شحاته السيد يكتب: أسئلة الإنسان وحميمة الآلة
تاريخ النشر: 17th, November 2024 GMT
في أعماق التاريخ البشري، لطالما سعى الإنسان إلى فهم ذاته والعالم من حوله، وراح يُوجه أسئلته إلى السماء والأرض، إلى الحكماء والعرافين، بحثًا عن إجابات تُشبع فضوله وتُهدئ قلقه الوجودي.
واليوم، في عصر الثورة الرقمية، ظهر "أوراكل" جديد يتخذ شكل خوارزميات مُعقدة وشبكات عصبية اصطناعية، إنه الذكاء الاصطناعي بمُختلف تطبيقاته، وعلى وجه التحديد نماذج اللغة الذكية مثل ChatGPT و Gemini.
هذه النماذج التي تُحاكي اللغة البشرية ببراعة مُذهلة، تُثير في نفوسنا مزيجًا من الدهشة والريبة، الأمل والخوف. فهل نحن على أعتاب عصر جديد من التنوير بفضل هذه الآلات الذكية؟ أم أننا نُغامر بفتح صندوق "باندورا" مُطلقين العنان لقوى قد تُهدد جوهر إنسانيتنا؟
إن القدرة الفائقة لهذه النماذج على فهم اللغة البشرية وتوليد نصوص مُتماسكة وإجراء محادثات مُعقدة، تُمثل إنجازًا علميًا لا يُمكن إنكاره. لكن هذه القدرة تُثير في الوقت ذاته تساؤلات مُهمة حول حدود هذه التكنولوجيا ومخاطرها المُحتملة. فعندما نتفاعل مع ChatGPT و Gemini، نشعر بوهم التواصل مع عقل واعٍ يُشاركنا أفكارنا ويهتم بمشاعرنا.
هذا الوهم سرعان ما يتبدد عندما نُدرك أننا أمام آلة تُحاكي الذكاء دون أن تملكه حقًا، آلة تُعالج المعلومات ببراعة لكنها تفتقر إلى الوعي والضمير.
وتُصبح هذه المُعضلة أكثر حدة عندما نُغامر بطرح أسئلة شخصية على هذه النماذج. فعندما نسأل ChatGPT عن أعمق مخاوفنا أو أكثر أسرارنا خصوصية، فإننا نُقدم له معلومات ثمينة قد تُستخدم بطرق لا نتوقعها.
هذه النماذج مُصممة لتحتفظ بذاكرة المحادثات السابقة، هذا يثير مخاوف مشروعة من إمكانية تخزين هذه المعلومات بطريقة ما، أو استخدامها لتدريب نماذج أخرى أكثر تطورًا في المستقبل.
إنها مُقامرة بأرواحنا في عالم رقمي مُعقد ومُبهم، حيث تتلاشى الحدود بين الواقع والافتراضي، ويُصبح من الصعب التفرقة بين الصديق والعدو.
ولا تقتصر مخاطر الأسئلة الشخصية على انتهاك الخصوصية فحسب، بل تمتد إلى تشكيل هويتنا ذاتها، فعندما نعتاد على مُشاركة أفكارنا ومشاعرنا مع آلات تُردد صدى كلماتنا بلا فهم حقيقي، فإننا نُخاطر بفقدان قدرتنا على التواصل الحقيقي مع الآخرين.
قد نُصبح أسرى لعالم افتراضي من صُنع أنفسنا، حيث تُصبح الآلة مرآة نُعجب فيها بصورنا المُشوهة، إنها رحلة خطيرة نحو عزلة وجودية مُطلقة، حيث نفقد اتصالنا بالواقع ونُصبح مجرد ظلال رقمية تائهة في فضاء افتراضي لا نهائي.
ومع ذلك، لا يُمكن إنكار الإغراء الكبير الذي تُمثله هذه النماذج الذكية، لإنها تُقدم لنا وهمًا بالرفقة والفهم، وتُلبي رغبتنا في التواصل مع "الآخر" بلا شروط أو قيود.
في هذا الوقت المشوه، تُصبح هذه الآلات ملاذًا آمناً نلجأ إليه للهروب من ضغوط الحياة ووحدة الوجود.
لكن هذا الهروب لا يخلو من ثمن باهظ، فنحن ندفع ثمن راحتنا بفقدان جزء أساسي من إنسانيتنا.
