التغيير الجذري بين التطلعات والفلسفة
تاريخ النشر: 17th, November 2024 GMT
عبدالرحمن مراد
تبدو الحاجة اليوم أكثر من ضرورية في تكثيف الحديث عن التغيير الجذري، طالما وقد تم تسمية الحكومة الحالية التي تدير البلاد بحكومة التغيير والبناء، ووفق كُـلّ المسلمات الذهنية والمنطقية الحديثة لا بُـدَّ من تفعيل دور العقل الفلسفي لبناء الدولة الحديثة إذَا رغبنا في التغيير والبناء، ولا بُـدَّ لنا من استنفار العقول؛ مِن أجلِ الوصول إلى النموذج الأمثل الذي يتسق مع الهُوية الثقافية والمستوى الاجتماعي والمستوى الحضاري المعاصر لبناء النموذج الأمثل.
فاليمن تمر بحركة تبدل وتغير منذ عام 2011م وحتى اليوم الذي تشهد فيه عدوانًا سعوديًّا غاشمًا أحدث فيها تمايزًا وتفكيكًا للبنى التقليدية، سواءً الاجتماعية منها أَو السياسية، ومثل ذلك يطرح سؤالًا جوهريًّا ظل عائمًا في المسارات والمآلات بعد أن قال قادة حركة 2011م بسقوط الأيديولوجيا، والقول بسقوط الأيديولوجيا كان سببًا مباشرًا في حركة المجتمع الأخيرة التي جاءت على أنقاظ القائلين بسقوط الإيديولوجيا، في 2011م.
لم تكن ثورة (21 سبتمبر 2014م) إلا تعبيرًا حقيقيًّا عن واقع يتطلع إلى الانتقال، وبعد أن دلّت التجربة لأحزاب اللقاء المشترك على الفشل وامتداد الماضي في صميم تجربتهم التي تنازعتها مفاهيم الغنيمة وَالاقتصاد الريعي وغياب المشروع الوطني الحضاري والثقافي والاقتصادي وعلى الثبات.
والمتأمل في اللحظة السياسية التي تمر بها اليمن يدرك أن جدلية الحالة الانتقالية التشريعية أصبحت تفرض ضروراتها الموضوعية على الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي؛ فالتلازم بين الأبعاد المختلفة تلازم ضرورة واحتياج وتكامل، ولكل بعد تأثيراته المباشرة وغير المباشرة، وإدراك العلائق وتأثيراتها وتلازماتها يعمل على إحداث التوازن النفسي والاجتماعي للأفراد ويساهم بقدر في الحالة الانتقالية التشريعية ويكفل لها قدرًا من التناغم مع تطلعات الأفراد والجماعات، ويحقّق القدر المناسب من الشعور بالقيمة والفاعلية، ولذلك فالشارع اليمني حين انتفض في ثورة 21 سبتمبر 2014 م لم يقم بسلوك اعتباطي، ولكنه سلوك فرضته حالة الانتقال السريعة المتوافقة مع إيقاع المرحلة بعد أن مرّ بالمرحلة العسكرية (1962م – 2011 م) والمرحلة اللاهوتية العائمة (2011م – 2014 م) وهو الآن يحث الخطى إلى الحالة الوضعية والصناعية، حالة الانعتاق من رقّ الحاجة والتفاعل مع اقتصاد السوق وبحيث تتوافر في تفاعلاته طاقة تعمل على إنتاج نظام اقتصادي / اجتماعي متوازن يكفل وجود الجميع، ويعترف بالكل ولا يحاول إقصاء أحد في ظل دولة وطنية مركبة.. دولة الشراكة.
يجمع الكثير في المشهد السياسي الوطني أن غياب الدولة الوطنية هو المظهر الأول للأزمات المتتالية التي يمر بها اليمن ويتحدثون بالقول إن شكل النظام كان عاملًا مهمًّا في تعميق الأزمات، وأنه قد ألغى الشراكة السياسية والوطنية؛ بسَببِ غياب حاملها الحقيقي وهي الدولة، وبسبب ضرب مشروع الوحدة الوطنية في حرب صيف 94م وقد كان مشروع الوحدة القادر على تحقيق الشراكة؛ لأَنَّه كان قادرًا على فرض شروطه الاجتماعية والثقافية والسياسية.
