بين شانغهاي وتشانكاي.. الصين تربط بيرو وأميركا اللاتينية بمبادرتها للحزام والطريق
تاريخ النشر: 17th, November 2024 GMT
بكين – لم يكن حضور قمة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي (آبيك) في بيرو، ثم حضور قمة مجموعة العشرين في البرازيل هذه الأيام بالنسبة للرئيس الصيني شي جين بينغ ولغيره من القادة الآسيويين مجرد حضور اثنتين من أبرز القمم الاقتصادية، بل فرصة لتعزيز العلاقات عبر المحيط الهادي بين دول شرق آسيا ودول أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي ذات الكتلة السكانية الكبيرة.
فقد باتت أميركا اللاتينية من أهم المناطق في التجارة الخارجية للصين، وحسب المتحدث باسم الخارجية الصينية سون لين جيان، في تصريحات له الخميس الماضي، فإن قيمة التبادل التجاري بين الصين وأميركا اللاتينية في الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري بلغت 427.4 مليار دولار، بزيادرة نسبتها 7.7% عن الفترة ذاتها من العام الماضي، وتقترب تلك القيمة من عتبة 500 مليار دولار مع نهاية العام الجاري، حسب تقديرات الخارجية الصينية.
التجارة البحرية عبر المحيط الهاديوضمن سياق توجه الصين لتوسيع حضورها وتواصلها الاقتصادي مع دول العالم، كان واضحا ما يعنيه أن يشهد الرئيس الصيني شي جين بينغ ورئيسة البيرو دينا بولوارت افتتاح ميناء تشانكاي، الذي يوصف بأنه أحدث الموانئ في أميركا اللاتينية ويقع على بعد 78 كيلومترا شمالي العاصمة البيروية ليما، وعلى سواحل جنوب المحيط الهادي.
ويراد لهذا الميناء -الذي يستلزم 3.5 مليارات دولار حسب أرقام شركة كوسكو الصينية لاستكمال مراحله وما تبعه من مشاريع سكة حديد القطار التي تربطه بالمدن والدول المجاروة- أن يكون نقطة وصل بين شمال شرق آسيا وأميركا اللاتينية، وليكون أحدث المشاريع المنفِذة لمبادرة الحزام والطريق الصينية، وقد رسمت لتحقيق تواصل بحري وبري اقتصادي مع دول العالم بما في ذلك أميركا اللاتينية والمنطقة الكاريبية.
لهذا أكد الرئيس شي -في مقال نشر له بصحيفة بيروية- على أهمية إنجاح مشروع ميناء تشانكاي في بيرو من مرحلة البناء والتشغيل، وإكمال مراحل تطويره حتى "يحقق المسار البحري بين شانغهاي وتشانكاي للصين وبيرو ودول أميركا اللاتينية تنميةً ورفاهية مشتركة".
وتم اختيار تشانكاي -تلك المدينة الصغيرة ذات الـ63 ألف نسمة- ليس لقربها من العاصمة فحسب، بل لموقعها الجغرافي أيضا، الذي يمكن الإبحار منه مباشرة نحو الشمال الغربي للمحيط الهادي باتجاه سواحل الصين ودول شرق آسيا الأخرى، كما أنه ميناء طبيعي من حيث عمق قاع البحر في تلك السواحل.
بيرو من جانبها ترى في مثل هذا المشروع مجال بناء جسور تواصل اقتصادي وإستراتيجي بينها وبين الصين ودول شرق آسيا، بل إن دولا ذات حدود مع بيرو قد تستفيد من هذا الميناء في التجارة مع الصين كالبرازيل والإكوادور وكولومبيا وبوليفيا وتشيلي عبر أراضي جيرانها، وكلها أسواق للمنتجات الصينية، ليكون الميناء نقطة ارتكاز، أملا في أن تصبح بيرو لاعبا مهما في حركة السفن والتجارة الدولية عبر المحيط الهادي.
