السودان بين الرهانات الداخلية والدولية
تاريخ النشر: 16th, November 2024 GMT
ناصر السيد النور
في غضون عام ونصف العام من بدء الصراع الدامي في السودان، الذي أصبح أزمة منسية أدار العالم ظهره لها وتركها في حالة حرب من التدمير الذاتي تعصى على الحل، كظاهرة تعبر عن القصور السياسي والعسكري على السواء. وبتصاعد وتيرتها في الأيام الأخيرة وانسداد أفق الحلول، تدخل الأزمة السودانية مرحلة صفرية في مقاربة معالجتها من مبادرات الداخل أو الخارج.
فإذا لم تعد منطلقات هذه الحرب تمثل أهمية من فداحة ما أدت إليه في الوقت الراهن، فقد خرجت فعليا عن السيطرة والإدارة في موجهاتها، أو الغاية من أهدافها من قبل طرفيها الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وأصبح مقاتلوها يمارسون الحرب بكل ما تعنيه بغير ممارسة السياسة في دارج التعريف الاستراتيجي للحرب، وظل هدفها تدمير الإنسان السوداني، بوصفه كائنا عضويا ينتمي إلى الحرب بالمعنى الجغرافي.
ومع تراجع دور الدولة ومؤسساتها وتآكل نظمها في تمثيل، أو حماية المواطن من غائلة الموت، تكاد الدولة تنتفي بمفهومها وواجبها، ولم يعد وجودها إلا فيما تضيفه من ويلات الحرب أكثر من فاعليتها في وقفها. ومع أن هذا لم يمنع الحكومة القائمة بقيادة الفريق البرهان ترديد تصميمها على التصدي لأي محاولات للنيل من السيادة الوطنية، كما لو كانت هذه السيادة لا ترتبط بمفهوم الأمن وسيطرة الدولة على حدودها على مقاييس مستوى الدول الفاشلة. وبفشل الحوار الداخلي (الوطني) بين المكونات السياسية السودانية، حيال موقفها ومسؤوليتها الأخلاقية والسياسية من الحرب، وما يفترض أن تقوم به وفق مسؤوليتها بإيجاد سبل في وقف نزيفها، والحد من نتائجها المروعة، يكون الحل السياسي المدني الداخلي أبعد الرهانات المتوقع حدوثها إزاء الأزمة. ولكن بما أن هذه المكونات السياسية من أحزاب وجماعات تعد جزءا أصيلا من الأزمة التي قادت إلى الحرب فمن المستبعد أن يتوقع منها موقف سلمي يدعم وقف الحرب، بل تتشدد في نزوعها بدعم طرفيها بمواصلة الحرب تحت مختلف الذرائع وأهمها مسلكها البراغماتي. والموقف السياسي يعني بالضرورة الموقف المبدئي من طرفي الصراع بالنسبة للمنظومات السياسية المدنية، فهي بطبيعتها لا تأثير ميداني لها، إلا من خلف فوهات بنادق الطرفين. وهذه القوى السياسية على اختلاف أطيافها تصطف وراء نداء إيقاف الحرب، ولكن عمليا تتعرض لاستقطابات شعبية وعسكرية عالية الوتيرة تضعها في تحدً داخلي أمام موجات المد الشعبي للحرب في الداخل. وتجرفها بالتالي نحو حرب أهلية مدمرة، فالقوى المدنية الأبرز (تقدم) بقيادة رئيس الوزراء السابق الدكتور عبد الله حمدوك، التي تسعى في ما تسعى إليه من محاولات لوقف نزيف الحرب، حولها موقفها وتصريحاتها عن الحرب إلى جبهة معادية لا تتلاقى وتوجهات الحكومة القائمة، ولم تناقش أو تلتقي وفداً حكوميا، إلا الطرف الآخر قوات الدعم السريع، وتوقع معه اتفاقا لم يزل مثار جدل في أجندات الحرب.