وقال المفكرون والسياسيون إن الشراكة الوطنية تم استبدالها بنظام من الولاءات يقوم فيه مركز السلطة بتأسيس قاعدة لمعايير سياسية وَاجتماعية ومناطقية، يتم وفقًا لها بناء الحزام الآمن للنظام ويحصل منتسبو هذا الحزام على نصيب الأسد من ثروة البلاد ومن المناصب والوظائف الأَسَاسية، ويرون في تلك العلاقة نوعًا من الشراكة في السلطة والمصالح وهي قاعدة متضادة لنظام الشراكة الوطني.
وترى أحزاب اللقاء المشترك –وفق رؤيتهم المنشورة- أن إعادة الاعتبار إلى الخيارات الوطنية النبيلة التي توافق عليها اليمنيون وارتضوها خيارات وطنية لا رجعة عنها، وفي المقدمة منها مبدأ الشراكة الوطنية، والتعددية الحزبية والسياسية والقبول بالآخر وسيادة القانون والمواطنة المتساوية والشراكة الشعبيّة الواسعة في السلطة والثروة وصناعة القرار.
والحقيقة التي يجب الاعتراف بها أن تفكير التيارات السياسية اليمنية ظل غائبًا عن بناء مجتمع حديث يعمل بكفاءة في عالم اليوم، وبناء مجتمع حديث يتطلب مؤسّسات حديثة وسلطات حديثة، ومفاهيم حديثة تتجاوز سياقها التاريخي والثقافي كما أنّ جلّ المفاهيم السياسية التي يتشدقون بها ضبابية وغير واضحة الأبعاد والمعالم فهم يتكلمون عن الدولة وَلا نكاد نلمح لهم تعريفًا للدولة، ويتكلمون عن الشراكة الوطنية وَلا نكاد ندرك العمق الاجتماعي والسياسي لمفهوم الشراكة الوطنية، ويمكن أن يقال إن الشراكة الوطنية، والتعددية الحزبية السياسية، والقبول بالآخر، وسيادة القانون، والمواطنة المتساوية مصطلحات جوفاء غير ذات مضمون عند القوى والتيارات السياسية الوطنية اليمنية، وهي تستخدم للاستهلاك السياسي والكيد السياسي ولكنها خالية من المضامين الاجتماعية والثقافية والسياسية، بالرغم من أن الشروط الموضوعية الواقعية للتطورات الاجتماعية والثقافية التي توالت تراكماتها الضاغطة منذ 2011م قد فرضت سؤالًا هامًا ومحوريًّا حول جدلية الاندماج الاجتماعي والاندماج السياسي للجماعات والأحزاب والطوائف، ويبدو أن العقل الاجتماعي، والعقل الفلسفي لم يستوعب تفاصيل الحركة الاجتماعية التي تعيد إنتاج نفسها من خلال الاشتغال على التفكيك في البنى التقليدية، وكان من المفترض بالأحزاب –باعتبَار الحزب مثقفًا عضويًّا يحمل مشروعًا للنهوض– أن تكثّـف البحث عن الوسائل المثلى الداعمة لثقافة التسامح وقبول الآخر والاعتراف بوجوده، والتعايش معه، واحترام معتقداته وثقافته؛ لكون البحث عن العلاقات الشكلية بين مكونات المجتمع المختلفة والدولة وفق المفهوم الحداثي لا التقليدي -وهو المفهوم الذي أفرزته وتفرزه حركة المجتمع– يقود إلى الحديث عن دمج كُـلّ الفرق والجماعات والأحزاب في إطار المفهوم الجامع الشامل “للمواطنة المتساوية” وهو مفهوم يحتاج إلى جدل وحوار فكري وفلسفي للوصول إلى تحديد معناه.
