لا يستطيع مقال قصير كهذا أن يحيط بسيرة ياسر عرفات من الولادة حتى الشهادة، تلك مهمة صعبة حتى لو كُرِّست من أجلها فصول كتاب كامل. بل لعلي أذهب إلى أبعد من ذلك لأضيف بأن حكاية الرجل لم تكتب كاملة بعد، رغم العناوين الكثيرة للكتب والدراسات التي راودت اسمه دون أن تجمع جميع شوارده فـي أوراقها. وذلك هو ديدن ياسر عرفات، يواصله حتى فـي تاريخه المستمر بعد الموت كما كان معروفا فـي حياته؛ فما زال يتملص من قفص الراوي ليجعل كتابة الحكاية أكثر صعوبة أو شبه مستحيلة، وتشرد خطاه عن تنبؤات الآخرين، الأصدقاء قبل الأعداء، ليبقي خطوته الأخيرة سرا، ويقول كما كان يقول دائما: «أنا مش لحدا».

لم تكتب حكايته الكاملة لأن الحكاية لم تصل إلى نهايتها بعد، كما هي حكاية شعبه المفتوحة لكل المصاير والنبوءات حتى اللحظة، هكذا بكل ما فـي البساطة من تعقيد حين يختلط الخاص بالعام. وهو مَن أشرف بنفسه على صناعة هذا التداخل المركَّب، حين أصرَّ لنحو أربعين عاما على مزج سيرة الشخص فـي سيرة الجماعة، والعكس، بطريقة أبوية سَمحة أحيانا وسلطوية أحيانا، قرَّبته من قلوب الناس وأورثت الكثير الكثير من الأخطاء. لن تفهموني إلا بعد أن تفهموا شعبي، هكذا أراد أن يقول للعالم، أكتب حكايتهم وسيكتبون حكايتي. أراد أن يقول بأن حكايته الشخصية تتعذر على كتَّاب سيرته طالما أن حكاية شعبه لم تكتمل، وأن الفصل بينهما خطأ تاريخي. وهو بذلك يوصلنا إلى سؤال إلياس خوري فـي مقدمة كتابه الأخير عن النكبة: «كيف نقرأ كتابا ونحن نعلم أنه لمَّا يصل إلى نهايته بعد؟». فكيف نكتب سيرة ياسر عرفات قبل أن تنتهي قضيته؟!

لقَّبه الفلسطينيون بـ«الختيار». أعلنوه أبا لشعبٍ يتيم الأرض فما أشق أبوة الأيتام! لكن عرفات، المولع بالرمزيات، وجد فـي اللقب شرعية سياسية ترفعه على الأكتاف وتمنحه - عن ثقةٍ ورضى- صلاحيات كبير العائلة الذي ليس لأحد أن يسائله عن خطأ «تكتيكي» هنا أو هناك. كان يتباهى أمام الصحفـيين بقدرته على طيّ كوفـيته على شكل خريطة فلسطين فوق بذلة الكاكي العسكرية. ويتباهى أحيانا بكونه هو الآخر لاجئا لا يختلف حاله كثيرا عن حال سائر أبناء شعبه. متقشف بشهادة من عرفوه عن قرب، حاجاته كانت معدودة كحاجات أي مقاتلٍ عادي من مقاتلي الأغوار.

كان شديد الانتباه للتفاصيل، ميزةٌ قد تبدو غريبة بعض الشيء على رجل عُرفت حياته السياسية بالفوضى. لكنه كان يدوِّن كل شيء فـي دفتره الصغير، الأمر الذي جعل إيهود باراك يخاف من الانفراد به فـي كامب ديفـيد سنة 2000، كما قيل. حكى ممدوح النوفل بأن الختيار ظل يستهلك يوميا قلم حبر كامل فـي توقيع الأوراق وكتابة مذكراته وملاحظاته قبل النوم، وكان يفتخر بذلك. كل تلك المعاني والرمزيات كانت كنز أبي عمَّار وخلاصة أيقونته فـي وجدان الناس، وكان يعي ذلك. كان يعي أهمية الصورة وخطورتها فـي الذاكرة الجمعية، خاصة وقد أدرك أنه بات رمزا لوطنٍ رمزي بلا دولة.

