تراجع العولمة وراء ارتفاع التضخم؟!
تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT
هل كان تراجع العولمة وراء ارتفاع التضخم؟
تراجع العولمة تزامن مع ارتفاع مستويات التضخم ويبدو أن هذا التزامن ليس صدفة بل يرجع لأسباب مهمة وجوهرية.
تسببت جائحة كورونا والسياسات الشعبوية وإجراءات الحمائية وحرب أوكرانيا بتراجع العولمة مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وزيادة معدلات التضخم!
رفع سعر الفائدة لكبح التضخم ليس الحل الشافي لتحقيق ذلك ما لم يعاد النظر في السياسات الشعبوية، وما لم تتوفر الظروف الكافية لانتهاء حرب أوكرانيا.
أدت جائحة كورونا لتقييد حركة الأفراد وتقليص الأنشطة الاقتصادية والتبادل التجاري وانخفاض توفر المعروض من المنتجات، مما زاد أسعارها وفاقم التضخم.
يعود تراجع العولمة وارتفاع الأسعار وزيادة التضخم إلى تصاعد الشعبوية التي تعادي الانفتاح وتدعم تقييد حرية حركة الأفراد وحرية التجارة بمزيد من إجراءات الحمائية.
تراجع العولمة أحد تداعيات حرب أوكرانيا التي أدت لانكماش العلاقات التجارية والمالية والاقتصادية بين الغرب وروسيا وتقطع الإمدادات الزراعية والغذائية من أوكرانيا وروسيا.
* * *
باستثناء السنوات الأربع أو الخمس الماضية، فإن العولمة كانت في أوج ازدهارها، خلال الأربعين سنة الماضية، حيث إن معظم، إن لم يكن جميع دول العالم، كانت تشارك وتنعم بحرية التجارة وانسياب عناصر الإنتاج من مواد وأفراد واستثمارات دون كثير من العقبات والعراقيل.
كما أن شركات الإنتاج كانت تتنقل وتختار الأماكن والبلدان الأنسب لأنشطتها الاقتصادية، وفقاً للمزايا النسبية لهذه الأماكن والبلدان. وقد أدى هذا الوضع، من دون شك، بحرية التجارة وحركة عناصر الإنتاج ومختلف الأنشطة الاقتصادية، إلى ازدهار كبير لاقتصاديات دول العالم، كما أدى إلى تحسن واضح في الأوضاع المعيشية للدول النامية.
وقد استفاد المستهلك في جميع دول العالم من توفر المنتجات والخيارات من عدة مصادر، ووفقاً لأسعار تنافسية ومعقولة. للأسف هذا الوضع، ومنذ أربع سنوات تقريباً، أخذ في التغير، حيث بدأنا نشهد تراجعاً في مسيرة العولمة، وقد تزامن مع هذا التراجع ارتفاع في مستويات التضخم، حيث حسبما يبدو، فإن هذا التزامن لا يعد من باب الصدفة؛ بل يرجع إلى أسباب مهمة وجوهرية سنحاول التطرق إليها بشيء من التفصيل.
السبب الأول في تراجع العولمة، خلال السنوات القليلة الماضية، هو تفشي جائحة كورونا والتي عمت دول العالم خلال فترة ثلاث سنوات تقريباً من 2020 إلى 2022. وقد عايش العالم تداعيات تلك الجائحة من حيث الحد من حركة الأفراد، سواء داخل البلد الواحد أم عند تنقلهم للسفر من بلد إلى آخر.
وقد ترتب على تقييد حركة الأفراد تقلص كبير في مستوى الأنشطة الاقتصادية وحجم التبادل التجاري، ما أدى إلى انخفاض ملحوظ في مدى توفر المعروض من المنتجات والسلع، انعكس في زيادة أسعارها وارتفاع مستوى التضخم.
وقد فاقم من هذا الوضع أن دولاً عديدة اضطرت إلى إنفاق مبالغ كبيرة لتعويض المؤسسات والأفراد، الذين فقدوا الكثير من أنشطتهم الاقتصادية، بسبب الجائحة، إلا أن إنفاقاً مثل هذه المبالغ الكبيرة، أدى إلى زيادة مهمة في السيولة النقدية، مقابل حجم محدود من البضائع والسلع المتوفرة، ما نتج عنه زيادة إضافية في الأسعار، وتفاقم في موجة التضخم.