وبانطلاق السفن من هذا الميناء، يُتوقع أن تنخفض كلفة الشحن بين بيرو وما جاورها وبين الصين بنسبة نحو 20%، لتصل السفن التجارية عبر المحيط الهادي خلال 23 يوما بفارق 12 يوما عن غيره من الموانئ اللاتينية، وفي ذلك فائدة لكل المنتجات وفي مقدمتها المنتجات الزراعية الطازجة التي تصدرها بيرو إلى الأسواق الصينية.
ولو تحقق ما جاء في خطة المشروع، فإنه يؤمل أن يحقق ما يبلغ 4.5 مليارات دولار من الإيرادات سنويا، ويوفر 8 آلاف فرصة عمل للبيرويين، وفق ما تذكر المصادر الصينية.
ميناء تشانكاي يتوقع له أن يحقق ما يبلغ 4.5 مليارات دولار من الإيرادات سنويا (الفرنسية) علاقات متينة
لكن علاقة الصين مع بيرو سبقت ذلك الميناء بخطوات مبكرة سابقة، حيث تعد الصين أكبر شريك تجاري لبيرو، وتأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثانية.
فالصين تمثل بالنسبة لبيرو أكبر سوق تصدير لعشر سنوات ماضية. وصادرات بيرو إلى الصين تشكل 36% من مجموع صادراتها. تقدر قيمة الاستثمارات الصينية في بيرو حاليا بنحو 30 مليار دولار، ومن ذلك منجم لاس بامباس للنحاس الذي يسهم بنحو 1% من الناتج المحلي الإجمالي لبيرو، حسب قول الرئيس الصيني شي جين بينغ. وتحت الإنشاء مشروع مستشفى ساول غاريدو في مدينة تومبيس شمالي غربي بيرو لخدمة 100 ألف من المواطنين. ومشروع مياه آخر في ثلاث نواح من مدينة ليما يراد له أن يوفر المياه لنحو 400 ألف من سكان العاصمة. البيرو كانت أول دولة في أميركا اللاتينية تقيم علاقات دبلوماسية مع الصين في عهد جمهورية الصين الشعبية، حتى باتت عام 2013 بمستوى الشراكة الإستراتيجية. والبيرو أول دولة من بين جيرانها توقع اتفاقية تحرير التجارة مع الصين عام 2010، والتي تم تحديثها ووضع خطة تعاون لخمس سنوات قادمة. وهي من أوائل الدول التي تعاونت مع الصين في تنفيذ مشاريع مبادرة الحزام والطريق.لذلك لطالما امتدح الرئيس الصيني شي جين بينغ علاقات بلاده مع بيرو خلال زياراته المتكررة، معتبرا إياها "الجار" عبر المحيط الهادي، ومقدرا ترحاب البيرويين بالصينيين مسؤولين ومستثمرين ومن عامة التجار وأصحاب المطاعم والمتاجر الصينية، وأخيرا من السياح الصينيين الذين تزايد عددهم في السنوات الأخيرة حتى إن الكونغرس البيروي أعلن يوم الأول من فبراير/شباط الماضي من كل عام يوم صداقة لبلاده مع الصين، وكان الرئيس الصيني شي جين بينغ قد ألقى كلمة في الكونغرس البيروي خلال زيارة سابقة له عام 2016.
موجة الهجرة الأولى قبل 175 عاماويتحدث الإعلام الصيني عن أن جذور العلاقات بين بيرو والصين تمتد لـ175 عاما، إذ يوجد في العاصمة ليما الحي الصيني الذي يشبه أحياءً صينية أخرى في دول كثيرة حول العالم، والذي يقف شاهدا على حضور صيني قديم يتجدد.
فهناك من هم من الجيل الرابع أو الخامس، وهناك القادمون الجدد وكلهم أصحاب متاجر، يستوردون بضائع صينية لتسويقها في بيرو، ومنهم أصحاب تلك العقارات وليسوا مجرد مستأجرين.
وتقول مصادر صينية إن الحضور الصيني في عموم أميركا اللاتينية يمتد لنحو أربعة قرون، واليوم الجالية الصينية في بيرو هي الأكثر عددا من بين مثيلاتها في دول أميركا اللاتينية، لكن عددهم هو مجال اختلاف بين الإحصائيات، وتتفاوت التقديرات كثيرا بشأن نسبتهم من مجموع السكان ما بين أقل من 1% و10% من سكان بيرو، إذا ما أدرج من اختلطوا عبر الزواج مع قوميات أخرى.
