الأمة بين سيف بايدن المكسور وسيف ترامب المشهور.. قراءة في المصالح والمطارح
تاريخ النشر: 18th, November 2024 GMT
منذ فوز الرئيس الأمريكي المنتخب ترامب بالانتخابات الرئاسية؛ انشغل الجميع بتحليل تأثير ذلك على العالم وخاصة منطقة الشرق الأوسط، وتركز قسم كبير من وجهات النظر هذه في تحديد حجم التأثير الذي يمكن أن يحدثه ترامب في السياسة الأمريكية الخارجية والداخلية، ومدى نجاحه في الصراع المحتمل مع الدولة العميقة والمؤسسات السيادية هناك.
وما يعنينا في هذا المقال هو تسليط الضوء على نقطة هامة فيما يخص فلسطين والشرق الأوسط، وهي أنّه سواء كان ترامب أم بايدن أو أيا من كان، فعلاقة واشنطن بتل أبيب لا تقوم فقط على دوافع دينية وعقدية -تحدثنا عنها في المقال السابق- ولكنها تقوم على مصالح استراتيجية عليا بين الطرفين تحتاج فيها واشنطن إلى وجود إسرائيل في المنطقة؛ حتى مع تغيّر أوزان هذه المصالح صعود وهبوطا بين الحين والآخر، لكن تظلّ ثوابت هذه العلاقة قائمة وثابتة لا تتغير في المنظور القريب والمتوسط.
من يحكم الشرق الأوسط يحكم العالم
فمنطقة الشرق الأوسط هي قلب العالم كما يقول منظّرو الجيوبوليتك، لذلك حظيت باهتمام كبير من جميع الحضارات والإمبراطوريات عبر التاريخ الإنساني. والحروب الصليبية شاهد على ذلك.
لكن فيما يخص موضوعنا تحديدا، نجد محمد حسنين هيكل في كتابه "المفاوضات السرّية بين العرب وإسرائيل" 37، يقول إن "نابليون بونابرت منذ ثلاثة قرون لكي يضمن عدم التقاء الضلعين عربيا وإسلاميا -المصري والسوري- فإنه زرع عند مركز الزاوية هذه شيئا آخر لا هو عربي ولا هو إسلامي.. وهكذا تشكلت رؤية نابليون الاستراتيجية من خلال "الورقة اليهودية" التي أظهرها أمام أسوار القدس، ووُزِّعت على كل يهود العالم، تصوُّرا للمستقبل ورؤية ربما لا تتحقق بسرعة لكنها قابلة للتحقيق في مستقبل الأيام" انتهى.
لذلك ليس مستغربا أنه بعد قيام دولة الاحتلال بخمس سنوات فقط -عام 1953م- أبرمت "إسرائيل" تحالفا مع فرنسا لتعزيز الأمن في دولة الكيان، وكان أهم بنوده مساعدة تل أبيب في بناء مفاعل "ديمونا"، فضلا عن تزويد وتطوير الكيان لمنظومة صواريخ بعيدة المدى بموجب هذه الاتفاقية.
الكيان كدولة حاجزة
فكرة الحاجز بين شرق وغرب العالم العربي موطن الحضارة والإسلام كانت حاضرة في ذاكرة قادة الغرب منذ قرون طويلة، واختراع إسرائيل لم يكن الّا الترجمة الحرفية لهذه السياسة، لذلك من التبسيط المخل والمعيب جعل التضامن الغربي الكبير الحاصل مع الكيان بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر مرده فقط لقوة النفوذ الصهيوني وتأثيره في دوائر صنع القرار في الغرب، وليس لأن الكيان هو مصلحة غربية عليا
وعليه ففكرة الحاجز بين شرق وغرب العالم العربي موطن الحضارة والإسلام كانت حاضرة في ذاكرة قادة الغرب منذ قرون طويلة، واختراع إسرائيل لم يكن الّا الترجمة الحرفية لهذه السياسة، لذلك من التبسيط المخل والمعيب جعل التضامن الغربي الكبير الحاصل مع الكيان بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر مرده فقط لقوة النفوذ الصهيوني وتأثيره في دوائر صنع القرار في الغرب، وليس لأن الكيان هو مصلحة غربية عليا يجب الحفاظ عليها لضمان بقاء العرب تحت السيطرة.
