الإسلاميون والجيش واستراتيجية المليشيات: أدوات السيطرة التي تهدد مستقبل السودان
تاريخ النشر: 17th, November 2024 GMT
في الأسابيع الأخيرة، ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي أخبار عن تأسيس مليشيات جديدة للقتال بجانب الجيش مثل الأورطة الشرقية، حركة تحرير الجزيرة، تيار شباب البجا، وغيرها. قبل الحرب أيضاً وبذرائع مختلفة كالمطالبة بالحقوق والتمثيل في السلطة، وعدم حصول مناطق على إمتيازات أو تجاهلها في إتفاق جوبا وغيرها، تم تأسيس مليشيات مثل قوات درع البطانة، درع الوطن، وقوات كيان الوطن، تحت بصر وسمع الأجهزة العسكرية والأمنية، وفي الغالب هذه الأجهزة هي من أسست هذه المليشيات، مما يدل على أن استراتيجية الجيش والإسلاميين الرئيسية هي تأسيس واستخدام المليشيات، سواء التي أسسها الجيش أو التي تحالفت معه، بما في ذلك تلك المرتبطة بالإسلاميين كالبراء بن مالك.
في بعض الأحيان، تُستخدم هذه المليشيات كأداة ضغط سياسي، وربما لاحقاً عسكري، كما يحدث حالياً في مطالبة ما يسمى تيار شباب البجا بإخراج مليشيات العدل والمساواة وتحرير السودان من ولايات الشرق. تُستخدم هذه المليشيات الآن لإنهاء الحرب والإنتصار على مليشيا الدعم السريع، على حساب استقرار الدولة ومستقبلها.
يناقش هذا المقال لماذا يرفض الجيش والإسلاميون دمج أو ضم، ولو مؤقتاً، كل التشكيلات والأفراد الراغبين في القتال ضد مليشيا الدعم السريع في الجيش، وماهي أسباب استخدامهم لاستراتيجية المليشيات وتأثيرها على مستقبل السودان.
أسباب استخدام المليشيات
إحدى الأسباب الرئيسية وراء الاعتماد على هذه المليشيات، وربما السبب الرئيسي، هو الخشية من صعود تيار داخل الجيش بعد إنضمام فئات مختلفة من الشعب للقتال معه، قد ينحاز إلى مطالب الشعب السوداني التي عبرت عنها ثورة ديسمبر. هذه الخشية تُفسر رفض الجيش والإسلاميين لانضمام الكثير من العسكريين المفصولين أو المعاشيين إلى صفوف الجيش في الحرب الحالية، حيث يرون أن هؤلاء قد يشكلون تياراً مناهضاً لهم وقد يصبح لهم صوت ووزن داخل الجيش، وربما أصبحوا أداة للتغيير السياسي خارج سيطرتهم. كذلك قتال هذه التشكيلات هذه بجانب الجيش بشكل شبه مستقل بعيداً عن سيطرة الجيش الكاملة عليها، يطرح تساؤلاً بشأن دور هذه المليشيات بعد الحرب وقابلية استخدامها للتمكن من السلطة، أو للحصول على إمتيازات سياسية، أو لقمع الشعب والقوى السياسية.
وفي الوضع الإقتصادي الحالي، فإن تشكيل المليشيات يُعتبر أقل تعقيداً وأقل تكلفة من تدريب الجنود وفق المعايير النظامية. هذه التشكيلات المسلحة تعتمد غالباً على دعم مالي ولوجستي من قنوات غير رسمية كالدعم الشعبي، ولكن مثلاً يتحدث العديد من المواطنين عن كثرة الإرتكازات الأمنية والمطالبة بالرسوم من المركبات العابرة وغيرها من الظواهر. هذا الشكل من التمويل يقلل من الأعباء المباشرة والإلتزامات المالية على القيادة العسكرية والسياسية. كما أن الإرث التاريخي للمليشيات، الذي يعود إلى نزاعات السودان الطويلة، جعلها أداة مفضلة لتحقيق السيطرة وتقسيم القوى داخل الدولة.
