إبراهيم محمد الهمداني

يعد التفوقُ في القوة البحرية، عنصرًا مهمًّا في مثَّلث صناعة القوة والهيمنة، إلى جانبِ بناءِ القدرات البرية، وتطوير التكنولوجيا الجوية، وقد حظي هاجسُ امتلاك القوة البحرية، وتحقيق حلم التفوق البحري، باهتمام معظم الإمبراطوريات، والقوى الاستعمارية المتعاقبة عبر العصور؛ نظرًا لما لفعل السيطرة على ممرات التجارة البحرية، وبسط النفوذ على أكبر المساحات المائية، من مردودات في نجاح مشروع الهيمنة، وتحقيق الانتصارات الكبرى، والحصول على أكبر قدر من المصالح، بأقل تكلفة وأدنى جهد؛ لأَنَّ من يسيطرْ على البحار يسيطرْ على القرار العالمي، بينما مَن لا يملك مشروع قوة بحرية – ولو حتى في أدنى مستوياتها – لا يعدو كونه تابعًا طفيليًّا، يعيشُ على هامش التاريخ، متسربلا دور الارتزاق والعبودية المطلقة، على أبواب القوى الاستعمارية المتعاقبة.

تستطيعُ القوة البحرية، تطبيقَ قاعدة التوسع وبسط النفوذ، وصناعة عُمق جغرافي وديموغرافي جديد، وتكريس استراتيجياتها التسلطية الكبرى، خارج نطاق جغرافيتها السياسية، وإطار نفوذها التقليدي، نظرا لما تمتلكه من مواضعات القوة، وإمْكَانات صناعة الهيمنة؛ ولذلك يقال إن القوة البحرية – غالبًا – تنتصرُ على القوة البرية، ولعل هذا الأمر، هو ما جعل هاجِسَ السيطرة البحرية، هَوَسًا مزمنًا، ينتقل عبر جينات الهيمنة، من قوى الاستعمار القديم، إلى حاملة إرثها الإمبريالي، من قوى الاستعمار الجديد، لتشكل في مجموعها التراكمي، سلسلةً من حلقات الهيمنة المتصلة، في تاريخ الأطماع الغربية والأُورُوبية، ومشاريعها السياسية التوسعية، الهادفة إلى تحقيق السيطرة العسكرية المباشرة، على المسطحات والممرات المائية، في قلب العالم، ومنطقة الوطن العربي على وجه الخصوص، الذي طالما التقت على خارطته الجيوسياسية، جرائم أسطول المستعمر القديم، الأسباني والبرتغالي، مع وحشية مدمّـرات المستعمر الجديد، البريطاني والأمريكي، واحتشدت على أرضه وإنسانه، الأطماع الاستعمارية العابرة للزمان والمكان.

كانت ممالك أُورُوبا القديمة، تعي جيِّدًا، أهميّة دور التفوق البحري، في تحقيق الهيمنة والرفاه الاقتصادي؛ لذلك كان الأسطول أهم عناصر صناعة قوتها، وكذلك الحال بالنسبة لإمبراطورية بريطانيا العظمى، وحاملة إرثها الاستعماري، خليفتها الولايات المتحدة الأمريكية، حَيثُ يقول الأب الروحي للإمبريالية الجديدة، جورج واشنطن:- “من دون قوة بحرية لا يمكننا أن نفعل شيئا”، وبعد تشكيل ما سُمِّيَ “الأسطول الأبيض”، كان عليه أن يجوب العالم، باعثًا برسائل جيوسياسية، معلِنًا امتلاك أمريكا زمام الهيمنة العالمية، كما عبَّر عن ذلك الرئيس الأمريكي الأسبق، تيودور روزفلت، بقوله:- “لقد أصبحت أمريكا جاهزةً للدور الكوني”.

تناوبت ممالك أُورُوبا المتعاقبة، على تمثيل دور الهيمنة، وحمل راية الإرث الاستعماري، فيما بينها، الواحدة تلو الأُخرى، ولم تختلف طقوسُ توريث الحكم، في إطار المملكة الواحدة، بين مات الملك ويحيا الملك، عن طقوس توريث مشروع الهيمنة، وانتقال حق السيادة الاستعمارية، في إطار التعاقب الزمني والمكاني، بين صعود مملكة وسقوط أُخرى، مع مراعاة اللاحق، حق ومقام السابق، والانطلاق من حَيثُ توقف، في إطار خدمة المشروع الإمبريالي الجامع، الضامن لبقاء ومصالح الجميع، وهو ما يدحضُ سردية التاريخ الرسمي، ومزاعم العداء السياسي، ومشاهد الكيد والمؤامرات، بين ممالك أُورُوبا، في سياق تنافسها على الهيمنة، التي لم تتجاوز كونها مشاهدَ تمثيلية، طالما عايشنا مثيلاتها، كما هو الحال في الحرب الروسية الأوكرانية المزعومة؛ بهَدفِ إيهام الضحية العربية، أنها ليست الهدف الرئيس، في قائمة الطرفين.

