ماذا قالت الاستخبارات التركية في تقريريها المهم عن ترامب؟
تاريخ النشر: 18th, November 2024 GMT
في تقرير مكوَّن من 50 صفحة، ناقشت الأكاديمية الوطنية للاستخبارات MIA التابعة للمخابرات التركية MIT، تأثيرات الفوز العريض الذي حققه دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وآثاره المحتملة على العالم، وتركيا بصفة خاصة.
إن السرعة التي أُنجز بها التقرير، تعكس الاهتمام البالغ الذي كانت توليه تركيا للانتخابات، والسيناريوهات التي كانت تعمل عليها المراكز البحثية ذات الصلة والمرتبطة بدوائر صنع القرار، ومن غير المستبعد – بطبيعة الحال – أن يكون جزءٌ كبيرٌ من الورقة البحثية تم إنجازه قبل الاقتراع، ضمن تقدير موقف موسع في حال فوز أي من المرشحين، مع تضمينها النتائج في نهايتها عقب فوز ترامب.
كما أن خروج التقرير من مركز بحثي تابع لجهاز الاستخبارات، يؤشر إلى أهمية المخرجات والتوصيات، لإمكانية الاستعانة بها في تخطيط ورسم السياسات التركية المستقبلية، بشأن التعامل مع إدارة ترامب خلال السنوات الأربع المقبلة.
يتكون التقرير من مقدمة وخمسة فصول، يتناول الفصل الأول النظام الانتخابي الأميركي، فيما يتناول الثاني، أهمية هذه الانتخابات والعوامل الحاسمة فيها، أما الثالث فيتحدث عن الخطوط العريضة لحملة ترامب الانتخابية.
لكننا في هذا المقال سنركز على الفصلين: الرابع والخامس، اللذين يتناولان بالترتيب، رؤية ترامب وفريقه للسياسة الخارجية، ثم الآثار المحتملة لفوزه على تركيا.
مدخل إلى سياسة ترامب الخارجيةإن المدخل العام لفهم "الترامبية" الجديدة سواء في الداخل أو الخارج، هو استخدام مفهوم "أميركا أولًا" مدخلًا لتفسير السلوك السياسي المرتقب.
فهذا المفهوم في حقيقته مزيج ما بين الأفكار الجمهورية التقليدية المحافظة، ورؤى حركة (MAGA) التي أسسها ترامب عام 2016، واشتق اسمها من شعار حملته الرئاسية آنذاك "اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى"، والتي تعبر عن أفكار ترامب المؤمنة بضرورة استعادة قوة الولايات المتحدة، داخليًا وخارجيًا.
إذ يرى التقرير أن ترامب سيعمل على تنفيذ تلك الأفكار بقوة، من خلال اتباع سياسات حمائية في مجالات الدفاع والتكنولوجيا والطاقة؛ لتحقيق أكبر استفادة ممكنة تصب في صالح التفوق الأميركي.
ورغم أن ترامب وعد في حملاته الانتخابية بالحد من تورط بلاده في الصراعات الخارجية، إلا أن التقرير ينبه إلى أن ذلك لا يعني تبني "سياسة انعزالية كلاسيكية"، بل سيستمر في اتباع نهج "القوة الرادعة العقابية" التي اعتمدها خلال ولايته الرئاسية الأولى ضد الصين، وإيران، وسوريا.
كما يشير التقرير إلى استمرار سياسة "إستراتيجية الغموض" التي اعتمدها ترامب خلال رئاسته الأولى، من خلال عدة أدوات، مثل: استخدام القوة غير المباشرة، وتنوع أساليب القوة ما بين وسائل الإكراه العسكرية والاقتصادية، ومهادنة الحلفاء في بعض القضايا، في مقابل الضغط عليهم للمساهمة في الردع في قضايا أخرى.
