تاج السر عثمان

1
تمر في ظروف الحرب اللعينة الذكرى السادسة والستون لأول انقلاب عسكري في السودان الذي وقع في 17 نوفمبر 1958م، وقوض أول تجربة للديمقراطية في السودان ، كان الانقلاب بداية الحلقة الجهنمية التي دخلت فيها البلاد لأكثر من 68 عاما هي عمر الاستقلال، اخذ ت النظم العسكرية منها حوالى 58 عاما ، عانى فيها شعبنا من الفقر والخراب والدمار والديون التي تجاوزت 60 مليار دولار، وفقدان السيادة الوطنية، ونهب ثروات البلاد، والحروب وانفصال الجنوب، وانتهت بكارثة الحرب اللعينة الجارية الآن أمام أبصارنا، التي شردت الملايين وأدت لمقتل وفقدان عشرات الآلاف، وتدمير البنيات التحتية والابادة الجماعية، وتدهور الأوضاع المعيشية والصحية، والانخفاض المستمر لقيمة الجنية السوداني، والاتجاه لتغيير العملة لتمويل الحرب، واطالة أمد الحرب برفض التفاوض من الإسلامويين، مما يعني المزيد من مآسي الحرب، كما في الابادة الجماعية التي التي يمارسها الدعم السريع في الجزيرة ودارفور وبقية المناطق وقصف الجيش للمدنيين بالطيران، مما فتح الباب للتدخل الخارجي كما في تسليح طرفي الحرب من المحاور الاقليمية والدولية، بهدف نهب ثروات البلاد، فضلا عن خطر تحويل الحرب لعرقية تهدد وحدة البلاد، وغير ذلك من الماساة الانسانية التي نعيشها اليوم.


كان الانقلاب انتكاسة للتجربة الديمقراطية التي لم يمض عليها أكثر من ثلاث سنوات، وقطع التطور الطبيعي للتجربة الديمقراطية الوليدة في البلاد التي لا يمكن أن تزدهر الا بالمزيد من الديمقراطية، بعد ذلك توالت الانقلابات العسكرية: انقلاب 25 مايو 1969م، انقلاب 30 يونيو 1989م، انقلاب 11 أبريل 2019م، وانقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي جاءت الحرب اللعينة امتدادا له.
ودخلت البلاد في الحلقة الجهنمية من الانقلابات العسكرية والحروب التي يجب الخروج منها واستخلاص دروس التجربة السابقة ، وتحقيق اوسع جبهة جماهيرية لوقف الحرب ومواصلة الثورة، وترسيخ الحكم المدني الديمقراطي، واستدامة الديمقراطية والتنمية المتوازنة والسلام، ودولة المواطنة التي تسع الجميع .