وعلى مستوى الرهان الدولي ما الذي يقرب الأزمة السودانية من الحال في ظل التطورات على الصعيد الدولي، وأهمها نتائج الانتخابات الأمريكية، وتغير الإدارة بفوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب، وما سينتهجه من سياسات خارجية بشأن المشكل السوداني؟ ولو أن الإدارة الأمريكية الديمقراطية برئاسة جو بايدن وقبلها إدارة ترامب، لم تفعلا ما يرجح حلا امريكيا ناجزا تجاه أزمة من أزمات دول العالم الثالث. وإذا لم تكن الانتخابات الأمريكية وما آلت إليه من نتائج، العامل الدولي الوحيد في اختبار الأزمة السودانية، فإن ما تمثله الولايات المتحدة في المؤسسات الدولية الفاعلة وطرقها الأخرى الملتوية في إدارة العالم وأزماته وما اتخذته الإدارة الحالية تجاه طرفي الصراع من عقوبات لأفراد وجماعات وشركات بتهم عرقلتها للتوصل إلى حل سلمي وغيرها من تهم تتصل بالصراع، إلا أن فاعلية تأثيرها المحدودة قد تسهم في اتساع رقعة الحرب أكثر من وقفها. وبطبيعة الحال تشغل الأزمة السودانية ونتائجها الكارثية المجتمع الدولي في حدود ما يمثله السودان في سياق القانون الدولي ووجوده كدولة عضو في منظمته الدولية الأمم المتحدة، ومجلس أمنها المعني بحفظ السلم والأمن الدوليين، إلا أن القرارات والتوجيهات الصادرة – دون إلزام- من هذه المؤسسة منذ اندلاع الحرب، لم تكن لها قوة نفوذ القانون وتطبيق أحكامه بأكثر من عبارات الإدانة التي تحث الطرفين على وقف القتال، والسماح بمرور المساعدات الإنسانية. وكذلك المبادرات التي تأتي من خارج نطاق المنظمة الدولية، على الشاكلة ذاتها من منظمات إقليمية، كالاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية والإسلامية وغيرها من تكتلات محدودة الخيارات والتأثير في مجربات الأمور. ومع تعقد الأزمة والحالة الإنسانية التي نتجت عن ممارساتها بحق المدنيين فسيجد المجتمع الدولي نفسه مضطرا إلى اللجوء إلى حل اللاجئ الأخير، بما يعني تدخلا دوليا ينقل حل الأزمة من أروقة المداولات إلى الفعل الواقعي. ففي جلسة مجلس الأمن الدولي الثلاثاء الماضي وما أشارت إليه التقارير سابقا نحو تبني آلية امتثالا لحماية المدنيين، وهو ما يعني في سياق قوة تدخل دولي مدفوعة بقرارات المجلس وتوافق دولي على صعيد محدود. ومع غياب التصريحات بشأن هذه الآلية إلا أنه من خلال قراءة مآلات القرار حال تبنيه فلا يعني إلا تدخلا دوليا بشكل ما، أي تكون صيغته ومنظومته العسكرية ومشروعيته الدولية بذريعة حماية المدنيين، أو الفصل السابع. ويتضمن فيما حملت مداولات المجلس إيصال المساعدات وتوفير فرص السلامة، أو الوساطة بين الطرفين المتقاتلين للتفاوض، أو وقف انتهاكات المدنيين في بعدها الإنساني. وفي كل الأحوال لم يعد من مفر غير التدخل ولو بذريعة القانون الدولي الإنساني بعد أن أصبح واقعا تفرضه ضرورة الحرب أكثر من مناورات السياسية وتقاطع المصالح.
وما بين رهانات دولية تورطت فيها أطراف الأزمة السودانية، ووضع مأزوم في الداخل على المستوى الإنساني والسياسي والعسكري، تبدو فيه الأزمة السودان مدرجة في ملفات المواجهات مع المنظمات الدولية، فالجرائم المرتكبة بحق المدنيين بما يشمل الإبادة العرقية والجماعية تفتح الباب على مصراعيه لمحاكمات جنائية لا تسقط بالتقادم حال توجيبيها والتحقق من هوية مرتكبيها. فإن كانت الأطراف المتحاربة لا تتعامل بجدية مفترضة مع قرارات المنظمات الدولية وتخضع للضغوط الدولية المباشرة بدلا عن ذلك، فإن الفشل على رهانات الداخل سياسيا وعسكريا في حسم نتائج الصراع لأي من الطرفين، فالجيش الذي لم يتمكن من استعادة مواقعه، وفشل قوات الدعم السريع في فرض واقع يكتسب شرعية داخلية أو سياسية، يبقى الرهان على الحل الدولي الخارجي ضرورة قد تقتضيها دواع إنسانية إنقاذا لموقف تزداد مأساته الإنسانية يوما بعد آخر.