جرى توزيع أدوار الهيمنة، في المشروع الاستعماري، بين ملوك وممالك أُورُوبا، وفق خطة شيطانية محكمة، حافظت على تفوق قوة الأسطول، بما يضمن اتصال فعل الهيمنة الأُورُوبية، رغم تعدد الفاعلين، وبما يحقّق لها مزيدًا من استعباد الشعوب والأمم الأُخرى، والتفرد بثرواتها الطبيعية والبشرية، واستنزاف خيراتها ومقدراتها، واستغلالها حتى الثمالة، وسلبها كُـلّ عوامل القوة والنهوض، واستخدام كُـلّ وسائل القتل والتعذيب، وعمليات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وانتهاك الكرامة الإنسانية، في كافة مظاهرها وصورها، وهكذا استمر مسلسل الاستعمار الأُورُوبي، حتى تحول الأسطول إلى بطل قومي، وإرث جمعي عام، وحين كانت إمبراطورية بريطانيا العظمى، آخر وريث للهيمنة، في سلالة الدم الآري الملكي النقي، لم تجد القارة العجوز من يحمل إرثها الإجرامي، فعملت بريطانيا على إنشاء وريث خارج خارطة قارة أُورُوبا، التي أفرغت سجونها من جميع القتلة واللصوص والمجرمين، وأرسلتهم مع عائلاتهم، نحو قارة أمريكا الشمالية، وأرسلت معهم ثلاثة من الرهبان، المحكوم عليهم بقضايا مخلة بالشرف والأخلاق، وسماهم بابا الفاتيكان “رسل الرب”، ودخلوا باسم التبشير بالدين المسيحي، ليمارسوا أبشعَ المجازر الجماعية وحرب الإبادة الوحشية، بحق السكان الأصليين، وهكذا نشأت الولايات المتحدة الأمريكية، لتحمل راية الاستكبار العالمي، وتجعل من الأسطول الأبيض، ركيزة قوتها العسكرية العالمية، وهكذا فرض رعاة البقر سيطرتهم وهيمنتهم، على جميع شعوب وبلدان العالم، وكان يكفي أن تتحَرّك مدمّـرة أَو حاملة طائرات أمريكية، إلى شواطئ بلد ما، لتفرض نفوذها وهيمنتها وتسلطها، وكان رعب الأسطول يجري في مفاصل كُـلّ أصحاب القرار.

جلست الولايات المتحدة الأمريكية، على عرش الهيمنة العالمية، لا عن سابقة مجد، ولا مكرمة من أخلاق، وإنما قادت العالم بعقلية اللصوص، وانحطاط المجرمين، ولم يكن في رصيد “راعي البقر” الأمريكي، غير أرقام مهولة من الجرائم والمجازر والانتهاكات، وهو أبعد ما يكون عن أي مظهر أَو قيمة حضارية تذكر، وحين وصلت سياسة الجنون الاستعماري الأمريكي الغربي إلى اليمن، كانت نهاية هيمنة الأسطول، حَيثُ سقطت قوته المرعبة، على أيدي أبناء القوات المسلحة اليمنية، التي استهدفت حاملة الطائرات الأمريكية ايزنهاور، وحاملة الطائرات الأمريكية ابراهام لينكولن، وعدد من المدمّـرات والسفن الحربية، التي عجزت عن حماية نفسها، ناهيك عن حماية سفن ربيبتها دويلة الكيان الإسرائيلي الغاصب، أَو حماية حلفائها من منافقي الأعراب، وبهذا سقط جنون الهيمنة العالمية، وسقط إرث الأسطول الاستكباري إلى الأبد.

المصدر: يمانيون

كلمات دلالية: القوة البحریة

إقرأ أيضاً:

السيادة وبناء الدولة في مواجهة الهيمنة والتبعية

مقدمة:

تتمتع ليبيا بموقع استراتيجي فريد على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، بامتداد ساحلي يقارب 1900 كم وثراء بالموانئ والخلجان، مما جعلها محطة اهتمام عالمي منذ العصور القديمة وحتى اليوم. هذا الموقع الاستثنائي، بين أوروبا شمالاً وإفريقيا جنوباً، يؤهلها لأن تكون جسراً للتواصل والتجارة بين القارتين، إلى جانب مواردها الطبيعية الغنية التي تجعلها مركزاً محتملاً للطاقة، خاصة النفط والغاز والطاقة الشمسية.

ليبيا: الموقع والموارد

يُعد الموقع الجغرافي لليبيا عاملاً استراتيجياً محورياً، حيث تشكل حلقة وصل بين أوروبا وإفريقيا. كما تُعزز مواردها الطبيعية الوفيرة من أهميتها، بما في ذلك الطاقة الشمسية والنفط والغاز، مما يجعلها مستودعاً ضخماً للطاقة وقادرة على تصديرها إلى أوروبا والوطن العربي وإفريقيا. علاوة على ذلك، تُتيح ليبيا فرصاً لدعم تكامل الوطن العربي وتعزيز وحدته الاقتصادية والسياسية.

