الاتحاد الأفريقي ومعضلة التغييرات غير الدستورية.. ما الذي يفتقده؟
تاريخ النشر: 16th, August 2023 GMT
بعد مرور 60 عاما على تأسيسه يقف الاتحاد الأفريقي، خائر القوى، مبعثر الجهود، متعثر الخطوات، عاجزا عن تحديد مكامن ضعفه وتوصيف علاجه، فهل تكمن المشكلة في التشريعات أم آليات التنفيذ ووسائلها؟ أم تكمن في القيادة التي تقزمت بفعل المصالح الشخصية وضغوط اللوبيات الإقليمية والدولية، واتجاهات سياستها؟ ما الذي ينقص الاتحاد الأفريقي بعد أجندة 2063 والبروتوكولات العديدة التي تم تشريعها من أجل معالجة الاختلالات والمشكلات المتكررة؟
تعريف التغييرات غير الدستوريةتبنى الاتحاد الأفريقي عدة بروتوكولات للتعامل مع معضلة التغييرات غير الدستورية، ابتداءً من قرار قمة الجزائر عام 1999، تبعه الإعلان الخاص بإطار استجابة منظمة الوحدة الأفريقية للتغييرات غير الدستورية للحكومات الذي اعتمد في لومي والمعروف بإعلان لومي في العام 2000 ويعرف حالات التغيير غير الدستوري على النحو التالي:
الانقلاب العسكري على حكومة منتخبة ديمقراطيا تدخل المرتزقة لاستبدال حكومة منتخبة ديمقراطيا إسقاط حكومة منتخبة ديمقراطيا من قبل مجموعات مسلحة أو من قبل حركات متمردة رفض حكومة قائمة التخلي عن السلطة للحزب الفائز في انتخابات حرة ونزيهة وقانونية أضيفت المادة 37 من الميثاق الأفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم لعام 2007 حالة أخرى وهي اعتبار أي تعديل أو تنقيح للدستور أو الصكوك القانونية التي تنتهك مبادئ التغيير الديمقراطي تعتبر تغييرا غير دستوريا.آليات التعامل
تبنى الاتحاد الأفريقي عددا من الآليات للتعامل والاستجابة لمنع التغييرات غير الدستورية، مثل الميثاق الأفريقي للديمقراطية والانتخابات والحوكمة، والآلية الأفريقية لمراجعة النظراء ومجلس السلم والأمن الأفريقي، ولجنة الحكماء، تلعب دور الرقابة والاستشعار منعا لحدوث التغييرات غير الدستورية وتتدخل إذا اقتضى الأمر.
إجراءات التعامل في حال حدوث تغيير دستورينصت المادة 30 من القانون التأسيسي للاتحاد الأفريقي والقرارات والإعلانات التي صدرت لاحقا لمعالجة التغييرات غير الدستورية، أنه إذا ثبت وجود مظهر من مظاهر التغيير غير الدستوري لحكومة عضو فإنه يتوجب عليه التالي:
إدانة التغيير غير الدستوري ومحاولة الانقلاب كأول إجراء فوري يتخذه الاتحاد. تعليق العضوية، وتم التنصيص عليه تحت عنوان تعليق المشاركة. فرض عقوبات على قادة التغيير غير الدستوري ويشمل عدم منح تأشيرات لقادة التغيير غير الدستوري وفرض قيود على التجارة، وأي عقوبات يوصي بها مجلس السلم والأمن الأفريقي. فرض عقوبات تجارية مثل فرض حظر على الأسلحة والمعدات العسكرية، وحظر تصدير وتوريد من وإلى الدولة المعنية. منح فترة 6 أشهر لمرتكبي التغيير غير الدستوري لإعادة النظام الدستوري. التدخل العسكريإذا فشلت التدابير والإجراءات والوسائل غير العسكرية في تحقيق المطلوب فيمكن للاتحاد الأفريقي أن يمارس حقه في التدخل في الدولة المعينة عسكريا، وقد تم تقييد التدخل بوجود ظرف خطير يتمثل في جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.