ويحتفل ذوو الأصول الصينية والصينيون القادمون حديثا بمرور 175 عاما على أبرز موجات الهجرات الصينية القديمة إلى بيرو، في تلك الأيام كانت الرحلة تستغرق ما بين 3 و4 أشهر ما بين سواحل الصين وسواحل بيرو.
كان ذلك في عام 1849 عندما وصل 75 عاملا صينيا إلى ميناء كالاو، وكان أولئك الأوائل في الغالب "كانتونيي" القومية من إقليم غواندونغ الصيني، يأتون ليعملوا في أعمال بناء المدن وسكك القطار وقطاعي التعدين والزراعة، وهي أمور مهدت لنجاح أحفادهم اليوم، فعشرات من الشخصيات السياسية والثقافية والاقتصادية البيروية المعروفة خلال العقود الماضية هي من أصول صينية.
صادرات بيرو نحو الصين تشكل 36% من مجموع صادراتها (مواقع التواصل) موجات هجرة أخرىوهناك موجة ثانية من المهاجرين شهدتها بيرو بعد عام 1949، كانوا أعلى تعليما وأكثر ثراءً، وهذه الفئة اتجهت نحو الأعمال التجارية، وبعضهم جاء من تايوان، ونسبة من المهاجرين الصينيين الأوائل أو المتأخرين كانوا من ذوي الأصول الصينية المنتشرين في دول جنوب شرق آسيا كالفلبين وماليزيا وإندونيسيا ومن سكان هونغ كونغ، وهناك موجات متكررة حدثت في ستينيات وسبعينيات وحتى تسعينيات القرن الماضي، وبعض أولئك أو من أبنائهم وأحفادهم من هاجر بعد ذلك إلى الولايات المتحدة.
وإذا كانت بعض المصادر التاريخية تقدر عدد من وصل من الصينيين أواخر القرن الـ19 وبداية القرن الـ20 إلى بيرو بما يتراوح ما بين 100 و120 ألفا، فإن هناك تجارا من ذوي الأصول الصينية يقدرون عددهم اليوم في بيرو بنحو مليون شخص، لكن إثبات ذلك الرقم ليس سهلا، فكثير من جيل الأجداد وعبر الأجيال صاهروا قوميات أخرى من سكان بيرو.
فقبل أكثر من قرن ونصف القرن، كان الرجال الصينيون يهاجرون بمفردهم ليتزوجوا بفتيات من السكان الأصليين وحتى من غيرهم من ذوي الأصول اليابانية والهندية والكورية والأفريقية والأوروبية، ولذلك يتفاوت مستوى قدرات الأجيال الجديدة على فهم اللغة الصينية.
صعود الصين يعني الكثير لصينيي بيرورغم أن كثيرا من ذوي الأصول الصينية في بيرو قد فقدوا أسماء عائلاتهم الأصلية، وصاروا يحمل أسماء بيروية، فإن مظاهر الثقافة الصينية في أعيادهم ويومياتهم حاضرة، فهناك آلاف المطاعم الصينية في بيرو، وبعض أصحابها يقدرونها بنحو 50 ألفا، وتسمى محليا مطاعم الـ"شيفا"، بل إن اللغة والثقافة الصينية صارتا تدرّسان اليوم للشباب البيروي لما يرى لذلك من أهمية في العمل التجاري، ومن ذلك مدرستان تدرسان اللغة الصينية في ليما، لكن اللافت أن كثيرا من طلبة اللغة الصينية ليسوا من أصول صينية، فقد باتت مطلوبة وظيفيا وتجاريا للجميع.
وهناك أيضا أربعة مما تعرف بالمعاهد الكونفوشوسية التي باتت مراكز معروفة للثقافة واللغة الصينية حول العالم، وهي من بين مئات المعاهد المثيلة التي تشرف عليها وتمولها وزارة التعليم الصينية في عشرات الدول، وقد بدأ هذا البرنامج عالميا منذ عام 2004.
