أزمة السيولة النقدية تعود بالسودان إلى التجارة الصامتة
تاريخ النشر: 18th, November 2024 GMT
الخرطوم- عادت بعض مناطق السودان -خاصة في غرب البلاد وجنوبها- إلى "التجارة الصامتة" بسبب شح السيولة النقدية، وأفرز ذلك تشوهات في أسعار السلع التي تباع عبر التطبيقات المصرفية بسعر أعلى من التي تباع عبر العملة الورقية، كما تفشى التعامل الربوي في تبادل العملة الورقية والإلكترونية.
وتعيش كثير من مدن ومناطق ولايات إقليم دارفور وكردفان أزمة في السيولة النقدية، مما دفع المواطنين للجوء إلى مقايضة السلع بسلع أخرى أو ما عرف في عصور غابرة بـ"التجارة الصامتة" التي سبقت اختراع العملة.
وأدى اندلاع الحرب قبل أكثر من 18 شهرا إلى إغلاق 12 من أصل 18 فرعا لبنك السودان المركزي في ولايات البلاد (18 ولاية)، مما حرم البنك من معرفة أوضاع العملة من أجل استبدالها أو سحبها وضخ فئات جديدة، مع صعوبة نقلها إلى الولايات بسبب الأوضاع الأمنية وإغلاق الطرق.
خريطة الجهاز المصرفيووفقا لبيانات البنك المركزي، يتألف الجهاز المصرفي في البلاد من 38 مصرفا (16 سودانيا و22 مختلطا) لديها 833 فرعا و77 نافذة و73 مكتبا للتوكيل، وتضم مدن ولاية الخرطوم الثلاث 435 فرعا تمثل 49% من عدد الفروع في السودان.
وتحدث تقرير سابق لبنك السودان المركزي عن توقف 70% من فروع المصارف في المناطق التي تشهد مواجهات عسكرية أو متوترة أمنيا، وبعد عام ونصف العام من اندلاع الحرب تزاول حاليا نحو 427 فرعا في الولايات الآمنة أعمالها، أي نصف العدد الكلي للمصارف.
وقبل اندلاع الحرب أفادت تقارير غير رسمية بأن أكثر من 80% من الكتلة النقدية الموجودة في البلاد والمقدرة بنحو 900 تريليون جنيه كان يتم تداولها في اقتصاد الظل، وما تبقى منها لم يكن يخضع لرقابة البنك المركزي بشكل كامل.
وكانت معظم المصارف تفشل في الوفاء بمتطلبات الحد الأدنى لرؤوس الأموال، ودعا بنك السودان المصارف إلى الاندماج وتشجيع التطبيقات المصرفية، وطالب المؤسسات الحكومية بالتعامل بالدفع الإلكتروني لسداد الرسوم والمعاملات من قبل الجمهور.
وتشهد مناطق سيطرة قوات الدعم السريع في أغلب ولايات دارفور وكردفان والجزيرة وسنار أزمة حادة في السيولة النقدية، إذ تتراوح عمولة التحويل من التطبيقات المصرفية في مقابل الاستلام نقدا بين 10 و30%، وكذلك تباع السلع -خاصة الغذائية- عبر التطبيقات بسعر أعلى من العملة الورقية بنسبة 20%.
كما اضطر شح السيولة النقدية وضمور الكتلة النقدية في كثير من أسواق ولايات دارفور وكردفان كثيرا من السكان إلى اللجوء لمقايضة منتجات وسلع زراعية ومبادلتها بسلع أخرى، خاصة المصنعة والمستوردة مثل الزيوت والسكر والشاي وغيرها.
وفي نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور التي كانت المركز التجاري الثاني بعد الخرطوم، يقول التاجر عثمان زروق للجزيرة نت إن المنطقة تشهد موسم حصاد المحاصيل والمنتجات الزراعية الجديدة التي وردت إلى الأسواق، لكن لا يستطيع المواطنون شراءها لعدم توفر السيولة النقدية وامتناع التجار عن البيع عبر التطبيقات المصرفية مع ضعف الإنترنت.
ويضيف أن مراكز تحويل النقود من التطبيقات إلى العملة الورقية محدودة، وعمولة التحويل تتجاوز 20%، كما أن بيع السلع عبر التطبيقات المصرفية يزيد على البيع بالعملة الورقية بنسبة تتراوح بين 15 و25%.
وفي الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور المتاخمة للحدود التشادية، يقول محمد الدود للجزيرة نت إنه تلقى 300 ألف جنيه من ابنه عبر تطبيقه المصرفي، لكنه حصل على 240 ألف جنيه نقدا، وذلك لشراء احتياجاته المعيشية.
ويضيف أن بعض التجار صاروا يتعاملون بالعملة التشادية "فرنك تشادي" بسبب اختفاء الجنيه السوداني، ويعادل الفرنك 1800 جنيه سوداني، خاصة أن كل السلع تأتي من تشاد عبر معبر أدري الحدودي، كما يوجد في الأسواق تبادل السكر والشاي والبن والزيوت بالسمسم والفول والذرة والدخن من المزارعين الذين يأتون من خارج المدينة لتسويق منتجاتهم وشراء احتياجاتهم.