وفي العام 2003 تم تعديل المادة 4 (ح) وأضيفت حالة جديدة تستدعي التدخل العسكري وهي وجود تهديد خطير للنظام الشرعي، وضرورة استعادة السلام والاستقرار في دولة من الدول الأعضاء في الاتحاد.
غير أن الانقسامات والخلافات بين أعضاء الاتحاد الأفريقي وعدم الاتفاق على مفهوم النظام الشرعي لم توقع عليه نسبة معتبرة من دول الاتحاد الأفريقي، وبالتالي لم يدخل حيز التنفيذ والفاعلية.
محطات تاريخيةما زال الاتحاد الأفريقي يتعامل مع التغييرات غير الدستورية بالتدابير غير العسكرية ويكتفي بتعليق العضوية ومعاقبة المسؤولين عن التغييرات غير الدستورية، ويحث دائما على الإسراع في العودة إلى النظام الدستوري حتى لو عاد الجنرال نفسه الذي قام بالانقلاب على نظام دستوري عبر انتخابات حرة وديمقراطية.
كان أول اختبار لصكوك الاتحاد الأفريقي حول التغييرات غير الدستورية هو التغيير غير الدستوري الذي جرى في توغو عقب الوفاة المفاجئة للرئيس غناسينغبي أياديما عام 2005، وتحرك الجيش لتسليم السلطة لنجل الرئيس فور غناسينغبي.
فقد اعتبر الاتحاد الأفريقي ما جرى انقلابا على الإجراء الدستوري الذي ينص على تولي رئيس البرلمان السلطة في مثل هذه الأحوال، وبعد ضغوط تم إعطاء الجيش فترة وجيزة لإعادة النظام الدستوري وقد كان.
في السنة نفسها كان انقلاب موريتانيا حيث تم تعليق عضويتها في الاتحاد، وبعد عامين تم إجراء انتخابات ديمقراطية لتتنحى السلطة العسكرية، وجرى انقلاب آخر أيضا في موريتانيا في عام 2008 على يد الجنرال محمد ولد عبد العزيز، وتعامل الاتحاد الأفريقي بالوصفة ذاتها.
في مدغشقر جرى انقلاب على سلطة منتخبة في العام 2009 تعامل معها الاتحاد بالتجميد وإمهال الانقلابيين 6 أشهر لإعادة النظام الدستوري.
وفي 2012 وقع انقلاب في غينيا بيساو على إثر خلافات حول الانتخابات، وعلق الاتحاد الأفريقي عضوية البلاد وتم الاتفاق على الحاصل على المرتبة الثالثة ليقود فترة انتقالية إلى حين إجراء انتخابات ديمقراطية.
أما في مصر التي انقلب فيها الجيش على أول رئيس منتخب في العام 2013 فقد تم تجميد عضويتها، لكنها عادت بكامل عضويتها بعد عام واحد.
وفي مالي أطاح الجيش بالرئيس المنتخب، وبعد الاتفاق على حكومة مدنية انتقالية حدث انقلاب ثان وتم تعليق عضويتها مرة ثانية والاتفاق مع الانقلابيين على فترة عامين لإعادة النظام الدستوري.
وشهدت بوركينا فاسو انقلابين العام الماضي، واتفق الاتحاد مع السلطات العسكرية على عامين لإعادة النظام الدستوري.
فشل تعليق عضوية النيجربعد فترة من تأزم الوضع بين إيكواس والمجلس العسكري، وبعد وساطة العلماء من نيجيريا وافق المجلس العسكري في النيجر على استقبال وفد من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) للتفاوض والوصول إلى حل للأزمة.
الأمر الذي عزز موقف الأطراف التي تدعو للتريث ما دام هناك ضوء في نهاية النفق، وإلا فتعليق العضوية أمر لا يختلف عليه القادة الأفارقة، إذ يعتبر أهم قرار يتخذه الاتحاد في مثل هذه الأحوال.