كاتب سوداني
القدس العربي اللندنية
nassyid@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الأزمة السودانیة الأزمة السودان
إقرأ أيضاً:
البروفيسور حسن أحمد إبراهيم (1938- 14 مارس 2025): عاصفة على تاريخ الحركة الوطنية السودانية
رحل عنا إلى دار البقاء الأسبوع الماضي مؤرخ فحل للسودان الحديث هو البروفيسور حسن أحمد إبراهيم، رئيس شعبة التاريخ في كلية الآداب بجامعة الخرطوم (1976-1978) وعميد الكلية (1984-1990)، وشغل وظائف منوعة في الجامعة العالمية الإسلامية بماليزيا وانتهى مديراً للمعهد العالي لوحدة الأمة الإسلامية (1995-2007) وعميد كلية الدراسات العليا في جامعة أفريقيا العالمية بالخرطوم لاحقاً. ومن بين كتاباته ذات الخطر مؤلفه عن الإمام عبدالرحمن المهدي (1885-1960) زعيم جماعة أنصار والده محمد أحمد المهدي (توفي عام 1885) التي سوى صفها بدأب ونباهة بعد أن شتتها الغزو الإنجليزي عام 1898 إلى الجهات الأربع بعد القضاء على دولتها. وصدر الكتاب بالإنجليزية عن دار بريل (2004) بعنوان "السيد عبدالرحمن المهدي دراسة في المهدية الجديدة في السودان" (1899-1956) بعد صدوره باللغة العربية عام 1998. وجرؤ حسن في كتابه على مراجعة ذائعة عن الإمام بين خصومه دمغته كمتعاون مع الاستعمار الإنجليزي وخائن لوطنه في صوره الذائعة المتطرفة، في حين هم من قاوموه.
مهندس الاستقلال
وجاءت هذه المراجعة على لسان إبراهيم نفسه بمثابة انعتاق شخصي له من وزر هذه الذائعة التي ترعرع في بيئاتها، ويريد بهذه البيئات الدوائر السياسية التي دعت بفرقها الكثيرة وأهوائها إلى الوحدة مع مصر بعد استقلال السودان بينما كان نهج الإمام هو استقلال السودان برعاية بريطانيا، مستبعداً مصر التي لم تكُن من أزال والده المهدي حكمها على السودان فحسب، بل سعت دولته من بعده إلى غزوها من غير طائل أيضاً. فقال إنه جاء لتأليفه عن الإمام من بيئة اتسمت "بالعصبية والتشيع لدرجة وصمت الإمام عبدالرحمن المهدي بممالأة (الإنجليز) على أقل تقدير، ووصلت المبالغة بوصفه خائناً وتابعاً ذليلاً لبريطانيا المستعمرة". فعركته ميادين دراسة التاريخ عركاً اطلع فيه على وثائق التاريخ السوداني الحديث في مظانها بدت له منها "سذاجة وبطلان وتعسف تلك التهم". وبعد التحليل اتضح لإبراهيم أن الدوائر البريطانية في السودان ومصر وبريطانيا كانت تنظر إلى الإمام بالشك، بل كادوا له وحذروا في وقت باكر من أنه هو من سيطوي صفحة الإنجليز. وفعلها لحكمته، في قول إبراهيم، بطريقته الخاصة في الدهاء والمناورة حتى عده "مهندس الاستقلال"، على غير ما يزعم من أعطى الرتبة لغيره.
وحال إبراهيم في الانعتاق من حزازته على الإمام مما قال عنها أحدهم إن الإنسان كمن يولد من جديد متى بان له عوار فكرة أنس لها طويلاً ما وثابر على التخلص بقوة منها.
مرحلة التكوين
عرض إبراهيم للعلاقة بين الإمام والإنجليز منذ نجاته صبياً شريداً بعد هزيمة المهدية من حملة إنجليزية تعقبت أسرة المهدي وقضت على اثنين من إخوانه إلى استقلال السودان عام 1956، وسمى فترته التي جمع فيها الأنصار من شتاتهم وإدارة شأنهم وإنشاء مؤسسته الاقتصادية "دائرة المهدي" بحرفية وطول بال في أوضاع سياسية وطنية واستعمارية متقلبة، "المهدية الجديدة". واستنفد مصادر هذه الفترة في دور الوثائق في كل من السودان ومصر وبريطانيا. وأعانه على الخوض الصعب في هذا التاريخ المراجع أنه كان كتب رسالته للدكتوراه عن اتفاق عام 1936 الذي عقد بين دولتي إنجلترا ومصر، الحكم الثنائي على السودان، والذي وعد السودانيين بالحكم الذاتي في 20 عاماً وبأن تكون رفاهيتهم موضع نظرهما. فأحسن إبراهيم في مراجعته لتاريخ الحركة الوطنية من فوق علمه الدقيق بذلك الاتفاق المحوري في تاريخ تلك الحركة.
