التنافس الاستعماري مجددا
محاولة بائسة من قبل أوروبا القديمة، لإيقاف عقارب الساعة، باستخدام ما تبقى من نفوذ عسكري، وولاءات وتحالفات محلية.
أضاف انقلاب النيجر الأخير عمقاً استراتيجياً لروسيا في إفريقيا واستسلام فرنسا للانقلاب، يعنى تخليها عن آخر معاقلها في هذه القارة.
تعمل فرنسا على تحشيد الدول الموالية لها، لمواجهة الانقلاب، تحت ذريعة حماية الديمقراطية حتى لو استدعى ذلك استخدام القوة العسكرية.
روسيا رغم عدم إفصاحها عن دعم انقلاب النيجر ترفض بقوة أي تدخل عسكري ضد النيجر ولن تتردد في دعم حلفائها لحرمان فرنسا من أي نصر وتوكيد حضورها الدولي.
معضلة القوى الأوروبية أنها تنافس حليفا قويا هو أمريكا التي تبنت بشكل واضح وعلني، إزاحة الاستعمار القديم وأخذ مكانه، حتى قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها.
* * *
عند كل منعطف، وانتقال من نظام دولي إلى آخر، يستعر التنافس بين الأقطاب الكبرى، ويعمل كل منهم، على اكتساب أوراق أكبر، لتعزيز موقعه. ولا تتردد القوى الكبرى عن استثمار النزاعات الطائفية والصراعات الإثنية، وشنّ الحروب بالوكالة ببلدان العالم الثالث، لصالح مشاريعها.
في منطقتنا، على سبيل المثال، اتفق الفرنسيون والبريطانيون، على تقاسم المشرق العربي، وسوريا الكبرى، فيما بينهم، بعد إسقاط السلطنة العثمانية. لكن ذلك لم يمنع استمرار التنافس بينهما، بعد الحرب العالمية الثانية.
فقد عمل البريطانيون، أثناء الاحتلال الفرنسي لسوريا، على فتح قنوات مع الزعماء المحليين. وبالمثل تنافس الفرنسيون والبريطانيون في الهيمنة على قناة السويس.
ولا شك أن الثروات ومصادر الطاقة، والممرات والمعابر الاستراتيجية، كانت من أهم عوامل التحريض على التنافس بين هذه القوى. ولم تكن سايكس- بيكو سوى محطة عابرة في هذا التنافس.
ذلك أن القوى التي تنافست على المنطقة، باتت في مرحلة الشيخوخة، وتترنح، بعد خسارتها كثيراً من قوتها العسكرية والاقتصادية، بسبب الاستنزاف الهائل الذي عانته أثناء الحرب العالمية الثانية. وبقيت مشلولة وعاجزة، أمام الصعود الكاسح للاقتصاد الأمريكي، وامتلاك أمريكا والاتحاد السوفييتي لسلاح الرعب النووي.
والواقع أن القوى الأوروبية القديمة، عملت كل ما من شأنه للحفاظ على نفوذها. ولم تتردد عن القيام بانقلابات عسكرية، في بلدان العالم الثالث، ومنه وطننا العربي، متى ما وجدت أن من شأن ذلك صيانة مصالحها.
لكن معضلتها أنها تنافست مع حليف قوي، هو أمريكا التي تبنت بشكل واضح وعلني، إزاحة الاستعمار القديم وأخذ مكانه، حتى قبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها.
في سوريا على سبيل المثال، كان التنافس واضحاً بين الاستعمار الأوروبي، والأمريكيين، فقد بدأت سلسلة الانقلابات العسكرية، بعد الاستقلال، منذ عام 1949، حين قاد اللواء حسني الزعيم أول انقلاب، تبين أنه مدعوم من شركات النفط الأمريكية، التي كانت تطمح في الحصول على مواقع لتصدير النفط عبر موانئ المتوسط.
وما هي إلا فترة قصيرة، حتى قام انقلاب آخر، قاده اللواء سامي الحناوي، وتبين أن شركة البترول البريطانية العراقية تقف خلفه، ولم تمض سوى فترة قليلة، حتى قام اللواء أديب الشيشكلي بانقلاب آخر، قيل إنه مدعوم من أمريكا. وقد عكست هذه الانقلابات حدة التنافس الاقتصادي بين الدول الحليفة.
