من يريد أن يكون الأدنى؟ ملامح التهميش والتفكك في السودان
تاريخ النشر: 16th, November 2024 GMT
**تقديم**
*هذه محاولة مختصرة جدًا لتفكيك ملامح الأزمة السودانية عبر تتبع مساراتها السياسية والاجتماعية والثقافية، وعرض كيف أدى التهميش والانقسامات وهيمنة حكم الجيش إلى واقع معقد يتطلب إعادة نظر جذرية.
*السودان بلد ذو تاريخ معقد ومؤلم، مليء بالمآسي التي تعكس التفرقة الاجتماعية والعرقية والتهميش السياسي.
**الفصل الأول: انفصال الجنوب… رحلة الألم والتهميش**
*بالرغم من “الألفة والمحبة” التي جمعت السودانيين، اختارت الأغلبية من أبناء وبنات جنوب السودان التصويت للانفصال عام 2011. هذا القرار لم يكن مفاجئًا، بالنظر إلى الحروب القاسية والنضال الشرس الذي خاضه الجنوبيون منذ إعلان الاستقلال عام 1956.
فقد تعرضت مناطق الجنوب للدمار والقصف المستمر:
• مات الأطفال في أرحام الأمهات.
• اغتُصبت النساء.
• أُحرقت البيوت والمدارس والكنائس بالكامل.
• قصف الطيران الحكومي أراضي الجنوب بلا هوادة.
*في البداية، قصف طيران قائد الجيش حسن بشير نصر المزارع والغابات وحتى الحيوانات البرية.
*انفصل الجنوب لأنه لم يجد مكانًا له في السودان الموحد الذي كان يحلم به، في ظل سياسات التهميش والاستعلاء التي عمقت الجراح.
**الفصل الثاني: الانقلابات… دائرة لا تنتهي**
*منذ أن سلم رئيس الوزراء عبدالله خليل مفاتيح البرلمان لقائد الجيش إبراهيم عبود عام 1958، دخل السودان في دوامة من الانقلابات العسكرية.
*في 1964، تنفس الشعب الصعداء مع ثورة أكتوبر، معبرًا عن آماله في الحرية والخلاص. *حينها أنشد الشاعر هاشم صديق:
“*والنور في الآخر طل الدار
*والعزة اتهادت للأحرار…
*شهرنا سيوف عصياننا المدني
*وكانت وحدة صف يا وطني.”
*وردد الشعب وراءه :
"يا اكتوبر انحنا العشنا ليالي زمان
*في قيود و مظالم و قيد وهوان
*حلفنا نسير ما نضوق الراحة
*شهرنا سيوف عصيانا المدني
*وكانت وحدة صف ياوطني
*هزمنا الليل
*والنور في الآخر طل الدار
*و العزة اتهادت للاحرار"
*لكن هذه الآمال سرعان ما تبددت، وتوالت الانقلابات العسكرية تحت ذرائع مختلفة، أبرزها البحث عن حل لمشكلة الجنوب.
** و انفصل الجنوب!:
*يا هاشم صديق عليك الرحمة ماتت القرنتية
*لكن يا بختها بتها رجعت للسوباط
*حيث الكتوف متلاحقةً لا اعلي و لا ادني !
*كان انفصال الجنوب لاحقًا تتويجًا لهذه الأزمات، خاصة بعد صعود نظام الكيزان الذي أراد سودانًا إسلاميًا عربيًا مغلقًا.
**الفصل الثالث: مأساة دارفور والغرب**
*لم تقتصر المعاناة على الجنوب، بل امتدت إلى دارفور والغرب، حيث واجه سكان هذه المناطق تهميشًا مضاعفًا وصراعات دامية:
• تعرضت القرى والمزارع للقصف والتدمير الكامل.
• اغتُصبت النساء بالآلاف وسط صمت دولي ومحلي.
• شُرد الأطفال، ودُمرت البنى التحتية بالكامل.
*استُخدمت المليشيات مثل الجنجويد و كتايب النظام العام و البرآء وقوات الأمن المؤدلجة كأداة لتدمير المجتمعات المحلية، وبلغت المأساة ذروتها خلال حكم عمر البشير الذي صرح بشكل صادم بان “**اغتصاب الغرباوية شرف عظيم لها **”.
*في الحقيقة تم اغتصاب الاف الغرباويات بينما سمار الخرطوم والعاصمة المثلثة في صخبهم و هجيجهم و مدائحهم . و بينما الصفوة الأثرياء من الحركة الإسلامية يفترشون سجاجيد المساجد الفاخرة ياكلون الكيك و المعجنات و يشربون العصاير و ينكحونً في قصورهم ما طاب لهم مثني و ثلاث و رباع!
*رغم هذه المعاناة، استمر سكان دارفور والغرب في مقاومة التهميش، مما يجعلهم رمزًا للنضال ضد الظلم والاستبداد.
**الفصل الرابع: تهجير النوبيين… المثال الدائم للتهميش**
*النوبيون، أحفاد كوش وتهارقا وأماني ريناس، يمثلون أحد أقدم الشعوب السودانية وأكثرها تجذرًا في التاريخ. ومع ذلك، عانوا على مر العقود من سياسات إقصائية تمثلت في الإغراق والتهجير القسري، بدءًا من بناء سد أسوان في أوائل القرن العشرين وحتى سد مروي.
