عنف السلطة ولعنة الذهب
تاريخ النشر: 18th, November 2024 GMT
محمد بدوي
يخطو فارعا بثبات كشجرة ميلاد اقتنصت جذورها مسار نبع، صبي لم يتجاوز السادسة عشر من العمر، استوقفتني تحيته التي سبقتها ابتسامة كشفت بياض سنون الشعوب الاصيلة، قائلا ” سلام يا خال، كيفك”، انه ” دينق” أو ” جدو” كما تسعده المناداة، رددت التحية ببسط الكف هاشة مرحبه به، ابتسم مرة أخري وهو يخفض راسه ليجسر فارق الطول وهو يعقب على تحيتي، الحمد لله ، ” جدو” حملته أحوال انفصال الجنوب بعيدا عن ضاحية مولده الكلاكلة الخرطومية إلي جوبا وطن الأجداد، ودعته جوبا شرقا أفريقيا حيث منابع النيل لاكمال دراسته الاساسية، فاربكته الجغرافيا ومادة الجغرافيا بتضاريسه الجديدة، ليزداد إرتباكا حينما سقط النيليين في صراع بالدولة الجديدة، فعاد الوجدان بحثا عن حنين تركه دون وداع بالكلاكلة فظل حين تباغته الغربة يردد ” انا ود الكلاكلة”، ولا شنو يا ” خال” ! ثم يردفها بمقاطع من النشيد الوطني لجنوب السودان بالإنجليزية
” أيتها الأرض الأم
نرفع العلم عاليا بإفتخار
وقد توحدنا في سلام وتناغم”
يكملها ثم يختم حديثه كقائد اوركسترا “ افريقيا ويي“ ويمضي سعيدا.
(٢)
عرفت السودان والسودانيات/ين مع إرتباطها بالعمل مع السودانيين لأكثر من عقدين، وعرفت الخرطوم ونهره بحكم عمل زوجها في أحد المؤسسات الدولية بالسودان، قابلت كثيرن/ات في أوقات مختلفة،آخرها كان قبل إندلاع الحرب، تكشف إعجابها ببسالة الشابات/ ب السودانيين ادبان ثورة ديسمبر٢٠١٨،شهقت حينما قابلت احدي المصورين الشباب الذين كانوا يخوضون غمار المواكب بكاميراتهم، يغامرون بحياتهم في توثيق تاريخ التغيير، ويسطرون في صفحات التوثيق لحالة للأحداث صورا حيه، قالت ذات مره أعمل كصحفية لسنوات طويلة، لكن أجد ما تقومون به أكثر جسارة وتاثيرا، لا أملك الإ أن أبذل كل انحناء لكم.
حين اشعلت الحرب نيرانها، اتصلت تسال عن الحال، تدعوا باللطف، وتحملني رسالة تضامن للاصدقاء الذين قابلتهم، هكذا عبرت ساندرا الصحفية الكينية عن إحساسها تجاه من عرفتهم وعن نهر النيل الذي عرفته من حكاوي زوجها عنه، لكن مياهه اختلطت بالدم والدموع قبل أن يتحقق حلم زيارتها، فاطل الراحلين تاج السر الحسن وعبدالكريم الكابلي في مقطع من قصيدة آسيا وأفريقيا
” مثل شاهدت جومو
وقد شاهدت جومو
مثل ما امتد كضوء الفجر يوما”
(٣)
تأسرني المقاهي التي تعلي من مزاج صنع قوتها،فاتخذني إلي جانبها مداوما ومحتفيا بما يبذل في اتقان مزاج صنعها، في احدي نهارات نهاية الأسبوع، سأقتنني خطو كسولة تبحث عن نكهة بن تريح المزاج وتربت على عصافير العصب التي تحفزها القهوة على الاسترخاء، حافظت على برتكول الجلوس حيث للعادة والبن طقس من صنو الصداقة، بعد استمعاعي بالفنجان الأول، إنتبهت إلي الشخص الجالس على مقربة مني، إلتفت اليه محييا ومردفا أنا آسف جلست دون إلقاء التحية، بنصف ضحكة قال ” عادي يا خال”، شكرني حين