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الشراکة الوطنیة
إقرأ أيضاً:
هل يقع التغيير بالثورة في اليوم العاقب لها: الثورة الفرنسية مثالاً (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
هذه مذكرات عن الثورة الفرنسية أخذتها من "أوربا الثورية 1780-1850" (2000) كتاب زميلي السابق في شعبة التاريخ بجامعة ميسوري جونثان سبيبربر. جلست إلى الكتاب في أعقاب ثورة ديسمبر حين سقمت نفسي أحاديث مطلوقة عن الثورة السودانية اشترطت أن تنهض الثورة، متى قامت، بالتغيير الجذري بعد اسقاط النظام مباشرة وإلا صارت "انتفاضة" في أحسن الأحوال أو هرجاً وضلالاً. وعرفت أن أياً من مشيعي تلك الخزعبلة لم "يشق" بطن كتاب عن ثورة ليعرف أن الثورة هي تعريفاً ثورة متى أسقطت حكومة النظام القديم. وبس. أما التغيير فلا يأتي لحزته لأنه مما تختلف الآراء فيه وسبله بين من ائتلفوا لإسقاط النظام القديم. ولا أعرف إن كان من يذيع هذا الضلال وقف عند الثورة الفرنسية (1789) وتضاريسها ليرى أنها اختلفت حول التغيير اختلافاً محلياً وأوربياً اختلافاً مضرجاً كبيراً. فلا الجمهورية ولا العلمانية اللتين هما المعنى الذي كان من وراء الثورة تحققا في اليوم العاقب لسقوط النظام القديم كما يتشهى بعضنا. ويكفي أن جرى استرداد الملكية لفرنسا ثلاث مرات ولم تتوطد الجمهورية إلا في ثمانينات القرن التاسع عشر. كما لم يقع فصل الدين عن الدولة إلا في دستور 1905 ولينص دستور 1958 صريحاً على العلمانية لأول مرة.
نحن، وذكرى ثورة ديسمبر على الأبواب، قبايل "تجديد البكا" على الثورة في تاريخنا. وهو بكاء كاليتم لانقطاعه عن تاريخ الثورات المقارن ويريد لثورة السودان أن تغير ما بنا في لمح البصر: short and sweet
أردت عرض هذه المذكرات عن الثورة الفرنسية حتى لا نخدع عن حقائقنا وثوراتنا بثمن جهالة بخس. وعينت الصفحة من الكتاب أمام تلخيصي لما فيها. وربما صادفت القارئ متاعب هنا وهناك لأن هذه المذكرات مما أردت منه أن أعرف عن الثورة الفرنسية لا أن أنشرها كما أفعل الآن.
ص 51 الثورة الفرنسية لعام 1789 واحدة من الحوادث الكونية التي أعادت تشكيل تاريخ أوربا وما سواها في العالم بأسره. مثّلها على اكتشاف الزراعة في العصر الحجري الجديد أو الثورة الصناعية.
ص 60 "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" (26 أغسطس 1789). أنهى النظام الإقطاعي وألغى الامتيازات التي اتصلت به ليؤسس لأمة من مواطنين متساويين.
61-64 خلا من مواطنة المرأة والعبيد الأفارقة في الجزر المحكومة بواسطة فرنسا. حقوق الذكر الأبيض. وترك الإعلان أمر المواطنة والملكية، ودين المواطن كاثوليكي وبروتستانتي، ومنزلة الملكية والكنيسة من غير ذكر. ولكن تلك المسائل صارت في مركز الأحداث لاحقاً بعد تكوين الحرس الثوري، وصدور الصحف، ونشأة الأندية السياسية (اليعاقبة من اسم مبناهم الذي كان لطائفة اليعاقبه)، وبروز الثورة المضادة بهجرة أخ الملك وأفراد من النبلاء إلى المانيا على الحدود من فرنسا للعمل على استعادة أوضاع فرنسا لما قبل الثورة.
65ببداية 1791 انقسم الفرنسيون بين من يريدون للثورة أن تطرد وبين من يريدون لها أن ترتد إلى ما قبل 1789 (65 نشوء نظام المحاكم الوطنية بديلاً للماكم الملكية والاقطاعية). 66 (صارت المواطنة قرينة بالملكية مرتبطة بالسوق الحر لا كما اكتنفتها امتيازات الإقطاع سابقاً. وبهذا صار المواطن هو تملك قدراً منها ليستحق التصويت. فحرمت نصف أو ثلثي السكان من التصويت بمقتضى هذا الاقتصار. وللترشيح يستوجب أن يكون للمرشح قدراً أعلى من الملكية عن المصوت). 66 التفريق هنا بين مواطن نشط له التصويت والترشيح ومواطن سلبي محفوظ الحقوق بغير مشاركة في التشريع لها.