التحديات الناجمة عن المليشيات
هذا النهج يمثل خطراً كبيراً على مستقبل السودان. وجود المليشيات يضعف المؤسسات الوطنية ويؤدي إلى ازدواجية السلطة، ويعيق الإلتزام بالقوانين وتطبيقها. كما أن الغالب في تكوين هذه المليشيات أنه على أسس قبلية وإثنية أو مناطقية مما يزيد من التوترات الاجتماعية ويخلق صراعات محلية طويلة الأمد، تهدد الوحدة الوطنية. تزايد هذه التوترات يؤدي إلى إضعاف التماسك المجتمعي ويعيق إنتصار الجيش نفسه، ويزيد من تعقيد أي جهود للوصول إلى تسوية سياسية.
الاعتماد على المليشيات يؤدي إلى إضعاف الجيش النظامي، حيث تصبح هذه التشكيلات بديلاً غير منضبط للقوة الرسمية، مما يقوض فعالية الجيش ويهدد تماسكه. بالإضافة إلى ذلك، التمويل المالي لهذه المليشيات لاحقاً سيعتمد غالباً على السيطرة على الموارد وربما النهب، مما يؤدي إلى استنزاف الاقتصاد وتعطيل التنمية كما حدث في حالة مليشيا الدعم السريع. كما أن انعدام الأمن الناتج عن نشاطها يفتح الباب لممارسات كالتهريب والأنشطة غير المشروعة، ويعوق الاقتصاد ويزيد من الأزمات المعيشية.
الدور الخارجي والتدخلات الإقليمية
تدخل القوى الخارجية لدعم هذه المليشيات يضيف حلقة أخرى من التعقيد، ويحول السودان إلى ساحة صراعات إقليمية ودولية. وفي تناقض غريب، ورد أن الأورطة الشرقية ومليشيات أخرى قد تم تدريبها في إريتريا، حيث بدأت مليشيا الدعم السريع كقوة محلية ثم طورت علاقات خارجية لتصبح مستقلة عن الدولة، ما يعكس إمكانية تحول هذه المليشيات إلى كيانات ذات علاقات خارجية معقدة وربما تصبح تحت سيطرة خارجية. هذه العلاقات تُعقد أي محاولة لفرض السيادة الوطنية وقد تؤدي إلى فقدان القدرة على التحكم في الأراضي والموارد الوطنية.
على المدى الطويل، تُعرف المليشيات باستخدامها للعنف المفرط وغير المنضبط، مما يؤدي إلى تصاعد الانتهاكات وزيادة الفوضى. هذا الوضع يجعل الإنتصار الشامل أو تحقيق السلام أمراً صعباً، حيث تصبح هذه التشكيلات المسلحة عقبة رئيسية أمام أي حل. حتى في حال الإنتصار الكامل للجيش، فقد تتغير أهداف المليشيات مع مرور الزمن وقد تستخدمها أطراف خارحية كما حدث مع الدعم السريع، مما يهدد استقرار الوضع حتى بعد انتهاء الصراع العسكري.
التحديات في المستقبل: تفكيك المليشيات ودمجها في الجيش
حتى إذا تحقق إنتصار كامل للجيش على مليشيا الدعم السريع وهو أمر مستبعد في الظرف الحالي، أو تم التوصل إلى اتفاق سلام، فإن تفكيك المليشيات أو دمجها في الجيش يمثل تحدياً كبيراً، كما أظهرت تجارب دول أخرى في المنطقة مثل الصومال وليبيا. منذ بداية التسعينات، واجهت الصومال صراعاً طويل الأمد بسبب وجود المليشيات المسلحة التي دعمتها قوى خارجية مختلفة، مما أدى إلى انهيار الدولة وتفككها إلى مناطق سيطرة متعددة. وبعد أكثر من ٣٥ عام على إندلاع الحرب في الصومال لا تزال المليشيات تستخدَم في صراعات محلية ودولية، مما أدى إلى حالة من عدم الاستقرار المستمر والتدخلات العسكرية الإقليمية والدولية. في ليبيا، تسببت المليشيات المدعومة خارجياً في تمزيق الدولة إلى كيانات متناحرة على السلطة. فإن كان قرار الجيش والإسلاميين أنهم لن يذهبوا لإتفاق مطلقاً، فالأفضل لمستقبل السودان أن يكون كل المقاتلين تحت القوات المسلحة فعلياً والإبتعاد عن استراتيجية المليشيات هذه.
