حين ينهار كلّ شيء في عالم الميليشيا
تاريخ النشر: 17th, November 2024 GMT
من يراجع تاريخ العلاقة بين الدولة والمجتمع اللبنانيّين وبين ميليشيا «حزب الله»، والتي بات عمرها يتعدّى الأربعة عقود، يلاحظ أنّ كلفة الميليشيا على هذين المجتمع والدولة سلكت مسلكاً تصاعديّاً في احتدامه، وأنّ تصاعديّته بالكاد عرفت التقطّع. فبدل وعد الانتقال من حماية إلى تحرير فإلى ثراء وازدهار، اتّجه الانتقال بنا إلى انكشاف أكبر واحتلال أكثر وبؤس أعظم.
وليس معقولاً بأيّ معيار كان أن تنتهي بنا الحال، بعد ذاك الزمن المديد على انطلاق المقاومة، و»تحصيننا» الذي نُسب إليها، إلى ما نعيشه راهناً، حيث يمضي في نهشنا توحّش إسرائيليّ لا يرتوي طلبه لدمنا وخرابنا. أمّا الحجّة التي تقول إنّ هذه أكلاف التحرير فيمتنع قائلوها عن اقتراح مدّة زمنيّة، ولو تقريبيّة، لتحقُّق ذاك الوعد بالجنّة الأرضيّة، أو اقتراح محطّات إنجازيّة نصعد من واحدتها إلى واحدة أعلى على الطريق إلى تلك الجنّة. وهذا ما دفع أكثريّة من اللبنانيّين، يتنامى عددها يوماً بيوم، إلى افتراضين يعزّزهما طوفان من الوقائع والمعطيات التجريبيّة: أوّلهما أنّ التحرير المقصود ليس شيئاً محدّداً يتحقّق، بل هو مزيج من فكرة لا تتحقّق وطريقة حياة تمتدّ على العمر كلّه، بل على أعمار أجيال متعاقبة. أمّا الافتراض الثاني فأنّ التضحيات الهائلة التي تُبذل إنّما تُبذل مازوشيّاً، أي لإنزال ألم «لذيذ» بالذات، بحيث يقلّ القليل المتبقّي في اليد أو يُفقَد كلّه تباعاً.
فالأمر، بالتالي، أقرب إلى طقس علينا نحن أن نخدمه لمجرّد أنّه طقس، من دون أن نطالبه، في المقابل، بخدمتنا.
وما يزيد طين الميليشيات بلّةً، هي التي تدعو إلى تحرير وطنيّ ما، ارتباطها بمصالح أجنبيّة تتقدّم على مصالح الوطن نفسها، وهذا إن لم تكن تلك المصالح الأجنبيّة علّة وجودها الأولى والأهمّ. وفي ذلك ما يمعن في إضعاف مزاعم المقاومة المنتفخة في صدد فلسطين وقضيّتها إذ يتبدّى أنّ وراء الأكمة ما وراءها، وأنّ شيئاً آخر، تحيط به الشبهات، هو ما يملي عليها حركاتها وسكناتها.
والراهن أنّ ما من شعب، إلاّ إذا كان مصاباً بمرض جماعيّ، يمكن أن يوعَد بهذا «التحرير»، وأن يُطالَب بالاستماتة في طلبه! فالطبيعيّ الذي يحصل، والحال هذه، شعورٌ عميق بالخيبة والخذلان يدفع أصحابه إلى مراجعة حسابات الأكلاف الهائلة ومقارنتها بالمنافع المعدومة ثمّ الوصول إلى النتائج المنجرّة عن ذلك.
وما نشهده في لبنان، ممثّلاً بـ «حزب الله»، واحد من أفدح أشكال الظاهرة الميليشيويّة، وهو بالتأكيد أعرقها في المشرق العربيّ، إلاّ أنّ لبنان ليس المسرح الوحيد لاشتغالها الكارثيّ. فها نحن نلاحظ مثلاً كيف يعلن سكّان البوكمال في شرق سوريّا بَرَمهم بالميليشيا وعجزهم عن تحمّل الأكلاف المتعاظمة التي يرتّبها وجودها ونشاطها. وعلى نطاق أعرض تتعالى أصوات عراقيّة متزايدة تلحّ على إشهار خوفها من سياسة التوريط بالموت التي تتسبّب بها الميليشيات. ذاك أنّ الأخيرة، وفي كلّ مكان من المشرق تقريباً، توسّع رقعة انتهاكها التي تشمل التمييز السياسيّ بين السكّان، ورفض تطبيق القانون، وتوسيع هوامش الفساد، وفرض ضرائب تصاعديّة على الحياة الاقتصاديّة، وهذا فضلاً عن التجرّؤ على الأعراف الأهليّة والتقاليد الشعبيّة.