67 أكثر إصلاحات الجمعية التأسيسية ودستورها لسنة 1791 مرت بغير اعتراض، بل بترحيب: الملك رأس الجهاز التنفيذي 77 ودستوري في مواجهة مجلسي تشريع. فرنسا صارت في 1791 ملكية دستورية. وهكذا استوعب الإصلاح الملكية والكنيسة في هذا الطور.
عانت فرنسا بعد الثورة ضائقة اقتصادية بالنظر إلى تقلص إيراداتها من الضرائب التي توقف الفلاحون عن دفعها لأن امتناعهم من مكاسب الثورة. الحكومة تعيد تسمية الضرائب بما تستعيد به السحر التعاطفي: "المساهمة الوطنية".
68 واضطرها ذلك لمصادرة ممتلكات الكنيسة وبيعها وإصدار سندات بمقتضاها. وسبق للحكومة أن منعت الكنيسة من تحصيل "أتاواتها" التقليدية. فأفلست الكنيسة واضطرت الحكومة لدفع مرتبات القسس.
68 من هناك جرى اصلاح للكنيسة شمل تنظيمها وأهم جوانبه انتخاب القساوسة وأن يقسم القساوسة الولاء للأمة كغيرهم من موظفي الدولة.
شقاق ممن رأوا في ذلك تدنيساً لكنيسة الرب. وافقهم البابا الذي وجه ألا يقسم قسيس بالولاء للأمة.
69 شق روحي ل95 في المائة من المسيحيين الكاثوليك من سكان فرنسأ. انقسم القساوسة إلى نصفين بين من قبل بالقسم للدولة وبين من رفض. الدولة تستبدل العصاة بغيرهم. صراع. مساندو العصاة يسندونهم وعنفوا ضد من اقسموا للدولة. والنساء كثير بين الداعمين للقسس العصاة. ومن الجهة الأخرى الثوريون مثل اليعاقبة وصموا من لم يقسم للأمة بالمضاد للثورة الرجعي، وعبأوا الحرس الوطني للدفاع عن قسس الدولة والعدوان على غيرهم. انتقل الصراع إلى سائر فرنسا في 1791. وكان هذا الصراع حول الكنيسة بذرة الثورة المضادة. وطرأ للجمعية أن المقاومة الشرسة لتوطين الكنيسة لابد أن من ورائها قوى متآمرة شريرة مما حفزهم لمضاعفة الجهد لتنفيذ الخطة. وكانت الملكية جناحاً لتلك الثورة أيضاً. كن الملك مضطرباً بين العمل مع الجمعية التي جعلته ملكاً دستورياً أو يقاومها.
تظاهرة أكتوبر 1791 ضد الملك في فرسايل في سياق أزمة خبز نسبها عامة باريس لتآمرات العائلة الحاكمة. فحمت الحكومة الملك من عامة باريس وصار مديناً لها سياسياً. وضاق بذلك وقرر الهروب إلى الخارج بعد أن ترك بياناً منه أوقف توطين الكنيسة (أي جعلها وطنية فرنسية لا عالمية) وإلغاء قرارات الجمعية التأسيسية. وحاول الهرب في 20 يونيو 1791. ولكن ألقى عليه القبض. نشأت قناعة أن النظام الجديد لا يمكن له التعايش مع الملوكية والكنيسة. انقسام في الجمعية بين من أرادوا الاستمرار في الملكية برغم كل شيء ومن هم ضد ذلك وعلى رأسهم نادي الكوردلر المتطرف بأكثر من اليعاقية. تظاهرة لنزع الملك. تصدى لها الحرس الوطني. مذبحة شمب دي مار. صراع بين ا والجذريين في نادي اليعاقبة بباريس. ال يستقلون بناد فيوللانت. اليعاقبة بقيادة روبسبير يتحولون من ملكيين إلى جمهوريين. تمحورت السياسة في آخر 17991 حول محاور: 1-الردة عن الثورة في مواقع المهاجرين والملكيين حول المسألة الدينية.، 2، ومن اكتفى بما تم إنجازه بما فيها إصلاح الكنيسة وبقاء الملك، 3-من أرادوا مواصلة الثورة نحو الجمهورية الديمقراطية مثل اليعقوبيين ومناصريهم. واحتدت الخصومة بحيث صار أمر تطبيق دستور 1791 مشكوكاً فيه.