لذلك يمثل الصعود الاقتصادي للصين في العقود الثلاثة الأخيرة لذوي الأصول الصينية في بيرو وأميركا اللاتينية عموما روحا جديدة يكتشف بها الأبناء والأحفاد جذورهم من جديد، ويفتح لهم فرص تكوين علاقات اقتصادية وثقافية وتعليمية واجتماعية لم تكن ميسرة قبل ثلاثة أو أربعة عقود.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الرئیس الصینی شی جین بینغ عبر المحیط الهادی أمیرکا اللاتینیة اللغة الصینیة شرق آسیا مع الصین من سکان ما بین
إقرأ أيضاً:
أميركا لا تستطيع مواجهة الصين وحدها فماذا يمكنها أن تفعل لتجنب الهزيمة؟
في أغسطس/آب الماضي، أصدرت لجنة إستراتيجية الدفاع الوطني الأميركية تقريرها السنوي، الذي تمحورت نقاشاته حول التهديدات والتحديات التي تواجهها الولايات المتحدة وسُبل التعامل معها، حيث أشار التقرير إلى أن المخاطر المحيطة بأمن واشنطن في الوقت الحالي تُعد الأكبر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
طرح التقرير إمكانية تورط الولايات المتحدة قريبا في حرب متعددة الجبهات مع خصوم متحالفين. أما نتيجة هذا التورط، فهو هزيمة واشنطن -كما رجّح التقرير- بسبب عوامل عدة، أهمها نقص حجم قوة الدفاع الوطني (الجيش)، التي باتت غير كافية لتلبية الاحتياجات الدفاعية وحماية الأمن القومي، نظرا لتزايد امتناع الأميركيين عن التجنيد، مما أدى إلى تقليص حجم القوات الأميركية على مستوى أفرعها كافة: البرية والبحرية والجوية.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف نفهم عقلية الأمين العام الجديد لحزب الله نعيم قاسم؟list 2 of 2تتصارع عليها الدول بشراسة فما أقوى منظومات الدفاع الصاروخي عالميا؟end of listإضافة إلى ذلك، يُبرز التقرير القصور في الإنتاج الدفاعي الأميركي، ويصفه بـ"غير الكافي على الإطلاق" لتلبية متطلبات الصراع في حالة نشوب حرب مع قوى عظمى، وذلك بسبب انخفاض النسبة المئوية لميزانية وزارة الدفاع من إجمالي الناتج المحلي الأميركي، حيث بلغت نحو 3% فقط خلال هذا العام، فيما يشير التقرير إلى أن تلك النسبة مثَّلت نحو 17% في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
حلفاء من أجل الردعوبحسب لجنة إستراتيجية الدفاع، تستلزم معالجة هذه النقاط وقتا من أجل تنفيذ مخطط طويل المدى، وهو ما لا تمتلكه واشنطن حاليا، نظرا لأن سرعة الاستجابة والتدخل باتت مطلوبة وعاملا حاسما في مستقبل الصراع، خاصة مع تزايد التوترات في منطقة المحيطين الهندي والهادي بسبب التنافس مع الصين، وكذلك تصاعد حِدَّة الحرب الأوكرانية والغموض الذي يكتنف مساراتها مع تصاعد الدعم الغربي لكييف بما يؤدي في المقابل إلى زيادة الضغط على موسكو واستفزازها نحو مزيد من الخيارات التصعيدية، كل ذلك يضاف إليه ما يتطلبه المشهد في الشرق الأوسط من دعم وحماية متواصلين لإسرائيل في ظل عدوانها على غزة.
وفق ذلك، تدعو اللجنة إلى المسارعة في إنشاء قوة مشتركة مع حلفاء الولايات المتحدة في كل مسرح عمليات قد تواجه فيه واشنطن تهديدا، وأن تعمل هذه القوة على محاصرة الخصوم وتحجيم نفوذهم بما يدفعهم إلى إعادة التفكير قبل المبادرة بإضرار مصالح أميركا وأمنها، وهو ما يعني أن تعتمد واشنطن بشكل أكبر على جيوش حلفائها في بناء قوة ردع، وذلك لمعالجة النقص الذي تعاني منه على مستوى حجم القوات، نظرا لأن واشنطن لن تتمكن بمفردها عبر حجم قواتها الحالي من منافسة روسيا والصين وشركائهم، أو التصدي لحروب متزامنة على أكثر من جبهة.
