بروفيسور: حسن بشير محمد نور
الإصلاح النقدي هو عملية حيوية تهدف إلى تعزيز الاستقرار الاقتصادي عبر مجموعة من التدابير المالية والسياسات النقدية. ويعد الإصلاح النقدي ضرورة خاصة في الدول التي تعاني من التضخم المفرط، تدهور قيمة العملة، وانخفاض القدرة الشرائية. ولكن تحقيق الإصلاح النقدي يتطلب توافر شروط اقتصادية ومالية محددة، من بينها استقرار الوضع السياسي، توفير احتياطيات كافية من النقد الأجنبي، وسيطرة الدولة على الموارد الاقتصادية.

ومن البديهي ان تغيير الفئات النقدية للوحدة النقدية (الجنيه مثلا) يتم ضمن حزم الاصلاح النقدي وليس كأجراء معزول.
اذن ما هي الشروط المالية والاقتصادية للإصلاح النقدي؟
تشمل تلك الشروط الآتي:
1. استقرار البيئة الاقتصادية والسياسية: لا يمكن تحقيق إصلاح نقدي فعال ومستدام في ظل عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي. تحتاج الدولة إلى مؤسسات قوية وقادرة على تنفيذ السياسات المالية المطلوبة.
2. السيطرة على التضخم: يعد التحكم في معدل التضخم أمرًا حاسمًا، حيث يؤدي التضخم المفرط إلى فقدان الثقة في العملة الوطنية وزيادة الطلب على العملات الأجنبية. بالتالي فان أي اجراءات نقدية مع معدلات التضخم المتصاعدة عديمة الفائدة ولن تزيد الامر الا سؤا.
3. التنويع الاقتصادي: يساعد تنويع مصادر الدخل القومي في تخفيف الضغط على العملة المحلية وتقليل الاعتماد على الاستيراد، وانتاج قيم اقتصادية مضافة يساهم في تعزيز قيمة العملة.
4. وجود احتياطيات نقدية كافية: لا بد من توافر احتياطيات من النقد الأجنبي لمواجهة أي ضغوط مالية ولضمان استقرار سعر الصرف.
5. تعزيز الإنتاج المحلي: دعم القطاعات الإنتاجية المحلية وتعبئة الموارد المحلية خاصة قطاعات الانتاج الحقيقي، يعزز من الإنتاجية ويقلل من الاعتماد على الواردات، ويساهم في تقوية العملة المحلية.
من جانب اخر يتطلب الإصلاح النقدي العديد من المعايير والمحددات التي تشمل:
معدل الفائدة او بدائلها في النظام المصرفي الاسلامي: يعتبر ضبط معدلات الفائدة إحدى الأدوات الهامة لتحقيق الاستقرار النقدي، حيث يؤدي تخفيض الفائدة إلى تحفيز الاقتراض والاستثمار، بينما يؤدي رفعها إلى السيطرة على التضخم. ويشار ايضا الي اليات الصيغ الاسلامية المستخدمة ومدي فاعليتها.
سعر الصرف: امكانية تحديد سعر صرف مستقر يعزز ثقة المستثمرين، ويؤدي إلى استقرار السوق المالي، اذ ان التغير المستمر في سعر الصرف يزعزع الثقة في النظام المصرفي والتمويلي.
تحقيق معدلات منتظمة للنمو الاقتصادي: أي إصلاح نقدي يتطلب تحقيق نمو اقتصادي إيجابي منتظم، مما يساهم في خلق فرص عمل وتقليل معدلات الفقر والبطالة.

