة الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ والقيادة المرتقبة بمجلس النواب عن دعمهم وولائهم للرئيس المنتخب دونالد ترامب. وبدوره فإن ترامب عمد إلى اختيار الوزراء (سكرتيرين بالتعبير الأمريكي) وكذلك كبار مساعديه استنادا إلى معاييره حيث يحتاج معظمهم إلى موافقة الكونجرس بمجلسيه وهي مضمونة، كما إنه ومن خلال أعضاء إدارته سيستبدل من يريد من بين حوالي 3500 موظف فيدرالي.
طرح ترامب الشعار المركزي لحملته الانتخابية "لنجعل أمريكا عظيمة مجددا"و وأمريكا أولا" واستنادا إليه صاغ برنامجه في شعارات ومواقف مختزلة وأهمها ما يتعلق بالهجرة والتوطين وضريبة الدخل والضرائب على الواردات وتحفيز الأعمال للأمريكيين وإطلاق صناعة الطاقة النفطية وكذلك استرجاع موقع أمريكا القيادي في العالم عسكريا وسياسيا واقتصاديا.
ماذا تعني السياسات والتعيينات؟
خلال حملته الانتخابية عبر دونالد ترامب عن رؤيته للسياسات التي سيتبعها إذا فاز بالرئاسة والتي تعتبر غير اعتيادية في السياسات التي طبعت النظام السياسي الأمريكي، وقد جرى إقرار برنامج الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة والكونجرس في مؤتمر الحزب الجمهوري في وسكنسين في أغسطس 2024 لتثبيت ترشيح دونالد ترامب ونائبه جورج فانس (الإنجيلي) كمرشحين عن الحزب الجمهوري للرئاسة. والملاحظ أن جميع من نافسوا ترامب في الانتخابات التمهيدية للترشح عن الحزب الجمهوري، قد التحقوا به خلال حملته الانتخابية لاحقاً وأيدوا أطروحاته وعبروا عن ذلك في مؤتمر الحزب الجمهوري.
بعد فوز ترامب بالرئاسة في 5 أكتوبر 2024، عمد إلى إقامة احتفال بالنصر في مقر إقامته في بالم بيتش بفلوريدا مساء اليوم التالي حيث عرض أبرز مرتكزات برنامج حكمه بإحداث تغييرات جوهرية للسياسات الداخلية والخارجية وبنية الدولة الفدرالية. وفي مقابلات لاحقة هاجم ما يعتبره الدولة العميقة وضرورة تفكيكها وكذلك البيروقراطية الفدرالية وضرورة تقزيمها وتخفيض ضريبة الدخل وتشجيع إنتاج واستهلاك النفط والغاز وإلغاء قيود البيئة والتشدد في الحق في الإجهاض والتحول الجنسي ولا مركزية التعليم. وفي السياسة الخارجية فإنه سيعمل لتحميل الحلفاء في الناتو والأصدقاء الأعباء المالية لحمايتهم وأمنهم والعمل لإنهاء الحرب في أوكرنيا بصفقة غامضة وإنهاء حرب الشرق الأوسط بتسوية لصالح "إسرائيل" وتصفية القضية الفلسطينية وإنهاء محور المقاومة بقيادة إيران وإجراءات عقابية ضد الصين وغيرها من القضايا. كما لايخفي ترامب عزمه على إزاحة من يخالفونه والانتقام ممن نازعوه.
في اختياره للوزراء والمسؤولين والمساعدين فإنَّ ترامب يأخذ بالاعتبار الأول ولاءهم له شخصياً والموافقة دون تحفظ على برنامجه وسياساته. ومن هنا فإن عدم كفاءة وقلة خبرة العديد منهم نتيجة طبيعية. كما إن القاسم المشترك لاختيارات ترامب فهو صهيونيتهم الفاقعة وتأييدهم "لإسرائيل" ولو على حساب المصلحة الأمريكية القومية كما إنَّ شعاره "أمريكا أولا" يعني تخليها عن التزاماتها بالشرعية الدولية والقانون الدولي ومصالح الآخرين، كونها الدولة العظمى الأولى في العالم. كما لوحظ أن عددا ممن اختارهم ينتمون إلى طبقته من كبار الأغنياء ومن مولوا حملته الانتخابية.
وتعد الهجرة من أهم مضامين برنامج ترامب الداخلي وقد وعد بالقيام بأكبر عملية ترحيل في تاريخ أمريكا. أما الوزيران المختصان مباشرة بشؤؤنها فهما وزير الداخلية ومدير الهجرة. اختار ترامب كريستي ناؤؤمي، حاكم ولاية داكوتا الجنوبية كوزيرة للداخلية وهي من أهم داعمي ترامب. كما اختار ترامب توم هومان مدير الجمارك السابق كمسؤول مطلق الصلاحية للهجرة. والمعروف عنه تأييده للترحيل الجماعي بما في ذلك ترحيل العائلات بأكملها بمن فيهم الحاملون للجنسية الأمريكية من أبناء المهاجرين غير الشرعيين أو ممن يجري تسويه أوضاع إقامتهم.