يطلق ذائعة تعاون الإمام مع الإنجليز من لم يتوقف ويسأل إن كان أولئك الإنجليز أمة واحدة لا تشوبها شائبة خلاف. وخلافاً لذلك يقف قارئ إبراهيم على أن الإنجليز لم يكونوا دائماً ذلك الكيان الواحد الصمد ويخرج بأنهم بفضله أنهم كانوا في الأربعينيات وقت اشتداد الحركة الوطنية فئتين متشاكسين. فلا يعرف المرء إن كان ولاء الإمام لأي منهما هو ما جاء له بذائعة ممالأة الاستعمار. وأظهر ما كان ذلك الخلاف بين شيع الإنجليز حول الموقف من مصر الذي دار حول اتفاق رئيس وزراء مصر إسماعيل صدقي ورئيس وزراء بريطانيا إرنست بيفن (صدقي-بيفن) (1946). فكانت مصر، الشريك اللدود مع إنجلترا في حكم السودان الثنائي، حظيت في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتحت حكم حزب العمال بمنزلة مرموقة في استراتيجية الحكومة البريطانية في الشرق الأوسط أرخت بريطانيا بها أذنها لمطلب مصر بالسيادة التاريخية على السودان كما لم تفعل من قبل.
وأزعج ذلك لا الإمام وحده، بل حكومة السودان في الخرطوم نفسها. ففي ذلك الاتفاق اعترفت بريطانيا لمصر بحقوقها التاريخية في السودان. وكان بيفن نفسه رأى أن أفضل وضع للسودان هو أن يكون في وحدة مع مصر، مما لم تتفق حكومة السودان معه فيه. وخرج هوبرت هدلستون، حاكم السودان العام، يزري بالخارجية البريطانية وينتقدها لأنها تسمع من الاتحاديين لا من حلفائها الاستقلاليين الذين سيعارضون ذلك الجنوح لمصر كما فعلوا دائماً بثمن فادح. وفي السابع من نوفمبر أعطى بيفن إسماعيل صدقي اعتراف بريطانيا بوحدة وادي النيل مع حق تقرير المصير للسودان، على ما بين الحقين من تناقض. ورأى هدلستون في موقف حكومته خذلاناً للإمام وجماعته ممن كان يسميهم "أصدقاءنا". وكان رأي حكومته في لندن أن أصدقاءه أولئك إنما يريدون التخلص من بريطانيا بمثل ما أردوا التخلص من مصر في وقتهم المناسب. وضاقت الخارجية بهدلستون وطلبت منه الاستقالة عام 1947 ليحل محله روبرت هاو وهو من موظفي وزارة الخارجية.
"مقاومة الاستباحة المصرية"
ولم يـتأخر الإمام في المقاومة ضد ما رآه استباحة مصرية للسودان من الحكومة البريطانية ممن ظن فيها الخير، فشكّل الجبهة الاستقلالية وقاطع جلسات المجلس الاستشاري لشمال السودان (1946) الذي أذنت به الحكومة لتعطي السودانيين صوتاً في إدارة شأنهم، وعقد الندوات السياسية والتظاهرات لإدانة بريطانيا على تساهلها مع مصر في شأن السودان، بل طالب بإنهاء الحكم الثنائي وترك السودانيين لتكوين حكومة ديمقراطية، والتحم الاتحاديون والاستقلاليون في تظاهراتهم مما اضطر الحكومة إلى منع النشاطات السياسية. وقللت بريطانيا من خطر مقاومة الإمام ورأت فيه رجلاً تبددت أحلامه في مملكة تمناها بالبلد على غرار الملك فيصل في الجزيرة العربية. ولما عاد صدقي في الـ26 من أكتوبر 1946 لمصر وقال مقولته المشهورة "جئتكم بالسيادة على السودان"، طلب الإمام الذهاب إلى بريطانيا ليطلع الحكومة والشعب على موقفه من استقلال السودان، وقبلت بريطانيا على مضض على أن يغشى القاهرة في طريقه إلى إنجلترا حتى لا تنزعج مصر، ورفض صدقي أن يلتقي الإمام.