أمَّة يهودية مستقلة في يهودا
على الجانب الآخر من المحيط، نجد الرئيس الأمريكي جون آدامز (1767- 1848م) يعبّر عن دعمه لعودة اليهود إلى وطنهم، في رسالة بعثها إلى صديقه الكاتب اليهودي مانويل نوح في عام 1818م، تضمنت أمنية آدامز برؤية "أمَّة يهودية مستقلة في يهودا" مرة أخرى(1)؛ لأن مَن يسيطر علـي هذه المنطقة يسيطر على العالم". وهنا يتكرر الحديث عن أنّ مفتاح السيطرة على العالم لا يتأتّى إلا من السيطرة على فلسطين، وبهذه يجتمع قادة الغرب على جانبيّ الأطلسي على نفسه الرؤية من وجود الكيان المحتل منذ مئات السنين.
عقيدة ترومان
هذه المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة مع إسرائيل عبرت عن بعضها مبكرا مذكرة سرية لوزارة الدفاع الأمريكية في عهد ترومان، أرسلت إلى مجلس الأمن الدولي، في 16 أيار/ مايو 1949م، بعنوان "مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية في إسرائيل.. أهمية إسرائيل الاستراتيجية للولايات المتحدة". وقد ركزت المذكرة على موقع إسرائيل الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ودورها في حماية المصالح النفطية الأمريكية في الخليج العربي والمنطقة الممتدة بين القاهرة والسويس(2).
شكلت هذه المذكرة السرية أساس "عقيدة ترومان" المتعلقة بدور إسرائيل الاستراتيجي، والتي حكمت العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل منذ عام 1948م وحتى اليوم، وتبناها جميع الرؤساء الأمريكيون بعد ترومان. لاحقا، اعتبرت واشنطن "إسرائيل" حليفا استراتيجيا من الدرجة الأولى، رغم عدم عضوية إسرائيل في حلف شمال الأطلسي(3).
المصالح المتبادلة بين الطرفين
بعد انتهاء الخلافة العثمانية التي كانت مظلة سياسية للأمة الإسلامية، وانتهاء حقبة الاستعمار المباشر للوطن العربي خلال العقود الأولى من القرن الماضي، وانتقال العالم إلى نظام ثنائي القطبية، تربعت واشنطن وموسكو على قيادة العالم.
في ظلال الحرب الباردة وبعد نكسة 1967 وهزيمة العرب على يد الكيان الصهيوني في فترة بسيطة، وتنديد فرنسا بالهجوم الإسرائيلي، اتجهت تلّ أبيب بكامل طاقتها إلى واشنطن وبدء الزواج الكاثوليكي بين الطرفين، بكل تأكيد كما أسلفنا كانت العلاقة بينهما تنمو قبلها بقرون، ولكنه يمكن أن نقول إنّها كانت علاقات ما قبل الزواج!!
بعد النكسة وبروز تل أبيب كقوى إقليمية لا يستهان بها احتاج الغرب أكثر إلى إسرائيل ككيان وظيفي في مواجهة الاتحاد السوفييتي ولاحقا في ضمان التحكم والسيطرة على المنطقة، ليقدم مجموعة من الخدمات الحيوية للغرب عموما ولواشنطن خصوصا.
عبّر عن هذا التحول على سبيل المثال لا الحصر وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، حين قال: "طبيعة النظام الإسرائيلي وتشدّده يشكلان أوراقا رادعة يمكن استغلالها"، كذلك جوزيف شوربا، وهو مستشار للرئيس ريغلن، حين قال "إسرائيل منذ تأسيسها أدّت دور مانع صواعق، يُبعد اهتمام الراديكاليين بعيدا عنا".
ولماذا نذهب بعيدا والرئيس الأمريكي الحالي بايدن هو الذي كرر أكثر من مرة "لو لم تكن هناك إسرائيل لاخترعناها" لتدليل على أهميتها الاستراتيجية لواشنطن!