وبالانتقال إلى ملف حل النزاعات العالمية التي وعد بها ترامب في حملته الانتخابية، تأتي الحرب الأوكرانية في مقدمة هذه الأزمات، حيث يترقب العالم كيفية تعامل الإدارة الجديدة معها.
ففي خطاب سابق لجي دي فانس، نائب الرئيس الأميركي، وعد بحل الأزمة على ثلاث مراحل:
الأولى: جمع الرئيسين الروسي والأوكراني والقادة الأوروبيين للاتفاق على ضرورة إنهاء الحرب وإحلال السلام.
الثانية: احتفاظ روسيا بالأراضي الأوكرانية التي استولت عليها، مع نزع السلاح على الحدود بين الجانبين.
الثالثة: تعهد أوكرانيا بعدم الانضمام إلى حلف الناتو مقابل ضمانات أمنية لمنع الغزو الروسي مجددًا.
لكن التقرير يشكك في هذه الخطة، ويؤكد أنها خلفت وراءها أسئلة حائرة دون إجابات قاطعة، بشأن فاعلية الضمانات المقدمة لضمان عدم الغزو الروسي مجددًا، وكيفية ضمان نزع السلاح، أو منع روسيا من تغيير نظام الحكم الأوكراني بالقوة… إلخ.
في ملفات أخرى يشير التقرير إلى أن الولايات المتحدة ستعتمد سياسة "الضغط الأقصى" ضد كل من الصين، وإيران، وذلك لمنع الأولى من تحقيق التفوق الاقتصادي، والحد من البرنامج النووي للثانية، بما في ذلك الحد من قدراتها الصاروخية، كما تهدف السياسة الأميركية إلى ضرب التنظيمات المسلحة المرتبطة بإيران، والتي تمثل مراكز دفاعية متقدمة لها.
تركيا بين الفرص والمخاطر
يعول التقرير على ما أطلق عليه "القيادة الموجهة نحو الحل"، والتي تعني قدرة ترامب على تجاوز المؤسسات الأميركية الصلبة في طرح الحلول للأزمات، وبناء نموذج مقنع في العلاقات مع الحلفاء.
حيث يستشهد بالعلاقات المتميزة التي جمعت بين ترامب والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال فترة رئاسته الأولى، ويصفها بـ "تطابق الكيمياء"، لكن التقرير يحذر من هذه "الفردانية" لترامب، والتي قد تدفعه أحيانًا إلى اتخاذ مواقف حدية، تنطوي على مخاطر، لم تنجُ منها تركيا خلال رئاسته الأولى.
وفي محاولة لاستشراف الفرص المتاحة أمام تركيا، ففي مجال العلاقات الثنائية، يأمل التقرير أن يتم التغلب على القيود الأميركية الموضوعة ضد تركيا في مجال صناعة الدفاع، وإعادتها مرة أخرى إلى برنامج طائرات " إف- 35″.
كما تأمل أنقرة في توفير أساس مهم مع واشنطن في مجال مكافحة الإرهاب، لكن التقرير يقول إن ذلك سيتوقف على استمرار الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة، لوحدات الحماية الكردية، وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" في سوريا من عدمه، مع اعتراف التقرير بالدور الذي قد يلعبه الفريق المعاون لترامب في هذا الشأن، إضافة إلى أولويات السياسة الأميركية في الإقليم.
كما يؤكد التقرير أن نجاح ترامب في إيقاف الحرب الروسية الأوكرانية، سيخلق فرصًا أمام الشركات التركية للمساهمة في إعادة إعمار أوكرانيا، ويمنح شركات الصناعات الدفاعية الفرصة في إعادة بناء وترميم الجيش الأوكراني.
أما على المستوى الإستراتيجي، فإن وقف الحرب يعني إعادة الهدوء إلى البحر الأسود، وإزالة المخاطر التي كانت تتهدده بسبب الحرب.