بالاشارة لما اوردنا اعلاه توجد العديد من العقبات أمام الإصلاح النقدي في ظل الخلل الاقتصادي الهيكلي وخاصة في ظل ظروف الحرب الجارية في السودان.
في حالة الدول التي تعاني من الحروب وعدم الاستقرار، تصبح عملية الإصلاح النقدي أكثر تعقيدًا نتيجة للعقبات التالية:
1. ضعف المؤسسات المالية: تفتقر الدول المتأثرة بالحروب مثل السودان إلى مؤسسات مالية قوية وفعالة. وقد رأينا امثلة لذلك فيما دار حول تبعية بنك السودان المركزي، الموازنة العامة وديوان الضرائب واخيرا تغيير بعض فئات العملة.
2. التدهور الهيكلي للاقتصاد: في زمن الحرب، تتعرض البنى التحتية إلى تدمير واسع، مما يؤثر على القطاعات الإنتاجية ويزيد من الاعتماد على الواردات والسودان مثال ساطع لذلك.
3. انخفاض الإيرادات الحكومية: ينعكس التراجع في الإيرادات على قدرة الدولة على تمويل الإصلاحات الضرورية، بما فيها الإصلاحات النقدية او حتي تحمل تكلفة طباعة فئات نقدية جديدة عديمة الجدوى.
4. التضخم وانخفاض قيمة العملة: تعاني الدول التي في حالة حرب مثل السودان من التضخم المفرط بسبب ارتفاع الطلب على السلع الأساسية وتراجع قيمة العملة، مما يزيد من صعوبة تطبيق الإصلاح النقدي.
من هنا تأتي خطورة طباعة عملة جديدة أثناء الحرب
من المؤكد ان طباعة عملة جديدة، خاصة بفئات نقدية كبيرة مثل فئة خمسمائة والف جنيه سوداني، خلال زمن الحرب يعد خطوة محفوفة بالمخاطر. فالإقدام على طباعة عملة دون تغطية مالية كافية يؤدي إلى التضخم الجامح، ويؤدي إلى تراجع قيمة العملة بشكل سريع، ما قد يفاقم الأزمة الاقتصادية الحادة اصلا. وتؤدي هذه الإجراءات إلى زيادة الكتلة النقدية في الاقتصاد دون دعم حقيقي من الإنتاج أو التصدير، ما يعزز من فوضى السوق النقدي ويزيد الطلب على العملات الأجنبية.
يضاف لذلك الخطورة السياسية التي تؤدي لعزل مناطق واسعة من البلاد من تداول الفئات الجديدة، كونها تقع تحت سيطرة الدعم السريع اضافة لعدم وجود مصارف عاملة في تلك المناطق. ومن البديهي ان ملايين السودانيين يعيشون تحت سيطرة مليشيا الدعم السريع، لكنهم يستخدمون تطبيقات مصرفية سيلحق بها الضرر نتيجة لصعوبة السحب والايداع بين الفئات القديمة والجديدة.

الحالة الراهنة للإصلاح النقدي في السودان
يمر السودان حاليًا بأزمة سياسية واقتصادية حادة بسبب النزاعات الداخلية وتوزيع السيطرة بين الجيش السوداني، وقوات الدعم السريع، وفصائل مسلحة أخرى. ويعاني الاقتصاد السوداني من تدهور كبير نتيجة لهذه الانقسامات، الأمر الذي يجعل أي إصلاح نقدي في الوضع الراهن مستحيلا وغير مجدٍ للأسباب التالية:
1. انقسام السلطة: يتسبب تقاسم السيطرة بين القوى المختلفة في إضعاف مؤسسات الدولة الاقتصادية، مما يجعل تطبيق أي إصلاحات نقدية أو مالية غير قابل للتنفيذ.
2. التضخم المفرط وتدهور قيمة العملة: يعاني السودان من تضخم مفرط بسبب التدهور الاقتصادي الحاد وانخفاض قيمة الجنيه السوداني، الأمر الذي يعيق إمكانية استقرار العملة.
3. تراجع الاستثمارات المحلية والخارجية: في ظل انعدام الأمن والاستقرار، تتراجع الاستثمارات، مما يضعف الاقتصاد السوداني ويزيد من العجز المالي للدولة.
4. عدم وجود احتياطيات نقدية كافية: يعاني السودان من نقص حاد في احتياطيات النقد الأجنبي، مما يجعل من الصعب دعم أي إصلاح نقدي ناجح او حتي استقرار نسبي في سعر الصرف.
بناءً على ما سبق، فإن الإصلاح النقدي يتطلب ظروفًا ملائمة من الناحية السياسية والاقتصادية، وهو أمر صعب التحقق في السودان، ان لم يكن مستحيلا في ظل الوضع الحالي من الحرب والانقسام السياسي. يظل السودان في حاجة ماسة إلى تحقيق الاستقرار السياسي والامني، الذي يتطلب في المقام الاول وقف الحرب كشرط اساسي لأي إصلاح اقتصادي، حيث إن أي محاولة للإصلاح النقدي في ظل هذه الظروف ستكون غير مجدية وقد تؤدي إلى تفاقم الأزمة المالية والاقتصادية، بدلا من تحقيق أي نتائج ايجابية يمكن ان تنعكس علي حياة الملايين الذين يكابدون شظف العيش ويخوضون معركة الامراض والاوبئة

mnhassanb8@gmail.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الإصلاح النقدی قیمة العملة فی السودان سعر الصرف أی إصلاح نقدی فی