عوامل للاسقطاب السياسي والثورة التي ساقت إلى حرب أهلية
72 اكتنفت الثورة أزمة مالية لم تخرجها منها حتى السندات المالية بضمان أرض الكنيسة المصادرة. فلم يقبل الفرنسيون في المناطق المناصرة للقسس المنشقين على شراء الأرض، بل قابلوا من حاول ذلك بالاحتجاج والشنق سحلاً. وفرضت الحكومة تداول السندات التي اشتراها أهل المال من الناس بثمن بخس أدى إلى تدهور سعر العملة. فامتنع المزارعون من بيع محصولاتهم بالثمن البخس. فنقص المعروض من الطعام في الأسواق. وأدى هذا إلى نشأة فئة اجتماعية سياسية في المدينة عرفت ب"سانس-كولتس". وهي من العاملين بأيديهم من الحرفيين وصغار التجار وسيطة بين البرجوازية والعمال: برجوازية صغيرة. فهم يعملون بأيديهم ويؤجرون من يعملون بأيديهم. وظهرت سطوتهم في سقوط الباستيل 1789 وحصار فرسايل في أكتوبر 1791. ولما كانت الحكومة قد عادت إلى باريس أعطى هذا السانس قوة للضغط زائدة.
ص 17-72. ومن تلك العوامل تورط فرنسا في حرب أوربية. فإلغاء النظم الإقطاعية أخاف أوربا. وقوى من هذه الحرب عامل للسياسة الداخلية هو المهاجرون الفرنسيون ممن كونوا فرقهم المسلحة على حدود فرنسا الشرقية. العناصر الأكثر جذرية في الجمعية التأسيسية (1791) طالبت بشن الحرب على المانيا لإيوائها المهاجرين لكسر ظهر عناصر الثورة المضادة. ومتى انتصروا في الحرب كان سبباً لترويع المعارضة الداخلية وإخراسها علاوة على نشر مبادئ الثورة الفرنسية في الخارج. وافق الملك على الحرب برغم أن بعض أسرته من بين "الثورة المضادة". وعارض روبيسبير زعيم اليعاقبة الحرب لأنها مشقة غير مأمونة العواقب. بدأت الحرب في 1792 وما لبث أن بدأ عوار الحرب للحكومة. فتناصرت قوى أوربا مع قوى الثورة المضادة. وكان متى احتلت الجيوش الأوربية موضعاً فرنسياً استعادت فيه النظم التي ألغتها الثورة. وصارت الحرب، التي اختلفت دوافع القوى الأوربية لدخولها، تعرف بحرب بين الثورة والثورة المضادة، الثورة والاستعادة. حرب لم تقع للإنسانية من قبل.
74 بدا للجذريين في باريس أن دروس الحرب تلك أن يعنفوا. فالوسطيون حاربوا بغير نفس بل انضم بعض قادتهم للعدو. وكان يراسل الأعداء وهو القائد العام لجيشهم. وكان جورج دانتون، من الجهة الأخرى، من نادي كوديلر متحمساً للحرب: الجراءة والجراءة أكثر والجراءة ما يزال هي التي ستنقذ فرنسا". وبدأ الجذريون في الإعداد لانتفاضة جمعوا لها الحرس الوطني من سائر فرنسا (20 ألف) في مظاهرة في 10 أغسطس 1792. سارت للقصر الملكي وهزمت حرسه وقتلت أكثرهم. وأعلنت أن فرنسا جمهورية.
75 وفرضوا إرادتهم على الجمعية التأسيسية بحل نفسها وإجراء انتخابات جدية لجمعية تضع دستوراً للبلاد الجمهورية. وحدث ذلك واجتمع البرلمان في سبتمبر 1792.