على مدى عقدين كاملين ظل الاتحاد الأفريقي يصدر الصكوك والإعلانات والقرارات في سبيل معالجة التغييرات غير الدستورية، إلا أنه أصبح اليوم بحاجة ماسة وملحة أكثر من أي وقت مضى لتفعيل بروتوكول التدخل العسكري حتى توقع عليه كل دول الاتحاد، أو يبحث عن قوانين جديدة من شأنها معالجة هذه الظاهرة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: لإعادة النظام الدستوری الاتحاد الأفریقی فی العام
إقرأ أيضاً:
الأسلحة الكيميائية وسر نظام الأسد المظلم الذي تخشاه إسرائيل والغرب
ترك الانهيار المدوي والمفاجئ لنظام بشار الأسد في سوريا العديد من الأسئلة المفتوحة بلا جواب، واحد من هذه الأسئلة يتعلق بمصير ترسانة الأسلحة الكيميائية التي يمتلكها النظام، التي استخدمها ضد شعبه بالفعل في أكثر من مناسبة منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، وفشلت الجهود الدولية في تفكيكها بشكل حاسم ونهائي.
فرغم تبنّي مجلس الأمن الدولي قرارا بالإجماع عام 2013 بتدمير مخزون الأسلحة الكيميائية السوري والتخلص منه نهائيا في أعقاب مجزرة الغوطة، التي استخدم فيها نظام الأسد غاز السارين مُخلِّفا أكثر من 1400 قتيل، وإعلان الولايات المتحدة وروسيا إنجاز مهمة التخلص منها نهائيا في وقت لاحق، يُعتقد أن النظام نجح في إخفاء جزء كبير من ترسانته عن المراقبين، وتجديد جزء آخر منها خلال السنوات التالية، وقد ظهرت دلائل على استخدام النظام الأسلحة الكيميائية بعد الإعلان عن تفكيك ترسانته، أبرزها في دوما في إبريل/نيسان 2018 باستخدام الكلور وغاز الأعصاب.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هذه الأسلحة ستكون أشد فتكا من الأسلحة النووية والعالم يتسابق لامتلاكهاlist 2 of 2كيف أخفقت روسيا في دعم بقاء الأسد؟end of listتُثير هذه الترسانة الكيميائية الكثير من القلق لدى جهات عدة، أبرزها إسرائيل بكل تأكيد. فبحسب ما نشرته صحيفة "هآرتس" في 3 ديسمبر/كانون الأول، تزامنا مع تقدُّم فصائل المعارضة السورية وقبل أيام قليلة من فرار الأسد، كانت هناك مخاوف من إمكانية وصول الأسلحة الكيميائية التي يملكها النظام السوري السابق إلى أيدي فصائل المعارضة السورية المسلحة، ما قد يؤدي إلى تهديدات خطيرة لأمنها. لذلك، لم تمر بضع ساعات على انهيار نظام بشار الأسد رسميا، حتى قصف جيش الاحتلال مركز البحوث العلمية في المربع الأمني بدمشق، حيث تُدار برامج أسلحة كيميائية وصواريخ باليستية، وفقا لما ذكرته هيئة البث الإسرائيلية.
إعلانفي وقت لاحق، قصف سلاح الجو الإسرائيلي مؤخرا مستودعا آخر للأسلحة الكيميائية تابعا لنظام بشار الأسد المُنهار في غرب سوريا، وعموما كانت مستودعات الأسلحة الكيميائية أحد الأهداف الرئيسية لأكبر عملية جوية في تاريخ سلاح الجو الإسرائيلي، التي شاركت خلالها 350 طائرة في تدمير أنظمة أسلحة الجيش السوري المُنهار، بما يشمل أيضا الطائرات المقاتلة والصواريخ الباليستية وأنظمة الدفاع الصاروخي وحتى السفن القتالية.