فيما قلل التقرير من تداعيات توسع السيطرة الإقليمية لروسيا – حال توقف الحرب – بالسيطرة على شبه جزيرة القرم وإقليم دونباس، مرجعًا ذلك إلى الموقع الإستراتيجي لتركيا، وقدرتها البحرية كعضو فاعل في حلف الناتو.
أيضًا من خلال سياسات ترامب المتوقعة تجاه الصين، واستخدامه أدوات، مثل: التعريفات الجمركية، والعقوبات، وقيود نقل التكنولوجيا، تأمل تركيا أن تتيح لها هذه الإجراءات فرصًا جديدة في سلاسل التوريد العالمية، ومجال الطاقة.
لكن ثمة ملفات تنطوي سياسة ترامب المتوقعة تجاهها على فرص ومخاطر بالنسبة لتركيا، وفي مقدمتها الملف الإيراني.
إذ قد تتيح سياسة التشدد المتوقعة تجاه طهران، بعض الفرص الإقليمية المهمة لتركيا، مثل: دعم الحوار مع نظام بشار الأسد في سوريا، وتوسيع نطاق العمليات العسكرية ضد تنظيم حزب العمال "PKK" في جبال قنديل ومدينة السليمانية بالعراق، إضافة إلى تذليل العقبات إزاء إعادة فتح ممر زنغيزور الإستراتيجي الواصل بين أراضي أذربيجان، وذلك بالتفاهم مع روسيا.
لكن هذه السياسة "الترامبية" المرتقبة ضد إيران، قد تحمل لتركيا مخاطر في خمس قضايا رئيسية، وفق التقرير:
الأولى: صعود التطرف في المنطقة ما يؤثر على جهود تركيا في مقاومة الإرهاب.
الثانية: أن تقود هذه السياسات المتشددة إلى حرب إقليمية يتحول معها حزب العمال إلى وكيل عسكري لبعض الجهات الفاعلة.
الثالثة: امتلاك إيران السلاح النووي، ما يدفع إلى تسريع عملية التسليح النووي من خلال إنهاء سياسة الغموض النووي الإسرائيلية.
الرابعة: تعزيز السياسات الإسرائيلية التوسعية، وتشجيع الجهات المناهضة لتركيا، مثل إدارة قبرص الجنوبية في شرق البحر المتوسط.
الخامسة: إبقاء القضية الفلسطينية دون حل، ما يسهم في زعزعة الاستقرار بالشرق الأوسط.
ختامًا:
فرغم ضعف الأداء المؤسسي المتوقع، خلال عهدة ترامب الرئاسية، نظرًا لانتهاجه أسلوبًا يميل إلى الفردية، فإنه ينبغي عدم التقليل من الخلفيات الفكرية لمعاونيه.
حيث كشفت اختياراته عن غلبة الأيديولوجية الصهيونية على تفكير أغلب هؤلاء المرشحين للمناصب القيادية. وبالإضافة إلى التصهين، فإن كثيرًا منهم يحمل مشاعر عدائية تجاه تركيا، وأردوغان بصفة خاصة.
فعلى سبيل المثال، نجد تولسي غابارد، المرشحة لرئاسة الإدارة الوطنية للاستخبارات الأميركية تقول في خطاب ألقته عام 2020: "تركيا تدعم إرهابيي تنظيم الدولة والقاعدة من وراء الكواليس منذ سنوات. وأردوغان ليس صديقنا. إنه أحد أخطر الدكتاتوريين في العالم، وليس من حق الحكومة الأميركية ووسائل الإعلام مساعدة هذا الإسلامي المصاب بجنون العظمة".