تحركات واشنطن الأخيرة، تحديدا تلك التي جرت خلال العام الماضي، تُثبت وعيها بهذا المأزق وتبنيها مقترح اللجنة بصورة عملية، فطالما سعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى تفعيل تحالفاتها وتعزيز علاقاتها الدولية، خصوصا في منطقة المحيطين الهندي والهادي، حيث تحاول واشنطن استيعاب نفوذ بكين المتزايد، وهو ما اعتبره محللون معالجة ضرورية لما تسببت به إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، في ولايته السابقة، التي قوَّضت قوة واشنطن من خلال تنفير الشركاء القدامى.
وكانت ولاية ترامب السابقة تحفل بأمثلة على ذلك، بخلاف الازدراء العلني الذي أبداه في أكثر من مناسبة تجاه حلف شمال الأطلسي، فقد شكَّك رئيس الولايات المتحدة في جدوى التحالف الدفاعي الأميركي مع اليابان، كما قلَّل من أهمية اتفاقية القوات الزائرة التي تسمح للجيش الأميركي بالتدرب في الفلبين، إضافة إلى مطالبته كوريا الجنوبية بدفع أضعاف ما تدفعه في الوقت الحالي، وذلك لتغطية نفقات القوات الأميركية المتمركزة في شبه الجزيرة الكورية.
في أقصى الشرقوتُشكِّل الصين السؤال الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى واشنطن، فقد ألغت إلى حدٍّ كبير المزايا العسكرية الأميركية في منطقة المحيط الهادي عبر عقدين من الاستثمار العسكري المُركَّز، إضافة إلى سعيها لفرض هيمنتها الإقليمية على آسيا.
ويرى إلبريدج كولبي، النائب السابق لمساعد وزير الدفاع الأميركي، أن أفضل الخيارات أمام بكين لتحقيق هذه الهيمنة سوف يكون من خلال تجنب محاربة كل الخصوم المحتملين دفعة واحدة، والقيام بملاحقة إستراتيجية مُركَّزة ومتسلسلة ضد أعضاء التحالف المناهض لهيمنتها واحدا تلو آخر.
ويؤكد كولبي أن توجيه أية ضربة إلى أحد حلفاء واشنطن من شأنه أن يلغي التصورات المتعلقة باستعداد واشنطن للدفاع عن حلفائها، وهو ما سوف يدفع الدول الآسيوية إلى عدم المجازفة بالوقوف في وجه بكين، بل ومحاولة عقد صفقة معها عوضا عن ذلك. وإذا ما تمكنت بكين من السيطرة على عدد كافٍ من الدول في المنطقة وفق هذه الطريقة، فإنها سوف تحقق الهيمنة الإقليمية دون الحاجة إلى خوض حرب عالمية جديدة.
وفق ذلك، يوجد سبيل واحد أمام واشنطن يتلخص في توفير الدعم الكافي لحلفائها بما يدفعهم للتكاتف معا في وجه الصين، كما يتعين على الولايات المتحدة وشركائها أن يضمنوا دفاعا فعالا على طول سلسلة الجُزر الأولى الواقعة في بحر الصين الشرقي، التي تضم جُزر ريوكيو وكيوشو اليابانية شرقا، إضافة إلى تايوان في الجنوب، حيث تلعب هذه الجُزر دورا مهما في إثبات مصداقية أميركا والتزامها بتوفير الحماية للشركاء.