تحديات السيادة والاستقلال الوطني

رغم ما تتمتع به ليبيا من مقومات، فإنها تعاني من أزمات متواصلة منذ ثورة فبراير 2011، نتيجة لغياب التفريق بين النظام والدولة. بينما يحق للشعب تغيير نظام الحكم، فإن تدمير أركان الدولة أدى إلى الفوضى والجريمة وتدخل قوى خارجية، مما أفقد البلاد سيادتها واستقلالها.

غياب الأمن والنظام وحكم القانون جعل ليبيا دولة فاشلة تتعرض لخطر الانهيار. الحكومات المتعاقبة فشلت في بناء المؤسسات، مما أدى إلى استنزاف الموارد وانتشار الفقر والجريمة وسط صراع مستمر على السلطة والنفوذ، في غياب قاعدة دستورية وإطار قانوني واضح.

التدخل الأجنبي وتأثيره على السيادة

اعتمدت بعض القوى المحلية على دعم خارجي، مما فتح المجال للتدخل الأجنبي بمعداته ومرتزقته، وأدى إلى وجود قواعد عسكرية على الأراضي الليبية. هذا الوضع أفقد ليبيا سيادتها وجعلها غير قادرة على حماية أمنها الوطني، وهو ما يتطلب استراتيجية شاملة لتحرير البلاد من النفوذ الأجنبي وإعادة بناء الدولة.

استراتيجية وطنية للأمن وبناء الدولة

تحتاج ليبيا إلى رؤية شاملة لبناء دولة وطنية قوية ومستقلة تشمل:

1- صياغة مفهوم جديد للأمن الوطني: يشمل الأمن العسكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي.

2- تعزيز الوعي الأمني: من خلال مشاركة المواطن في ضمان أمنه وأمن مجتمعه.

3- إطار قانوني ومؤسسات مدنية: تضمن حماية حقوق المواطنين وتفعيل دورهم في بناء المجتمع.

4- وضع دستور شامل: يحمي حقوق الإنسان ويضمن الأمن والاستقرار الوطني.

5- تصميم منظومة أمنية متكاملة: لمكافحة الجريمة وحماية الحدود وتحقيق العدالة.

6- تعزيز القضاء: باستقلالية تامة ونزاهة لضمان المساواة بين الجميع.

7- إدارة الموارد بحكمة: لتعزيز الأمن المائي والغذائي، وتحقيق التنمية المستدامة.

8- بناء الدولة: رؤية حضارية بناء الدولة يتطلب تطوير مؤسسات قوية قادرة على تحقيق الأمن والتنمية المستدامة، ويشمل ذلك:

تقديم الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم. تعزيز الاقتصاد الوطني ليصبح متنوعاً ومستداماً. تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. احترام سيادة الدولة وحق الشعب في اختيار قياداته عبر انتخابات نزيهة.

الرؤية المستقبلية للدولة الليبية تتمثل في بناء مجتمع يحقق رفاهية أفراده من خلال تنمية شاملة متوازنة ومستدامة. دولة تُكرس قيم الشفافية والمساءلة والتداول السلمي للسلطة، وتُعلي من قيم الإبداع والابتكار.

خاتمة:

إن بناء الدولة الوطنية في ليبيا يتطلب التكاتف حول رؤية شاملة تحقق الأمن، وتحفظ السيادة، وتُعزز التنمية. ذلك لن يتحقق إلا بإنهاء الصراعات الداخلية، والتصالح مع الذات، وبناء مؤسسات قوية تُحقق تطلعات الشعب الليبي نحو مستقبل مشرق ومستقر.

ولتحقيق كل هذا وترجمته على ارض الواقع في ليبيا يتطلب حكومة واحده من التكنوقراط الوطنيين تبسط سيطرتها على البلاد برا وبحرا وجوا

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

مقالات مشابهة

  • صنع في تركيا: “أوكهان” المركبة البحرية التي تستعد لغزو الأسواق العالمية
  • البحرية الأمريكية.. تحديات كبيرة لإعادة تسليح السفن الحربية في البحر الأحمر
  • توقيع خطة استراتيجية بين مصلحة الآثار الليبية والسفارة الأمريكية لحماية الإرث الثقافي
  • الخارجية السودانية: نرفض ونستنكر العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية على رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان
  • شاهد | ضباط بحريون يؤكدون على الدروس التي تعلمتها البحرية الامريكية في البحر الأحمر
  • السيادة وبناء الدولة في مواجهة الهيمنة والتبعية
  • البحرية الأمريكية: في البحر الأحمر نتعلم من عيوبنا أكثر من نجاحاتنا 
  • القوات المسلحة تستهدف حاملة الطائرات الأمريكية ” هاري ترومان” للمرة السادسة
  • انضمام أول مدمرة استخباراتية إلى قوات البحرية الإيرانية
  • وكالة “شينخوا” الصينية: البحرية الأمريكية فشلت و”الحوثيون” أثبتوا قدرتهم على التكيف والتطور