وكان رئيس الإدارة المدنية التابعة لقوات الدعم السريع التي تسيطر على ولاية غرب دارفور التجاني الطاهر كرشوم أرجع أسباب ارتفاع الأسعار بالمدينة إلى ما سماه انتشار الربا وسط التجار.
وفي مدينة النهود بولاية غرب كردفان، يقول تاجر المواشي حامد أغبش للجزيرة نت إن أصحاب الماشية يعانون في بيع ماشيتهم للحصول على النقود اللازمة لشراء السلع الغذائية، إذ يضطرون للتجول بين التجار لعدم توفر السيولة، مما يدفعهم إلى خفض أسعارها.
ويوضح أن رجال دين في منطقتهم حذروا من أن بيع العملة عبر التطبيقات المصرفية بسعر أقل من قيمتها الحقيقية في مقابل الحصول على عملة ورقية يعتبر ربا ويتحمل مسؤولية ذلك طرفا المبايعة.
ويكشف مسؤول في البنك المركزي أن قوات الدعم السريع نهبت كل المصارف في ولاية الخرطوم وولايات أخرى وأفرغت ما فيها من عملات محلية "جنيه" وأجنبية، بالإضافة إلى ما نهبته من مبالغ ضخمة من مطابع العملة في الخرطوم، وقدّر ما نهب من المصارف والمطبعة بما يعادل 350 مليون دولار.
ووفقا لحديث المسؤول للجزيرة نت، فإن الحكومة اضطرت إلى طباعة عملات في خارج البلاد، لمواجهة احتياجات المصارف في الولايات الآمنة التي استأنفت نشاطها.
وعزا شح السيولة إلى صعوبة نقلها للولايات المتأثرة بالحرب بسبب المخاطر الأمنية، واستبعد تغيير العملة الوطنية بصورة كاملة في هذه المرحلة لارتفاع تكلفة الطباعة التي تصل إلى نحو 400 مليون دولار.
ومع إغلاق عدد كبير من المصارف وانهيار خدمات الدفع الإلكتروني وعدم صرف أجور العاملين أو تأخرها يواجه السودانيون أزمة شديدة في السيولة النقدية اللازمة لتدبير معيشتهم، في ظل استمرار المعارك.
وفي حديث للجزيرة نت يدعو الخبير المصرفي إلى التقليل من الاعتماد على الدفع بالنقود مباشرة (المعاملات النقدية) والتوجه نحو المعاملات الإلكترونية والدفع الإلكتروني، وإعادة الثقة في القطاع المصرفي بتجويد خدماته، وتنويع المنتجات التي تقدمها المصارف لعملائها، وإعادة الثقة في الجنيه السوداني كمستودع للقيمة ووسيلة دفع.
وفي مواجهة ذلك أعلن بنك السودان المركزي طرح فئتين جديدتين "500 وألف جنيه" للتداول قريبا.
وأوضح "المركزي" -في بيان الأسبوع الماضي- أن الهدف من طرح الفئة الجديدة هو "حماية العملة الوطنية وتحقيق استقرار في سعر صرفها، ومواجهة الآثار السلبية للحرب الدائرة، ولا سيما عمليات النهب الواسعة التي قامت بها المليشيا المتمردة لمقار بنك السودان وشركة مطابع السودان للعملة في الخرطوم".
ويقترح المتحدث حث المصارف وتشجيعها على فتح فروع إلكترونية تُجرى فيها جميع المعاملات إلكترونيا، وإلغاء سحب العملات الورقية من فئة ألف جنيه التي صارت تستخدم وسيلة لاكتناز الأموال، وفي مرحلة لاحقة سحب الإصدارات من الفئات الكبيرة والاستعاضة عنها بفئات صغيرة.
كما يدعو الخبير المصرفي إلى تعزيز برامج الشمول المالي، بحيث تصل الخدمات المصرفية إلى كل المدن والقرى وإلزام الجهات التي تجبي إيراداتها نقدا مقابل خدماتها بتحصيل إيراداتها إلكترونيا باستخدام البطاقات المصرفية بقرارات ملزمة تصدر عن الحكومة، وإعطاء حوافز لمن يدفع إلكترونيا.
أما الخبير الاقتصادي محمد الناير فيعتقد أن أزمة السيولة النقدية في بعض المناطق أمر طبيعي في ظل الأوضاع الأمنية بالولايات التي تشهد نزاعات عسكرية، لأن نقل العملة الورقية يصبح غير ممكن، خصوصا في ولايات دارفور وكردفان ومواقع أخرى.