إقرأ أيضاً:

الحرب في السودان .. خسائر بمليارات الدولارات

بعد عامين من الحرب في السودان، تبرز الخسائر البشرية والمادية التي ضربت مجالات الحياة وألقت بظلالها على الشعب ودفعت ملايين للنزوح من منطقة لأخرى أو مغادرة بلادهم. وتداعيات الحرب المستمرة التي اندلعت في منتصف أبريل 2023، في العاصمة الخرطوم تمددت في ولايات الجزيرة وسنار وشمال النيل الأبيض وجنوب النيل الأزرق، ثم تراجعت نحو ولايات شمال كردفان وغربها وجنوبها وإقليم دارفور. وتشير لجنة الإنقاذ الدولية إن عدد الضحايا جراء الحرب وصل إلى 150 ألف شخص، وهو رقم أعلى من الحصيلة المعلنة للأمم المتحدة التي تتراوح حول 20 ألف قتيل. وأصدرت كلية لندن للصحة العامة في نوفمبر الماضي تقرير عن وفاة أكثر من 61 ألف شخص في الخرطوم وحدها منذ بداية الصراع في السودان وحتى يونيو الماضي بزيادة بلغت نحو 50% عن معدل الوفيات قبل الحرب. ومن هؤلاء 26 ألف حالة وفاة نتيجة عنف مباشر متعلق بالحرب.

ووثّقت وزارة الصحة مقتل 12 ألف مدني وصلوا إلى مستشفيات البلاد، وهو ما يمثل 10% فقط من إجمالي عدد القتلى في الحرب وذكرت لجنة الإنقاذ الدولية إن عدد الضحايا جراء الحرب وصل إلى 150 ألف شخص، وهو رقم أعلى من الحصيلة المعلنة للأمم المتحدة التي تتراوح حول 20 ألف قتيل، وفي السياق قد اصدزت كلية لندن للصحة العامة في نوفمبر الماضي تقريرا كشف من خلالة عن وفاة أكثر من 61 ألف شخص في الخرطوم وحدها منذ بداية الصراع في السودان وحتى شهر يونيو الماضي بزيادة بلغت نحو 50% عن معدل الوفيات قبل الحرب. ومن هؤلاء 26 ألف حالة وفاة نتيجة عنف مباشر متعلق بالحرب.

وتذهب المنظمة الدولية للهجرة في تقرير لها، إن النزاع المسلح في البلاد أدى إلى نزوح أكثر من 11.3 مليون شخص، مؤكده تضاعف حالات النزوح داخليًا حيث أضطر 8.6 ملايين شخص إلى مغادرة منازلهم داخل السودان، في حين فر 3.9 ملايين آخرين غالبيتهم عبر الحدود إلى الدول المجاورة آخرهم بولايات إقليم دارفور.
وتوقع محمد رفعت، رئيس بعثة المنظمة الدولية للهجرة في السودان، في حديثه للصحفيين عودة نحو 2.1 مليون شخص إلى الخرطوم في الأشهر الستة المقبلة، ويمثل النازحون من الخرطوم 31% من الذين غادروا مناطقهم في ولايات البلاد. فيما أعلنت وزارة الصحة أن الخسائر التي تكبدها القطاع الصحي نتيجة الحرب وصلت إلى نحو 11 مليار دولار، فقد خرجت مايقارب نحو 250 مستشفى من أصل 750 مستشفى عن الخدمة بسبب الدمار الذي لحق بها، ونهب أجهزتها ومعداتها، مما حرم الملايين من الرعاية الصحية الأساسية، حيث أكد تقرير رسمي أن هناك 70% من المستشفيات والمراكز الصحية في ولايات الخرطوم ودارفور وكردفان، خرجت عن الخدمة، كما أدى القتال إلى خروج أكثر من 60% من الصيدليات والمخازن عن الخدمة، إما بالنهب أو التلف.