في النهاية، الاعتماد على استراتيجية المليشيات يعكس ضعف الفكر وعدم قدرة قادة النظام السياسي والعسكري الحالي في السودان على التعلم من التجارب الذاتية والخارجية، وعدم الاكتراث لأرواح السودانيين. إن تحقيق السيطرة الآنية باستخدام المليشيات، وإن حدثت وهي مستبعدة في الظرف الحالي، على حساب الاستقرار الوطني لن يحقق الأمن المستدام، بل يقود السودان نحو التفتت والانقسام، مع تداعيات كارثية على الشعب السوداني لعقود قادمة. الحلول الحقيقية تكمن في بناء مؤسسات قوية، والبدء بإصلاح الجيش إلى مؤسسة مهنية ذات عقيدة وطنية تمثل كل السودانيين الآن وأثناء هذه الحرب.
mkaawadalla@yahoo.com
محمد خالد
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: ملیشیا الدعم السریع هذه الملیشیات هذه التشکیلات یؤدی إلى
إقرأ أيضاً:
هكذا تبدو مدينة ود مدني بعد استعادتها من قوات الدعم السريع
ود مدني- تبدو مدينة ود مدني الواقعة وسط السودان مدينة شاحبة الوجه بعد أن شردت الحرب أهلها وأحالتها لمدينة أشباح، فلا يوجد بها سوى القليل من الناس الذين أجبرتهم الظروف على البقاء تحت وطاءة الحرب.
وتحولت ود مدني، التي استطاعت قوات الجيش السوداني استعادتها من سيطرة قوات الدعم السريع، من عنوان للجمال والثقافة إلى مدينة مهجورة ينتشر فيها الدواب والكلاب والجوارح التي تتغذى على جثث قتلى الحرب في شوارع المدينة.
مركبتان تابعتان للدعم السريع تم تدميرهما خلال استعادة المدينة (الجزيرة) مدينة الدم والرصاصما يبدو لافتا بمجرد الدخول إلى مدينة ود مدني هو تردد أصوات الرصاص في كل أرجاء المدينة، فثمة احتفالات من جنود القوات المسلحة السودانية بالمدينة، إذ لا توجد وسيلة يعبرون بها عن فرحتهم باستعادة المدينة إلا إطلاق زخات من الرصاص في الهواء الطلق، وبينما يبدو صوت الرصاص مرعبا للقادمين إليها، يتعايش القاطنون بالمدينة معه كونها عانت ويلات الحرب طوال عام ونصف العام.
الرصاص ليس وحده هو العنوان الأبرز في المدينة، فرائحة الدم المنبعثة من الجثث تستقبلك بمجرد الدخول إلى ود مدني، كما أن ثمة جثثا ملقاة على الأرض صارت وجبة للكلاب الضالة التي أصابتها التخمة وهي تعتاش على لحوم البشر الذين سقطوا جراء المواجهات بين الجيش والدعم السريع.
إعلانوقد تزاحمت على الجثث أيضا الجوارح (الصقور) لا سيما بالقرب من كوبري البوليس غرب مدني، حيث توجد أكثر من 30 جثة ملقاة على الأرض لعناصر سقطوا خلال مواجهات استعادة المدينة.
المشهد ذاته يتكرر بالقرب من مدخل حي عووضة حيث لاحظ مراسل الجزيرة نت قيام جنود من الجيش بحفر قبر جماعي لأكثر من 6 جثث لعناصر الدعم السريع، أما في مدخل جسر حنتوب من الناحية الغربية فتوجد أكثر من 3 جثث محترقة تماما لعناصر الدعم السريع، وبالقرب منهم سيارات مدمرة ودبابة معطلة.
مركبة محترقة بعد استهدافها من قوات الجيش (الجزيرة) أحياء مهجورةوخلال جولة في أحياء المدينة التي كانت تعج بالجمال والنشاط السكاني ومزدحمة مروريا، تحولت هذه الأحياء إلى أماكن مهجورة وتغيرت ملامحها بحيث يصعب على العائدين إليها التعرف عليها، فحي الزمالك -أعرق أحياء ود مدني- يبدو كأنه خال من السكان، التجوال في الحي يجعلك تلاحظ سكونه، حيث لا يوجد غير أصوات الطيور وبعض الباحثين عما ينهبونه.
