«أنا قابلة وأعرف أنّ الكائن البشري ينمو كالبطاطا فـي الظلمات»، يأتي إلى العالم منذورًا لمصير ما؛ ليعيش، ليحب، ليتعارك ومن ثمّ ليموت. يأتي عاريًا كدودة، ليبحث عن معنى لوجوده.
فـي الحقيقة لم أقرأ من قبل عن حياة «القابلات»، تلك القصص التي تعجُ بذكر الملاقط، حمى النفاس المُهلكة ومواجهة تشوهات الطبيعة، إلا أنّ هنالك من كانت تُفتش عن مشيمات النعاج المقتولة، لتأمل السائل الذي يسبحُ فـيه نسلها، أو تراقب خروج الرؤوس ثم الأذرع اللصيقة بالأكتاف.
إنّها قصّة «القابلة» التي تجد مخطوطات خالة أمّها «فـيفا» القابلة أيضًا، فـي الشقة التي ورثتها عنها كما ورثت المهنة، حيث أجرت حوارات مع قابلات ولدن فـي القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين. تصف تلك النصوص الصعوبات التي تواجهها القابلة لمجرد أن امرأة ماخض فاجأها الطلق.
المخطوطات أشبه بدفتر تمارين أسلوبية مليئة بالتناقضات، وربما لهذا السبب لم تنشر، بحسب الرد الذي وصل من دار النشر عام ١٩٨٨.
لقد نُبهت الخالة إلى أنّها مخطوطات مُتنافرة، لكنها أجابت بأنّ العالم بات أكثر انفتاحًا على السرود الفوضوية غير الهيكلية.
عندما دُعي الآيسلنديون لانتخاب أجمل كلمة فـي لغتهم، اختاروا كلمة «قابلة»، الكلمة التي تجمع بين مفردتين أمّ ونور، «أم النور»، هكذا يقتربُ كتاب «الكلمة الأجمل» للآيسلندية أودُرافا آولافسدوتير، ترجمة محمد آيت حنّا، دار الآداب، لواحدة من أخطر التجارب فـي حياة الإنسان: «تجربة أن يُولد، ثمّ أن يعتاد الضوء».
والغريب حقًا أنّ والديّ «القابلة» يعملان فـي دفن الموتى، إذ تزدهر أعمالهما ما دام لا بد للجميع من الموت، فالحياة ليست أكثر من عود ثقاب يتوهج برهة من الزمن وحسب، ولذا فالمهنتان المتضادتان ظاهريًا تختزلان قصّة هذا الكائن الغائص فـي بِرك البدء، والذي ينسى أنّ حياته تقع بين ظلمتين.. النور بينهما قليل.
تقضي القابلات ساعات طوال بالقرب من المواخض، فإن تأخرن تغوص إحداهن فـي قراءة كتاب، فـي الغالب سيكون شعرًا، تقرأ بصوت مرتفع. ذات مرة اشتكى زوج إحداهن لأنّ القابلة قرأت عن ألم الفقد، بينما الكثير من النساء يُواسيهن الشعر، يُذكرهن أنّهن لسن الوحيدات اللاتي يألمن.
يتأخر حضور بعض المواليد لأسابيع، بينما بعضهم يأتي قبل الموعد. آذانهم كحبة البازلاء وشبكة العروق تُغطي جلدهم الرقيق. ترى القابلات أنّهن يلدن فـي أحلامهن وإن لم يكن متزوجات. يقلقن من موت الأمهات فـي رحلة الولادة، فهنالك إحصائية تقول إنّ ٨٣٠ امرأة تموت كل يوم.. يبدو الأمر وكأنّ أربع طائرات تسقط بركّابها كل يوم!
تُعرج فوضى المخطوطات على ذكر الإنسان الذي يضطهد الذين يُخالفونه الرأي مُتناسيًا أنّه جاء إلى العالم بطول ٥٠ سنتيمترًا تقريبًا، فـيغدو قابلًا لأن يرتكب أشر الشرور فـي حق بني جلدته وفـي حق الطبيعة. يقلقُ من الغد، ومن ألا يُحبّ، ومن أن يكون وحيدًا أو غير مفهوم. يتوهم غروره أنّ العصافـير تغني له، لكن الغابات فـي حقيقتها تُواصل نموها وتزدهر مملكة الحيوانات حتى بعد فنائه.
لكي نفهم ضآلة الإنسان، علينا أن نقيس عجزه فهو بحسب الخالة «فـيفا»، يستغرقُ وقتًا أطول من باقي الكائنات لينضج. فبينما تقفُ الحملان فور ولادتها يحتاجُ البشري إلى اثني عشر شهرًا للقيام بخطوات مترنحة، وعامين ليكتسب ١٥ كلمة، وبينما يتمكن من القفز على قدم واحدة تكون النحل والعناكب قد تعلمت رقصاتها الأشد تعقيدًا.