2
اشرنا في دراسة سابقة ان انقلاب ١٧ نوفمبر جاء نتاجا للصراع السياسي والطبقي الذي بدأ مع إعلان الإستقلال والجمهورية بين القوي الثورية التقدمية التي تهدف إلى استكمال الاستقلال السياسي بالاستقلال الاقتصادي والثقافي، وتحويل جهاز الدولة إلى جهاز ديمقراطي، وسياسة خارجية متوازنة تدافع عن السلم والسيادة الوطنية وتتضامن مع الشعوب المستعمرة وحركات التحرر الوطني، وضد الأحلاف العسكرية وإعادة الاستعمار الحديث باسم المعونة الأمريكية والقروض المجحفة التي تفقد البلاد استقلالها، وقيام صناعة وطنية والقضاء على سيطرة البنوك الأجنبية على الاقتصاد السوداني، وإجراء إصلاح زراعي جذري، ووضع حد أدنى للأجور وتحسين الأوضاع المعيشية وتحقيق الأجر المتساوي للعمل المتساوي، وتوفير وتوسيع خدمات التعليم والصحة والضمان الاجتماعي في حالات العجز والشيخوخة، ووحدة الصف الوطني لتحقيق هذه المهام، والسير قدما في إنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية
من الجانب الآخر القوى اليمينية التي تهدف إلى خدمة مصالحها الطبقية بافراغ الاستقلال من مضمونه التحرري الشامل، والسير في طريق التطور الرأسمالي الذي يكرس المزيد من الاستغلال والتبعية، وإعادة الاستعمار بشكله الحديث الذي تقوده أمريكا بعد أن أفل نجم الاستعمار القديم بقيادة بريطانيا، وإلى إبعاد الجماهير عن توجيه شؤون البلاد بإنتزاع حقوقها الديمقراطية وتمزيق وحدتها، وتقييد حقوق العاملين والمزارعين في تكوين اتحاداتهم والقمع غير الإنساني للمزارعين كما حدث في مجزرة عنبر جودة بعد الاستقلال مباشرة. وحاولوا خلق إنقسامات في النقابات واتحادات المزارعين واستخدموا ضدهم أجهزة الإعلام والرشوة وغير ذلك من الأساليب. “للمزيد من التفاصيل: راجع كتاب ثورة شعب: اصدار الحزب الشيوعي 1965م“.
3
من الأسباب التي قادت لانقلاب 17 نوفمبر القنابل الموقوتة التي تركها الاستعمار بعد خروجه مثل: حرب الجنوب والانقسام الطائفي والقبلي والطبقات والفئات الرأسمالية وشبه الإقطاعية التي ارتبطت مصالحها به، وجهاز دولة غير ديمقراطي، وقوانين مقيدة للحريات، إضافة للانقسام الذي حدث في الصف الوطني وخروج الختمية من الحزب الوطني الإتحادي، تدهور الأوضاع المعيشية، ومحاولة القوى اليمينية تفتيت وحدة العمال عن طريق خلق مركزين أو أكثر للحركة النقابية، وإقحام الصراع الحزبي وسط اتحاد المزارعين الذي ينبغي أن يضم المزارعين على إختلاف اتجاهاتهم السياسية. “راجع كتاب ثورة شعب“.
من جانب آخر حدث تضامن واسع مع حركات التحرر الوطني، ورفض العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م وحدث العدوان على الحقوق الديمقراطية لشعبنا والذي بدأ يزداد منذ تكوين الحكومة الإئتلافية الأولى بقيادة السيد إسماعيل الأزهري، واجتماع السيدين الذي أدى للاطاحة بحكومة الأزهري، بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية وغيرها، هذه القضايا كلها تفاقمت من خلال انشغال الجماهير الوطنية كما في (حريق العملة) ومعارك السباب والمهاترات.
4
من جانب آخر كما هو معروف تصاعدت الحركة الجماهيرية التي رفعت راية الوحدة ومقاومة التدخل الاستعماري باسم المعونة الأمريكية، وإلغاء جميع القوانين المقيدة للحريات، وتشكلت جبهة واسعة داخل وخارج البرلمان، ووصلت المقاومة ذروتها في الإضراب العام التاريخي الذي دعا إليه اتحاد العمال وتمّ تنفيذه يوم 21 أكتوبر 1958م، وصحب ذلك الإضراب مظاهرات لا مثيل لضخامتها وتماسكها إشترك فيها العمال والمزارعون والطلاب وصغار التجار، وبدأت الجماهير العاملة تبرز كقوة داعية للديمقراطية والوحدة والتقدم. كما ارتفعت شعارات الوحدة وسط الجماهير المعادية للاستعمار ولحكم القوي اليمينية التي عانت من انقسامات في صفوفها، وأقتربت عناصر من نواب حزب الامة نحو القوى الوطنية، وظهر جليا أن جبهة تضم أغلبية من نواب البرلمان قد تكونت وأنها ستطيح بحكومة عبدالله خليل وتقيم مكانها حكومة أقرب تمثيلا لمصالح الشعب.”للمزيد من التفاصيل: راجع ثورة شعب“.
في تلك اللحظات نقل الاستعمار الجديد والقوى اليمينية المرتبطة به معركة الصراع الطبقي من الأشكال البرلمانية إلى الأشكال الديكتاتورية المكشوفة، نقلوا الصراع من حيزه السلمي إلى حيز اشهار السلاح في وجه الحركة الديمقراطية للشعب بتدبير انقلاب 17 نوفمبر 1958م.
5
كان الانقلاب عبارة عن تسليم رئيس الوزراء عبدالله خليل بالتعاون مع الاستعماريين الأمريكان والانجليز السلطة للقيادة الرجعية في الجيش بهدف المحافظة على كل المصالح الاستعمارية ووقف التطور الديمقراطي في البلاد..
بدأ انقلاب 17 نوفمبر بالهجوم على الحقوق والحريات الديمقراطية كما في: حل الأحزاب ومنع التجمعات والمواكب والمظاهرات، ووقف الصحف حتى يصدر أمرا من وزير الداخلية، وتم إعلان حالة الطوارئ، ووقف العمل بالدستور وحل البرلمان، بعد ذلك صدر قانون دفاع السودان لعام 1958م الذي صادر أبسط الحريات وحقوق الانسان وقرر عقوبة السجن الطويل أو الإعدام لكل من يعمل على تكوين أحزاب أو يدعو لإضراب أو اسقاط الحكومة أو يبث الكراهية، وتمّ تعطيل النقابات والاتحادات وأُعتقل القادة النقابيين “الشفيع أحمد الشيخ ورفاقه” وتقديمهم لمحكمة عسكرية إيجازية سرية كانت انتهاكا فظا لحقوق الانسان.
هكذا تمت مصادرة كل المكاسب والحقوق والحريات الأساسية والدستورية التي حققها شعبنا عبر نضاله الطويل الملئ بالتضحيات ضد الاستعمار: الدستور، البرلمان، الأحزاب السياسية، النقابات، الصحافة، وكان ذلك بداية هجوم شامل هدفه تجريد الشعب من أدواته الرئيسية في الصراع لإنجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية.
6
صدر أول بيان للحزب الشيوعي بتاريخ: 18 نوفمبر 1958م يدعو لمقاومة الانقلاب العسكري واسقاطه واستعادة الديمقراطية، بعنوان “17 نوفمبر انقلاب رجعي“
بعد ذلك استمرت مقاومة الشعب السوداني للانقلاب التي وثقها كتاب “ثورة شعب” (إصدار الحزب الشيوعي 1965م) توثيقا جيّدا عن طريق: البيانات والعرائض والمذكرات والإضرابات والمواكب والاعتصامات، والصمود الباسل للمعتقلين في السجون والمنافي وأمام المحاكم وفي غرف التعذيب، والإعدام رميا بالرصاص. تابع الكتاب نضالات العمال والمزارعين والطلاب والمثقفين والمرأة السودانية ومقاومة الشعب النوبي ضد إغراق حلفا وتدمير ثقافة القومية النوبية وإرثها التاريخي العظيم، وتنصل الحكومة من الوطن البديل بجنوب الخرطوم. ونضال جبهة أحزاب المعارضة، وحرب الجنوب التي تفاقمت، ودفاعات المناضلين أمام المحاكم، كما وضح موقف الحزب الشيوعي من المجلس المركزي وانتخابات المجالس المحلية، واستمر النضال حتى إعلان الحزب الشيوعي لشعار الإضراب السياسي العام في أغسطس 1961م، وتواصلت المقاومة حتى انفجار ثورة أكتوبر 1964م، وإعلان الإضراب السياسي العام والعصيان المدني حتى تمت الإطاحة بديكتاتورية عبود استعادة الديمقراطية التي تمّ اجهاضها، كما اوضحنا في دراسة سابقة، بمصادرة الأحزاب التقليدية للنشاط القانوني للحزب الشيوعي وحله مما قاد لأزمة دستورية في البلاد كان من نتائجها انقلاب 25 مايو 1969م.