اختار ترامب منافسه السابق في سباق الترشح وأشد منتقديه والذي تحول إلى داعم متحمس، ماركو روبيو وزيرا للخارجية وهو من الصقور ومؤيد متحمس لإسرائيل ولإنهاء حرب أوكرانيا ومناهض متشدد للصين وإيران.
وفي تأكيد لمقولة "أمريكا أولا" فقد أسند وكالة حماية البيئة إلى لي زيلدن الذي أكد على دعم إنتاج أمريكا مصادر الطاقة من النفط والغاز لإنعاش الاقتصاد الأمريكي وإلغاء القيود للاعتبارات البيئية.
كافأ ترامب ايلسي ستيفك عضوة لجنة التعليم بمجلس النواب التي استجوبت رؤساء أبرز الجامعات الأمريكية التي شهدت احتجاجات واسعة وتسببت في إقالتهم كسفيرة له في الأمم المتحدة وهي من غلاة المؤيدين لقمع الاحتجاجات الطلابية ودعم "إسرائيل".
وكافأ ترامب مديرة حملته الانتخابية التي أوصلته للفوز سوزي ويليز مسؤولة إدارة البيت الأبيض وما يعنيه من تنظيم أعمال الرئيس عن قرب.
أما روبرت كينيدي الابن والذي انشق من الحزب الديمقراطي وخاض انتخابات الرئاسة مستقلا، وفي نهايتها أعلن تأييده لدونالد ترامب وحث أنصاره على التصويت لترامب، فقد كافأه بتعيينه وزيرا للصحة، رغم أنه ممن أنكروا وباء كوفيد ويفتقد للكفاءة.
وجاء تعيين ترامب لأحد مناصريه النائب بات جيتز. والمتهم بالتحرش والتجارة الجنسية بالأطفال حيث خضع لتحقيقات وزارة العدل لسنتين، لمنصب الادعاء العام المسؤول الأول لإنفاذ القانون. لتحدث هزة مدوية، ولكن ترامب يتوقع منه إلغاء القضايا المرفوعة ضده في المحاكم وملاحقة خصومه.
ولتحجيم الإدارة الفيدرالية فقد عهد إلى كل من البليونير إيلون ماسك والمليونير فيفك رنمسواري، منافسه السابق في الترشح والملتحق به، بإدارة جديدة هي دائرة تقييم الكفاءة الحكومية لاقتراح إلغاء ما تراه من مؤسسات ووظائف فدرالية، ويرى ترامب ضرورة لإلغاء وزارة التربية- مثلا- كما إن ماسك سيحقق لشركاته للفضاء والسيارات الكهربائية مكاسب خيالية من أموال الدولة.
لكن المفاجأة الأكبر هي اختيار ترامب بيت هاجس لوزارة الدفاع وهي أهم وأخطر وزارة. بيت هاجس هذا إنجيلي متعصب وبالتالي صهيوني عقائدي مؤمن بوجود "إسرئيل" الكبرى وإقامة الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى يسبق قيام المسيح مجددا. بيت هاجس ضابط سابق شارك في الحرب في العراق وأفغانستان وما رافقها من جرائم ثم التحق بفوكس نيوز واستضاف ترامب عدة مرات ثم تطوع في حملته الانتخابية وكافأه ترامب باختياره وزيرا للدفاع.
اختار ترامب جون راتكليف وهو مدير سابق للأمن الوطني خلال ولاية ترامب الأولى كمدير لوكالة المخابرات المركزية وقد سبق أن فبرك اتهامات ضد هيلاري كلينتون منافسة ترامب.
ومن أغرب التعيينات اختيار ترامب لستيفن ويتكوف المليونير والمشتغل في العقارات ومن أكبر الممولين لحملة ترامب ممثلة للشرق الأوسط في مؤشر لسياسة حلب الأصدقاء الخليجيين.
وبشكل استثنائي اختار ترامب الضابط السابق في القوات الخاصة مابك هوكابي وهو انجيلي مؤيد متشدد "لإسرائيل" سفيرا له في الكيان الصهيوني كمؤشر خطير لدعم حروبها العدوانية.
كما اختار ترامب مايك والز السناتور عن فلوريدا والضابط السابق للقوات الخاصة كمستشار للأمن القومي وهو مركز حساس ومقرر السياسة الأمنية ويؤيد بحماس مواقف ترامب تجاهها.
وبالنسبة للسياسة الحمائية في مواجهة الصين والاتحاد الأوربي وغيره فقد اختار لوزارة التجاره لندا ماكمهون المتحمسة لذلك.