في المقابل، تمتلك بكين نحو 1500 صاروخ باليستي متوسط المدى وبعيده، يتراوح مداهم بين 1000-5500 كيلومتر، وهي مُصمَّمة لمنع وصول القوات الأميركية إلى القواعد على طول سلسلة هذه الجُزر في حالة نشوب حرب، نظرا لأن جيش التحرير الشعبي سوف يكون بإمكانه استهداف القوات الأميركية في نطاق مئات الأميال من الساحل الصيني، مما يبرز أهمية تعدد الشراكات في المنطقة، بغرض حصار الصين والتقليل من آثار هجومها المحتمل، وذلك من خلال استيعابه من خلال عدد كبير من الحلفاء.
وتُشكِّل تدريبات حرية الملاحة التي تُجريها القوات الأميركية مع حلفائها في الممرات المائية المتنازع عليها بالقرب من الصين جزءًا مهما في سياسة التوسع الدبلوماسي والعسكري الأميركي، وقد تسارعت وتيرة هذه العمليات خلال العام الماضي بشكل غير مسبوق، وهي تمتد من اليابان إلى الفلبين وأستراليا، ومن الهند إلى بابوا غينيا الجديدة وجُزر سليمان.
ويشير جريجوري بولينج، مدير برنامج جنوب شرق آسيا في مركز الدراسات الإستراتيجية الدولية، إلى أن المجهود الذي قامت به الولايات المتحدة مؤخرا في شرق بحر الصين وجنوبه هو "مجهود يُنفَّذ مرة واحدة في الجيل"، حيث قامت واشنطن بافتتاح سفارات جديدة في المنطقة ونشر قوات وأصول عسكرية أكثر تقدُّما، خصوصا في كلٍّ من اليابان والفلبين وشبه الجزيرة الكورية، فضلا عن الحصول على إمكانية الوصول إلى المواقع في المناطق الرئيسية المواجهة لبحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان.
تدريبات سلاكنيب المشتركة في الفلبين بمشاركة 3000 جندي أميركي وفلبيني. مايو/أيار 2023: الولايات المتحدة تفتتح سفارتها في مملكة تونغا الواقعة جنوب المحيط الهادي. تجديد اتفاقية ميثاق الشراكة الحرة مع جمهورية بالاو وميكرونيسيا المتحدة. واشنطن توقع اتفاقية أمنية مع بابوا غينيا. سبتمبر/أيلول 2023: تعيين أول سفير أميركي مكرس بالكامل في المالديف. فيتنام ترفع مستوى العلاقات مع الولايات المتحدة خلال زيارة الرئيس بايدن إلى هانوي. الولايات المتحدة تقيم علاقات دبلوماسية مع جُزر كوك ونيوي الواقعة في المحيط الهادي. أبريل/نيسان 2024: إقامة مناورات باليكتان بمشاركة 16,000 جندي من 4 دول، هي: أميركا، والفلبين، وأستراليا، وفرنسا، مع وجود 14 دولة أخرى بصفة مراقب.
هذا وقد أعلن الكونغرس الأميركي في يوليو/تموز الماضي عن تقديمه ما يقرب من مليارَيْ دولار من المساعدات الأمنية لدول المنطقة، بوصفها "جزءا من جهد أوسع لمساعدة البلدان على الدفاع ضد عدوانية الصين". وتشمل الحزمة 1.2 مليار دولار لتايوان، ونحو 500 مليون دولار للفلبين، كذلك 300 مليون دولار تُوزَّع على فيتنام والدول الجزرية في المحيط الهادي.
إضافة إلى ذلك، تُعوِّل واشنطن على صادراتها الدفاعية وبرامج التصنيع العسكري المشترك في تعزيز تحالفاتها بين دول منطقة المحيطين الهندي والهادي. ورغم أن عمليات نقل الأسلحة التي تقوم بها واشنطن تشمل غالبية هذه الدول، بل وتُعدّ الولايات المتحدة المورد الدفاعي الأساسي لأكثر من دولة هناك، كما في حالتَيْ تايلاند وكوريا الجنوبية، فإن واشنطن تهتم بصورة خاصة بالصادرات الموجهة إلى الهند، وكذلك تلك الموجهة إلى حليفتَيْها المقربتين: أستراليا واليابان.