دعوته إلي فنجان قهوة، بحكم اقامتي الطويلة بالمدينة صار من اليسير معرفة القادمين الجدد، فدون مقدمات التفت اليه بعد ارتشافي الفنجان الثاني، خليت السودان كيف! ضحك ضحكة عامرة بالغبطة، ثم اردف انا إريتري يا خال، حتي تلك اللحظة لم تعالجني لحظة شك في ملامحه ولهتجته السودانية، ضحكنا معا، أحسست بالحرج، قبل أن اعتذر اليه عدم حصافتي، فقد حملت مناداتي بالخال سودنة يخفق لها الخاطر في المنافي، إزاح ستر الحرج مواصلا يا خال نحن كنا واحد، السودان كيف هسي؟ الناس ديل ما دايرين تفقوا؟ هززت راسي بالنفي في أسي، واصل، السودان سمح لكن خربوه، كأن ذلك ” تسفاي” شاب دفعته ظروف القرن الافريقي ليخرج متسللا، ليستقر في الشرق الافريقي، رغم ذلك حمله الحنيين إلي السودان ليغادر منها إلي كندا، إختار ١٥ أبريل ٢٠٢٣ للعودة للخرطوم لكن وهو داخل صالة المغادرة فإجاته الحرب كما باغتت السودانيين بالغاء الرحلة، عاد ادراجه إلي المدينة لم يندب الحظ ويلعن، بل إكتفي انها مشيئة ” القدير فينا”، التقيته مره تانية للتهنئة بعيد الاستقلال ال٣٣ لاريتريا، فبادر بتشغيل مقطع فيديو لاحتفال الجالية الاريترية بدولة قطر بالذكري ال٣٣ للاستقلال، كانت الفنانة الاريترية ” هيلن مليس” اغنية آخر المطاف لحنها واداها الفنان حيدر بورتسودان :
” جبروك ولا براك نسيت
عشرتنا أيام الصفا
إلفتنا كان زاد العمر
في ظل رياضنا الوارفة”
(٤)
والله الخرطوم كويس، ياخ مالك ياخ، مكنة لاي زول ! ، قالتها افصاح الصبية التي انتمت تقاطيع وجهها للملاحة، يسند جمالها سنون بداية العمر، بما قد لا يتجاوز الرابعة والعشرون ربيعا ” ازهرا”، وقفت في اعتدال تمد يدها بينما تكفل صديقي ماكفل بتعريفنا، جاء اللقاء عقب مكالمته، شوف يا اخوي، دى اختنا، وعندها مشكلة دايره ترسل قروش لاختها في مدني، قلت ليها انا الزول ده صحبي لو عنده حساب في بنكك ما بيقصر، لو ما عنده بيورينا نلاقيه كيف.
نجحت افصاح في مغادرة اليوم الشرقية عقب بدء حرب أبريل السودانية، فهي احدي مقاتلات جبهة التقراي اللائي لجان إلي السودان منذ العام٢٠٢١، وجهتهم الي كيف يمكنهم إرسال النقود، التفتت وسألتني انت جيت قريب من السودان؟ الحرب ده ما بقيت قريب؟ باغتتني باسئلتها! فاردفت السودان كويس والله، ليه لكن؟ اي لماذا اندلعت الحرب! اوووه ما أوضح الإجابة واقسي الحال، إنه عنف السلطة ولعنة الذهب وقسوة المغول.
(٥)
يا ” الخال” كيفك!، كيف السودان الشقيق؟ عبدالرحمن شاب صومالي، يحب عطبرة وطنا، فقد درس بجامعة نهر نيلها، احب السودان عشقا موازيا للصومال، يختفي بذكرياته وعاطفته التي توهجت في حب سوداني، تسكنه بذكريات كلما استرسل فيها انخفض صوته، وتهللت اساريره معبرة عن مدي خفقان القلب، فالعشق سوداني كان يمني الحال بزيارة ” تسعد القلب المعني” ، يا ” الخال” هكذا يلقيها تحيه عطرة يضحك ثم يسترسل ” صومالي شنو ” صارت تطلق تمييزا للصوماليون الذين عاشوا في السودان..