وأناط ترامب مسؤولية الملف الإيراني وتبعات محور المقاومة بنائبه جورج فانس الإنجيلي المتحمس والذي خدم في القوات الأمريكية في العراق.لكن الغريب هو أن أول اتصال بين الطرفين تم في لقاء سفير إيران في الأمم المتحدة وإيلون ماسك.
مرحلة خطرة لأمريكا والعالم
ما عرضناه بعض من برنامج وسياسات ترامب وإدارته المرتقبة وكذلك أهم تعييناته لإدارته ومساعديه وهي تثير المخاطر لأمريكا والعالم في ظل سيطرة ترامب والحزب الجمهوري على الرئاسة والسلطة التشريعية وضمان المحكمة الفدرالية العليا، وهيمنة أمريكا على المعسكر الغربي في ظل نظام عالمي يفتقد إلى محور مجابه للتحالف الغربي. لكن السياسات المتطرفة واللاعقلانية والاستبدادية ستقود إلى تفجر الصراعات في أمريكا ذاتها وتعمق الخلافات في المعسكر الغربي، مع صعود دول أخرى مثل الصين وتشكل تحالفات مثل بريكس.إنها بالتأكيد مرحلة جديدة.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ترامب والدولار الأمريكي وباقي العالم
في عام 1971 قال جون كونالي وزير الخزانة الأمريكي لنظرائه الأوروبيين: «الدولار عُمْلتُنا، لكنه مشكلتكم» خلال فترة نصف القرن التالية تغير الاقتصاد العالمي لكن ما قاله كونالي يظل صحيحا. فعلى الرغم من أن قيمة الدولار لا زالت تتقرَّر إلى حد بعيد بالتطوراتُ الداخلية في أمريكا إلا أن تقلبات قيمته صعودا وهبوطا تتردد أصداؤها دائما تقريبا في أرجاء العالم. أحد هذه التقلبات الكبيرة ربما على وشك أن يحدث. فالسياسات الاقتصادية التي وعد بها الرئيس المنتخب دونالد ترامب ستعزز قوة الدولار كما يبدو. وهذا سيسبب متاعب للنمو الاقتصادي في باقي بلدان العالم. ليست واضحة بالضبط تلك الأجزاء من أجندة ترامب الاقتصادية التي سيكون راغبا في تطبيقها ويستطيع فعلا أن يطبقها. لكن الدّوار الذي أصاب أسواق الأسهم في أمريكا يعطي مؤشرات على ما يتوقعه المستثمرون. فمؤشر ستاندارد آند بورز 500 للشركات الأمريكية الكبيرة سجل ارتفاعات قياسية متتالية في أيام 6 و7 و8 نوفمبر. ويقدِّر المتداولون أن الإدارة الأمريكية القادمة ستعزز أرباح الشركات الأمريكية من خلال التخفيضات الضريبية وتخفيف الإجراءات التنظيمية مع ارتفاع اقتراض الحكومة. واقترانُ ارتفاع العجوزات (في الموازنة الحكومية) باشتعال التضخم مرة أخرى قد يجبر بدوره البنك المركزي الأمريكي على الإبقاء على أسعار الفائدة عند مستوى أعلى من المستوى الذي يمكن أن تكون عليه في حال عدم وجود ترامب في سدَّة الحكم. أسعار الفائدة المرتفعة هذه ستجعل الاحتفاظ بالأوراق المالية المقوَّمة بالدولار أكثر جاذبية وهذا يشكل قوة دافعة لارتفاع قيمة الدولار. جزء من هذا السيناريو بدأ يحدث فعلا. ففي 7 نوفمبر وكما هو متوقع خفَّض بنك الاحتياطي الفيدرالي النطاقَ المستهدف لسعر الفائدة على الأموال الفيدرالية الى ما بين 4.5% و4.75%. لكن جيروم باول رئيس البنك ترك الباب مفتوحا لإبقاء النطاق السعري للفائدة على حاله في اجتماع ديسمبر القادم بدلا من الاستمرار في خفضه. وما له دلالة أن اللجنة التي تتولى وضع سعر الفائدة لم تقل في البيان الذي صاحَبَ قرارَها «البنك أكثر ثقة في أن التضخم يتحرك باستمرار نحو معدل 2%،» كما سبق لها أن ذكرت في بيانها في شهر سبتمبر. احتمال ارتفاع معدلات الفائدة الأمريكية دفع سعر الدولار الى أعلى بنسبة 1.5% مقابل سلة عريضة من العملات خلال الأسابيع الأربعة الأخيرة. وكثيرًا ما يترافق ارتفاع سعره مع ضعف التوقعات الاقتصادية العالمية. أحد أسباب ذلك أن المستثمرين في أوقات الاضطراب الاقتصادي