فسلبية المشاعر المتوقعة من كثير من الفريق المعاون، ستفرض تحديًا إضافيًا على أردوغان لتعظيم علاقته الشخصية مع ترامب وتحويلها إلى أداة لخلق الفرص وتقليل المخاطر، واستغلال ما أطلق عليها تقرير الاستخبارات "تطابق الكيمياء".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات ترامب فی من خلال
إقرأ أيضاً:
دونالد ترامب... الذّات الضجرة التي تتسلى بإحداث الفوضى ومشاغبة الخصوم
ـ 1 ـيصرّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على أنه لا يعتزم تهجير سكان غزة إلى مصر والأردن ودول أخرى والسيطرة على القطاع إلاّ ليجعل حياة الغزاويين أفضل بعد أن عانوا كثيرا. فهو في النهاية يعمل، لدواعٍ إنسانية، على توفير مكان آمن لهم بعد أن أصبحت أرضهم مكانا غير صالح للسكن. ويجعل من ترحيلهم عنوانا لبناء القطاع على نحو حديث ولتحويله إلى "ريفييرا" الشرق الأوسط.
يذهب المحللون السياسيون في قراءة نوايا دونالد ترامب مذاهب شتى. فمنهم من يجد في العزم على تهجير سكان غزة خارج القطاع مقدّمة لإنشاء إسرائيل الكبرى التي تمتدّ من النهر إلى النهر، كما في المخيال الصهيوني. ويجد اتجاه ثان في الإعلان خدمة لإسرائيل مزدوجة الغاية: ففيه ابتزاز للمملكة السعودية لتقبل بالتطبيع مع الكيان المحتل، ومقايضة لشرط قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية بشرط قيام "ريفييرا" الشرق الأوسط. وهو في الآن نفسه هدية لصديقه بنيامين نتنياهو، تساعده على ترميم صورته السياسية المتداعية في الدّاخل الإسرائيلي وتضمن له استقرار حكومته.
في تبرير ترامب لعزمه احتلال القطاع استهانة بذكاء الرأي العام الدولي وما يعرضه يبدو مرتجلا، حتى أنّ أعضاء في إدارته صدموا لما فيها من ارتجال باعتبار أن جدواها لم "تفحص مسبقا" وأنها "غير قابلة للتطبيق" و"ستختفي حتما". وعليه لا يمكننا أن نحمل تصريحاته محمل الجد.ويستدعي بعض المحللين وفق قراءة ثالثة الصدام التجاري بين الولايات المتحدة والصين. فالسيطرة على القطاع خطوة حاسمة للسيطرة على سلاسل التوريد ووضع اليد على الممرات المائية في الشرق الأوسط وعمل مضاد للمشروع الاستثماري العالمي الصيني "حزام واحد- طريق واحد"، الذي يستهدف تغيير خارطة العالم الاقتصادية والثقافية والسياسية ويتضمن طريق بحريا وآخر بريا وسكك حديدية وخطوط طيران وأنابيب لنقل المواد البترولية وشبكات لنقل الكهرباء. وأهم مكوناته طريقُ الحرير البحري الذي يبدأ من "فيوجو" بالصّين ويتجه عبر بحرها إلى الفيتنام فبحر جاوة ثم إندونيسيا ويتجه إلى ماليزيا وسنغافورة والهند ثم كينيا ليصل إلى اليونان وإيطاليا وفرنسا عبر البحر الأحمر...وغير ذلك من القراءات كثير.
ـ 2 ـ
في تبرير ترامب لعزمه احتلال القطاع استهانة بذكاء الرأي العام الدولي وما يعرضه يبدو مرتجلا، حتى أنّ أعضاء في إدارته صدموا لما فيها من ارتجال باعتبار أن جدواها لم "تفحص مسبقا" وأنها "غير قابلة للتطبيق" و"ستختفي حتما". وعليه لا يمكننا أن نحمل تصريحاته محمل الجد. لذلك سنبحث في ما يكمن خلف إعلانه المثير.