وحسب حديث الخبير للجزيرة نت، فإن التطبيقات المصرفية يسرت وصول الأموال إلى المواطنين في مناطق الحرب والمواقع الآمنة من داخل البلاد وخارجها، لكن توجد تعقيدات بسبب ضعف خدمة الإنترنت، مما يتطلب تطوير الخدمة لتشجيع التعامل الرقمي للأموال وتوسيع رقعة خدمات التطبيقات المصرفية لتجنب مخاطر نقل العملة الورقية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات السیولة النقدیة العملة الورقیة دارفور وکردفان الدعم السریع للجزیرة نت
إقرأ أيضاً:
المخاطر محدقة بالسودان رغم انتصارات الجيش
نشرت صحيفة فايننشال تايمز البريطانية تقريرا عن الانتصارات التي حققها الجيش السوداني في الآونة الأخيرة على قوات الدعم السريع، واستعادته مناطق واسعة وسط العاصمة الخرطوم.
وذكرت أن الحرب في السودان عادت إلى حيث اشتعلت أول مرة قبل عامين وسط الخرطوم، حيث تدور المعارك.
ورأت في استعادة الجيش السيطرة على القصر الجمهوري تتويجا لأشهر من الحرب الأهلية التي مال فيها الزخم بشكل حاسم لمصلحة القوات المسلحة السودانية.
وعزا خبراء ذلك -تتابع الصحيفة- إلى تحالف الجيش مع كتائب الإسلاميين التي كانت تدعم النظام السابق، وامتلاكه أسلحة ثقيلة، بالإضافة إلى تسرب بعض العناصر من صفوف قوات الدعم السريع.
ما بعد الخرطوم
وحسب التقرير، فإذا تمكن الجيش من تعزيز سيطرته على الخرطوم، فإن ذلك سيسمح لقائده الفريق أول عبد الفتاح البرهان بتشكيل حكومة انتقالية ومحاولة الحصول على اعتراف دولي أوسع.
لكن الصحيفة تستدرك قائلة إن اللحظة الراهنة تحمل في طياتها أخطارا جمة على البرهان والسودان على حد سواء، إذ أكد انتصار قوات الدعم السريع في إقليم دارفور غربي البلاد، بداية هذا الأسبوع، على خطر التقسيم الفعلي.
وفي هذا الشأن يقول سليمان بلدو، الخبير المخضرم في حل النزاعات، الذي يدير المرصد السوداني للشفافية والسياسات وهو مركز أبحاث، إن القيمة الرمزية والزخم السياسي الذي يمكن أن يحصل عليه الجيش من استعادة السيطرة على العاصمة كبيرة.
غير أنه يحذر من رجوع من شردتهم الحرب إلى ديارهم، قائلا “لا يوجد شيء يعودون إليه سوى جدران منازلهم”.
وفي هذه الأثناء، أفادت تقارير بأن قوات الدعم السريع اجتاحت موقعا صحراويا شمالي دارفور، مما أدى إلى قطع خط الإمداد عن القوات المشتركة المتحالفة مع الجيش في مدينة الفاشر المحاصرة، مما يؤكد أن المشوار لا يزال طويلا قبل إعادة توحيد السودان.
أخطار محدقة
وتنقل الصحيفة عن نور الدين بابكر من حزب المؤتمر السوداني المعارض القول إن استعادة الجيش السيطرة على كامل الخرطوم ليست بالضرورة أمرا جيدا لمستقبل السودان، “لأنه لا يهتم بدارفور”.
واستطردت الصحيفة أن بابكر كان يلمح إلى مخاوف من أن الجيش، بمجرد سيطرته على العاصمة، ربما لا يكون راغبا أو قادرا على مواصلة القتال حتى الأقاليم الغربية.
وذكر السياسي المعارض في تصريحه لفايننشال تايمز أن الجيش، بعد سيطرته على الخرطوم، قد يقل عنده الدافع للتفاوض، مما يزيد من خطر انقسام البلاد.
ووفق الصحيفة البريطانية، فإن طرفي الحرب ارتكبا فظائع، منبهة إلى جرائم الحرب التي نفذتها قوات الدعم السريع من قبل في دارفور، وما تحدثه من خسائر فادحة في المناطق التي تنسحب منها.
وقال كاميرون هدسون، الخبير في شؤون القرن الأفريقي والزميل الأقدم في برنامج أفريقيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية الذي مقره واشنطن، للصحيفة إن “هذا هو أسلوبهم في الانتقام من السكان في أثناء انسحابهم”، في إشارة إلى قوات الدعم السريع.
على أن التحدي الماثل الذي يواجه البرهان حاليا هو البدء في إعادة النظام والخدمات إلى العاصمة التي جُرِّدت من كل شيء، وضمان توفير الغذاء والماء والمؤن الأخرى مع بدء عودة السكان النازحين.
والمعضلة الأخرى أيضا -برأي الصحيفة- تتمثل في كيفية الحصول على الدعم الدولي اللازم لإعادة الإعمار مع توحيد جميع القوات المتباينة تحت راية الجيش.
وعلى الرغم من أن انتصارات الجيش الأخيرة حظيت بدعم الإسلاميين المتشددين -على حد تعبير فايننشال تايمز- فإن الحكومات الغربية وحلفاء الجيش لا يرغبون في رؤيتهم يعودون إلى الحكم. ومع ذلك، فإن الصحيفة تزعم أن إقصاءهم قد يثير رد فعل قويا.
الجزيرة
إنضم لقناة النيلين على واتساب