هكذا يُلاحَظ أنّ تداعي الميليشيات القويّة يشبه تداعي الأنظمة الإمبراطوريّة، أو ذات الادّعاء الامبراطوريّ، حيث التجرّؤ واسع وشامل يمسّ أوجه الحياة كلّها. وفي سياق كهذا يسود التشكيك الشعبيّ المشوب بسخرية لا ترحم، سخريةٍ تطال كلّ شيء طالته رواية تلك الميليشيا عن نفسها وعن عالمها المحيط، فيما روايتها تطال كلّ شيء تقريباً. فانكشاف الوعد المزغول خطير على الواعد، وكلّما كان الوعد متضخّماً تضخّمَ انكساره واتّخذ شكلاً فضائحيّاً. وفي عداد ما يتداعى تأويلٌ كاذب للتاريخ وللوقائع جعلته الميليشيا تأويلاً سائداً، مقلّدةً بهذا ما تصنعه الأنظمة التوتاليتاريّة حين تعيد كتابة التاريخ فتمحو منه ما تمحو وتضيف إليه ما تضيف. وبين ما يتداعى أيضاً لغةٌ غالباً ما تعني عكسها، حيث الهزيمة انتصار والانتصار هزيمة والقوّة ضعف والضعف قوّة، توشّيها تعابير شبه وثنيّة يُراد للجماعة كلّها أن تردّدها طرداً منها للأرواح الشريرة. وبالطبع فإنّ الرواية هذه تجد حارسها المنزّه في رجل ساحر أُوكلت إليه مهمّة السير بنا، فيما أعيننا مغلقة، نحو المجد والسؤدد.
لكنْ فجأةً، وفيما ينهار هذا كلّه انهيار جبل من كرتون، يبدأ الناس بقول الكلام الصحيح والدقيق في الوقت عينه، حيث تحضر الأرقام لتعزيز الرأي أو لنفيه، كما يحضر ما تراه العين بدلاً من دفع العين لأن ترى ما لا يُرى. وبين نهار وليلة يجد الناس أنفسهم وجهاً لوجه أمام مسؤوليّاتهم عن ذواتهم وعن أوطانهم: كيف يدبّرونها من دون سحر وساحر ومن دون رواية تريد تلقينهم، كما يُلقّن الأطفال، أنّ الأسود ابيض والأبيض أسود. والمشرق العربيّ، وسط صعوبات هائلة وقسوة استثنائيّة، ربّما كان اليوم أمام امتحان المسؤوليّة الكبير هذا.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: عودة ترامب عام على حرب غزة إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله الانتخابات الأمريكية غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية إسرائيل وحزب الله
إقرأ أيضاً:
د. محمد ثروت.. رحلة عالم «الأتو ثانية»
أصبح الدكتور محمد حسن ثروت، أستاذ الفيزياء والبصريات الكمية بجامعة أريزونا، أحد الأسماء البارزة فى الأوساط العلمية الدولية، حيث انطلق من مصر ليصبح نموذجًا عالميًا فى مجاله، متميزًا بقدرته على إجراء أبحاث غير المسبوقة باستخدام تقنيات الأتو ثانية، وهى تقنية متناهية الدقة فى قياس الزمن، تُستخدم لدراسة الظواهر الذرية والجزيئية.
ويسعى الدكتور ثروت إلى توظيف أبحاثه فى تحسين حياة البشرية عبر تطوير تقنيات متقدمة تسهم فى اكتشاف أسرار الذرة وتسريع الابتكارات التكنولوجية، ويقول فى أحد لقاءاته: «الفيزياء ليست علمًا جامدًا بل هى وسيلة لفهم الكون بشكل أعمق وتحقيق تطورات تُحدث فارقًا ملموسًا فى حياتنا اليومية».
وبعد أن تلقى تعليمه الأساسى فى مصر، اختار ثروت التخصص فى الفيزياء واستكمل مسيرته الأكاديمية فى الخارج، حيث انضم إلى جامعة أريزونا عام ٢٠١٧، وخلال سنوات قليلة، أثبت كفاءته الأكاديمية، مما أدى إلى ترقيته فى عام ٢٠٢٣ إلى أستاذ مشارك.
ويعمل الدكتور ثروت على تطوير أنظمة تصوير فائقة السرعة تُستخدم لرصد حركة الإلكترونات داخل المواد، وبفضل ابتكاره لمجهر إلكترونى يعمل بدقة ٦٢٥ أتو ثانية، أصبح من الممكن متابعة التغيرات الجزيئية أثناء التفاعلات الكيميائية فى وقتٍ يكاد يقترب من اللحظة الآنية.
وأحد أهم تطبيقاته العلمية الحديثة تضمنت تصوير حركة الإلكترونات داخل مادة الجرافين، وهى مادة ثنائية الأبعاد تُعتبر أساسية فى تطوير الإلكترونيات المتقدمة، وهذه التقنيات تفتح آفاقًا جديدة فى مجالات الطب، والتصنيع، وتقنيات الاتصالات.
وحظيت أعمال الدكتور ثروت بتقدير عالمى واسع، حيث نال زمالة معهد ماكس بلانك المرموقة فى بداية مسيرته، ثم جائزة مؤسسة جوردون وبيتى مور عام ٢٠١٨ عن إسهاماته الرائدة فى العلوم البصرية، بالإضافة إلى جائزة الباحثين الشباب عام ٢٠١٩ كما حظيت أبحاثه بالنشر فى مجلات علمية.
ويمثل الدكتور ثروت مثالًا حيًا على قدرة العلم على تجاوز الحدود الجغرافية، ومسيرته العلمية تلهم الباحثين الشباب وتثبت أن المثابرة والابتكار يمكن أن يفتحا أبواب العالمية، مهما كانت البدايات متواضعة، وإنجازاته ليست مجرد أبحاث، بل إرث علمى يُسهم فى تشكيل مستقبل الفيزياء، واضعًا اسم مصر فى مقدمة الدول المنتجة للمعرفة العلمية.