المصالح الاستراتيجية بين الطرفين
تمثلت هذه المصالح الاستراتيجية بين الطرفين في عدة نقاط مهمة هي:
1- الحفاظ على الممرات المائية الحيوية (قناة السويس، وباب المندب) التي تمثل شريان حياة للغرب، لأن معظم صادرات النفط تأتي من قبلها، فضلا عن التجارة العالمية مع الشرق الأدنى.
العلاقات الأمريكية الصهيونية هي أكبر من تغيير رئيس بآخر، وأن ما ننتظره من ترامب هو ذاته ما سننتظره من كامالا هاريس إن كانت هي الناجحة، فلا فارق في السيناريو، ولكن فقط في طريقة الإخراج والديكور المستخدم ومساحيق التجميل من حقوق الإنسان والديمقراطية ونحو ذلك
2- ضمان السيطرة على مصادر النفط في الخليج العربي، لأن مَن يسيطر على مصادر النفط يسيطر على العالم وقتها.
3- إنهاك وإلهاء المحيط العربي بالكيان الصهيوني، واستنزاف موارده في الصراع العربي الإسرائيلي، مما يجعله في حالة تخلف وتبعية دائمة لتحالف (واشنطن- تلّ أبيب).
4- استخدام إسرائيل كقاعدة أمريكية متقدمة في الشرق الأوسط، لردع وتحجيم النفوذ السوفييتي سابقا والروسي والصيني حاليا.
5- ضمان وجود قوي للنفوذ الأمريكي من خلال إسرائيل بالقرب من سواحل البحر المتوسط، لما يمثله ذلك من أهمية استراتيجية كبيرة؛ فهو البحر الذي يعتبر ملتقى ثلاث قارات، ويمثل المجال الحيوي الأهم للأمن القومي الأمريكي، فضلا عن اعتبار إسرائيل ذاتها أداة تأمين وحماية للأسطول الأمريكي المرابض بشكل دائم في البحر المتوسط.
وبذلك يتضح من خلال هذه الإطلالة السريعة الموجزة على أنّ العلاقات الأمريكية الصهيونية هي أكبر من تغيير رئيس بآخر، وأن ما ننتظره من ترامب هو ذاته ما سننتظره من كامالا هاريس إن كانت هي الناجحة، فلا فارق في السيناريو، ولكن فقط في طريقة الإخراج والديكور المستخدم ومساحيق التجميل من حقوق الإنسان والديمقراطية ونحو ذلك.
مطارح الدماء
لكن ما يحزنني ويوجع قلبي حقيقة هي أننا مشكلتنا كأمة -إلا من رحم ربي- نعيش حاليا كأيام غزو التتار، حين كان الجندي التتاري ينكسر سيفه من كثرة القتل في المسلمين، فيطلب من المسلم أن يقف مكان وينتظره محني الرأس حتى يذهب ويحضر سيفا آخر ليقتله به، فيظل المسلم المهزوم نفسيا ينتظر في مكانه حتى يأتي الجندي بسيف جديد فيطرحه أرضا ويقتله دون أن يحرك ساكنا.
بل نقل ابن الأثير أن الجندي الواحد من المغول كان يقف أمامه مئة مسلم مستسلمين للذبح على يديه، فيطرحهم على وجوههم للذبح ولا يفكر واحد فيهم في مقاومته حتّى ينتهي منهم جميعا!!
حاليا نحن -إلا نقاط مضيئة في فلسطين وهنا أو هناك- نشاهد وننتظر أنّ يتغير سيف بايدن المكسور بسيف ترامب الجديد ليتم الذبح!! فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
--------------
(1) إسرائيل وأمريكا من الرصيد إلى العبء الاستراتيجي، د. هيثم مزاحم، مركز المتوسط للدراسات الاستراتيجية.
(2) "مستقبل العلاقات بين إسرائيل والغرب بعد طوفان الأقصى"، ممدوح المنيّر، شباط/ فبراير ٢٠٢٤.
(3) العلاقات الإسرائيلية- الأمريكية: النشأة والمستقبل، عماد أبو عوّاد.