يميلون إلى التخلص من الأصول التي تنطوي على مخاطر ويتزاحمون لشراء الأصول التي يعتبرونها آمنة وخصوصا الدولار وسندات الخزانة الأمريكية. وفي حين تميل التوقعات المستقبلية التي تزداد قتامة إلى ازدياد قوة الدولار كثيرا ما يجعل الدولار بدوره هذه التوقعات أكثر قتامة أيضا. وجدت دراسة لصندوق النقد الدولي نشرت في عام 2023 أن ارتفاعا في قيمة الدولار بنسبة 10% يخفِّض الانتاج في الاقتصادات الصاعدة بعد عام واحد بنسبة 1.9 نقطة مئوية. أما البلدان الغنية فأقل تأثرا. لكن مع ذلك يتقلص إنتاجها بنسبة 0.6 نقطة مئوية. الانفراجة تأتي ببطء. فحسب الدراسة المذكورة قد تستمر الآثار الضارة للدولار القوي لمدة سنتين ونصف السنة بالنسبة لبلدان الاقتصادات الصاعدة وسنة للبلدان الغنية. التقلبات في قيمة الدولار تهز اقتصاد العالم عبر قناتين هما التجارة والتمويل. فأكثر من 40% من التجارة العالمية (والولايات المتحدة ليست طرفا في معظمها) مُفوْتَرَة بالدولار. والعملة الأمريكية حين تزداد قوة (بمعنى حين يرتفع سعرها مقابل العملات الأخرى) تزيد التكاليف للمستوردين. وهذا يُضعف الطلب على السلع من الخارج ويقلص الحجم الكُلِّي للتجارة. لذلك في معظم آسيا وأمريكا اللاتينية التحركاتُ في قيمة الدولار أكثر أهمية من التقلبات في قيمة العملات المحلية. وجدت دراسة أكاديمية نُشرت في عام 2020 أن ارتفاعا بنسبة 1% في قيمة الدولار مقابل كل العملات يُنبئ بانخفاض بنسبة 0.6% في التجارة بين البلدان في باقي العالم (بعد تحييد تأثير العوامل الأخرى.) وحسب بنك التسويات الدولية وهو نادي البنوك المركزية يرفع الدولار القوي أيضا تكاليف شراء السلع الوسيطة ويخاطر بانهيار سلاسل الإمداد الطويلة. التغذية الراجعة المالية (الطريقة التي تؤثر بها التغيرات في قيمة الدولار على الأنظمة المالية للبلدان والشركات الأخرى- المترجم) مهمة تماما بقدر أهمية الآثار التجارية لارتفاع العملة الأمريكية. فبالنسبة للبلدان والشركات التي اقترضت بالدولار ولكنها تفتقر لمصادر الإيرادات الدولارية يضخِّم ارتفاعُ الدولار تلقائيا عبءَ ديونها ويزيد تكاليف الفائدة التي تدفعها عليها. أيضا ارتفاع سعر الفائدة في الولايات المتحدة الى جانب ارتفاع سعر الدولار يجعل الاستثمار في باقي بلدان العالم أقل جاذبية. يميل رأس المال الى الخروج من بلدان الأسواق الصاعدة مما يضطرها إلى رفع أسعار الفائدة أيضا وتشديد أوضاعها النقدية وذلك تماما عندما قد تبدأ اقتصاداتها في المعاناة من تباطؤ عام في التجارة. هذه القوة الضاغطة التي ترفع تكاليف الاقتراض خارج أمريكا واضحة سلفا. ففي الساعات الأولى من يوم 6 نوفمبر عندما اتضحت نتيجة الانتخابات ارتفع عائد سندات الخزانة الأمريكية بشدة. وأيضا عائداتُ السندات الحكومية الأسترالية والنيوزيلاندية واليابانية. لاحقا شهدت بعض هذه الارتفاعات في العائدات تراجعا وذلك بعد خفض بنك الاحتياطي سعر الفائدة في 7 نوفمبر. لكن قد يتضح أن هذه الانفراجة مؤقتة. وأي ارتفاع مجددا في العائدات سيكون توقيته سيئا. فبنوك مركزية عديدة تحاول دعم النمو الضعيف في بلدانها بخفض أسعار الفائدة وتيسير الائتمان. سيتضح في مقبل الأيام ما إذا كانت قوة الدولار ستستمر، لقد شكا دونالد ترامب نفسه منذ مدة طويلة من أن الدولار القوي يؤذي الشركات الصناعية المحلية ويكلِّف وظائف أمريكية، لكنه لا يستطيع بسهولة إجبار البنك المركزي على خفض أسعار الفائدة. وطالما بقيت أسعار الفائدة مرتفعة ستظل العملة الأمريكية الملاذَ المفضّل للمستثمرين ومشكلةً شائكة للعالم. |