(٦)
على رصيف الشارع الاسفلتي الذي شيد حديثا لاستقبال قادة مؤتمر القمة الاسلامي، وضعت طاولتها التي تراصت عليها الخضروات المختلفة المعروضة للبيع، كانت على مقربة من طاولة أخري اكبر حجما، أيضا لبيع الخضروات، تحركت حفصتوا” حفصة” ما يقارب العشرين خطوة من حيث كانت تقف مع صاحبة الطاولة الثانية، وقفت امامي بعد التحية بالإنجليزية، نعم، مرحبا بك، كيف يمكن أن اخدمك؟
افصحت عن رغبتي في شراء الطماطم والخيار والليمون، لزوم صحن السلطة، طالبتني بالانتظار ريثما تحضر لي اليمون من جارتها، في تلك اللحظة سرحت مع حركة السيارات العبارة للاسفلتي الجديد الذي ربط بين الشارع الممتد من المطار إلي مدينة بانجول بضاحية سنقامبيا السياحية على المحيط الاطلنطي، أحضرت الليمون وهي تتهيأ بوضع الخضروات على الكيس البلاتسيكي، سالتني من الي البلاد انتمي؟ اجبت مقدما اسمي ، ثم الي اي افريقيا انتمي، ما ان اجيت الا وسارعت بالسؤال عن الحرب وعن امل توقفها؟ اجبتها لا يفكر الأطراف في ذلك البته! تضامنت بدعاء صادق بأن تقف لطلعة الرصاص.
شجعني ذلك على سؤالها عن حال بلدها ، أجابت سياسيا لا مشاكل لكن اقتصاديا الحال متراجع جدا، ختمت حديتها لقد اسقطنا جامع ” قصدت اسقاط الرئيس السابق يحي جامع توريه من السلطة في ٢٠١٥” وفي انتظار صناديق الاقتراع لنسقط الحال، ختمت حديتها ليس لنا غير الانتخابات وسيلة، لا مجال للعنف البته.
سارعت خطوي عائدا الي السكن، اغلقت باب الغرفة، ادرت محرك البحث على ” اليوتيوب” بحثت عن الفنانة القامبية” سونيا جبرتا”، إستلقيت غارقا مع اغنيتها ” ماديبا” التي تعني ” اله المطر”، هكذا قدمتها سونيا قبل بدء العزف والغناء الذي سبقته بترديد اسم دخلتها قامبيا، قامبيا، كان تفاعل معها الحضور بالاستجابة.
(٧)
الصراع ليس جديدا، انما الجديد هو انفجاره هكذا في الخامس عشر من ابريل ٢٠٢٣، هكذا كان على ” رياك” احد الاصدقاء الجنوب سودانيين، ” رياك” من جيل الاطفال الجنود في الحركة الشعبية لتحرير السودان سابقا، يحكي عن تجربته بأن هجوم المليشيات والقوات الحكومية انذاك أجبره على الهرب من الدراسة بالصف الخامس الابتدائي والانضمام للقتال، كخيار لا بديل له سوي الموت.