* للنقاش حول المقال:
x.com/Mamdouh_Almonir
t.me/Mamdouh_Almoner
facebook.com/@Mamdouh.Almonir
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه ترامب الشرق الأوسط بايدن إسرائيل إسرائيل الشرق الأوسط امريكا بايدن ترامب مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشرق الأوسط بین الطرفین السیطرة على على العالم
إقرأ أيضاً:
قراءة في مخاطبات ترمب تجاه الشرق الأوسط والسودان
في نحو 30 دقيقة أنهى الرئيس الامريكي خطابه الذي أقام الدنيا ولم يقعدها في 2025 وترك الناس حيارى، لا لكونه يتمثل بقول أبي الطيب المتنبئ الذي قال لشانئيه – حسبما يروي الرواة – من الذين عابوا عليه صعوبة ما يقول لغةً: “علينا ان نقول وعليكم أن تتأولوا” ثم في مرة قال له آخر: ” لماذا لا تقول ما يفهم؟” فكان رد أبي الطيب عليه: “ولماذا لا تفهم ما يقال؟” فقد كان خطاب ترامب في يناير عاماً في تناوله للقضايا الخارجية و لكنه قاسياً على سابقه في الرئاسة بايدن، فقد سلقه سلقاً حامض الطعم و لا ريب، لم يُعمل فيه غربالاً ولا نقداً ولا تمحيصاً لذلك كان صادماً مثلما توقعت الصحافة الأمريكية قبل إلقائه بأيام
وكان مفاجئاً حقاً أنه تحدث عن الشرق الأوسط عكس ما حدث في خطاب رئاسته الأولى 2017 إذ لم يذكر الشرق الأوسط وهذا يتسق مع طبيعة الخطاب الذي يوجه لهواجس الأمة الأمريكية الداخلية في الغالب إلا أنه لم يقل ما يفهم حتى ظن الناس – وإن بعض الظن إثم – أنه انكفأ على الداخل و نسى “ربعه” في الخارج مطلقاً.
صحيح أن خطاب تتويجه في فترته الرئاسية الأولى كان “دُرابا” كمانقول في الدارجة و أتى خطابه الذي بين أيدينا أكثر غلظة يرمي بتهديدات على قومه بالداخل ولكنه لكل من استمع متأملا كأنه يقول للخارج “إياك أعني فاسمعي ياجارة”.
أمر ثانٍ في خطاب ترمب الذي يضع الاستراتيجيات العامة ويترك للتنفيذيين وضعها موضع التطبيق، هو أن ترامب في خطابه هذا بدا حانقاً جد الحنق على غير مناصريه، إذ أنه تحدث عن “أنا” أكثر من خمس مرات بصورة مباشرة وجاءت قمة “الأنا” حين قال إن محاولة اغتياله وإصابته في أذنه فقط ومن ثم نجاته، كانت رسالة سماوية لهدف إلهي طبعاً وهو إنقاذ أمريكا والامريكيين:
“لقد حاول أولئك الذين يرغبون في إيقاف قضيتنا سلب حريتي بل وحتى سلب حياتي قبل بضعة أشهر فقط. في حقل جميل في بنسلفانيا، اخترقت رصاصة قاتل أذني، لكنني شعرت حينها وأعتقد، بل وأكثر من ذلك الآن، أن حياتي أنقذت لسبب ما. لقد أنقذني الله لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى.”
أما في خطابه الأول ذلك فكان حديثه دوما عن “نحن” وهو في هذا ليس بدعا إذ أن كثيراً من القيادات المتشددة في التاريخ الحديث والقديم تبدأ مراحلها الأولى بخطاب يتحدث عن “نحن” و ” الأمة” في مقابل “هم” و “الأغراب” وتنتهي بدكتاتورية غليظة قد يسميها أهل السياسة الأوليغاركية أو الأوليغارشية Oligarchy تتحدث عن “أنا” ضد “هم والأغراب” أو بنظام أشد بطشاً و أكثر تضييقا، غير أن النظام الذي تقوم عليه الحكومة والارث الراسخ في مقاومة التجبر والحكومة – النظام في أمريكا، لا يسمحان بذلك على المدى الطويل.
لكن الأمر البين أن فوز ترامب كان معركة شخصية فاز فيها على خصوم حقيقيين – أم متخيلين – لكنه فاز ، وبعد أن تأكد أنه صاحب تفويض كامل قال للأمريكيين إن كل قصور و تلكوء الحكومات السابقة لإدارته سيتبدل الآن . قال في خطابه هذا :
“كل هذا سوف يتغير بدءًا من اليوم، وسوف يتغير بسرعة كبيرة”.
