لا شىء يوجع مثل عُمر مسروق، انسكب فى لهاث خائف نحو لا شىء. يبدو الإنسان العربى مُجبراً على الفرار من منفى إلى آخر بحثاً عن لحظات حياة حقيقية. تتبدد الصور، وتتطاير الشعارات، وتنكمش كل الكروش المنفوخة، أمام قيم الحياة والحضارة والجمال.
ما قدمت الانتصارات الورقية، ومراسم التمجيد، وما نفعت مُعلقات المديح سوى قائليها.
أقول لكم : ليس أجمل من نص حاضر، ساطع، مُبدد يُقبّح القُبح، ويحتفى بالحُسن، ويرد الصاع صاعين وثلاث وأربع، لكل طاغية مُستبد استعبد شعبه، وقهرهم. وهذا ما اعتدته، وأدمنته فى نصوص إنعام كجه جى، المبدعة العراقية الساهية، التى تكتب بمشرط، وترسم بسن إبرة، لمحات الحياة فى خارطة عربية استعمرها البطش وتمدد فيها الخوف. فلعراق نموذج، والعراق مثال، والعراق درس لكل بلد عربى فتته الاستبداد السياسى، ونهشه الحكم الديكتاتورى، وشوه أرواح ناسه.
«صيف سويسرى» رواية جديدة لإنعام كجه جى، تضىء لنا ذاكرة الطغيان لنعرف ما فعله زمن صدام بالعراق، والعراقيين، تحت شعارات البعث. رجل أمن ُمتقاعد، هارب من ماضى موجع، أجبره فيه الحزب على قتل صديقه تحت ذريعة اعدام الخونة. مارس البطش والقهر والتلصص ضد كُل مَن يتشكك الحزب فى اخلاصه للزعيم المفدى، لكن قلبه رق لفتاة حالمة كان لها رأى، فنالت جزاءها عداء السُلطة. أحب الجلاد ضحيته، وأنقذها دون أن تدرى مرات ومرات، حتى نجت من بلد يستمرئ قهر الناس لأن حُكامه لا يؤمنون بالحرية، فطار خلفها كأنها خلاصه الوحيد من عذاب الضمير. هناك فى سويسرا يلتقى الفرقاء، الأغيار، المحسوبون على كُل حزب أو طرف من أطراف الوطن، ليخصعوا لتجربة عقاقير التسامح.
رجل الأمن مع ضحيته، والإسلامى مع الملحد، والداعى للخير، مع مُدمن الخمر. الوان وأطياف مختلفة تتعلم التسامح من أجل البقاء، تنفض ثاراتها وقناعاتها المسبقة، لتجتمع معا فى إطار من الحب الجبرى.
يبدو النص منصة رسائل منبعثة تزدرى الاستبداد، وتُخرج الألسنة لقاهرى الشعوب فى كل حين. تنساب اللغة الموحية الرصينة وهى تُبلِّغنا فى بساطة أننا «فى بلادنا نرث الدين من السلالة. نتلقى بصمته على شهادة الميلاد. أبوك مسلمـ أنت سملم. أبوك صابئى، أنت صابئى. مسيحى، أنت مسيحى.تكبر داخل سجنك المهيأ لك منق بل ان تكون نطفة، وترفقك قضبانه حتى النفس الأخير. جاءت العقائد السياسية فصارت دينا ثانيا لا حياء فيه. أبوك شيوعى، أبوك بعثى. المشكلة أن يأتى أحدهم فى بيت يتفادى السياسة.. يمشى أفراده جنب الحائط. يكبر على الهامس والكل يطارده».
وتُحدثنا الرواية عن نورى السعيد، وعبد الكريم قاسم، وصدام حسين والقاضى المهداوى فتقول « كلهم صاروا تحت التراب. تمدد رمادهم فى الرياح الأربع. ذاكرة عنود تستخرجهم من لحودهم، وتلملم غبارهم. تسحب كراسى الحكم من تحت مؤخراتهم، وتجلسهم على مقاعد المقهى. من مات منهم خلف ألفا مثله. لا مهرب بعد الحريق من تداخل الأزمنة».
وتختتم إنعام نصها الفريد بعبارة ساحرة تقول فيها وهى تصف المشهد «تركض دول إلى الأمام، وتحبو دول. تتأخر وتتناحر وتستنجد بالغيب. ماضيها فخ لمستقبلها. جماعات إرهابية، ومافيات وأحزاب جديدة أخطر من القديمة».
وكأنها تُفسر أحوال التردى العربى الآنى. والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصطفى عبيد الإنسان العربى
إقرأ أيضاً:
وزير خارجية لوكسمبورج: التسامح لدى مصر يجعلها منصة للحلول
قال وزير خارجية لوكسمبورج يان أسلبورن، إنّ لديه شغفا كبيرا بالدولة المصرية التي تضم تاريخا عريقا وتقاليد وثقافات مختلفة، موضحا أنّه يحمل كل الاحترام لمصر؛ كونها تحتوي على موقع جغرافي مميز وبسبب التسامح الذي تحمله تجاه الآخرين، ما يجعلها منصة للوصول إلى حلول.
وأضاف «أسبلورن»، خلال مؤتمر صحفي مع الدكتور بدر عبدالعاطي وزير الخارجية المصري، نقلته قناة «القاهرة الإخبارية»، أنّه فيما يتعلق بالعلاقات الثنائية لديه رغبة في زيارة مصر مرة أخرى؛ من أجل مناقشة قضايا متعلقة باللوجستيات والنقل والاستثمار من قبل مستثمرين في لوكسمبورج.
وتابع: «بالحديث عن الوضع الدولي فإنه صعب للغاية اليوم، متمنيا استقرار الأوضاع قريبا، وأوجه الشكر لوزير الخارجية المصري الذي يعتبر أحد الزملاء الذين يقومون بتوصيل الأصوات التي لا يستطيع الناس سماعها مثل سكان قطاع غزة».