هناك مقولة قديمة تقول ” كل ما تقادم الزمن زادت الحياة تعقيداً” وهذه المقولة تقصد في معناها أن التعقيد هو المقصود بها كل ما يطرأ من جديد في حياة الإنسان وكذلك الضغوطات بكل أنواعها التي تتراكم على الإنسان مع تقادم الزمن بحيث لا يكون لديه الوقت الكافي لأمور الحياة ولذلك يدخل في هذه المرحلة ما يسمى التلوث الاجتماعي.
لقد عرفت سابقاً (التلوث الاجتماعي بأنه : التدخل البشري الذي يحمل ملوثات اجتماعية لخلق تغييرات ليست محمودة في النظام الاجتماعي مما يسبب اختلالات وأثر يربك ويخل بالتوازن الاجتماعي في نسيج المجتمع).
ولذلك فأن تقادم الزمن على النسق الاجتماعي أصبح أثره واضح للعيان من خلال الاختلالات التي صنعها التلوث الاجتماعي في النسق الاجتماعي وجعل هناك ظواهر ومشكلات ومعوقات اجتماعية تعيق النسق الاجتماعي من القيام بمهامه المنوطه به وهذا بسبب التلوث الاجتماعي الذي يتكلس عليه من خلال ضرب الوحدات الاجتماعية في ملوثات دخيلة عليه وبشكل مبسط لو سألنا سؤال اليوم عن التالي : هل أطفال هذا الزمن هم مثل أطفال الزمن الماضي في التكفير والتركيبة العقلية؟
الإجابة بالتأكيد تكون بالنفي فقد أصبح الطفل في هذا الزمن أكثر معرفة في الأمور المحيطة به بسبب وسائل التقارب والاتصال والتغير في نمط الحياة وأصبح سقف طلبات الطفل أكثر بكثير من الماضي وهذا يسبب الضغط على النسق الأسري الذي هو جزء لا يتجزأ من النسق الاجتماعي العام .
لذلك تطرقت سابقاً إلى أن التلوث الاجتماعي هو شقيق ملازم للتغير الاجتماعي وهما حتمايان المصير وعاصفة قدومهما على أي مجتمع قادمة لا محالة فلا يمكن الوقوف بوجه نهر التلوث الاجتماعي، ولكن يمكن أن يتم تصفية هذا النهر وجلب ما صفاء منه وترك ما تعكر .
لقد قمت سابقاً بالتقصي والبحث عن التلوث الاجتماعي واشتمل هذا البحث على أربع مفصلات يرتبط بعضها ببعض وهي :
– الظاهرة الاجتماعية:
وهي أي سلوك بشري يبدأ صغيراً في وحداته ويسمى (الجزئية الكاملة للوحدات) ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يشكل ظهور واضح في النسق الاجتماعي ويسبب خلل ظاهر في المجتمع.
– المشكلة الاجتماعية: وهي كل ما يطرأ على المجتمع من صعوبات وانحراف يشكل تهديداً للبناء الاجتماعي وقد تُعيق المشكلة في تقدم المجتمع في بعض الحالات.
– التغيرات الاجتماعية:
وهي تأتي من شقين، تغيرات اجتماعية قصيرة المدى، وهي تشمل تغير نمط الحياة على المستوى البسيط وهو في الغالب يكون تغير واضح لأنه يحدث بشكل سريع نوعاً ما.
والشق الثاني هو تغيرات اجتماعية بعيدة المدى وهي انتقال المجتمع من النمط القديم إلى النمط الحديث وهي تحدث خلال سنوات لأن تأثيرها على الوحدات الاجتماعية يحدث بشكل بطئ.
لذلك يرى علماء الاجتماع أن التغير الاجتماعي هو مفهوم مستقل وحتمي وهذه النظرة صحيحة، لكن بالمقابل إذا كان علماء الاجتماع يرون ذلك فمن باب أولى أن يكون التلوث الاجتماعي أجدر بالدراسة والبحث والتقصي لأن آثاره على المجتمع توازي أثار التغير الاجتماعي ولربما تتجاوز ذلك في بعض الأحيان.
– السلوكيات البسيطة:
وقد عرفتها سابقاً بأنه تلك الأحداث المرتبطة بسلوك معين والتي تحدث بشكل يومي وتسبب تلوث اجتماعي غير ملاحظ بشكل فوري بل أنها تخلق بيئة خصبة لتراكم هذا التلوث بمرور الزمن.