تندرج هذه التصريحات المرتجلة ضمن مساق كامل من التصرفات المفتقرة إلى اللياقة الدبلوماسية كما عُرف عن الرّجل. ففي نيابته الأولى كان قد دعا حلفاءه مرارا إلى أن يدفعوا «ضريبة بدل حماية» وطلب من المكسيك تمويل الجدار العازل الذي شرع في بنائه لمنع عبور المهاجرين الوافدين من أمريكا اللاتينية. أما في نيابته الثانية فقد طالب بجعل كندا الولاية الأميركية الواحدة والخمسين، مقدّرا أن "إزالة الخط الافتراضي بين كندا والولايات المتحدة سيخلق شيئا عظيما". ولم يتردد في وصف رئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو بـ"حاكم كندا" قياسا على ما يوصف به حكام الولايات في أمريكا وإيهاما بسلطته عليه. وطالب في مكالمة هاتفية مع رئيسة الوزراء الدانماركية بالحصول على جزيرة غرينلاند التابعة لبلادها والمتمتعة بحكم ذاتي. وبرر ذلك بضرورتها لـ"ـلأمن القومي الأمريكي"..
ـ 3 ـ
ولكن هل هو قادر على تجسيد ما يقترحه للقطاع على أرض الواقع؟ يبدو ترامب مخطئا في تقديره مغاليا جدا في طموحاته بقدر ما يبدو عابثا متمردا على الصيغ الدبلوماسية التقليدية. فالقانون الدولي يجرّم التهجير القسري. والمــادة (49) من اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب بتاريخ 12 أوت 1949 مثلا، تعلن صراحة أنه "يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أياً كانت دواعيه".
ورغم أنه يجيز لدولة الاحتلال أن تقوم بإخلاء كلي أو جزئي لمنطقة محتلة معينة، إذا اقتضى ذلك أمن السكان أو لأسباب عسكرية قهرية، فإنه يمنع "أن يترتب على عمليات الإخلاء نزوح الأشخاص المحميين إلا في إطار حدود الأراضي المحتلة، ما لم يتعذر ذلك من الناحية المادية. ويجب إعادة السكان المنقولين على هذا النحو إلى مواطنهم بمجرد توقف الأعمال العدائية في هذا القطاع".
ويعدّ التهجير القسري تطهيرا عرقيا يتم "على أساس ديني أو عرقي أو قومي. فتعرّفه موسوعة هاتشينسون بكونه طردا بالقوة لسكّان من عرق معيّن (أو أكثر) من أجل إيجاد تجانس عرقي في إقليم أو أرض يقطن فيها سكان من أعراق متعددة". وهو التعريف الذي تقبل به وزارة الخارجية الأميركية وتجعل مما حدث في شهر ماي 1999 في مدينة بيك في كوسوفو الغربية من إخلاء هذه المدينة في غضون 24 ساعة مثالا على ذلك.
ولا يعني احترازنا أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ستصبح فجأة مدافعة عن القانون الدولي وستفرض احترامه. فهي أبعد ما يكون عل ذلك. ولكن ما يدبّره ترامب سيضير بحلفائه في الخارج لذلك أعلنوا صراحة معارضتهم له، وكثرة الأمثلة تغنينا عن عرضها، وسيثير خصومه في الدّاخل حالما يتحرك عمليا لتجسيد تهديداته وستمنحهم الفرصة التي يبحثون عنها للتنكيل به، وقد أعلن النائب الديمقراطي، عن تكساس، آل غرين نيته خوض معركة عزلته بحجة مخالفته للقانون الأمريكي وبتـهمة "التطهير العرقي في غزة."
ـ 4 ـ
لا تحمل هذه التصريحات إذن محمل الجد. فلست غير صدى لذات متورّمة تفيض، فتنتشر في الفضاء وانعكاس لشخصية عدوانية تبحث عن الصدام باستمرار. وبالفعل. فقد ظهرت نزعة ترامب هذه منذ أن جعل ينتج الأعمال الدرامية أو التلفزيونية، في شكل توقيع خاص أو الكاميو (cameo)، ذلك الذي يعني عبورا خاطفا لأحد المشاهير على الشاشة لا تستدعيه الضرورة الدرامية. ففي فيلم "الأشباح لا يستطيعون فعل ذلك" (1989) الذي أخرجه جون دارك اشترك مع النجم أنطوني كوين في إحدى اللقطات وفي الحلقة الثانية من السلسلة و"حيدا في المنزل" (1991).يصل الفتي كيفن إلى نزل "بلاتزا هوتل" ويسأل أحد المارين في ساحته عن مكتب الاستقبال. و"بالصدفة" لا يكون هذا المارّ غير دونالد ترامب.