وهي رسالة قوية للداخل ولكنها دونما شك رسالة تجعل فرائص الخارج تنتفض و ترتجف، ذلك أنه ترك الباب موارباً وعمل عكس المثل السائر عندنا “كتلوك ولا جوك جوك”. فقد جعل “جوك جوك” هي العصاة الغالبة والمهماز الذي سيحرك به الخارج عامة لايستثني من ذلك جاراً ولا بعيداً ولا صديقاً ولا عدواً ولا قريبا ولابعيدا ولا حليفا ولا خصيماً.
وجعل المخاطب الأول لكل حديث هو الداخل الأمريكي وان السبيل الاقوي والمعني لتحقيق هذه الأهداف من صحة وأمن وطمأنينة ونمو اقتصادي وعظمة قومية لأمريكا، هو الخارج، هو أوروبا “وتقاعسها عن المساهمة الفاعلة في الدفاع عن نفسها خلال ممارستها الإمساك والتقتير في الصرف على الناتو، هو الصين لتغولها على الاقتصاد “حيث تنتج رخصاً في العمالة وتبيع غلاءا في أمريكا دون ضرائب مستحقة، وهي كذلك دول الجوار التي ترمي بلاده كما قال “بالمجرمين والإرهابيين ورعاع الناس” وتنعم هي بالراحة وأمريكا تتأذى بالرزايا.
ترامب والجيش الامريكي والقوة الغليظة
لكن ترمب كان واضحا وضوحاً عجيباً حين تحدث عن القوات المسلحة الأمريكية إذ قال في ذلك “ستكون قواتنا المسلحة حرة في التركيز على مهمتها الوحيدة، وهي هزيمة أعداء أميركا. وكما حدث في عام 2017، سوف نبني مرة أخرى أقوى جيش شهده العالم على الإطلاق. وسوف نقيس نجاحنا ليس فقط بالمعارك التي نفوز بها، بل وأيضاً بالحروب التي ننهيها، وربما الأهم من ذلك، الحروب التي لا نخوضها أبداً ثم قال إن “أهم إرث يريد أن يتذكره التاريخ عنه أنه رجل سلام”.
ترامب الذي يقوم كل إرثه و فعله السياسي – الظاهر على الاقل- على نظرة رجل الأعمال الذي يريد “عقد صفقات”- قسم سياسته، فعلا لا قولا ، نحو الشرق الاوسط بصورة واضحة الي ميدانين: أولاً:
إيقاف الحروب الدائرة وتحقيق أمن حلفائه المقربين وتقويتهم شريطة أن لا يكون ذلك بتدخل عسكري من جند بلاده وقد ذكر أنه يسعى لايقاف الحروب قبل حدوثها وفي هذا فهو لن يسمح حتى للأمم المتحدة والمنظمات الدولية أن تعارض ما يريد ناهيك عن الصين و روسيا والغرب عموما – ذلك يستقى من تركيزه في خطاباته بأن أمريكا قبل الناس طراً. وقد ينظر المرء لقراراته الساعية لإعادة قرار الانسحاب من منظومات الأمم المتحدة اليونسكو والصحة العالمية والبيئة وتشديد الخناق على الجنائية الدولية حين مست قيادات إسرائيل في هذا الإطار، و حتى مجلس الامن ما فتئ يقرع له العصى.