السبب الثاني في تراجع العولمة والذي بدوره أدى إلى ارتفاع الأسعار وزيادة التضخم، هو في الواقع سبب سياسي يرجع إلى تصاعد الشعبوية التي تعادي الانفتاح، وتدعو إلى تقييد حرية حركة الأفراد وحرية التجارة، من خلال وضع مزيد من الإجراءات الحمائية.
وقد استغل بعض السياسيين ما ترتب على العولمة من انتقال بعض الأنشطة الاقتصادية من أماكنها التقليدية إلى أماكن وبلدان جديدة أكثر تنافسية، وفقاً لقوانين المزايا النسبية. إلا أن ما ترتب على ذلك هو هجرة بعض المؤسسات والوظائف إلى أماكن وبلدان جديدة، وبالتالي خسارة البلدان التقليدية من هذه المؤسسات والوظائف.
وفي الواقع، فإن خسارة البلدان التقليدية يرجع إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج لديها، كما أن من خسر وظائفهم في هذه البلدان، هم في الغالب الأقل تعليماً وأصحاب المؤهلات المتواضعة إلى حد ما.
السياسة الشعبوية استغلت هذا الجانب لتحقيق مكاسب انتخابية، من خلال محاربة العولمة وعدم تشجيع مؤسساتها على الانتقال إلى العمل في أماكن خارج بلدانهم، بالإضافة إلى زيادة الإنفاق على الدعم والإعانات للصناعات والمنتجات المحلية، ورفع الرسوم والضرائب الجمركية على المنتجات المستوردة، ما أدى إلى زيادة الأسعار على المستهلك المحلي، الذي كان من خلال العولمة يحصل على المنتجات من عدة مصادر وبأسعأر أقل. وبالطبع فإن هذا الوضع زاد من حدة موجة التضخم.
السبب الثالث والأخير في تراجع العولمة، هو المتمثل في تداعيات حرب أوكرانيا. وكما نعلم فإن هذه الحرب قد أدت أولاً إلى انكماش في العلاقات التجارية والمالية والاقتصادية بشكل عام بين الدول الغربية وروسيا.
كما أدت إلى تقطع في الإمدادات من المواد الزراعية والغذائية القادمة من أوكرانيا وروسيا، والتي تمثل أحد أهم مصادر المنتجات الغذائية مثل الحبوب وغيرها، ما أدى إلى عدم ضمان توفرها بشكل دائم، ما انعكس في زيادة أسعارها في السوق العالمي، وأسهم في ارتفاع مستويات التضخم.
إضافة إلى ذلك فإن التوتر الذي يسود العالم نتيجة لهذه الحرب، يمثل بدون شك سبباً في أضعاف الثقة، التي كانت سائدة خلال فترة أوج العولمة، ما جعل كثيراً من الدول تعمل على التقليل من الاعتماد على الخارج، وتدعم وتطور من قدراتها المحلية وإن كان ذاك على حساب الكلفة، ما انعكس في شكل ارتفاع تكاليف الإنتاج، وبالتالي زيادة الأسعار وتفاقم التضخم.
طبعاً حالياً يمكننا القول إن السبب الأول في تراجع العولمة، والمتمثل في تداعيات جائحة كورونا، لم يعد قائماً إلا أن السببين الأخيرين والمتعلقين بالسياسات الشعبوية وحرب أوكرانيا لا يزالان يؤثران بشكل واضح ومتزايد في وضع العولمة، ومن خلالها على مستوى الأسعار والتضخم.
لذلك فإن استخدام سعر الفائدة للقضاء على التضخم، لا يبدو بأنه الحل الشافي لتحقيق هذا الهدف، ما لم يعاد النظر في السياسات الشعبوية، وما لم تتوفر الظروف الكافية لانتهاء حرب أوكرانيا.
خلاصة القول إن تراجع العولمة خلال السنوات القليلة الماضية للأسباب التي تم ذكرناها، كانت حسبما يبدو وراء ارتفاع الأسعار وزيادة معدلات التضخم، وعندما تنتفي هذه الأسباب نهائياً، فإن العولمة يمكن أن تعود بنفس الوتيرة السابقة إن لم يكن أكبر في تحقيق مزيد من حرية حركة الأفراد والتجارة والاستثمار، ما يتيح للمستهلك في مختلف دول العالم خيارات الحصول على البضائع والمنتجات من عدة مصادر وبأسعار تنافسية، مثلما كان عليه الوضع قبل نشوب الظروف التي أدت إلى تراجع العولمة.