من جانبها، حرصت إدارة الشؤون السياسية التابعة للمعارضة السورية على طمأنة المجتمع الدولي بشأن موقفها من الأسلحة الكيميائية، متعهدةً بعدم استخدامها مهما كانت الظروف، وهو ما يدفعنا للتساؤل: ما الذي نعرفه حقا عن مخزون نظام بشار الأسد من الأسلحة الكيميائية؟ وكيف تَشكَّل؟ وما أشهر العمليات التي استخدم فيها النظام هذا السلاح في الحرب؟ وقبل ذلك، ما الأسلحة الكيميائية؟ ولماذا تثير كل هذا الرعب؟
أكبر ترسانة في العالمفي عام 1971، بدأت أولى المحاولات السورية لامتلاك السلاح الكيميائي، حين أنشأ عبد الله واثق شهيد، الفيزيائي النووي والمستشار الأول للرئيس السابق حافظ الأسد، مركز البحوث والدراسات العلمية لأغراض الأبحاث الكيميائية، لتبدأ دمشق في أنظمة الحماية من الهجمات الكيميائية بمعاونة الاتحاد السوفياتي، جنبا إلى جنب مع 11 ألف قناع واقٍ حصلت عليها البَلَدان من الصين.
وتشير المصادر الأميركية إلى أن سوريا حصلت على مخزون ضئيل من الأسلحة الكيميائية من مصر عشية حرب أكتوبر عام 1973، بيد أن الجيش السوري لم يستخدم تلك الأسلحة ضد إسرائيل أو ضد خصم آخر في أي وقت، ويبدو أنها كانت مجرد خطة تحوُّط في مواجهة سيناريو الانهيار العسكري الشامل. ومع ذلك، بعد أن فقدت دمشق الحليف المصري في أعقاب معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في نهاية السبعينيات (اتفاقية كامب ديفيد)، وبشكل أخص بعد الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982 الذي فقدت خلاله سوريا 80 طائرة حربية دفعة واحدة في سهل البقاع، والحرب العراقية الإيرانية التي أضعفت الشراكة بين سوريا والاتحاد السوفياتي بسبب دعم الأخير لإيران في حربها ضد النظام البعثي العراقي، ازدادت عزلة النظام السوري وانكشف ضعفه الإستراتيجي والعسكري، ما وفَّر حوافز إضافية للاستثمار في الأسلحة الكيميائية.
إعلانتشير التقديرات إلى أن دمشق بدأت فعليا في إنتاج "الكيماوي" في منتصف الثمانينيات، ففي عام 1983 أشارت تقديرات الاستخبارات الوطنية الأميركية لأول مرة إلى وجود منشأة سورية لإنتاج الأسلحة الكيميائية. وكشف إفصاح صادر عن الحكومة البريطانية في عام 2014 أن سوريا حصلت بحلول عام 1986 على مئات الأطنان من المواد الكيميائية الأولية، بما في ذلك "ثلاثي ميثيل الفوسفيت"، و"ثنائي ميثيل الفوسفيت"، و"فلوريد الهيدروجين"، من المملكة المتحدة، وتقنيات أخرى لتطوير عوامل الأعصاب مثل غاز السارين.
وبحلول عام 1990، أشارت وسائل الإعلام والتصريحات الصادرة عن المسؤولين الأميركيين إلى أن سوريا حوَّلت العديد من مصانع الكيماويات الزراعية إلى مرافق لإنتاج السارين. وفي عام 1997، زعمت مصادر أميركية وإسرائيلية أن برنامج الأسلحة الكيميائية السوري بات يتضمن منشآت إنتاج في دمشق وحمص وحلب، ويمكنه إنتاج السارين والخردل، وربما "في إكس" (VX) الذي يُصنَّف واحدا من أكثر الأسلحة الكيميائية فتكا وخطورة.