لذلك يتجلى لنا أن التلوث الاجتماعي مازال يفتقر للدراسات والأبحاث وهو موضوع مهم جداً لأنه يتناول أهم جزء في النسق الاجتماعي وهي (الوحدة الاجتماعية) فإذا كان بناء جسم الإنسان يقوم على الخلايا فأن البناء الاجتماعي يقوم على أصغر مفردة (الوحدات الاجتماعية) والتي يطلق عليها مسمى (الخلايا الاجتماعية) وهي هدف يصبو له التلوث الاجتماعي، بل هي أهم هدف يقوم التلوث الاجتماعي باستهدافه ثم ينمو في نشر براثنه حتى يُلحق ضرر كبير في البناء الاجتماعي، ولربما يقوم بهدم هذا البناء في أسواء الحالات ، ولذلك يلعب التلوث الاجتماعي دوراً كبيراً في أعاقة البناء الاجتماعي عن القيام بوظيفته المهمة في المجتمع.
المصدر: صحيفة صدى
إقرأ أيضاً:
فيلم التسامح.. سباق مع الزمن من أجل إصلاح أخطاء الماضي
لا شك أن تعوّد الجمهور على نوع من أفلام الحركة التي تتميز بالحبكات المبتكرة والقائمة على صراعات محتدمة، يدفع في المقابل المنتجين إلى دعم هذا النوع والإكثار منه حتى يمكن أن نصل في بعض الأحيان إلى نوع من التكرار، ومع ذلك فعجلة الإنتاج تستمر.
لهذا لا بد أن نتساءل عن ذلك المستوى من الجودة التي يراد لها أن تتوفر في الفيلم الناجح من أفلام الحركة التي تجعله جديرا بالمشاهدة ومن ثم تحقيق عنصر النجاح ومن دون توفر ذلك العنصر فما هي الجدوى من المضي قدما في نوع فيلمي لا يأتي بجديد؟
هذه المقدمة تنطبق على هذا الفيلم للمخرج النرويجي هانس بيتر مولاند ومعه كاتب السيناريو توني غايتون وهي التجربة الثانية للمخرج مع الممثل ذائع الصيت ليام نيسون بعد فيلم مطاردة باردة في عام 2019 والذي حقق نجاحا متميزا وربما كان ذلك سببا في العودة للعمل مع نيسون ولكن من خلال فيلم يفترض انه ينتمي إلى نوع أفلام الحركة لكنه في الواقع فيلم درامي ليس فيه من مشاهد الحركة إلا القليل.
بالطبع سوف تواجهنا منذ البداية ظاهرة الممثل -الناجح ذي الشعبية الواسعة والمقصود بالطبع الممثل البريطاني ذائع الصيت ليام نيسون الذي يتميز بالغزارة في الأفلام التي كان يحتل موقع البطل فيها وفعليا هو بطل مغامر وذراع ضاربة وذلك ابتداء من فيلمه "مأخوذ" الذي يعود إلى عام 2008 ومنذ ذلك الفيلم وأفلام نيسون تتلاحق سنويا وأحيانا فيلمين في العام وتجد لها قبولا واهتماما ونجاحا.
لكن السؤال الذي يبرز هنا، ماذا لو بلغ نجم أفلام الحركة مرحلة من العمر من الصعب أن يؤدي ذلك النوع من الأفلام؟
واقعيا، إن ذلك ما يحصل حاليا مع نيسون فهو في هذا الفيلم يسابق الزمن قبل الخرف وأمراض الكهولة وهو التحدي الرئيس الذي يواجهه ويدفعه لتصحيح أخطائه.
على أننا لسنا بعيدين كثيرا عن فيلمه السابق الذاكرة -2022 والذي يعالج الفكرة نفسها المرتبطة بفقدان الذاكرة والخرف والسباق مع الزمن من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه وهو ما يذكرنا أيضا بفيلم آخر عن شخصية ملاكم يتحول إلى متشرد، وهو تيري مالوي الذي جسده الممثل ذائع الصيت مارلون براندو، حيث يعاني مالوي من فقدان الذاكرة نتيجة لاعتلال الدماغ المزمن، أما نيسون، الذي غمره اليأس، فتشعر معه بذلك النوع من القلق المكبوت الذي يدفعه إلى كتابة الأسماء في دفاتر الملاحظات لتذكرها وهو يذكرنا أيضا في كثير من المشاهد بفيلم "نوكس يذهب بعيدا"، الذي لعب فيه مايكل كيتون دور قاتل مأجور مصاب بالخرف، لكن هذا الفيلم (الذي أخرجه كيتون، وبطريقة متميزة) كان أكثر براعة من هذا الفيلم.
ها نحن مع ثاغ، الممثل ليام نيسون وهو في خريف العمر وهو يسابق الزمن بسبب إصابته بمرض عصبي ربما بسبب ممارسته رياضة الملاكمة، مما تسبب له بارتجاج في الدماغ لكنه وخلال عقود عدة كان مجرد أداة لتنفيذ مآرب كونر -الممثل رون بيرلمان، ومنها مثلا قيادة شاحنة لا يعلم ماذا يوجد في داخلها لكنه يجد انه مؤامرة كبيرة للاتجار بالبشر وخلال ذلك يكتشف حاجة فتاة شابة إلى آلاف الدولارات تدفعها لعصابات الاتجار بالبشر في مقابل عتقها ونيل حريتها.