عُرف أبو عمَّار بميله الدائم للتواصل. وللمرء أن يعجب كيف ومتى تسنى لزعيم مثله أن يوزع كل تلك الذكريات الشخصية الصغيرة على الآلاف وربما الملايين من أبناء شعبه؟! تسألُ عنه فلسطينيين وفلسطينيات من مختلف الشرائح فـيتذكرون ويَتذكَّرن قبلة أو عناقا أو كلمة أو موقفا عابرا. ولم تكن العزلة والحصار إلا عقابا نهائيا فرضه عليه شارون بتواطؤ من الإدارة الأمريكية لتعطيل حيويته السياسية، تمهيدا لتصفـيته الجسدية.

فـي فن العلاقات وإدارة الخصومات السياسية كان لياسر عرفات أسلوبه الخاص الذي سرعان ما يتجلى عندما يتأزم الجو وتضيق الخيارات. و«العرفاتية» فـي الأزمات تعني أن يفتح جميع النوافذ للرياح وينتظر النتائج، دون أن يقفل الخط نهائيا مع أحد، مهما بلغت درجة الخصومة، فمن مصلحة القائد أن ينوّع باقة خياراته قبل أن يختار الذهاب إلى أقلها سوءا. غير أن كثيرين ممن تعاملوا معه وصفوا سلوكه السياسي بالبراغماتية المراوغة والماكرة التي لا تخلو من الانتهازية المنفّرة فـي بعض الأحيان. حسنا، وبصرف النظر عن مبعث تلك النوازع النفسية الدفـينة المرتبطة بالتكوين والطفولة غالبا، والتي من الأصلح تركها للمحللين النفسيين، لا بدَّ من القول إنصافا بأن تلك «التشوهات» قد ظهرت على السطح مع الوقت كنتاج لممارسة السياسة فـي بيئة سياسية عربية مشوهة أصلا، قائمة على العلاقات المؤذية والاستغلالية التي تدار بالشك والارتياب وغياب المصداقية، وخاصة فـي العلاقة مع الأنظمة العربية وقياداتها وما بينها من دسائس ومؤامرات.

منذ أن ترك الهندسة والتحق بالعمل السياسي وجد ياسر عرفات نفسه مع شعبه مطرودا من منفى إلى آخر. لقد كان مبدعا فـي فن التكتيك لا فـي الاستراتيجية، كما وصفه المناضل الأسير مروان البرغوثي. لذا حام على الوطن ودار على مدى عقود، وسقط رفاقه واحدا تلو الآخر فـي دورته تلك حول أرض الوطن المسيج بالأعداء، إلى أن وجد شقا صغيرا يدخل منه إلى فلسطين عقب توقيع اتفاقية أوسلو فـي 13 سبتمبر عام 1993. لم يكن ذلك ما تمناه حين أطلق شرارة الثورة عام 1965 على مرأى من عيون الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. لكنه عاد، عاد إلى شبر من فلسطين حيث سيبني دولته الممسوخة. وسرعان ما اكتشف فخ العودة فعاد إلى ثوريته منقلبا على أوسلو بإعلانه الانتفاضة الثانية من الداخل هذه المرة. قاد الانتفاضة وحمى نشطاءها فـي مقاطعته الضيقة التي حولتها الدبابات الإسرائيلية إلى أطلال. وصنع مشهده الأخير بعبارته الأخيرة على قناة الجزيرة: «شهيدا، شهيدا، شهيدا».

فـي الذكرى العشرين لرحيل ياسر عرفات: أتمنى أن يُنصفه التاريخ، وأن يرحمه قليلا من ألسنة وأقلام من يقرأون عبرة الأحداث والأيام بحسابات النتائج والأرقام وكأن التاريخ لديهم محض مسألة رياضية!