الشرق الاوسط
ويذكر الناس كم تطاولت الحرب على غزة و كم تكاثرت المفاوضات والجولات المكوكية لاكثر من عام ما ترك فيها الرئيس بايدن و رأس دبلوماسيته بلنكين بابا إلا وطرقاه دونما مردود إلا مواعيد عرقوب . ولكن حالما تأكد فوز دونالد ترمب وقبيل تنصيبه بأيام قليلة اتصل برئيس الوزراء الاسرائيلي نتنياهو، فاذا الصفقة تسير الهوينا نحو التوقيع. لذلك ومع تركيز خطابه التنصيبي على الأمور الداخلية فقط ، إلا أن الحدث العالمي الوحيد الذي ذكره ترمب ونسب الفضل في تحقيقه لنفسه كان هو الاختراق الذي حدث في الشرق الاوسط حيث قال:
“قبل أن أتولى الرئاسة رسميا، تفاوض فريقي على اتفاق لوقف إطلاق النار في الشرق الأوسط، وهو ما لم يكن ليحدث لولا جهودنا. وأعتقد أن معظم الحاضرين هنا يدركون ذلك. وفي وقت سابق من هذا الأسبوع، بدأ الرهائن في العودة إلى أسرهم. إنهم يعودون، والمشهد جميل. وسيعودون أكثر فأكثر. لقد بدأوا في العودة يوم الأحد.”
وتأتي فاعلية الرجل من أنه اعتمد علي الفعل بعد القول مباشرة والتطبيق وأمثلة ذلك مبذولة متاحة في الشرق الأوسط وفي أوروبا و في آسيا وفي أمريكا اللاتينية ولا ينسى الناس قوله إنه سيجعل بعض الدول تدفع أموالا مهولة لقاء حماية بلاده لها وقد دفعوا دفعاُ كُبارا، وقال إنه سيحول عاصمة إسرائيل لمكان آخر غير تل أبيب وقد فعل، وقال إنه سيجعل الاتفاق مع إيران ممكنا وقد فعل، وقال إن الصين ستنتبه لما يقول وقد فعلت بالفعل لا بالقول وقال إنه سيرفع إسم السودان من قائمة الإرهاب وقد فعل، مهما اختلف الناس مع كيف فعل وكيف مارس ضغوطا رهيبة على من كان يتولى الأمر في السودان حينها، حين اشترت الدولارات ال 335 مليون من السوق الموازي ونحن على ذلك من الشاهدين على بعض خفاياها!!!
ترمب وعقد الصفقات
ثانياً: المكسب المادي والصفقات التجارية التي تعود على الأمريكيين عموما وعلي صحبه من رجال الأعمال خصوصا بالفائدة وفي ذلك هو لا يخفي شيئاً بل و يفاخر به و يكفي أن نستشهد بخطابه الأول خارج البيت الأبيض منذ تنصيبه حيث قال في مؤتمر دافوس الاقتصادي في يناير هذا وفيه بدأت نفس معالم الخطاب الأول وروح سياسته الخارجية سواء في أوكرانيا أو سوريا أو الشرق الأوسط تتبدى بصورة جلية لا لبس فيها ولا مواربة فاسمع إليه و هو يخاطب أكبر تجمع إقتصادي فكري لرسم ملامح سياسات المستقبل الاقتصادي وهو يقول:
“كما ورد في الصحف اليوم أن المملكة العربية السعودية ستستثمر ما لا يقل عن 600 مليار دولار في أمريكا. لكنني سأطلب من ولي العهد، وهو رجل رائع، أن يكمل المبلغ إلى حوالي تريليون دولار. أعتقد أنهم سيفعلون ذلك لأننا كنا جيدين جدًا معهم.”
ثم مضي ليوسع الدائرة ليتناول أخطر كتلة اقتصادية تتحكم بصورة غير مباشرة في الحراك الاقتصادي العالمي وهي منظمة الدول العربية المصدرة للنفط في الشرق الاوسط (أوابك) ومن ورائها كل المنتجين حين قال:
“وسأطلب أيضًا من المملكة العربية السعودية وأوبك خفض تكلفة النفط. عليك أن تخفضها، وهو ما أدهشني بصراحة أنهم لم يفعلوا ذلك قبل الانتخابات. لم يُظهروا لنا الكثير من الحب من خلال عدم قيامهم بذلك. لقد فوجئت قليلاً بذلك.”
