الفساد النظامي- الرقابة وانفاذ القانون
تاريخ النشر: 16th, November 2024 GMT
د. عمر محجوب محمد الحسين
تشير التقارير الدولية إلى أن الإنفاق الحكومي يمثل ما نسبته 34% سنويا من الناتج المحلي الإجمالي، وهذه النسبة تمثل ثلث اقتصاد العالم. لذلك نجد أن خطر سوء إدارة الأموال العامة أو استغلال المؤسسات العامة لتحقيق مكاسب شخصية أو خاصة بفئة معينة مرتفع جدا، وهو أكثر وضوحا في البلدان التي تتسم بضعف المؤسسات العامة والهشاشة السياسية أو المعرضة للصراعات والتي تفتقر إلى المؤسسات الديمقراطية وفي ظل عدم وجود حكومة فعالـة وخاضعـة للمسـاءلة.
إن مكافحة الممارسات الفاسدة كنهج عقابي لمحاربة الفساد، من خلال التحقيق والملاحقة القضائية وفرض العقوبات على الأفراد الفاسدين على الرغم من نجاحه في بعض الأحيان، لكنه يعتمد إلى حد كبير على سيادة القانون والنظم العدلية والمؤسسات الديمقراطية والتشريعية التي تعمل بصورة جيدة والأجهزة الإعلامية، والتي تشكل عادة جزءاً من نفس النظام. إن معادلة "الفساد النظامي" واضحة. وتُظهِر التجربة أنه في السعي إلى معالجة سوء إدارة الأموال العامة، ينبغي أن يُستكمل النهج العقابي بالتزام سياسي ومؤسسي بتغيير الأنظمة والمواقف الأساسية.
إن دور ديوان المراجع العام في التعامل مع الفساد ــ والذي يُفهَم إلى حد كبير باعتباره وظيفة المساءلة الحكومية والشفافية من خلال الرقابة على الأداء المالي لكافة الأجهزة الخاضعة للمراجعة، بما في ذلك تحصيل الإيرادات والإنفاق وفقاً للموازنات المعتمدة، قادر على تعزيز جهود مكافحة الفساد. وفي حين تعتمد المساءلة والشفافية الحكومية إلى حد كبير على العمليات والأطر النظامية التي تتبناها المؤسسات العامة من خلال تحسين العمليات والأنظمة المستخدمة لإدارة المال العام، والحد من السلطة التقديرية مع تعزيز المساءلة والشفافية والرقابة من قِبَل المواطنين ومن السلطات التشريعية والرقابة البرلمانية؛ يمكن لأطر إدارة المال العام أن تقلل من نقاط الضعف المؤسسية، وتحد من فرص السلوك الفاسد، وإساءة استخدام الأموال العامة.
إن تعزيز دور ديوان المراجع العام كجهة رقابية من شأنه أن ينبه القطاع العام بأكمله، ومن الممكن أن يشجع دوره تعميم تدابير مثل تعزيز الضوابط الداخلية والضمانات، وآليات المساءلة والرقابة الداخلية، والتدقيق الاجتماعي على تغيير سلوك الافراد الفاسدين بصورة واسعة. من الأهمية بمكان أن يركز نهج إدارة مالية الدولة العامة على جانبي العرض والطلب في الحوكمة: على جانب العرض، من خلال تعزيز دور ديوان المراجع العام وعملياته وأنظمته؛ وعلى جانب الطلب، من خلال تعزيز قدرة المجتمع المدني على المشاركة وممارسة الرقابة الفعالة.