ثم وسع حضوره في أفلام "عبر بحر الزمن"(1995) أو "أودي"(1996) أو "الشريك" (1996) ليصل ذلك الشاب الخجول إلى السيطرة على الفضاء سيطرة تامة ويحوّل ظهوره إلى عرض لذات معتدة بذاتها في كثير من الصلف والغرور في الفيلم الوثائقي"البطاطس الصغيرة: من قتل رابطة كرة القدم الأمريكية؟" للمخرج مايكل تولين (2009) الذي يناقش مستقبل رابطة كرة القدم الأمريكية من خلال مناظرة بين مالكين هما ودونالد ترامب، الذي يريد أن تجرى المواجهات خريفا وجون باسيت، الذي يرغب في إجراء المنافسات ربيعا" أو في برنامج تلفزيون الواقع: "المبتدئ". فقد كان ينتجه رجال أعمال ناجحون للقناة NBC "ومداره على اختبارات عديدة ومتنوعة لتشغيل موظفين مبتدئين. وكان دونالد ترامب يمثل رجل الأعمال الناجح في النسخة الأمريكية.
ومثلت رياضة القتال والاستعراض مجالا ثانيا تظهر فيه تلك الذات المتورمة الصدامية في الآن نفسه. فقد كان يستثمر في نزالات المصارعة والملاكمة، في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته: يستضيف المباريات فيوظفها للترويج لمنتجعاته السياحية وكازينوهاته. ثم يحصل على نسبة من المراهنات. وتُحفظ له من هذه التجربة صورتان على الأقل تؤكدان زعمنا. فقد دخل في رهان غريب مع المصارع الأمريكي السابق ورئيس اتحاد المصارعة العالمية الترفيهية (دبليو دبليو إي "WWE) فينس ماكمان، يقضي بأن يحلق المنتصر شعر المهزوم في الرهان. وكان رهان ترامب عل المصارع بوب لاشلي فيما راهن فينس ماكمان على المصارع أوماغا. وبتغلب بوب لاشلي حلق شعر خصمه أمام الملإ. ودفعته حماسته إلى تقمص شخصية المصارع. فاشتبك مع فينس ماكمان خارج الحلبة. وسميت هذه لمعركة لاحقا بـ"معركة المليونيرات".
ـ 5 ـ
تماما كالفراشة التي تنجذب إلى النور كان ترامب ينجذب إلى الإعلام. وكان الإعلام النار التي تحرقه في النهاية. فقد أسهم في تقديمه إلى المتفرّج باعتباره قدرة خارقة على خلق الثروة. ثم أسهم لاحقا في كشف الجانب الخفي من شخصيته.
وكان ترامب قد نشر سيرته الذاتية سنة 1987 بعنوان "فن الصفقة" وحقق من ورائها نجاحا تجاريا كبيرا. ليردّ عليه الفيلم الوثائقي"ترامب: ما الصفقة؟" (1991) عبر مقابلات مع ضحايا مقاولاته. فيثير الأسئلة حول سلامة معاملاته المالية ومدى نفوذه وتحكمه في السياسيين وفي نظام الضرائب للحصول على امتيازات جبائية غير مستحقة. ويفضح أسلوبه في التعامل مع موظفيه. فقد كان يكافئهم بالطرد وعدم دفع الأجور.