*د. جاسم المناعي المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي سابقا.
المصدر | الخليجالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: العولمة الشعبوية كورونا التضخم السيولة النقدية التبادل التجاري حرب أوكرانيا سعر الفائدة الأنشطة الاقتصادیة جائحة کورونا حرب أوکرانیا دول العالم هذا الوضع من خلال
إقرأ أيضاً:
المراقب المالي: ارتفاع الأسعار يثقل كاهل الإسرائيليين ويزيد من عبء المعيشة
أصدر مراقب الدولة الإسرائيلي، متنياهو إنغلمان، تقريرا مثيرا للجدل يكشف عن تزايد عبء ارتفاع الأسعار على المواطنين الإسرائيليين، خاصة في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة تتراوح بين 2.9% و6% خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
وأفاد التقرير، وفقا لما نقلته صحيفة جيروزاليم بوست، بأن هذه الزيادات جاءت نتيجة لتخفيض عدد العاملين في الصناعات الغذائية بنسبة 18%، إلى جانب تقليص الإنتاج في المصانع بنسبة 50%.
تكلفة المعيشةويتناول تقرير المراقب المالي قضايا التركيز المرتفع في أسواق الأغذية والسلع النهائية، مشيرا إلى أن "إسرائيل تتميز بتركيز عالٍ في سوق الأغذية"، إذ تعتمد على عدد محدود من الشركات الكبرى، ما يجعلها عرضة للتأثر بارتفاع الأسعار.
وأعرب إنغلمان عن قلقه من "عدم اتخاذ المسؤولين الحكوميين إجراءات جادة للحد من هذا التركيز"، مؤكدا أن هذا الوضع له "آثار مباشرة على تكلفة المعيشة".
وأكد أن المواطنين الإسرائيليين يرزحون تحت ضغط التكاليف المتزايدة، وقال "لا يمكننا قبول عدم اتخاذ أي إجراءات فعلية لتخفيض الأسعار أو تعزيز التنافسية في السوق".
قدرة شرائية محدودة
وأشار التقرير إلى فجوة هائلة في القدرة الشرائية لدى الإسرائيليين، إذ جاءت أقل بنسبة 300% من قدرة المستهلكين في دول مثل فرنسا، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وذلك عند النظر إلى الأجور مقابل أسعار المنتجات.
وأوضح إنغلمان أن الإسرائيليين "يكافحون للحصول على الأساسيات بأسعار تنافسية"، لافتا إلى أن أسعار الأغذية، باستثناء الفواكه والخضروات، ارتفعت بنسبة 23% منذ عام 2011، بينما ارتفعت أسعار الفواكه والخضروات بنسبة 37% خلال الفترة نفسها.
نقص التنافسية والتأثير على الأسعارويمتد تركيز السوق إلى 36 من أصل 38 فئة صناعية، حيث تسيطر 3 شركات على أكثر من 85% من الحصة السوقية في 20 فئة من هذه الفئات، وفقا لما أورده تقرير المراقب.
ويشير التقرير إلى أن متوسط الحصص السوقية للشركات الكبرى بلغ 84% في جميع الفئات، مما يعكس مستوى مرتفعا من التركيز الذي يُعد غير مسبوق في الأسواق المنافسة.
وعلى الرغم من تراجع حصة الخمسة الكبار في السوق من 42.7% عام 2017 إلى 37.5% في عام 2022، لا يزال السوق خاضعا لهيمنة عدد قليل من الموردين.
وانتقد التقرير أيضا قلة الاجتماعات التي عقدتها اللجنة الوزارية المكلفة بمكافحة ارتفاع تكلفة المعيشة، فلم تجتمع هذه اللجنة سوى 7 مرات منذ تأسيسها في يونيو/حزيران 2023، على الرغم من تزايد الأسعار وتأثير الحرب على الاقتصاد.
ودعا إنغلمان القيادة السياسية إلى متابعة تنفيذ الإصلاحات والتأكد من تحديثها للتعامل مع هذه التحديات، مؤكدا أهمية اتخاذ إجراءات عاجلة للحفاظ على استقرار الأسعار وتعزيز التنافسية.