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: یاسر عرفات

إقرأ أيضاً:

تفسير حلم رؤية الميت يلبس ثوب أخضر في المنام.. بشارة لهذا الشخص

رؤية الميت في المنام قد تجعل الرائي في غاية السعادة، وفي بعض الأحيان تصيبه بالحزن والحيرة؛ لأنها عادةً ما تكون مليئة بالدلالات والرسائل التي تثير فضول صاحبها، وتعتبر هاجسًا كبيرًا ويسعى الرأي لتفسير رؤياه ليطمئن، وتعتمد رؤية الميت في المنام في تأويلها على حال الميت في المنام وهيئته.

قد يظهر المتوفى في أشكال عديدة في المنام، لكن صاحب المنام يبقى في حيرة وأول شيء يقوم به فور استيقاظه هي البحث عن تفسير لدلالة ما رآه فلعلها تكون بشارة خير ويطمئن على حالة المتوفى، ومن بين تلك الرؤى؛ رؤية الميت يلبس ثوب أخضر، فما تفسير ابن سيرين؟

تفسير حلم رؤية الميت 

فسر ابن سيرين في كتابة «تفسير الأحلام» أن رؤيا الميت في المنام حسب حالته إذا كان الميت ضاحكًا مستبشرًا، فالرؤيا تدل على حسن مقامه في الآخرة ويريد أن يُطمئن صاحب الرؤيا عليه، لكن إذا كان الضحك بصوت مرتفع، فالرؤيا غير جيدة، ورؤيا الميت عبوس أو حزين تدل على عدم راحته في الآخرة، وكأنه يريد أن يطلب من الرائي أن يساعده بالدعاء وإخراج صدقة.

وجاء في تفسير ابن سيرين، أنه في حال كان الميت سعيد بجلوسه مع الحالم؛ فهناك بشرى سارة مقبلة للحالم عن قريب، أما إن كان الميت بائسًا ويشعر بالغضب؛ فهذا يؤول بارتكاب الحالم بعض الذنوب التي تجعله من المغضوب عليهم، لذا عليه التوبة في أقرب وقت حتى يرضى عنه ربه ويفرج عنه كربه ويعطيه ما يتمنى، وكلام الميت وحديثه مع الحالم بشدة وحزم تنبيه مهم على ضرورة التقرب من رب العالمين وترك ملذات الحياة الزائلة التي لا تقود سوى للهلاك.

تفسير حلم رؤية الميت يلبس ثوب أخضر في المنام

الأخضر من أكثر الألوان التي تريح القلب، ورؤية الميت بصورة عامة في المنام يرتدي ملابس جديدة ونظيفة تدل أن الميت في منزله عالية عند الله سبحانه وتعالى، وأنه قد غفر له ذنوبه وأنه مسرور وسعيد وهي من الرؤى التي تعتبر مطمئنه على المتوفى، والتي تبشر بأن الميت في مكانة جيدة عند الله وأنه كان من العباد الصالحين.

ورؤية الميت في المنام يرتدي اللون الأخضر، بحسب ابن سيرين تشير إلى أنه في منزلة الشهداء ومكانته عالية وأنه سيكون من المغفور لهم في الآخرة وسينال الخير والرحمة هو وأقاربه، كما أنه إذا رأى الميت يلبس ثوبا أخضر أو يقف وسط خضرة أو أشجار خضراء فيدل ذلك على أنه سيتقرب إلى الله أكثر أو يحمل علمًا رفيعًا.

مقالات مشابهة

  • «لو معندكش خبرة سابقة».. 4 طرق للحصول على وظيفة جديدة بسهولة
  • الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تحيي الذكرى الرابعة والعشرين لرحيل الأنبا أثناسيوس
  • روسيا تعلن إسقاط 34 مُسيرة أوكرانية في هجمات ليلية
  • أسباب وأعراض اضطراب الشخصية النرجسية.. كيف تتعامل معها؟
  • صدر حديثًا كتاب سيرة الأزبكية للدكتور وائل إبراهيم الدسوقي
  • استشاري الروماتيزم : عند جود ألم مصاحب لـ طقطقة المفاصل لا بد من مراجعة الطبيب.. فيديو
  • تفسير حلم رؤية الميت يلبس ثوب أخضر في المنام.. بشارة لهذا الشخص
  • ما هو النذر؟ وما هي أنواعه؟
  • الصمود نصر