ثمة العديد من الأحياء التي تغيرت معالمها بالكامل، في حين تبدو الأحياء المطلة على النيل أكثر حيوية مثل حي القسم الأول والدباغة والقبة، كما أن المحلات التجارية منهارة في جميع أحياء ود مدني، فلا مخابز تعمل ولا متاجر ولا أسواق صغيرة، جميعها تحولت لأطلال بفعل الحرب.
ملامح الحرب والدمار تعمّ شوارع ود مدني (الجزيرة) أسواق مدمرةود مدني كانت أحد مراكز التجارة المهمة لمعظم مدن الإقليم الأوسط في السودان، وزادت الحركة التجارية في أسواقها بعد اشتعال المعارك في الخرطوم، إذ نقل الكثير من التجار تجارتهم صوب ود مدني التي تعد الأقرب للخرطوم، غير أن جميع محلاتها توقفت بمجرد دخول قوات الدعم السريع إلى المدينة.
وعند مدخل ود مدني هتفت سيدة بشكل هستيري قائلة للجزيرة نت "تعبنا لكن صمدنا"، مشيرة إلى أنها عانت من انتهاكات الدعم السريع لكنها لم تغادر منزلها لظروف أجبرتها على البقاء. الوضع لا يختلف كثيرا عن أخريات تحدثن للجزيرة نت، تقول إحداهن إنها تعرضت للضرب من قوات الدعم السريع لمجرد أنها كانت تعمل في وقت سابق طباخة لدى الجيش.
إعلانوحول كيفية الحياة في ظل انعدام المخابز والكهرباء والماء والمحلات التجارية، يقول مواطن للجزيرة نت فضل حجب اسمه، إن المواطنين كان يشترون احتياجاتهم من أسواق تمبول شرق مدني، وذلك قبل مغادرة قائد قوات درع السودان أبوعاقلة كيكل صفوف الدعم السريع للتحالف مع الجيش.
ويشير المواطن السوداني إلى أن سوق تمبول كان مستمرا في العمل ويوفر الاحتياجات الأساسية من الدقيق والسكر والزيوت، إلا أن شراء هذه المواد الغذائية لا يتم إلا بتصديق من استخبارات الدعم السريع، ودفع ضريبة مالية محددة.
ولفت إلى تعقد الأوضاع الاقتصادية بود مدني بعد انتقال أبوعاقلة كيكل للقتال إلى جوار الجيش، حيث ضيق الدعم السريع على المواطنين وقيد حركتهم، في وقت توقفت فيه الكهرباء والماء والاتصالات عن المدينة منذ اليوم الأول لدخول قوات الدعم السريع في يناير/كانون الثاني 2024.
أحد مظاهر الدمار الكبير الذي لحق بالمدينة منذ سيطرة الدعم السريع عليها (الجزيرة) خدمات نادرةوخلال فترة سيطرة عناصر الدعم السريع على المدينة، كان المواطنون يتعاملون بالطاقة الشمسية الممملوكة لتلك العناصر لشحن الهواتف المحمولة مقابل مبلغ مالي، ويستخدمون إنترنت الأقمار الاصطناعية "ستار لينك" المملوكة لقوات الدعم السريع للتواصل مع الأهل واستقبال التحويلات البنكية، ويتم إحضار الماء بوسائل نقل تقليدية من النيل عبر العربات التي تجرها الحمير والبغال.
في اليوم الثاني لدخول الجيش السوداني إلى المدينة، حضر الفريق شمس الدين كباشي مساعد قائد الجيش السوداني إلى المدينة، ووجه السلطات بضرورة الإسراع في إعادة الخدمات، كما وجه بتنظيف المدينة وتطهيرها.
وأكد قائد العمليات العسكرية بمدينة ود مدني العقيد أركان حرب عبادي الطاهر للجزيرة نت أنهم يعملون بالتنسيق مع حكومة ولاية الجزيرة لإعادة الماء والكهرباء وإزالة الألغام تمهيدا لعودة السكان إليها، كما تفقد عدد من المهندسين محطة مياه المدينة استعدادا لصيانتها وإعادتها للخدمة، كما تسعى شركات الاتصالات لإعادة خدماتها في المدينة.
إعلان