الوسومتاج السر عثمان بابو

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الحزب الشیوعی ثورة شعب کما فی

إقرأ أيضاً:

في عامها الثالث تصعيد جماهيري لوقف الحرب واسترداد الثورة

بقلم : تاج السر عثمان

1
مع دخول الحرب عامها الثالث وآثارها المدمرة التي رصدناها سابقاً، بات لزاما علينا تشديد و مواصلة التصعيد الجماهيري الواسع لوقف الحرب واسترداد الثورة،باعتبار ذلك هو الحاسم في الضغط على الطرفين المتحاربين ومحاصرتهم لوقفها، فالعامل الخارجي مساعد، لكن الداخلي هو المؤثر، في وقف الحرب وتأمين عودة النازحين لمنازلهم وقراهم، وتوفير خدمات الماء والكهرباء والانترنت التي تدهورت بسبب استهدافها بالمسيرات، مما يؤكد انها حرب ضد المواطنين، فهي حرب تأكد بعد عامين انها دمرت الطرفين والمنتصر فيها خاسر، وكانت على حساب المواطن مع استمرار نهب ثروات البلاد بدعم من المحاور الاقليمية والدولية التي تسلح طرفي الحرب، وبهدف تصفية الثورة، مع خطر تقسيم البلاد بتكوين الحكومة الموازية، ودعوة الإسلاموي على كرتي الصريحة بفصل دارفور. فالتصعيد الجارى من قبل الإسلامويين تكرار لتجربة الحرب الفاشلة بعد تصفية الجيش من خيرة ضباطه وجنوده المهنيين وتكوين مليشياتهم التي خاضوا بها بعد انقلابهم في 30 يونيو 1989، بعد الوصول للحل السلمي لمشكلة الجنوب (اتفاق الميرغني- قرنق) وبداية التحضير للمؤتمر الدستوري، جاء الانقلاب ليقطع صوت العقل وعلى طريقة " البصيرة أم حمد" ، وتم فصل الجنوب، وتم تكوين الدعم السريع من رحم الحركة الإسلاموية، وجرت الإبادة الجماعية في دارفور، وجنوبي النيل الأزرق وكردفان، وأصبح البشير ومن معه مطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، فالتصعيد الحالي من البرهان والإسلامويين بدعوة الشباب لحمل السلاح، لتحويلها لحرب أهلية وعنصرية، يهدد بالمزيد من تمزيق وحدة البلاد بعد فصل الجنوب.