إسترسل الحرب لا يعرفه الا من عرفها، انه خيار سئ لا جداك في ذاك، فقد فقد ابنه في حرب السودان الراهنة اثر قذيفة إصابته بضاحية الكلاكلة وهو في طريقة لاستلام مبلغ مالي لتكلفة المواصلات التي ستقله من الخرطوم إلي خارجها، بينما نجا شقيقاه اللذان كانا بعدني عقب انتقال الحرب اليها، ظل النقاش بيننا مستمرا منذ بدء الحرب حول اسبابها، كأن منطقه بأن الجنوب ذهب نتيجة للحرب السياسية، لماذا تستمر الحرب في السودان، ظلت اردد بأن الأسباب لا تزال قائمة فقد فشلنا في إدارة الدولة السودانية لبعد الاستقلال، التنوع السوداني تلزمه فدرالية تضع الجميع على قدم المساواة في ممارسة الحقوق بشكل يتسق ومسار التنوع والخلفيات التاريخية التي تشكلت بها حدود الدولة، فالثقل المربوط بفترات الاستعمار بما فيها سياسات المناطق المقفولة ظل اثرها مهملا، ظل هذا الجدل يكسب النقاش حيوية كلما التقينا، إلي اخر مره عرج على اسباب خطاب الكراهية السائد في حرب السودان؟ قلت برغم تعدد الأسباب،لكن انظر إلي السودانيات/ان في ارجاء السودان الاربعة، ستجد مشتركاتهم الحدودية تبصم على ان وجودهم كقوميات سابق لترسيم الحدود،تغيبنا لذلك جاء من اغفالنا للاهتمام بمد الافريقيانية في فترة التحرر الافريقية، وتوهاننا بحثا عن الغابة والصحراء فتاهت بوصلة هويتنا من حينها !
(٨)
جلابية بيضاء بتفصيلة سودانية المزاج، طاقية راس اشتركت في اللون مع الجلابية، جلس منهما على مقعد الطائرة، فرحلة السفر بدأت من ” عد حسين” بالخرطوم، إلي مطار بورتسودان، ثم مطار القاهرة الدولي قبل أن يجلس في انتظار الإقلاع من مطار استنبول إلي وجهته بنواكشط المورتانية، شاب يخطو نحو النصف الأول من العقد الثالث، عاد إلي الخرطوم بعد اندلاع الحرب قادما من نواكشط التي قضي بها ثمان سنوات منقبا عن الذهب، لكنه يعود إليها وبرفقه آخرين من أفراد عائلته، حاولت كثيرا عبر الهاتف على حثهم على الخروج من السودان بعد اندلاع الحرب، لكت اصدمت محاولاتي تحت صخرة اصرارهم بالبقاء، فلم يكن ثمة حل سوي ان احضر بنفسي، وأشرف على سفر عدد منهم في مجموعات صغيرة لاتتعدي الشخصين، فها انا ومن معي اخر من استهدفهتم بالخروج.
لم نواكشط على وجه التحديد، إنها بلاد استقبلتنا بالترحاب، تمنحنا تأشيرة الدخول في مسارها بلا معاناه، وتمنحنا أرضها ذهبها بسخاء، ذلك قبل الحرب اما الان فهي خيار بعد كل هذا العسر الذي فرضه واقع القتال.
لفت انتباهي أن أحد الإثنين اللذان برفقته صبي في سن تقارب الخامسة عشر، مرتديا جلابية بيضاء وسديري رمادي اللون، اخد من الانهاك مبلغا، هبطت الطائرة نزلت ملوحا بالوداع وتركتهم في انتظار الإقلاع إلي نواكشط التي صارت وطنا بديلا” لعد حسين” والخرطوم، وانا اردد في سري، حتما نواكشط أحد منافي الحرب الدافئات فلا زلن النسوة يقدلن في شوارعها بثيابهن الجميلة تحفن الأناقة ويحرسهن الامان.