بين مداعبة الأحلام وممارسة الضغطتأتي أهمية الهند من امتلاكها قوة بشرية مماثلة للصين، كما أنها -وبدرجة أقل- تمتلك مقومات التصنيع وطموحاته، إضافة إلى عدائها التاريخي مع بكين بسبب النزاعات الحدودية. ورغم أن دلهي ظلَّت لحقبة طويلة معتمدة على الصادرات الدفاعية والعسكرية الروسية، فإن تزايد اعتماد موسكو مؤخرا على بكين فيما يخص أمنها الاقتصادي وحضور مساحات تقارب أكبر بين الدولتين في ظل مواجهتهما واشنطن، يدفع دلهي إلى البحث عن مصدر تسليح آخر قادر على تلبية متطلباتها في حالة نشوب حرب.
إضافة إلى ذلك، تحاول دلهي بناء قاعدة صناعية دفاعية بما يؤهلها لأن تكون إحدى القوى العظمى في العالم، كما ترغب في أن تصبح لاعبا مؤثرا في أسواق صادرات الأسلحة من خلال مبادرات توطين الصناعة العسكرية. وتُدرك واشنطن ذلك، كما تدرك أن اعتماد دلهي التاريخي على المعدات الروسية كان مرتبطا بالحوافز الكامنة في الصفقات، بمعنى أن أحد العوامل التي دفعت الهند إلى التعاون مع موسكو هو رغبتها في نقل التكنولوجيا الروسية إلى أراضيها والسماح لها بالإنتاج المرخص.
وفق ذلك، تقوم واشنطن بمغازلة هذا الطموح، من خلال إطلاقها منظومة "إندوس" الثنائية لتسريع الدفاع مع الهند في يونيو/حزيران 2023، بغرض توسيع نطاق التعاون التقني والصناعي الدفاعي، كما قدمت شركة "جنرال إلكتريك" الأميركية عرضا غير مسبوق، يتضمن إنتاج محركها النفاث المتطور "إف 414" بشكل مشترك مع شركة "هندوستان للملاحة الجوية" المملوكة للدولة الهندية، وذلك بغرض استخدامه في النسخة المحدثة من مقاتلات "تيجاس" التي تصنعها الهند، مما يجعل الهند الدولة الوحيدة التي تحظى بتوطين صناعة هذا المحرك مع الولايات المتحدة.
جدير بالذكر أن الهند تحتل في الوقت الحالي المرتبة الأولى بين الدول من حيث عدد التدريبات العسكرية المشتركة وتبادل الأفراد مع القوات الأميركية.
في المقابل، تمارس واشنطن ضغوطا على اليابان باستمرار منذ عام 2022، وذلك لدفع الأخيرة إلى زيادة إنفاقها العسكري، حيث أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن في أثناء حدث انتخابي جرى في يونيو/حزيران 2023 أنه قام بإقناع رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا بالمضي قدما في خطة مدتها 5 سنوات، وذلك لتعزيز الإنفاق الدفاعي بنسبة 2% من الناتج المحلي بحلول عام 2027، بما يمنح اليابان ثالث أكبر ميزانية دفاع في العالم، بعد الولايات المتحدة والصين.
يُذكر أن طوكيو أعلنت منذ أيام قليلة عن ميزانيتها الدفاعية في عام 2025 التي بلغت 59 مليار دولار أميركي، مما يجعلها أكبر ميزانية دفاعية في تاريخ اليابان على الإطلاق. ويرى المحللون أن السبب في تحوُّل السياسة الدفاعية اليابانية وتحركاتها العسكرية المعززة يأتي على خلفية حملة الترويج الأميركية لإستراتيجية المحيطين الهندي والهادي، التي تحتاج الولايات المتحدة بموجبها إلى اليابان للعب دور أكبر في احتواء الصين.
وتشير التقارير إلى أن 10% من الميزانية المعلنة (نحو 5.1 مليارات دولار) سوف تخصصها طوكيو لتعزيز القدرات الدفاعية بعيدة المدى، فيما سوف تخصص 1.7 مليار دولار لتحسين القدرات الدفاعية الجوية والصاروخية الشاملة، بغرض مواجهة التهديدات القادمة من كوريا الشمالية والصين.