لن يستطيع ديوان المراجع العام بدور كشف الفساد والوقاية منه، لكن من خلال شراكته مع وكالات أو هيئات للرقابة والشفافية يمكن تنفيذ برامج لمراقبة إدارة الأموال العامة. وذلك من طريق الوقاية، من خلال توحيد وتحسين وأتمتة العمليات المتعلقة بالتخطيط الوطني وصياغة الميزانية وتنفيذها والمشتريات العامة وجمع الضرائب وإدارة الجمارك، ومن خلال تعزيز هذه الأنظمة، يمكن للحكومات الحد من فرص الفساد وتخفيف المخاطر والحد من نقاط الضعف. ومن طريق الكشف، الوكالات أو الهيئات التي ذكرناها يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في الكشف عن المخالفات في إدارة الأموال العامة من خلال آليات مثل التدقيق الداخلي والخارجي، وتتبع الإنفاق، وأنظمة الرايات الحمراء "تعبير يستخدم للدلالة على العديد من إشارات التنبيه والتحذير الصريحة والضمنية"، والرقابة الخارجية من قبل مؤسسات التدقيق العليا والمجتمع المدني. إن التقنيات الجديدة التي تساعد في أتمتة عمليات الرقابة ورقمنتها تعمل على إحداث ثورة في وظائف التدقيق، مما يؤدي إلى تدقيق المعاملات المستمر في الوقت الفعلي بموثوقية تتجاوز ممارسات التدقيق اليدوي التقليدية. يمكن للمواطنين أيضاً ممارسة الرقابة الفعالة، مثل مراقبة عقود البنية التحتية الحكومية الكبيرة من خلال التدقيق الاجتماعي والصحافة والإعلام، مما يساعد في الكشف عن الفساد والحد منه. ومن طريق الردع، إن تعزيز الضمانات والضوابط الداخلية في إدارة الأموال العامة مع تعزيز الشفافية المالية والرقابة من جانب المواطنين من شأنه أن يساعد في ردع السلوك غير الأخلاقي من خلال زيادة مخاطر الكشف. ومن طريق تغيير السلوك، إن آليات الوقاية والكشف والردع تشجع أنماطاً جديدة من السلوك بين المسؤولين الحكوميين والمواطنين من خلال زيادة إدراك حجم المخاطر، وتشجيع التعاون لكشف الفساد والمفسدين، وتحسين الضوابط الموجهة نحو السلوك غير الأخلاقي. كما تساهم برامج إدارة المالية العامة وجهود تعزيز الأنظمة في تغيير السلوك ويمكنها ضمان النزاهة بشكل أكبر من خلال تعزيز الاحترافية في وظائف إدارة المالية العامة وتعزيز المعايير الأخلاقية، بما في ذلك الشفافية والمساءلة. بالإضافة إلى مجموعة من الممارسات التي تستخدم أساليب استباقية بدلاً من أساليب عقابية، وتضع تعزيز الحوكمة وبرامج مكافحة الفساد كجهود متبادلة ومعززة لعملية مكافحة الفساد. من خلال استراتيجيات مكافحة الفساد ينبغي أن يكون مسار عمل الإدارات المالية العامة، بما في ذلك إدارة الميزانية، والمشتريات الحكومية، وعمليات الخزانة والمحاسبة، والتدقيق الداخلي والخارجي، وإدارة الضرائب، والبيانات المفتوحة، والابتكار التكنولوجي محورياً في أي استراتيجية لمكافحة الفساد.
omarmahjoub@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: إدارة الأموال العامة مکافحة الفساد من خلال تعزیز من طریق
إقرأ أيضاً:
اللغة التي يفهمها ترامب
ما اللغة التى يفهمها الرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب، وكذلك رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو؟!
الأول يفهم لغة المصالح، والثانى يفهم لغة القوة، والاثنان لا يفهمان بالمرة لغة القانون الدولى وحقوق الإنسان والمحاكم الدولية وقرارات الشرعية الدولية.
هل معنى ذلك أن الرؤساء الأمريكيين، وكذلك رؤساء الوزراء الإسرائيليون السابقون كانوا ملائكة ويقدسون لغة القانون والشرعية الدولية؟!
الإجابة هى لا. جميعهم يفهمون ويعرفون لغة القوة والمصالح، لكن تعبيرهم عن ذلك كان مختلفا وبدرجات متفاوتة، وكانوا دائمًا قادرين على تغليف القوة الخشنة بلمسات ناعمة وقفازات حريرية ملساء والقتل والتدمير بعيدًا عن كاميرات وعيون الإعلام. والدليل أن المذابح والمجازر الإسرائيلية مستمرة منذ عام 1948 حتى الآن، وخير مثال لذلك كان رئيس الوزراء الأسبق شيمون بيريز.
نعود إلى ترامب ونقول إنه يصف نفسه أحيانًا بأنه مجنون ومن يعرفه يقول عنه إنه يصعب التنبؤ بأفعاله، وأنه لا ينطلق من قواعد معروفة. هو لا يؤمن بفكرة المؤسسات، والدليل أنه همش حزبه الجمهورى، وهمش وسائل الإعلام وتحداها. كما يزدرى المؤسسات الدولية، بل إنه ينظر مثلًا إلى حلف شمال الأطلنطى باعتباره شركة مساهمة ينبغى أن تعود بالعوائد والأرباح باعتبار أن الولايات المتحدة هى أكبر مساهم فى هذه الشركة أو الحلف.