نتيجة لذلك، حظرت الولايات المتحدة بيع غاز السارين ومركبات الخردل إلى سوريا منذ ثمانينيات القرن العشرين، وتسبَّب ذلك في لجوء دمشق إلى السوق السوداء. مثلا في عام 1996، اتهمت السلطات الروسية الفريق المتقاعد أناتولي كونتسيفيتش بشحن 800 كيلوغرام من المواد الكيميائية الأولية إلى سوريا. ورغم إسقاط هذه التهم في نهاية المطاف، أفادت الصحافة الإسرائيلية أن كونتسيفيتش اعترف لاحقا بنقل مواد أولية لغاز الأعصاب.
من عام 2002 إلى عام 2006، كرَّرت التقارير الصادرة عن مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي أي) أن "دمشق تحتفظ بالفعل بمخزون من غاز الأعصاب السارين، لكنها حاولت على ما يبدو تطوير مواد أعصاب أكثر سُمِّية واستمرارية". في عام 2009، أصدرت الاستخبارات المركزية الأميركية تأكيدها أن النظام السوري يملك برنامج أسلحة كيميائية يُمكِّنه من تنفيذ هجمات كيماوية بالطائرات والصواريخ بعيدة المدى وبالمدفعية. وفي يونيو/حزيران عام 2012، أكَّد الجنرال "يائير نافيه"، مساعد رئيس الأركان الإسرائيلي حينها، أن سوريا تملك "أكبر ترسانة أسلحة كيميائية في العالم طوَّرتها منذ أربعين عاما"، وقال إن من بين الغازات الموجودة في ترسانتها غاز السارين وغاز الأعصاب وغاز الخردل. وفي يوليو/تموز من العام نفسه، جاء أخيرا أول اعتراف رسمي من النظام السوري بامتلاكه أسلحة كيميائية، وهو اعتراف لم يرد إلينا عبر تصريح رسمي لمسؤول حكومي، بل عبر آثاره التي ظهرت على جثث القتلى.
إعلان الكيماوي ضد الشعبكانت الثورة التي حوَّلها قمع النظام إلى حرب دموية قد اندلعت بحلول ذلك الوقت، وتحوَّلت معها الأسلحة الكيميائية من "مخزونات صامتة" للتحوُّط ضد الخصوم الخارجيين إلى أسلحة مشهرة في وجه المواطنين السوريين. وفي الفترة ما بين أواخر نوفمبر/تشرين الثاني وأوائل ديسمبر/كانون الأول 2012، حصلت وكالات الاستخبارات الغربية على أدلة واضحة على أن النظام السوري كان يجهز الأسلحة الكيميائية للاستخدام، بما في ذلك خلط المواد الكيميائية الأولية وتحميل الأسلحة على مركبات نقل عسكرية خاصة.
لم تكد تمر أيام على تلك التقارير حتى جاء الخبر اليقين، حين استُخدم "الكيماوي" لأول مرة في حمص قبل نهاية عام 2012. وبعد بضعة أشهر، تحديدا في 19 مارس/آذار 2013، ظهرت أدلة على هجوم بالأسلحة الكيميائية في قرية خان العسل في محافظة حلب، مما استدعى تشكيل بعثة لتقصي الحقائق من قِبَل الأمم المتحدة. بيد أن الأسوأ لم يكن قد جاء بعد، ففي صباح يوم 21 أغسطس/آب 2013، ظهرت مقاطع الفيديو حول هجوم الغوطة، وهو الهجوم الكيميائي الأكثر فتكا في الحرب السورية، الذي أجبرت تداعياته نظام الأسد على إدخال فِرَق التفتيش الأممية ثم الرضوح لاتفاق روسي أميركي للتخلص من مخازنه الكيميائية تفاديا لضربة أميركية محتملة.