ويدخل في هذه المنظمة (الأوابك OAPEC) كل من المملكة العربية السعودية، ودولة الكويت، وليبيا، الجزائر، وقطر، والإمارات والبحرين وسوريا والعراق ومصر ودول الأوبك (OPEC) وهي الأوسع إذ فيها كثير من دول الشرق الأوسط ودول من امريكا اللاتينية وبعض من اكبر الدول الأفريقية وهي : الجزائر، وأنغولا، وغينيا الاستوائية، والجابون، وإيران، والعراق، والكويت، وليبيا، ونيجيريا، وجمهورية الكونغو، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وفنزويلا والإكوادور وإندونيسيا وقطر،
فإن كان لدي ترمب ما يسميه أهل الإعلام و السياسة الغربيون leverage أي تاثير رافع إن صحت الترجمة – على هؤلاء، فقد حيزت له مفاتح تحقيق ما يريد من سياساته التي بدأت معالمها تظهر على نحو جلي في خطاباته اللاحقة وفي خطابات واتصالات وزير خارجيته روبيو والذي بدأ مهاتفات مكثفة في أول أسبوع له، ما ترك وزير خارجية من المذكورين آنفا عدا الأفارقة منهم إلا اتصل به.
السودان في ادارة ترمب
وعطفاً علي سياسات ترمب في الشرق الأوسط ونحن فيه جيران، فقد كفى الناس مؤونة التفكير كيف تكون سياسات ترمب تجاه السودان، باحث أمريكي ملم بشؤون السودان إلماماً يحسده عليه كثير من الأكاديميين في السودان، وهو كاميرون هدسون – أي كانت نواياه وأهدافه من هذا الإلمام.
كتب هدسون الأسبوع الماضي في مجلة بوليتك مقالا نلخصه في نقاط ونختم به هذا الموضوع:
حاجج هدسون بأن لا أحد يستطيع أن يصنع السلام في السودان إلا ترامب وذلك أنه – أي ترمب – ضم الخرطوم إلى الاتفاقيات الإبراهيمية وأزال إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وأن ترمب – بفضل نفوذه على القوى الإقليمية – يمكنه إنهاء الحرب في السودان.
كاميرون هدسون الذي يعرف نفسه بأنه زميل في برنامج أفريقيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية قال إن أفريقيا لا تحتل مكاناً عاليا في سلم خطابات السياسات الخارجية للرؤساء الأمريكيين وخاصة ترمب ولكن في تحول نادر من القدر، يبرز السودان الآن كدولة حيث الحاجة إلى مشاركة الولايات المتحدة عالية وحيث يمكن أن يكون نفوذ واشنطن في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب العنصر المفقود الحاسم لإنهاء الحرب الأهلية الحالية في السودان.
على عكس معظم البلدان في أفريقيا، فإن لترامب علاقة وتاريخ مع السودان. في عام 2019، اندلعت الثورة الشعبية التي أدت إلى الإطاحة بعمر البشير وأسفرت عن فترة حكم مدنية واعدة، وإن كانت قصيرة. في ذلك الوقت، كان الدعم الأميركي للقوى المؤيدة للديمقراطية متواضعا، وذلك بسبب شبكة معقدة من العقوبات والقيود القديمة التي قيدت الدعم الأميركي. وكان من بين هذه العقبات استمرار تصنيف السودان كدولة راعية للإرهاب ــ وهو التمييز السيئ السمعة الذي رزأت به البلاد منذ الأيام التي استضافت فيها أسامة بن لادن في منتصف التسعينيات.
بدأت إدارة ترامب العملية المعقدة والمستهلكة للوقت لإزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في محاولة لوضع البلاد على مسار نحو تخفيف الديون والتعافي الاقتصادي؛ وأصبحت إزالتها رسمية في ديسمبر 2020. وشمل الجهد الحصول على ضوء أخضر من مجتمع الاستخبارات، والتفاوض على اتفاقية تعويض بقيمة 335 مليون دولار لضحايا الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة، والحصول على دعم الكونجرس. كما وعدت بتطبيع العلاقات بين واشنطن والخرطوم بأول تبادل للسفراء منذ 25 عاما.
ثم، في خطوة لم تكن مفاجئة في الماضي، قام وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو بزيارة إلى الخرطوم في اللحظة الأخيرة ليقترح أن صنع السلام مع إسرائيل، من خلال التوقيع على الاتفاقيات الإبراهيمة التي أُعلن عنها مؤخرًا، سيكون ضروريًا أيضًا للمساعدة في تأمين إزالة السودان من قائمة الإرهاب. في تلك اللحظة، رفض القادة العسكريون والمدنيون في السودان، حيث جادل الجانبان بأن الطبيعة الانتقالية لحكومتهما وعدم وجود برلمان قائم لا يمنح أيًا من الجانبين التفويض بالانخراط في التزامات معاهدة جديدة.