75 تواصلت الحرب واقترب البروسيون (بروسيا) من باريس. واستقل السناس بأنفسهم عن الأندية. وأخذوا يستأصلون السجناء السياسيين من النبلاء والقسس المنشقة في ما عرف ب"السبتمبريين". وهي لعنة دم لاحقت الجذريين. وأمض ارتفاع الأسعار السناس أيضاً. وكا مقترحهم لاحتوائها هو تحديد الأسعار وإن لم يسلم الفلاحون نتاجهم صادرته الدولة.
وبذلك التصعيد صارت الجمعية التأسيسية ساحة مرة أخرى لمن أراد اطراد الثورة ومن رغبوا عن ذلك. منشأ اليمين واليسار خلال هذه الخصومة. صار جذريو الجمعية السابقة، قُرُيندنز، في صدام مع اليعاقبة الذين رغبوا في التحالف مع السانس ممن طلبوا تحديد الأسعار. وهو تعد على الملكية لم يقبله القريندز. واشد خلافهم كان حول مصير الملك المخلوع. لم يمانع كثير من النواب من تقديم الملك للمحاكمة بتهمة الخيانة. ودفع الملك عن نفسه بأن دستور 1791 جعله مبرأ من مثل هذه المحاكمة. أما دفاع أنصاره المهجرون فكان أن الثورة هي الخيانة. ونشب الخلاف حول العقوبة. فأراد القريندز، متاثرين بعقيدة الملك لمعصوم، تفادي قتله باي صورة بالدعوة لسجنه أو لنفيه وغيرها.
ص 77 وأراد القريندز بذلك ألا يقطعوا شعرة معاوية مع أوربا الملكية. وهي الشعرة التي أراد اليعاقبة قطعها. صوتت الجمعية لقتله بأغلبية قليلة بعد جلسة متصلة دامت 36 ساعة. وقتل في 21 يناير 1793 على المقصلة شهيداً مسيحياً باركه البابا في نزال قوى الشر. وكان السانس يغنون المارسليز. واحتدم الصراع بين الجماعتين. أراد القريندز إغلاق أندية اليعاقبة وغيرهم ووقف صحفهم. فجنح اليعاقبة على السانس فآزروهم باقتحام الجمعية في يونيو 1793 والمطالبة بنزع القريندز من عضويتها. فاستجاب اليعاقبة مسرورين.
وصار بوسع من تبقى من الأعضاء المضي قدماً في مواصلة الثورة. فقرروا التجنيد الاجباري وتنفير قوة الأمة كلها رجالا ونساء شيباً وشباباً للنصر في الحرب من اجل الجمهورية.
87 واتبعوا إجراءات عنيفة ضد الثورة المضادة كجماعة عملاء لقوة أجنبية. تكونت لجان الرصد لأعداء الثورة لفرز من معها ومن ضدها. انتزاع شهادات الولاء للثورة. وصار أهل الحظوة القديمة موضع ريبة. محاكم خاصة لمحاكمة الخونة. وتمت مصادرة ممتلكات المهاجرين المعادين. ونشأت لجنة السلامة العامة تتوج إجراءات العنف ضد الخصوم. وكافأوا السانس بتحديد الأسعار ومصادرة منتوج الفلاحين الممتنعين عن البيع. وكان هذا بخلاف عقيدتهم في السوق الحر. كان روبسبير من وراء لجنة السلامة. جعلت أندية اليعاقبة نفسها حكومة من وراء الحكومة الرسمية في التربص بالأعداء. وكلما أوغلت اللجنة في العنف كلما خلقت طائفة من الأعداء لها. ففي مدن الجنوب انتصر المعتدلون على المتطرفين. وساءهم طرد القريندز المعتدلين من الجمعية في باريس فقاموا بعصيان سموا أنفسهم فيه الفدراليين. وكانوا مع الثورة رغم عدائهم للجمعية يريدون لفرنسا أن تحتفظ بنظمها الباكرة للثورة من المصالح والدوائر الذاتية لا المركزة التي جرت لاحقاً على يد اليعاقبة. كانت وراء ثورتهم عوامل: 1-الدين لأن سكان غرب فرنسا أكثرهم تديناً، وهم ضد القانون المدني للقساوسة. وصارت تحرشات وصدامات طوال عامي 1791 و1792. وكان أهل غرب فرنسا ضد التجنيد الاجباري أيضاً لأن العمل بالجيش ليس له أصل فيهم. جاء لقيادة سخط غرب فرنسا على الجمعية قساوسة متمردون ونبلاء.