(٩)
كل تلك المشاهد باغتتني جملة، دفعها فيديو أرسله لي صديق على وسائل التواصل الاجتماعي، لم اكمل مشاهدته فقد دابت على عدم مشاهده المقاطع التي تحمل مشاهد مروعة، لسبب بسيط هو أن ما يحدث تكرار لمشاهد شابقة، فلا داعي للسماح للاكتئاب المجاني بأن يطرق بابي على مزاج من قصدوا المحتوي والترويج له، فقد ثبت بأنه وصل بنا الحال إلي ذبح بعضنا لبعض كسودانيبن بشهوة لا يحسدنا عليها سكان الغابة، اقترن ذلك بخطاب كراهية هستيري، يا ليت الأمر وقف عند ذاك الحد، عاد الصديق متصلا، استفسرني عن مشاهدتي للفيديو؟ اجبته باني اكتفيت بقراءة التعليق، عاتبني وارتفعت نبره صوته، بالغت ياخ كأن تشوفه، اجبته يعني ” اخلي” كل المحتوي الذس يناصر وقف الحرب وكناهضة سوء الكراهية واسخر وقتي لمشاهدة ما أرسلت، واصلت وقد بلغ بي الضيق مبلغا، قائلا انت ما بتعرف ترسل محتوي فيه غناء، اي حاجة عندها علاقة بالمواطنة، خليك من ده ارسل نعم لوقف الحرب فهي طوق نجاتنا يا صاح، فقد غيب صوت الرصاص ضميرنا الجمالي الذي كان شعاره
” الناس في بلدي ..يصنعون الحب”، لكن حوله المغول، العسس ومليشياتهم إلي ” الحرب في بلدي من أجل السلطة والذهب”، حتي باغت عنف الدولة مهارة السودانيين/ات في صنع الحب، فحين صرنا ” بلا محبه ولا نملك الحبه” لعلع الرصاص.
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: محمد بدوي
إقرأ أيضاً:
إجابات حاضرة لأسئلة غائبة
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا/ ليلٌ تهاوى كواكبه.
قال النُقاد إن هذا أعجب بيت شعر قيل في وصف معركة في حرب حامية الوطيس، في حين قال عنه آخرون بأنه أكذب بيت شعر صادق، هذا وذاك لسبب بسيط هو أن قائله بشار بن برد كان أعمى، ومع ذلك برع في استخدام تلك الصورة البصرية الرائعة بذلك التشبيه البليغ. وبما أن الشيء بالشيء يذكر. إذن لقد انتهت (معركة القصر) دون أن يكون بشار بن برد أحد حاضريها ولكن كانت هناك التقنية الحديثة التي تصور دبيب النمل في الأجحار وبالطبع لن يكذبِّها أحد. وطبقاً لذلك يمكن القول أيضاً أنها خلقت وخلَّفت ورائها العديد من الأسئلة االغائبة في توصيف معركة حاضرة قبل أن ينجلي غبارها.
واقع الأمر ذلك ما ينبغي الوقوف عنده طويلاً، لعله يكون فاتحة لمنهج المساءلة القادمً متى ما وضعت حرب البلهاء أوزارها، خاصةً وأنها تُعد الأكثر مأساوية منذ تأسيس الدولة السودانية، وقد صاحبتها كثير من البلايا والرزايا وتعددت فيها الأخطاء والخطايا ثمَّ طوت أعز ما يملكه السودانيون في أعرافهم أي ما عُرف بمنهج (التسامح السياسي) ولهذا نحن نعلم وهم يعلمون كذلك بأنه لن يعود السودان الذي كان: ولكن سيعود لمن أوتي كتابه بيمنه بصفحاته الناصعة البياض من غير سوء. وعندئذٍ تبت يد الجلاد وتب.. لهذا ليس من المنظور أن يذهب درساً قاسياً كهذا أدراج الرياح.
يردد كثير من (الببغاوات) عبارة مضللة ويقولون عن القصر الذي بناه غردون (رمز السيادة) ولا يدري المرء أي سيادة يقصدها المرابون؟ فهل يمكن أن تكون هناك سيادة في وطنٍ انتهكها العسكر على مدى تسعة وستين عاماً ولم ينعم فيها الصابرون الكاظمين الغيظ إلا بنحو عشر سنوات لم تزد منذ الاستقلال؟ وأي سيادة هذه التي انتهك البرهان وثيقتها الدستورية بانقلاب ضلالي مزقها شر ممزق، لا لعوج في ثورتها المجيدة ولا لخللٍ في مسيرتها الديمقراطية الواعدة، ولكن لأنه أراد فقط أن يحقق حلم والده؟ وأي سيادها تلك التي يهرف فيها ياسر العطا بما لا يعلم؟ وأي سيادة تلك التي يرفع علمها جهلول يظن أن تاريخ السودان يصنعه أزلام الهوس الديني والمؤلفة قلوبهم؟
لكن على أية حال إذا أسلمنا جدلاً أن (القصر) الذي بناه غردون هو رمز السيادة، كما يقولون، وأن الطامحين لورثته كثر. نقول نحن إن للسيادة استحقاقاتها. وللسيادة مطلوباتها وللسيادة دين مستحق. عندئذِ فليقل لنا الجنرالات الثلاثة ورابعهم الذي يكيد كيداً من وراء حجاب. ماذا أعددتم ليوم تشخص فيه الأبصار وترتعد فيه الفرائص.فأنتم المسؤولون أمام الله ومن ثم أمام أهل السودان عن كل نقطة دم أهرقت، وماذا تقولون لأارواح بريئة بأي ذنب قتلت؟ سيسائلكم الذين تشردوا من منازلهم والذين انتهكت عروضهم والذين توسدوا الأرض والتحفوا السماء لن نقول لكم حكموا ضمائركم لأنكم قبرتوموها مع ضحاياكم.