2
فالحرب الجارية هي امتداد للجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية في دارفور وفصل الجنوب، وتكوين الجنجويد، التي ارتكبها نظام الإنقاذ منذ انقلابه في 30 يونيو 1989، ولجنته الأمنية بعد ثورة ديسمبر في مجزرة فض الاعتصام وانقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي فشل حتى في تكوين حكومة، وواجه مقاومة جماهيرية كبيرة أدت لتصدعه، وانفجار الحرب الحالية بعد الاتفاق الإطاري من أجل الصراع على السلطة والثروة، بدفع من المحاور الخارجية الداعمة لطرفي الحرب.
بالتالي من الخلل فصل هذه الحرب عن جرائم الإسلامويين والجنجويد السابقة، التي هي شر عم كل البلاد.

3
التصعيد الجماهيري لوقف الحرب لا ينفصل عن مطالب الجماهير اليومية :
وضرورة التوثيق الجيد لجرائم الحرب الجارية، فهي حرب استهدفت المدنيين، وتهجير المواطنين من الخرطوم ودارفور، وبقية المدن والولايات، وتهدف لتصفية الثورة وتغيير موازين القوة لعودة “الكيزان” للسلطة، لكن هيهات. مما يتطلب :
– خروج العسكر والدعم السريع من السياسة والاقتصاد، والترتيبات الأمنية لحل الدعم السريع وكل المليشيات، وقيام الجيش القومي المهني الموحد الذي يعمل تحت إشراف الحكومة المدنية ، ورفض إعادة العسكر والجنجويد للمشاركة في السلطة، كما في المحاولات الجارية للعودة للاتفاق الإطاري أو العودة لما قبل 25 أكتوبر، وترسيخ الحكم المدني الديمقراطي، وتفكيك التمكين وإعادة ممتلكات الشعب المنهوبة، وعدم الإفلات من العقاب بمحاسبة كل الذين ارتكبوا جرائم الحرب وضد الإنسانية.
تحسين مستوى المعيشة التي تدهورت بعد الحرب، وعدم صرف مرتبات العاملين الشهور كثيرة ، وتوفير خدمات الصحة والدواء والتعليم، إصلاح شبكات المياه والكهرباء التي دمرتها الحرب اللعينة، وتوفير خدمة الانترنت، وإنقاذ التعليم العام والعالي من الضياع بعد عامين من تدمير المؤسسات التعليمية . إلخ، وإصلاح ما خربته الحرب، وعودة الحياة لطبيعتها، وتأمين عودة النازحين لمدنهم ومنازلهم وقراهم، وتعويض المتضررين من الحرب.
– الحفاظ على السيادة الوطنية ووحدة البلاد، وقيام علاقات خارجية متوازنة مع كل دول العالم، وحماية ثروات البلاد من النهب.
لقد أدت الحرب لتغييرات عميقة وخلقت وعياً بخطورة الجنجويد و”الكيزان” بعد نزوح أكثر من ١٤ مليون سوداني داخل وخارج البلاد، وموت وفقدان الآلاف من المواطنين.
مما يتطلب وقف الحرب و مواصلة الثورة، وتعمير ما خربته الحرب، وتحقيق أهداف الثورة التي حاول طرفا الحرب طمس معالمها، ولكنها زادت توهجاً، وتأكد ضرورة مواصلتها وتحقيق مهام الفترة الانتقالية..

alsirbabo@yahoo.co.uk

   

مقالات مشابهة

  • ???? انقلاب حميدتي
  • الغارديان: قيس سعيد يقوض إنجازات الديمقراطية التونسية بمساعدة من الغرب
  • البيوضي: انتصار المقاطعة هو الخطوة الأولى نحو تحرير البلاد من الفساد والنهب
  • البحرين.. صورة البناية التي سقطت من شرفتها امرأة تحاول النجاة من حريق والداخلية تكشف تفاصيل
  • مناظرة العيدروس للوليد مادبو التي ارجات احمد طه الى مقاعد المشاهدين
  • للمرة الأولى منذ 35 عاما.. تفشي مرض الحصبة فى ولاية أمريكية
  • الولايات المتحدة.. تفشي مرض الحصبة في ولاية أمريكية للمرة الأولى منذ 35 عاما
  • المنتخب الوطنى تحت 20 عاما يلتقى نيجيريا غدا استعدادا لأمم أفريقيا
  • المنتخب الوطني تحت 20 عاما يلتقي نيجيريا غدا استعدادا لأمم أفريقيا
  • في عامها الثالث تصعيد جماهيري لوقف الحرب واسترداد الثورة