لقد حُسم الوضع في آخر الأمر، لصالح أمريكا، وباتت الأقوى، ضمن الدول الغربية، والمنافس الأوحد للاتحاد السوفييتي. ولذلك يمكن القول، أن الحرب الباردة، التي اشتعلت منذ مطالع الخمسينيات كانت بين الروس والأمريكيين، ولم يكن دور أوروبا القديمة في تلك الحرب، سوى دور التابع المطيع للسياسة الأمريكية.
ورغم التسليم بأن التاريخ لا يعيد نفسه، بمعنى أن أحداثه لا يمكن استنساخها، كونها خاضعة لقانون الحركة والتعاقب، فإن ما يجري الآن، من أحداث في القارة السمراء، وبشكل خاص في السودان والنيجر، هو في جوانب كثيرة منها، استعادة لمناخات الحرب الباردة، التي اشتعلت منذ مطالع الخمسينيات، حتى سقوط حائط برلين في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي.
ولعل التعبير الأكثر دقة لها، أنها محاولة بائسة من قبل أوروبا القديمة، لإيقاف عقارب الساعة، باستخدام ما تبقى من نفوذ عسكري، وولاءات وتحالفات محلية.
ذلك لا يعني إقرار من قبلنا، أن فرنسا وبريطانيا قد فقدتا حضورهما في القارة السوداء. فقد بقيت الكثير من المستعمرات في حيازتهما، رغم منطق الإزاحة الذي اعتمدته الإدارة الأمريكية منذ عهد الرئيس روزفلت.
النهوض العسكري والسياسي الذي تحقق لروسيا، في ظل قيادة الرئيس بوتين، والصعود الاقتصادي الكاسح للصين أعاد مجدداً تشكيل العالم بالقارات القديمة، ومن ضمنه القارة السمراء، حيث بنت روسيا والصين تحالفات قوية في عدد من دولها، من ضمنها الجزائر ومالي وبوركينا فاسو.
لقد جاء انقلاب النيجر الأخير ليضيف عمقاً استراتيجياً لروسيا في إفريقيا. إن استسلام فرنسا للانقلاب، يعنى تخليها عن آخر معاقلها في هذه القارة، ولذلك تعمل على تحشيد الدول الموالية لها، لمواجهة الانقلاب، تحت ذريعة حماية الديمقراطية حتى لو استدعى ذلك استخدام القوة العسكرية.
لكن الأمر لا يبدو سهل المنال، فروسيا رغم عدم إفصاحها عن دعم الانقلابيين، ترفض بقوة أي تدخل عسكري، ضد النيجر، ولن تتردد عن دعم حلفائها لحرمان الفرنسيين من تحقيق أي نصر، ولتؤكد حضورها السياسي القوى في الساحة الدولية.
*د. يوسف مكي كاتب وأكاديمي سعودي
المصدر | الخليجالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: روسيا أمريكا فرنسا أفريقيا تنافس النظام الدولي انقلاب النيجر الحرب العالمیة الثانیة
إقرأ أيضاً:
هل نفتح باب الأمل بعد سوريا أم نواربه؟!
تفتحت براعم الأمل مجددا في نفوس الشعوب التي تألمت وتضررت من جراء ما حسبته انتكاسة لـ"الربيع العربي"؛ فقد شهد الملايين ازدهار التوقعات في انجلاء طوفان المظالم، ثم فجأة لم تعد الأمور إلى سابق عهدها فحسب، بل زاد طغيان الظلم وجبروته، إذ إن المعاندين للشعوب استطاعوا السيطرة عليها بعدما تيقنوا من رحيلهم، فظنوا أنهم استطاعوا السيطرة على المقاليد إثر ذهاب رؤوس أنظمتهم. ولكن بنجاح الشعب السوري الشقيق في تنحية بشار الأسد، رغم كونه الحاكم الوحيد في دول "الربيع" الذي استطاع الإبقاء على نفسه ونظامه معا، بعد مضي ما يزيد عن 13 سنة مضنية؛ استفاقت الآمال في بقية دول "الربيع" وثارت أسئلة وأولها: هل نستطيع استعادة روح الثورة مجددا كما فعل السوريون؟ أم أنها مجرد "أضغاث أحلام"؛ استيقاظها ثم المضي وراءها يؤلم النفوس المجهدة أكثر مما ينفعها؟
وللأمانة فإنه ما من شعب عربي استعذب -أخيرا- أنفاس حلم الحرية منذ عام 2011م يطيق غلق "أبواب الأمل" بنجاح ثورته، بل إن المقهورين بالحبس والإصابة ووداع عزيز واحتسابه شهيدا؛ لا يطيقون مجرد "مواربة" باب التمني بازدهار ثوراتهم مجددا، لكن: كيف تستقيم الأماني المفرودة الأشرعة على آخرها، وسفنها مستعدةٌ للإبحار نحو بحار الحرية، مع الواقع المستمر في "الجري في المكان" ولا شيء يتغير؟!