وفي مجال التعليم العالي، كشف تقرير رسمي أن نحو 120 جامعة وكلية حكومية وخاصة خصوصا في ولاية الخرطوم ينتسب إليها نحو نصف مليون طالب، خسرت بنيتها التحتية بصورة شبه كاملة. كما تعرضت 6 جامعات في الولايات للتخريب والتدمير منها 4 جامعات في دارفور.
أما في قطاع التعليم العام، فإن الحرب أخرجت أكثر من 17 مليون طفل من المدارس، وألقت بهم في مناطق النزوح واللجوء، ليضافوا إلى 6.9 ملايين طفل غادروا صفوف الدراسة قبل الحرب. قبل أن تستأنف المدارس نشاطها في الولايات الآمنة والتي أعاد الجيش السيطرة عليها في الخرطوم والجزيرة وسنار ومحليات في شمال كردفان والنيل الأبيض.
ويؤكد هنا خبير الأمم المتحدة المعني بحقوق الإنسان في السودان، رضوان نويصر في مقال سابق له إن الإحصائيات الدقيقة حول أعداد المفقودين في السودان لا تزال غير متوفرة، لتباين الأرقام بين المصادر المختلفة، بينما تقدّر المجموعة السودانية للدفاع عن الحقوق والحريات العدد بنحو 50 ألف مفقود، وثّقت منظمات حقوقية سودانية محلية ما لا يقل عن 3177 حالة، بينهم أكثر من 500 امرأة و300 طفل.

وبشأن العنف الجنسي، فقد كشفت وحدة مكافحة العنف ضد المرأة وهي جهة حكومية- عن تسجيل 1138 حالة اغتصاب في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع منذ اندلاع الحرب وحتى فبراير الماضي من بينها 193 حالة بحق طفلات قاصرات، كذلك في شهر مارس الماضي أفادت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف” بأنها وثقت 221 حالة اغتصاب ضد الأطفال منذ مطلع العام الماضي، منهم 4 أطفال يبلغون عامًا واحدًا.
ووفق لدراسة حديثة أعدتها الحكومة، فإن الدمار والخسائر التي تكبدها الاقتصاد السوداني جراء الحرب يُقدر بنحو 108 مليارات دولار، في وقت قدرت وزارة الزراعة والغابات خسائر القطاع الزراعي خلال عامي الحرب، بأكثر من 10 مليارات دولار. وتم تدمير ونهب الأصول الرأسمالية من معدات ميكانيكية وحركية وتخريب كل محطات البحوث الزراعية.

ويوضح تقرير رسمي أن الدمار بسبب الحرب، والتدمير الممنهج والنهب من قوات الدعم السريع طال 90% من القطاع الصناعي؛ إذ تضررت 3493 منشأة صناعية موزعة ما بين منشآت متوسطة وكبيرة بولاية الخرطوم، بجانب ولايتي جنوب كردفان والجزيرة، ويعمل بالقطاع أكثر من 250 ألف عامل، وتقدر خسائر القطاع بحوالي 30 مليار دولار.

كما تم تقدير خسائر البنى التحتية العامة في قطاع الطيران المدني التي تشمل الأضرار الجسيمة في المطارات والطائرات الرابضة، وتدمير آليات الإسناد الأرضي، وأبراج المراقبة، وصالات الركاب، ومخازن البضائع، بحوالي 3 مليارات دولار.

أما في قطاع الكهرباء والمياه، فقد تم تدمير ونهب محطات المياه في العاصمة والولايات، وتدمير عدد كبير من محطات توليد الكهرباء ومنشآت التحويل وأبراج الضغط العالي والمنخفض. وتقدر خسائر قطاع الكهرباء والمياه بنحو 10 مليارات دولار.

وبخصوص خسائر البنى التحتية العامة في قطاع الوزارات والمؤسسات تشمل إحراق وتدمير الوزارات والمصالح والمرافق الحكومية، والجسور والطرق فتقدر هذه الخسائر بنحو 10 مليارات دولار أيضًا.

أمدرمان: الهضيبي يس

الوان

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • من أين نبدأ؟ الحرب والخسائر وإعادة الإعمار في السودان
  • برلماني: التحول إلى الدعم النقدي يتطلب تعويضا ماليا يواكب التضخم
  • أردوغان: إسرائيل تسعى لتوسيع رقعة الحرب.. وتركيا ترفض تهديد استقرار سوريا
  • هل تجلب المسيرات السلام الى السودان؟
  • الإصلاح يقلب الطاولة: عرض مفاجئ لتقاسم السلطة مع الحوثيين
  • الحرب في السودان .. خسائر بمليارات الدولارات
  • مهنة غريبة أوجدتها الأوراق المالية التالفة بغزة
  • النائب كنعان اطلع رئيس الجمهورية على نتائج زيارته واشنطن: الإصلاح المالي لا يكتمل دون معالجة الفجوة المالية
  • برلماني: لقاء الرئيس السيسي والبرهان يعكس دور مصر المحوري في استقرار السودان
  • زرعة النواب تطالب بإعداد بيان بعقود البيع المتأخرة لدى هيئة الإصلاح الزراعي