لا شكّ أنّ ترامب سيذهب في خططه المجنونة هذه إن لم يجد الرّدع المناسب. واستهانته بالحقوق العربية أبرز دليل على ذلك. فقد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وبارك ضم الجولان إلى إسرائيل. ولكنه يظل تاجرا مفاوضا أكثر من كونه سياسيا، فيرفع من سقف مطالبه ليعقد الصفقات المربحة.ويشير الفيلم إلى صفقاته مع رجال العصابات والمخدرات ويلمح إلى دور ما في ذلك لأخته التي كانت تعمل في وزارة العدل قبل أن تعيين قاضية فيدرالية. وما طرحه فيلم "ترامب: ما الصفقة؟" عبر النّمط الوثائقي أعاده فيلم "دونالد ترامب فن الصفقة" روائيا ليعرض وجوها من معاملات ترامب المالية غير السليمة.
أما فيلم "أين [عزيزي] روي كوهن" فيفصل أطوار مساعدته روي كوهن الذي يهيمن على الإعلام ويحوّل الساسة إلى دمى يحركها كما يريد، له لتجاوز القانون وبسط سلطانه على الدولة والتهرب الضريبي وهو الذي يتسلّى بملاعبة قوانين الدولة انتقاما منها لأنها تخلت في أزمة 1929 عن اليهود وجعلت بنكهم يفلس فلحق عائلته العار وسجن عمّه. فكان يتخذ من العبارة "مت وأنت مدين بأكبر قدر ممكن بمصلحة الضرائب"شعارا له.
وكان بناء برج ترامب ثمرة لهذا التعاون "القذر". فقد وظف ترامب شركات غير مؤلهة واستغل وضعية مائتي عامل بولندي من المهاجرين غير الشرعيين. فاستخدمهم في أعمال بنائه ولم يدفع لهم رواتبهم وعقد الصفقات مع رجال المافيا والمخدرات لتزويده بالخرسانة التي يسيطرون على تجارتها. وتم هذا كلّه برعاية روي كوهن ومهارته في ملاعبة القوانين وفق قاعدته: "لا تقل لي ماذا يقول القانون وإنما اخبرني من يكون القاضي".
ـ 6 ـ
يجعلنا هذا البورتريه ندرك أنّ "ما صاحبنا بمجنون" وهو يحدث الفوضى في الفضاء الدبلوماسي. إنه فقط يستعيد تلك الذات النرجسية اللامبالية التي تقتل الضجر بإحداث الفوضى ويتقمص دور المصارع الذي يسعى إلى استفزاز خصومه من أجل البحث عن رهانات جديدة وصناعة عروض مثيرة ويعمل على إذهال الجمهور بما هو غير متوقع. ولأن خصومه باتوا كثّرا، منهم كوريا الشمالية والصين والمكسيك وروسيا وأوكرانيا وأوروبا والدانمرك، تكاد عروضه تتحول إلى غاية في حدّ ذتها. ولكنه وهو يجعل من العنف سبيله من أجل كسب الأسواق ومراكمة الأرباح يسحب من البيت الأبيض جلال الحكم ورصانة العقلاء المزيفَين ويرفع التحفّظ عن السياسة الأمريكية التي تدبّر في مراكز البحث الإستراتيجي ويكشف الوجه الحقيقي لها بما تختزن من العنف والصلف والعنجهية.
ولا شكّ أنّ ترامب سيذهب في خططه المجنونة هذه إن لم يجد الرّدع المناسب. واستهانته بالحقوق العربية أبرز دليل على ذلك. فقد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وبارك ضم الجولان إلى إسرائيل. ولكنه يظل تاجرا مفاوضا أكثر من كونه سياسيا، فيرفع من سقف مطالبه ليعقد الصفقات المربحة. ومن شأن الوحدة في الدفاع عن الحق العربي وقد بات مصر والأردن دول الخليج مستهدفة، أن تجعله يكتفي بالصخب الذي أحدثه مقترحه. ففي دويّه شفاء لذاته المتورمة التي تحاول أن تدير إليها الرقاب.