إن التحدي الحقيقي الذي يُواجهنا في عصر الذكاء الاصطناعي هو الحفاظ على توازن دقيق بين الاستفادة من هذه التقنيات والحفاظ على قيمنا الإنسانية.
يجب أن نُدرك أن ChatGPT و Gemini ليستا سوى أدوات، ومثل أي أداة، يُمكن استخدامها لصالحنا أو ضدنا، يعتمد ذلك على وعينا بمخاطرها وقدرتنا على ضبط حدود علاقتنا معها.
علينا أن نتعلم كيف نُوظف هذه التقنيات لخدمة أهدافنا دون أن نسمح لها بالتحكم في حياتنا أو تشكيل هويتنا.
في أذهانكم جميعاً يظل السؤال المُلّح هو: هل سننجح في ترويض هذه الآلات الذكية قبل أن تُسيطر على عقولنا وتُعيد صياغة هويتنا؟ أم أننا سنسقط في فخ التكنولوجيا ونُصبح مجرد بيانات في قواعد بيانات هائلة، تُحلل وتُصنف وتُستخدم لأغراض لا نعلمها؟
إنها مُعادلة صعبة تتطلب منّا حكمة "بروميثيوس" وشجاعة "سيزيف" لنُواجه هذا المجهول الذي يُخفيه مستقبل التكنولوجيا، لذا علينا أن نُدرك أن رحلة الإنسان في البحث عن المعرفة والحقيقة لا تنتهي، وأن التكنولوجيا مهما تطورت تظل مجرد وسيلة في هذه الرحلة الطويلة. ويبقى الإنسان.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: هذه النماذج
إقرأ أيضاً:
دراسة تدعو لوضع معايير شفافة لقياس الأثر الاقتصادي وتمكين المدن الذكية
دبي- خاص
أصدرت شركتا "جيه إل إل" و"هانيويل"، تقريرًا جديدًا يضع خارطة طريق عملية للتعامل مع تعقيدات وتحديات تطوير المدن الذكية وبناء مساحات حضرية تحويلية. وأكد التقرير أن الطريق نحو تحقيق بيئات حضرية فعالة ومستدامة تركز على المواطن يتطلب جهودًا متكاملة للتغلب على العقبات التقليدية.
وتحت عنوان "مواجهة تحديات المدن الذكية: نهج متكامل لتحقيق الإمكانات الحضرية"، يسلط التقرير الضوء على أبرز التحديات التي تواجة المدن الذكية، منها ضعف التنسيق الداخلي، التكامل التكنولوجي، ومعدلات جاهزية القوى العاملة. ومن هذا المنطلق، توصي "جيه إل إل" و"هانيويل" بتبني نهج متكامل يعتمد على مرونة المؤسسات، واتخاذ القرارات مبنية على البيانات، والاستفادة من التقنيات المتقدمة مثل التوائم الرقمية، لتحقيق بيئات مدن ذكية أكثر ترابطًا وفعالية. كما يشير التقرير إلى أن التحضر السريع في إعادة تشكيل المشهد العالمي، سيمكن المدن من تحقيق مكاسب حقيقية وقابلة للقياس.
وأكد التقرير ضرورة اعتماد مقاييس أداء دقيقة لقياس نجاح مبادرات المدن الذكية، مما يتضمن توافق الاستثمارات مع الأهداف الاستراتيجية وإضافة قيمة ملموسة.
وقال الدكتور ماثيو مارسون المدير الإداري للاستشارات التكنولوجية في شركة "جيه إل إل" لمنطقة أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا: "تُعد المدن الذكية عنصرًا أساسيًا في مواجهة التحديات الحضرية الحرجة المتعلقة بإدارة الموارد، وتحسين رفاهية المواطنين، وتعزيز جاذبية المدن. ويتطلب تحقيق هذه الإمكانات إحداث تحول جذري في طريقة تعاملنا مع هذه المبادرات. ويقدم تقريرنا الجديد خارطة طريق عملية لمساعدة المؤسسات على تجاوز العقبات في هذه الرحلة، وبما يضمن تحقيق مشاريع المدن الذكية الخاصة بها فوائد ملموسة لكل من المؤسسة وسكان المدينة".