ومع ذلك، يرى محللون أن الزيادة في الإنفاق الدفاعي الياباني قد تكون بطيئة للغاية بما لا يخدم مصلحة واشنطن، التي تتوقع أن تبادر الصين إلى أعمال عدائية في مسرح المحيط الهادي وفقا لجدول زمني متسارع، ولذلك فإن أحد الخيارات المطروحة أمام الولايات المتحدة هو مواصلة الضغط على طوكيو لدفعها إلى توسيع استثماراتها الدفاعية من خلال ربط المساعدات العسكرية الأميركية بشروط زيادة الإنفاق الدفاعي.
وفي السياق ذاته، تمارس واشنطن ضغوطا أكثر حِدَّة على كندا، بغرض دفعها إلى نسبة إنفاق دفاعي تبلغ 2% من إجمالي الناتج المحلي. وتُبرز التقارير تعرُّض كندا لسيل من الانتقادات من جانب الولايات المتحدة وشركاء الناتو فيما يخص جاهزية قواتها المسلحة، التي تعاني من عجز في القوة البشرية يصل إلى نحو 16,000 فرد من إجمالي القوة المصرح بها التي تتألف من 71500 جندي.
التعاون في الصناعات العسكريةعلاوة على ذلك، تنظر واشنطن بقلق إلى المرونة الصناعية التي تتميز بها بكين، نظرا لقدرة الأخيرة على دمج العناصر المدنية والصناعة التجارية بشكل متناسق واستخدامها في بنية التصنيع العسكري. وبمعنى آخر، فإن واشنطن باتت لا تستطيع مجاراة الصين على مستوى الإنجاز في التصنيع العسكري، نظرا لإشراف الحكومة الصينية على جميع المؤسسات في الدولة بما يؤهلها إلى استغلال عناصر الإنتاج المدني في تعزيز مؤسساتها الدفاعية، وهو ما يتمثل حاليا في امتلاك بكين أكبر أسطول بحري في العالم، الذي يضم أكثر من 370 سفينة وغواصة، إضافة إلى أكبر قوة جوية في منطقتها، وهي قوة تقترب يوما عن يوم من مضاهاة القوة الجوية الغربية.
تفتقد واشنطن هذه القدرة التي تميز النموذج الصيني في الوقت الحالي، رغم أن عمليات التعبئة الصناعية وتسخير الصناعات المدنية في أغراض الإنتاج العسكري كانت من أهم المزايا التي تمتعت بها واشنطن إبان الحرب العالمية الثانية، كما أنها من العوامل التي أسهمت آنذاك في تحقيقها النصر.
وفق ذلك، ترى لجنة إستراتيجية الدفاع الأميركية أن تعزيز حجم القوات الأميركية من خلال بناء تحالفات لا يُعد أمرا كافيا، ولن يضمن النصر لواشنطن، نظرا لأن الإنتاج العسكري الأميركي، الذي يعاني أصلا من قصور، سوف يظل مطلوبا في حالة نشوب حرب عظمى، بصرف النظر عمن يقاتل.
وإثباتا لذلك، تورد اللجنة تحليلا يخلص إلى أنه لا يوجد بلد في حلف شمال الأطلسي، باستثناء الولايات المتحدة، يمتلك ما يكفي من مخزونات الأسلحة الأولية للقتال الحربي المستمر واسع النطاق، ومثالا على ذلك ما حدث في ذروة القتال في مقاطعة دونباس، حيث استخدم الجيش الروسي خلال يومين ذخيرة تفوق ما لدى الجيش البريطاني بأكمله!
وتطرح اللجنة حلًّا يتمثل في توسيع فرص التطوير والإنتاج المشتركين مع الحلفاء ذوي القدرات التصنيعية المتقدمة، وهو ما تقوم به واشنطن في الوقت الحالي، حيث بدأت في استغلال البنى الصناعية لدولٍ عدة في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وتأتي في مقدمة هذه الدول: اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا، إضافة إلى تعزيز التعاون مع سنغافورة في مجالات الذكاء الاصطناعي، رغم وجود تعاون مسبق بين سنغافورة والصين في المجال الرقمي والسيبراني.