وواصل الإمام معركته لاستقلال السودان وبدعم من حكومة السودان ضد اتفاق صدقي-بيفن. وفي بريطانيا عبّر الإمام عن نفسه بمصطلح متعارف عليه بين قادة حركات التحرر الوطني، فنفى أن تكون لمصر حقوق تاريخية في السودان لأن من كانت له تلك الحقوق بالفعل هي الدولة العثمانية التي حكمت مصر والسودان معاً، وأطاح بها السودانيون بثورة جبت كل زعم. كما قال إن ميثاق الأمم المتحدة أعطاهم الحق في تقرير المصير ككل مستعمرة أخرى، مذكراً بجهود السودانيين في دعم المجهود الحربي لبريطانيا في الحرب العالمية الثانية باشتراك قوة دفاع السودان في تحرير الحبشة.
ولوّح بأنه إذا لم توقف بريطانيا مصر عند حدها فقد تنفجر الأوضاع كما في فلسطين التي أثارها وعد "بلفور" من جانب واحد لليهود. وطلب من بريطانيا أن تلتزم بحق السودان في تقرير مصيره واستقلاله خلال 10 أعوام وأن ترعى ذلك الالتزام في كل عهد توقعه مع مصر وإلا تحملت عاقبة الأمور. ووجد الإمام من استمع إليه وميّز قوله بين المحافظين والصحافة.
اجتماعات نيويورك
وواصل الإمام المؤتمرات الدولية عن السودان بمندوبين يعرضون سبيله لاستقلال السودان، فعقد اجتماع للأمم المتحدة في نيويورك دعت إليه للنظر في المسألة السودانية بعدما سمعت مصر من الحكومة البريطانية قولاً عن حقها في السودان لم يطابق ما تريده تماماً. فرتب الإمام وفداً ليكون حاضراً في المؤتمر يذيع وجهة نظرهم التي جاءت ضمن مذكرة عنوانها "قضية استقلال السودان" جددوا فيها حججهم التي تطرقنا إليها أعلاه عن فساد زعم أن لمصر حقوقاً في السودان. فالحكم الثنائي نفسه عام 1898، بحسب المذكرة، أبطل زعم مصر بحق تاريخي في السودان لأنه صار بالاتفاق مستعمرة مستقلة. ولم تنتهِ اجتماعات نيويورك إلى شيء مما هو كسب سلبي لبريطانيا التي كانت مصر طالبتها بمغادرة السودان. ولقي وفد الإمام من ناصره في القضية فطمأنه على عدالة قضيته. ولكن وضح للمهدي من اجتماعات نيويورك أن سياسة المواجهة مع بريطانيا منزلق صح تجنبه، فبريطانيا مهما قال عنها هي التي تملك الأوراق في السودان، فعاد للتعاطي معها في ما بعد.
واضح من كتاب إبراهيم المُراجع عن الإمام المهدي أنه من الصعب وغير المفيد استمرار هذا الأخدود في تاريخ الحركة الوطنية بين "الوطنيين"، من مثلهم الاتحاديون ممن طلبوا الاستقلال "تحت التاج المصري" و"المتعاونون" مع الاستعمار من مثلهم الإمام ورهطه. فعلاوة على جعله هذا التاريخ قراءة مملة، فهو كما رأينا لا يرى في الإنجليز شيعاً لم يتهيب الإمام مقاومة طرف منها هو الحكومة البريطانية بجلالة قدرها حين استباحت السودان لمصر على رغم اعتراض حكومة السودان نفسها على نهج مركزها الإمبراطوري. ومن طريف ما جاء في الكتاب أن وفد الإمام من المتعاونين إلى لندن سعى إلى عرض مسألته حتى على منظمة الجامعة الأفريقية التي كانت تعبأت لتأمين حق تقرير المصير للمستعمرات الأفريقية بعد الحرب مما ربما لم يبلغه الاتحاديون. وإذا كانت الأمور بخواتيمها فالمعلوم أن استقلال السودان وقع على حافر خطة الإمام لا خطة الاتحاديين. فقرر اتفاق عام 1953 للحكم الذاتي للسودانيين متى نالوا الحكم الذاتي استفتوا أنفسهم إن كانوا مع الوحدة مع مصر أو الاستقلال. ولم يحتج السودانيون لأي من ذلك، فتعاقدوا على الاستقلال من دون حاجة إلى الاستفتاء في ما عرف بـ"إعلان الاستقلال" من داخل البرلمان الذي كانت الغلبة فيه للاتحاديين الأشاوس من دون الاستقلاليين المتعاونين.
ibrahima@missouri.edu