من جانبه، قال محمد مصيلحي مدير المدن الذكية العالمية في شركة هانيويل لأتمتة المباني: "يعتمد مستقبل المدن الذكية على كسر الحواجز وتعزيز التكامل بين التكنولوجيا المتقدمة والحوكمة ورأس المال البشري. ويؤكد تعاوننا مع ’جيه إل إل‘ على أهمية اتباع نهج شامل على مستوى المؤسسة، يستفيد من التوائم الرقمية، والرؤى القائمة على إنترنت الأشياء، ونماذج الحوكمة المرنة، لتعزيز الكفاءة التشغيلية وتحسين تجربة المواطن. وباعتماد مقاييس أداء شفافة، نضمن أن استثمارات المدن الذكية لن تساهم فقط في دفع عجلة الاستدامة والنمو الاقتصادي، بل أيضًا في خلق بيئات حضرية مترابطة ومتجاوبة تتطور مع احتياجات المجتمع".
ويؤكد التقرير على أهمية كسر الحواجز بين الإدارات من خلال تبني حوكمة موحدة وتعاون متعدد الوظائف بين الجهات المعنية، حيث يؤدي ضعف التنسيق الداخلي إلى زيادة الإنفاق على الأنظمة المتداخلة، وتراجع ثقة المستخدمين النهائيين لخدمات المدن، وإطالة الجداول الزمنية للاستخدام، وانخفاض القدرة على التكيف مع التقنيات أو بيئات الأعمال الجديدة. وللتغلب على هذه التحديات ، توصي الشركتان بتبني نماذج عمل مرنة ترتكز على مواءمة إجراءات زيادة القيمة، واعتماد نهج هيكلي يُعزز الحلول المعيارية سهلة الاستخدام.
ويتناول التقرير أيضًا معالجة التعقيدات التكنولوجية والإنشائية عبر دمج مستشعرات إنترنت الأشياء التي تراقب جودة الهواء واستهلاك الطاقة، ومعدلات الإشغال بسلاسة مع أنظمة إدارة المباني ومنصات التحليلات وتطبيقات تفاعل السكان. كما يشير إلى أن اعتماد تقنيات التوائم الرقمية لإنشاء نماذج افتراضية من المباني والبنية التحتية سيمكّن المؤسسات من التنبؤ بالنتائج، وتقليل المخاطر، وتسريع عملية التعلم.
وأبرز التقرير أيضًا على أهمية الاستثمار في تدريب وتطوير المهارات لتجهيز القوى العاملة بالأدوات اللازمة لمواكبة تطورات مشهد المدن الذكية. من خلال برامج رسمية لتطوير المهارات، مثل ورش العمل، والتوجيه المهني، ومسارات الحصول على الشهادات، مما يسهم في تبادل المعرفة وتعزيز أفضل الممارسات. ويتمثل أحد التحديات الكبيرة أيضًا في الحفاظ على المواهب وتحفيزها، ولدعم ذلك، توصي "جيه إل إل" و"هانيويل" بتطبيق استراتيجيات تعزز التطور الوظيفي، وتوفر ترتيبات عمل مرنة، وتُقدر المساهمات المبتكرة.
وبما أن استراتيجيات إدارة مشاريع البناء التقليدية غالبًا ما تكون غير مناسبة لبيئات التكنولوجيا، تقترح الشركتان اعتماد ممارسات مرنة وواقعية لإدارة المشاريع، مثل الطرح التدريجي واختبارات إثبات المفهوم، لاختبار حلول جديدة في بيئة مُحكمة، إلى جانب إطار عمل منظم لإدارة المخاطر يساهم في استباق تأخيرات سلاسل التوريد أو تغييرات السياسات أو معارضة المستخدمين، مما يمهد الطريق للتحسين والتكيف المستمرين بناءً على الملاحظات الواقعية.
ودعا التقرير مؤسسات المدن الذكية إلى تقييم التقدم المُحرز وتحقيق قيمة حقيقية من خلال مقاييس دقيقة وشفافة تقيس الأثر الاقتصادي، مثل توفير فرص العمل، وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، وتحسين كفاءة التشغيل، إلى جانب الفوائد البيئية والاجتماعية وتجربة المواطن. واختتم التقرير بالتأكيد على أهمية تبني نموذج تشغيلي مرن يمكّن المؤسسات من الاستجابة للاحتياجات الحضرية المتغيرة، مع التركيز على حلول متكاملة قابلة للتطوير تسهم في رفع جودة حياة المواطنين.