*هذه السياسات أدت إلى:
• إغراق أراضيهم التاريخية: طُمست مواقع أثرية كانت شاهدة على حضارتهم الممتدة لآلاف السنين.
• تهجيرهم القسري: تم نقل النوبيين إلى مناطق جافة وغير مأهولة، بعيدة عن النيل الذي كان شريان حياتهم.
• تفتيت مجتمعهم: تسبب التهجير في ضياع الهوية الثقافية وضياع التقاليد التي كانت تربطهم بأرضهم.
*التهجير لم يكن مجرد نتيجة لمشاريع تنموية، بل عكس سياسة ممنهجة لتهميش الثقافات الأصيلة. وبرغم كل هذه المآسي، لا يزال النوبيون يحتفظون بذاكرة جماعية قوية، ونضالهم المستمر يذكّرنا بضرورة الاعتراف بالتنوع الثقافي وبناء سودان يعكس هوياته المتعددة.
**الساقية لسة مدورة: الحلقة المفرغة للصراعات**
*رغم إسقاط نظام “الكيزان” عام 2019، لم تتوقف المآسي. استمرت الصراعات الداخلية، وازداد التدخل الأجنبي الطامع في موارد السودان، من الذهب إلى الأراضي الخصبة، مما زاد من تعقيد المشهد.
**كسرة: إشارات من التاريخ والشعر**
*رصد للأحداث والسياق التاريخي:
• كل البشرية تعود لأم إفريقية: كشفت الدراسات العلمية أن أصول البشرية تعود إلى أم إفريقية أطلق عليها العلماء اسم “حواء الميتوكوندريا”.
• السودان، إفريقيا المصغرة: يعكس السودان بتنوعه العرقي والثقافي مشكلات وتناقضات إفريقيا ككل، حيث التنوع نعمة ولعنة في آن واحد.
• المجموعات النيلية: مثل الدينكا، الشلك، والنوير، لعبت دورًا مهمًا في تشكيل تاريخ السودان منذ العصر الحجري الحديث.
• صلات القربى الجينية: كشفت الدراسات عن روابط جينية بين النوبيين والفور والزغاوة، وحتى بين سكان شمال السودان وسكان شرق إفريقيا مثل إثيوبيا، مما يدل على وحدة الجذور رغم الانقسامات السياسية والعرقية.
• “الغرابة”: مصطلح تاريخي يشير إلى سكان غرب السودان، تحول مع الزمن إلى أداة سياسية لتغذية التفرقة العرقية.
• الجلابة: وصف أُطلق على النخبة الشمالية التي سيطرت على الثروات والفرص، مما أدى إلى تعميق الفجوة بين المركز والهامش.
*من كلمات محمد الفيتوري:
“*الأعظم من قدر الإنسان هو الإنسان.
*أدنى من فينا قد يعلونا يا ياقوت،
*فتكن الأدنى تكن الأعلى فينا.”
*رسالة الكسرة:
*هذه ليست مجرد إشارات تاريخية أو مقتطفات شعرية، بل هي تذكير بأن السودان يحمل في داخله إرثًا عظيمًا يمكن أن يكون أساسًا لمستقبل أكثر عدالة.
**الخاتمة: هل يمكن أن نتعلم؟**
*قال رسول الله ﷺ:
“ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر، إلا بالتقوى.”
*السودان، هذا البلد الغني بتنوعه الثقافي والتاريخي، يحتاج إلى إعادة بناء نفسه على أسس العدالة والمساواة.
*فهل يمكننا أن نتعلم من الماضي؟ وهل نستطيع تحويل هذا التنوع إلى مصدر قوة بدلًا من أن يكون سببًا للصراع؟
د. أحمد التجاني سيد أحمد
15 نوفمبر 2024، روما، إيطاليا
ahmedsidahmed.contacts@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
«الصحفيين» تنظم مائدة مستديرة لمناقشة مشروع قانون العمل الجديد وسبل تطبيق الحد الأدنى للأجور
تنظم اليوم نقابة الصحفيين مائدة مستديرة لمناقشة مشروع قانون العمل الجديد، بحضور خالد البلشي نقيب الصحفيين، وعددٍ من المتخصصين، والقانونيين للتحاور حول مواد القانون، وتقديم رؤية النقابة حول مشروع القانون، الذي يحكم علاقات العمل داخل المؤسسات الصحفية
كما تناقش الندوة سبل تطبيق الحد الأدنى للأجور بالمؤسسات الصحفية، وتلقي الضوء على أوضاع الصحفيين بعددٍ من المؤسسات في ظل تراجع الأجور.
وكان نقيب الصحفيين قد أرسل خطابات للصحف لسرعة تطبيق الحد الأدنى للأجور على جميع الزملاء الصحفيين دون استثناء، مع مراعاة ما يتبع ذلك من درجات مالية تخص بقية الصحفيين بما يوازي فترات عملهم، وسنوات الخبرة المهنية.
كما دعا المؤسسات الصحفية بدراسة حزمة جديدة لزيادة رواتب الزملاء الصحفيين حتى يستطيعوا مواجهة ضغوط الحياة، وارتفاع حجم التضخم.