81 وكونوا في مكان ما "الجيش الملكي والكاثوليكي" وساروا لباريس لإسقاط الجمعية. جماعة أخرى نهضت بحرب عصابات. وكلاهما متصل بالمهاجرين آملين بتدخل بريطانيا. وجسد ذلك الصراع صدام الدين وثقافة عهد الأنوار المناوئة له. وكان صراعاً اتسم بالوحشية. ذبح الثوار أنصار النظام الحاكم في باريس ذبح الشياه وشيعوهم بالترانيم الدينية. ولما تلقى أنصار الحكومة عوناً قتلوا كل سجنائهم.
ص 80
عهد الرعب 1893 إلى 1794
أدى رعب الحكومة إلى ضحايا بلغوا 35 ألف موتاً بالسجن أو بواسطة المقصلة. أكثرهم كان من جنوب فرنسا الذين حملوا السلاح ضد الحكومة. ولا يشمل هذا من قتلوا في غرب فرنسا الذين ربما كانوا خمسة اضعاف ذلك العدد. ولكنهم ماتوا في قتال مباشر بين أطراف الحرب بين الحكومة والمنشقين عليها.
81 وما يجعل ارقام أولئك الضحايا قابضاً للنفس ليس أننا لم نشهد ضحايا أكثر منه في عصرنا ولكن لأنه وقع في محاولة لبناء فرنسا جديدة على بينة "جمهورية الفضيلة" في عبارة لروبيسبير. خلال الحرب الأهلية والخارجية عكف اليعاقبة على تدبيج نظام جديد لفرنسا استمر في صوره المتطرفة لسنة واحدة:
1-ثقافة جديدة لفرنسا تحل مكان الثقافة القديمة شملت تغيير التقويم. جعلوا الثاني والعشرين من سبتمبر 1792 بدء للتقويم الجديد الذي حل التقويم المسيحي. جعلوا الأسبوع 10 أيام تنتهي بيوم عطلة ليس هو الأحد. وسموا الشهور تسميات جديدة. مثلاً شهر الحرارة Thermidor وهو ذروة الصيف. وgerminal وهو من بعض مايو ويونيو وهو شهر نمو المحاصيل. ولم يقبل بالتقويم أحد للخبطته الأعياد الدينية واختزاله أيام العطلة. اقتصر التقويم على الاستعمال الرسمي حتى جرى إلغاؤه في 1806.
2-إصلاح الموازيين والمكاييل وضبط معاييرها. كانت المقاييس قبل الثورة مقاسة على جسد الملك. فالقدم في الواقع هو طول قدم الملك. جاؤوا بمقياس المتر مستفاداً من تراكيب الطبيعة. وجرى قبول هذه "البدعة".
3-إعادة تسمية الشوارع التي أطلقت على ملوك. استبدالها بأسماء لأبطال الأغاريق والرومان. وسمى اليعاقبة أولادهم بروتس وحتى فرانكلن (ألأمريكي) احتساباً للجمهورية. ويخاطب الواحد الآخر يا"مواطن" كسراً لنظام الألقاب.
وكان القصد هدم الكاثوليكية. زادوا بالاعتداء على الكنائس وتدنيس رموزها. ولم يسلم حتى القساوسة المطاوعين من التضييق فأضطر 18 ألف منهم لنزع الرداء الكنسي وقبلوا بمدنيتهم وأول مظاهرها الزواج مما كان محرماً عليهم.
واحتار الجذريون في ما يحلونه محل المسيحية. فأقترح البعض الإلحاد أو حكم العقل. فسموا كاتدرائية نوتردام بمعبد العقل. ثم انتهوا إلى نسخة هادئة من الدين الجديد هي ال"deist". وهي عقيدة تؤمن بوجود الرب. ولكنه تلاشي حين حرك الكون وشغله. وانقطعت صلته بالكون والخلائق. وصار مصير الدين الجديد مصير التقويم: النفور منه. ولكن ثبت اليعاقبة مبدأ المواطنة أما السوية القانون فشملوا بها كل الذكور دون النساء. ونواصل.
ibrahima@missouri.edu