في النهاية، لم يكن لدى السودان أي نفوذ للمقاومة واضطر إلى الرضوخ إذا كان لديه أي أمل في التخلص من العقوبات الأمريكية المتبقية.
بعد موافقة السودان على شروط وزارة العدل الأمريكية لإزالتها من قائمة الإرهاب، أعلن ترامب منتصرا، في أكتوبر 2020، تطبيع السودان للعلاقات مع إسرائيل كواحدة من ثلاث دول عربية فقط وافقت على اتفاقيات إبراهيم.
والآن مع عودة ترامب إلى منصبه، فإنه يرث ملف السودان مختلفًا بشكل كبير عن الملف الذي سلمه إلى بايدن قبل أربع سنوات. من ذلك انه ومع بداية عام 2025، يحتاج أكثر من 30 مليون شخص في السودان إلى مساعدات إنسانية، بينما نزح أكثر من 12 مليون شخص من ديارهم منذ بدء الحرب الحالية في أبريل 2023.
قد لا تلقى الحجة الأخلاقية للاستجابة للمعاناة الجماعية في السودان أذناً صاغية لدى إدارة تكرس كل جهدها لتعزيز سياسة خارجية “أمريكية أولاً”، لكن واشنطن لديها مصالح استراتيجية ونفوذ غير مستغل في السودان يتجاوز بكثير الخسائر البشرية للصراع والتي تجعل ترامب في وضع فريد من نوعه للتقدم بحلول لإنهاء الحرب.
لقد ربطت إدارة ترامب نفسها عن غير قصد بمصير السودان عندما أعلن بومبيو عن رحلته التاريخية الأولى من تل أبيب إلى الخرطوم في عام 2020، بهدف وحيد هو تعزيز السلام مع إسرائيل. واليوم، يبدو أن فريق ترامب يستأنف من حيث توقف، ويوضح خططه لإحياء وتوسيع اتفاق التطبيع التاريخي؛ على سبيل المثال، أعلن مستشار الأمن القومي مايك والتز الشهر الماضي، “إن مصالحنا الأساسية هي داعش وإسرائيل وحلفاء الخليج العربي”.
ولكن ما هو واضح تمامًا هو أن الإدارة لا تستطيع إحياء اتفاقيات إبراهيم في الوقت نفسه مع ملاحظة انهيار وتفكك أحد المعنيين الخمسة بها وهو السودان.
ويقول هدسون إن الصراع في السودان أكثر من مجرد “حرب بين جنرالين متنافسين يتقاتلان على البلاد” كما يقول الغربيون ممن اشعلوا النار و تواروا بعيدا – هذه من عندي –
يؤكد هدسون و هو ضابط سابق في المخابرات الأمريكية إن الصراع في السودان تحركه معركة أعمق بين حلفاء الولايات المتحدة في الخليج العربي الساعين إلى تعزيز السلطة والهيبة والثروة والنفوذ عبر البحر الأحمر والقرن الأفريقي. “إن تكلفة هذه المنافسة يتحملها شعب السودان”.
ولأجل حلفائه القريبين من السودان من المشاطئين له والمجاورين والأبعدين جغرافيا من السودان ولكنهم الأقرب لأمريكا عاطفيا ودينيا واستراتيجيا وعقديا، فقد يسعي ترمب حثيثا لحلحلة الأزمة الدائرة الآن في السودان وسيظهر ذلك حين يسمي مبعوثه الخاص الي السودان فإن كان هذا المبعوث نصيحا قويا ولم يكن “فافنوس وما هو الغليظ البوص” ميالا لحليف أمريكا الأعظم في المنطقة، كان ذلك علامة فارقة لقرب كف أيدي الداعمين للتمرد وإنهاء التمرد تماما و تحقيق السلام الذي يرجى أن يكون مستداماً.
و إن غداً لناظره قريب
المحقق – محمد عثمان آدم
إنضم لقناة النيلين على واتساب