في المقابل وبسبب تلك الحياة المضطربة فإن ما يميز شخصية ثاغ انه مبعثر وحياته متشظية وبذلك تتبعثر عائلته فيكتشف بعد سنوات أن ابنه البكر قد توفي ويبقى يلاحقه في الأحلام ولم تبق سوى ابنته ديزي -الممثلة فرانكي شون، التي سوف تؤنبه بشدة بسبب إهماله لهم واضطرارها إلى بيع مسكنها بسبب الضائقة المادية التي تمر بها، وهنا تبدأ رحلة ثاغ لتصحيح إخطائه وصولا إلى إصلاح انحرافات اجتماعية بما فيها الاتجار بالشر وهو ما يعرض حياته إلى خطر مميت.
هذه الخطوط الدرامية المتشابكة يشير إليها موقع أكشن ايليت بالقول"بداء من تسويق الفيلم على أنه فيلم أكشن آخر لليام نيسون؛ بينما هو في الحقيقة فيلم درامي حيث إن مشاهد الحركة لا تتعدى مدتها -10 دقائق من مدة العرض.
واقعيا، لا يوجد شيء في هذا الفيلم لم نشاهده من قبل؛ الأداء المعتاد لنيسون، الذي يظهر بصفة رجل عجوز يحاول إعادة وصل ما انقطع مع عائلته، وهو خلال ذلك يغالب تقدمه في السن كممثل تجاوز السبعين من العمر".
وفي واقع الأمر ثمة تشظيات كثيرة متشعبة، هي التي يتشكل منها السرد الفيلمي بخطوطه المتعددة ومن ذلك علاقات متوالية ابتداء بعلاقته برئيسه الذي يكلفه بتدريب ابنه وهي علاقة ملتبسة بسبب شخصية ثاغ المتزمتة ثم علاقته بحفيده الذي يريد له أن يتحول إلى ملاكم صغير في وسط جفاء ابنته وعدم رغبتها في التدخل بشؤون حياتها.
أما إذا ذهبنا بعيدا في تلك التشظيات فهنالك العلاقة الناشئة مع امرأة مجهولة شديدة التعاطف معه -تؤدي الدور الممثلة يوليوندا روس التي تصطف إلى جانب ثاغ لمواجهة الظرف العصيب الذي يخلصه من أزماته المتلاحقة وخاصة بعد شعوره بالذنب لسماعه خبر وفاة ابنه ثم توالي الأحلام والكوابيس التي تلاحقه، فيما يبدو انه نوع من الرغبة اللاواعية لطلب الصفح من الابن ومن الابنة وصولا إلى ذلك العمل الخيري بتوزيع ما لديه من مال على مجموعة من ضحايا الجريمة المنظمة والاتجار بالبشر فضلا عن الإفراج عنهم.
يذهب الناقد بيتر سوبنيسكي في موقع روبر ايبرت إلى القول انه "لا شك أن نيسون قد خاض تجربة أفلام الحركة على مدار العقد الماضي وعلى نحو مكثف، لكن هذا الفيلم قد بدا وكأنه محاولة نبيلة ولكن غير متوازنة لدمج إيقاعات أفلام الحركة السابقة التي كان هو بطلها بلا منافس مع قصة إنسانية أكثر واقعية. وبصفتي شخصًا شاهد بالفعل نصيب الأسد من هذه الأفلام، يمكنني أن أقول أن هذا الفيلم ربما يكون أحد أفضل الأمثلة على هذا النوع الفيلمي الأكثر غرابة".
في كل الأحوال ومع تصاعد إيقاع السباق مع الزمن في مقابل ذاكرة متشظية ونسيان زاحف، فإن هنالك بالمقابل ما يمكن أن نسميه ( نوايا حسنة) شكلت تحولا دراميا لافتا وذلك من خلال وفاء ثاغ لابنته وطفلها وسعيه لإنقاذهما بتحويل وفرته المالية لشراء المنزل وكذلك الأموال التي بدأ بتوزيعها على ضحايا الاتجار بالبشر في مشاهد على مقدار طرافتها، إلا أنها كانت امتدادا للمغامرة التي عشنا فصولها في أجواء هذا الفيلم.
إخراج/ هانس بيتر مولاند
سيناريو/ توني غايتون
تمثيل/ ليام نيسون – ثاغ، فرانكي شون – ديزي، رون بيرلمان – كونر، يوليوندا روس – الصديقة
مدير التصوير/ فيليب اوغارد