أكثرت أغلب شعوب "الربيع العربي" للأسف الشديد من التمني وانتظار التغيير دون تقديم مجهود مناسب موازٍ طوال الأعوام الماضية، وللأسف -أيضا- فإن هذه الأمنيات "الجمّة" أجهدت أفئدة الملايين حتى باتت ترى كل بارقة أمل مقبل انكسارا مخبأ. فلا يخفى أن كل "نوبة إفاقة" كانت تتبعها آلام مؤقتة للملايين؛ فمع ازدهار سقف التفاؤل كانت تأتي سيول الآلام مع انكسار الأول، وقد كان أجدر بنا أن نراقب أنفسنا وحراكنا جيدا لندرك أن "الفعل الثوري" ليس مرهونا بنا فحسب؛ فحتى لو أدينا كل ما علينا فإنه ليجدر بنا أن نترقب "انفراجة دولية" تستوعبنا، كما حدث مع الحراك الثوري في سوريا.
ولعل في سياق ازدهار آمال دول الربيع ثم انكسارها مع كل مدّ ثوري -حقيقي أو مُبالغ فيه- ما يشي ببعض من "قصر النفس" الثوري، ففي المقابل "يتخيل" البعض حتى من مناصري الثورات "غياب الربيع العربي" -لا قدر الله- فلا يتفهم أن "انتفاضة الخبز" في مصر في 17 و18 كانون الثاني/ يناير 1977م لم تكن انتفاضة خبز بل طلبا للحرية؛ وقد فجرها غلاء أسعار السلع الرئيسية، وإن الرئيس الأسبق أنور السادات لم يئدها بداية من إذاعة مسرحية "مدرسة المشاغبين" للمرة الأولى في عصر يومها الثاني ومرورا بالتراجع عن زيادة الأسعار، ومحاولة البطش بمفجريها، ثم الارتماء أكثر بأحضان الأمريكيين ومن قبلهم الصهاينة في "كامب ديفيد"؛ فالحقيقة أن الثورة ظلت مشتعلة تحت الرماد حتى ازدهرت بعد نحو 32 سنة في 11 كانون الثاني/ يناير 2011م. فهذه انتفاضة ظلت مستكينة مع الأحداث والأيام حتى اشتعلت ثورة بعد ثلاثة عقود ونيف؛ فما بالنا بالثورة نفسها وقد ابتدأت؟ وهكذا الحال مع الثورة السورية فإن "انتفاضة حماة" ظلت نواة "متقدة حبيسة" تحت الركام منذ وأدها "الأسد الأب" في 1982م حتى نجحت ثورة في قرب نهاية 2024م، ومرور كل هذه السنوات لم ينهِ الثورة رغم عظيم المآسي والتضحيات التي لم تنكشف كاملة لليوم!
إننا بحاجة ماسة لبالغ الاعتقاد بأن ربيعنا منتصر ما دام مستمرا بأنفسنا ونسعى إليه، نؤمن به لكن دون إفراط وتعجل وانتظار كل "بارقة أمل" مع تناسي السياق الدولي؛ وهو الذي بدونه يصبح حالنا وحال بلادنا كما قال الشاعر القديم، مع الفارق الجمعي:
إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
لذا فإننا بحاجة لعظيم الإدراك بأن "عمر الظلم ساعة؛ وعمر الحق حتى قيام الساعة"؛ وإننا رغم عظيم الألم والمعاناة وطوفان المظالم والضيق فإنه كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:
وللحرية الحمراء باب بكل يد حمراء مضرجة يدق
إننا لا نملك ولا نطيق -بعد- إلا الأمل في غد وإنه لناظره لقريب!