تقييم ترامب لقادة العالم يتوقف على قوتهم وجرأتهم وليس على التزامهم بالأخلاق والقيم والقوانين.
حينما علق على خبر قيام إيران برد الهجوم الإسرائيلى، نصح إسرائيل بتدمير المنشآت النووية الإيرانية، وقبل فوزه بالانتخابات الأخيرة نصح نتنياهو أن ينهى المهمة فى غزة ولبنان بأسرع وقت قبل أن يدخل البيت الأبيض رسميًا فى 20 يناير المقبل.
وإضافة إلى القوة، فإن المبدأ الأساسى الذى يحكم نظرة وقيم ومبادئ ترامب هو المصلحة. ورغم أنه يمثل قمة التيار الشعبوى فى أمريكا، والبعض يعتبره زعيم التيار المحافظ أو اليمين المتطرف، فلم يعرف عنه كثيرًا تعصبه للدين أو للمبادئ. هو يتعصب أكثر للمصالح. وباعتباره قطبًا وتاجر عقارات كبير، فإن جوهر عمله هو إنجاز الصفقات.
وانطلاقًا من هذا الفهم فإنه من العبث حينما يجلس أى مسئول فلسطينى أو عربى مع ترامب أن يحدثه عن قرارات الشرعية الدولية أو الحقوق أو القانون الدولى. هو يعرف قانون المصلحة أو القوة أو الأمر الواقع.
ويحكى أن وزير الخارجية الأسبق والأشهر هنرى كسينجر نصح وزيرة الخارجية الأسبق مادلين أولبرايت قبل أن تلتقى الرئيس السورى الأسد، وقال لها: «إذا حدثك الأسد عن الحقوق والشرعية قولى له نحن أمة قامت على اغتصاب حقوق الآخرين أصحاب الأرض، وهم الهنود الحمر، وبلدنا تاريخها لا يزيد على 500 سنة، وبالتالى نؤمن بالواقع والقوة وليس القانون».
هذا هو نفس الفكر الذى يؤمن به ترامب، لكن بصورة خشنة وفظة. هو يتعامل مع أى قضية من زاوية هل ستحقق له منافع وأرباح أم لا.
وربما انطلاقًا من هذا المبدأ يمكن للدول العربية الكبرى أن تقدم له لغة تنطلق من هذا المبدأ. بالطبع هناك أهمية كبرى للحقوق وللشرعية وللقرارات الدولية والقانون الإنسانى، ومن المهم التأكيد عليها دائمًا، لكن وإضافة إليها ينبغى التعامل مع ترامب باللغة التى يفهمها. أتخيل أن اللجنة الوزارية المنبثقة عن القمة العربية الإسلامية يمكنها أن تتفاوض مع ترامب بمجرد بدء عمله فى البيت الأبيض. بمنطق أنه إذا تمكن من وقف العدوان الإسرائيلى على فلسطين ولبنان فسوف تحصل بلاده على منافع مادية محددة، أما إذا أصرت على موقفها المنحاز?فسوف تخسر كذا وكذا.
بالطبع هذا المنهج يتطلب وجود حد أدنى من المواقف العربية الموحدة، ولا أعرف يقينًا هل هذا متاح أم لا، وهل هناك إرادة عربية يمكنها أن تتحدث مع الولايات المتحدة وإسرائيل بهذا المنطق الوحيد الذى يفهمونه أم لا؟
الإجابة سوف نعلمها حتمًا فى الفترة من الآن حتى 20 يناير موعد دخول ترامب إلى البيت الأبيض
خصوصًا أن تعيينات ترامب المبدئية كلها لشخصيات صهيونية حتى النخاع، وهى إشارة غير مبشرة بالمرة.
أما عن نتنياهو فكما قلنا فهو لا يفهم إلا لغة القوة. وقوته وقوة جيشة وبلاده مستمدة أولًا وثانيًا وثالثًا وعاشرًا من قوة الولايات المتحدة، وبالتالى سنعود مرة أخرى إلى أن العرب والفلسطينيين يقاتلون أمريكا فعليًا وليس إسرائىل فقط.
(الشروق المصرية)