نحن نعلم أن للعسكرية شرفاً فهي ليست نياشين ترصع الصدور ولا نجوم تزين الاكتاف، العسكرية شجاعة وبسالة والانحياز للشعب وللقيم الإنسانية النبيلة فليقف من يجسدها في باحة هذا القصر ويعلن استعداده للمحاكمة العادلة فليس الحديث عن القصر واسترداده إنما الحديث ابتداءً عن من الذي فرط في احتلاله وليكن هذا فاتحة البداية في المحاسبة.
ما كان منظوراً أن تجد مثل تلك الأسئلة اهتماماً يذكر من قبل الجنرالات الثلاثة، الذين التفوا عليها وباتوا يشيعون أن هدف الوصول إلى القصر يُعد في صدارة أهدافهم، ليس من أجل السيادة المزعومة ولكن لأن ذلك يجعلهم يروجون بأن (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) ويحقق هدفاً استراتيجيا وهو تغييب الأسئئة الموضوعية التي ينبغي أن تشغل فكر الناس واهتماماتهم الوطنية.
عوضاً عن ذلك راجت أسئلة الدعاية الرخيصة دون اكتراث لآلة الحرب التي تحصد في البشر ورافقتها البروبوجاندا المُضللة التي تقول بأن الوصول إلى القصر هو خاتمة المطاف وتمادياً في الخداع يقولون الوصول للقصر هو نهاية الحرب وهم يعلمون أنهم لكاذبون.
بالمقابل زادت مليشيا الدعم السريع من وتيرة الحرب النفسية بالقول المخادع أيضاً بانهم يسيطرون على القصر ومحيطه، وعندما يستمرؤون الكذب يدعون بأن ألا أحد يستطيع اقتحام القصر وتزيد بالقو إنها متحصنة بعتاد عسكري ولوجستي تنوء بحمله الجبال. وتمادت في اطلاق مزيد من الحرب النفسية بأنها تحتجز ما يفوق الثلاثمائة ضابط في سراديب القيادة العامة التي تقع على مقربة من القصر. الغريب في الأمر أنه في زمن التكنلوجيا والتقنية العالية، صعُب على جنرالات الحيرة التأكد من صحة معلومات القيادة والقصر معاً. وفي غياب مثل تلك المعلومات شطح الخيال الشعبي وطفق يتلذذ باستعراض كافة الأرقام. وكان ذلك يعني أن الجيش يحارب عدواً من الجن.
جغرافياً يعلم أهل السودان أن قصر غردون ذاك يشغل حيزاً صغيراً على النيل واستبعد المنظرون حدوث الهروب/ الانسحاب التيكتيكي باعتبار أنه محاط من جهااته الثلاث\ً ورابعها نهر النيل ولم يفطن جنرالات تنابلة السطان بان المليشيا غادرت القصر منذ زمن وحملت معها كل أغراضها ولم تترك ورائها سوى ذكريات منقوشة على الجدران وتركت القصر خالياً ينعق فيه البوم.
اللهم أجرنا في مصيبتنا. تلك يقول عنها المكلومون: ميتة وخراب ديار!
آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر!!
faldaw@hotmail.com