وعندما تطرد الفقمة صغيرها وتنهره بأنيابها، يكتفـي صغير الإنسان بالنوم والرضاعة والإخراج. يتعلم البشري الذهاب إلى البقالة، بينما تُهاجر الطيور من قطب لآخر. «فالإنسان أهشّ من آنية خزف أو من قشرة بيض، فهو لا يُشفى أبدًا من كونه وُلد». نقاط ضعف الإنسان هي عينها نقاط قوته، فهشاشته عن باقي المخلوقات ومزاجه غير القابل للتوقع أبدًا، هو ما دفعه للتطور. وتؤكد الخالة «فـيفا» التي تبتهج بكل ما ضؤل وصغر.. أنّ من سيحظى بالنجاة منّا هم: الذين يحتفظون بروح الطفل، ويستمتعون بالنفخ على بذور الهندباء ويقدرون على الاندهاش.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التی ت
إقرأ أيضاً:
المدينة التي تبكي بأكملها.! (1)
صادق سريع
“من يُقنع الريح أنَّ بيوتنا تدُمرت لا تستطيع صد هديرها !؟ من يقنع المطر أن خيامنا تبللت وذابت بقطراته كما ذابت أحلامنا !؟ فلا دفئ يرجئ ولا أمان يوجد ، ولا بطون تشبع”.. هكذا يردد أهل غزة.
سُئل نازح في مخيمات النزوح بغزة: “ما شعورك تجاه من يعدْبوك، ويشردوك ويجوعوك!؟”.. أجاب بصوت جَهيرُ مُزج بجهشة البكاء، بعدما اتسعت حدقات عينيه وانهارت بالدموع: “حسابهم على الله”.
وبينما يحتمي العالم بدفء البيوت، يعيش مئات الآلاف في غزة برحمة برد الخيام المهترئة، ووحشة الدمار، وانعدام الطعام والماء والدواء، وتحت أزيز الطائرات، وأصوات الانفجارات، ونيران حمم الصواريخ، وشظايا القذائف، وصرخات الجرحى، ونُواح العزاء.
وتحت رحى طاحونة حرب الإبادة، وقانون فرض الحصار، وسياسة التجويع والتشريد والتهجير، وقهر الاغتصاب، وسجون الاعتقال وبلا حساب، والسحل والتعذيب والقتل، وسفك الدماء وحملات التطهير العِرقي على الطريقة الفاشية والخبرة النازية والنكهة الهولوكوستية.
وبعد اليوم الـ435، يحل ضيف برد الشتاء الثقيل في عامه الثاني، بينما حال أجساد أهل القطاع باردة ,قلوبهم خائفة وعيونهم باكية، وأمعائهم خاوية، ولا يزال مليارا مسلم لم يشعروا ببرد الشتاء وشدته، وألم جوع البطون في مخيمات النزوح؛ وهكذا الحال يستمر طوال العام بين برد الشتاء ولهيب الحرب.
في ليلة باردة، أرسلت من مخيمات النزوح بغزة رسائل للعرب؛ هذه واحدة منها، عنونت بـ “إلى لمن يهمه الأمر”: ” يعيش أطفالنا تحت أعمدة الخيام المهترئة، وألم الجوع وشدة البرد، وينامون جوعى في انتظار رغيف الخبز مرهقون من التعب وقهر العرب”.
في تلك الليلة الباردة، وصلت رسالة أخرى من سكان الخيمة المجاورة، مفادها: “كانت ليلة البارحة أبرد ليلة مرت علينا، تجمَّد أطفالنا من شدة البرد تحت لحاف الخيام المبللة، وبلا جدران تحميها من عواصف الريح، ولا ملابس تدفِئ أجساد الأطفال العارية، ولا طعام يشبع بطونهم الخاوية؛ ولا، ولا، ولا..!”، انتهت الرسالة بتنهيدة..
الخبر السار، الذي ينتظر النازحين وكل أهل غزة، هو إعلان وقف إطلاق النار، لكن متى يُعلن!؟ ومتى يدخل حيز التنفيذ!؟ اللهم أجعله بُشرى عاجلة.. اللهم آمين يا رب العالمين.
للتذكير، بلغت فاتورة الموت في غزة، اليوم الأحد 15 ديسمبر 2024، 45 ألف شهيد و106 ألف و625 جريح وأكثر من 15 ألف مفقود، منذ بدء العدوان الصهيو – أمريكي على غزة في أكتوبر 2023، لليوم الـ435.
اللهم هوِّن برد الخيام على المستضعفين في غزة وأبسط دفء رحمتك عليهم يا رحمن يا رحيم..