مجزرة الغوطة التي قامت بها قوات الأسد باستخدام الأسلحة الكيميائية في أغسطس/آب 2013 (الجزيرة)ووفقا للنتائج الأولية التي أعلنتها منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، فإن الترسانة السورية تضمنت 1000 طن متري من الأسلحة الكيميائية من الفئة الأولى (الأسلحة الكيميائية الصريحة)، و290 طنًّا من المواد الكيميائية من الفئة الثانية (ذات الاستخدام المزدوج)، و1230 نظام توصيل غير معبأ من الفئة الثالثة مثل الصواريخ، وقد دُمِّرت الغالبية العظمى من هذا المخزون خارج سوريا. ولكن في حين رُحِّبَ بتدمير الأسلحة الكيميائية المعلنة في سوريا باعتباره إنجازا كبيرا، ظلَّت الأسئلة قائمة حول إذا ما كان النظام قد أفصح عن مخزوناته كاملة.
إعلانبادئ ذي بدء، اقتصر دخول الفِرَق إلى مواقع تخزين السلاح الكيميائي التي أعلن عنها النظام، أما المواقع غير المُعلنة فكان على المفتشين تقديم طلب دخول إليها عبر إرفاق مجموعة من الأدلة التي تدعم شكوكهم، أي إن تحركات المفتشين كانت تخضع لشروط النظام، وكان له صلاحية رفض تلك التحركات. في إحدى الحالات، شكَّك المفتشون بأن النظام يمتلك أكثر من 20 طنًّا من غاز الخردل هو حجم ما اعتُرف به رسميا، وعندما ضغطت الأمم المتحدة على النظام، ذكر أنه كان قد أتلف فعلا مئات الأطنان من غاز الخردل قبل بدء عملية التفتيش دون تقديم أدلة على ذلك.
لاحقا، كشفت العيّنات التي أخذتها منظمة حظر الأسلحة الكيميائية في موقع الأبحاث العسكرية السورية "المعهد 3000" (في مايو/أيار 2014 ويناير/كانون الثاني 2016) عن وجود بعض المواد الكيميائية الناتجة عن تحليل غاز الأعصاب "في إكس"، كما وجد المفتشون آثارا من كحول "بيناكوليل" في المنشأة، وهو مادة أولية لغاز الأعصاب "سومان" وليس له استخدامات سلمية.
قُطعت هذه الشكوك باليقين حين استأنف النظام هجماته الكيميائية بعد الإعلان عن تفكيك ترسانته. وتشير تقديرات مستقلة إلى وقوع عشرات الهجمات الكيميائية للنظام بعد تفكيك ترسانته رسميا. على سبيل المثال، في الرابع من إبريل/نيسان 2017، ظهرت التقارير حول هجوم بغاز السارين على قرية خان شيخون، 30 ميلا جنوبي إدلب، الذي خلَّف أكثر من 100 قتيل، وهي الحادثة التي عُرفت بمجزرة خان شيخون، ما دفع الولايات المتحدة إلى إطلاق 59 صاروخا من طراز "توماهوك" على قاعدة الشعيرات الجوية، الموقع الذي انطلق منه الهجوم الكيميائي.
لاحقا، استهدف النظام مدينة دوما بريف دمشق عام 2018 بأسطوانات غاز الكلور، مما أسفر عن مقتل 43 شخصا. وردا على هذا الهجوم، شنَّت الولايات المتحدة إلى جانب فرنسا وبريطانيا، في إبريل/نيسان عام 2018، ضربات عسكرية ضد ثلاثة مواقع ذكرت إدارة ترامب حينها أنها كانت جزءا من برنامج الأسلحة الكيميائية السوري، منها موقعان لتخزين الأسلحة الكيميائية في غرب حمص، أحدهما الموقع الأساسي لإنتاج غاز السارين، بينما الموقع الثالث كان في إحدى مناطق دمشق، وذكر مسؤول في البنتاغون حينها أنه مركز لتطوير وإنتاج الأسلحة الكيميائية والبيولوجية.
إعلان ما السلاح الكيميائي وما خطورته؟يقودنا هذا الاستعراض إلى حديث مقتضب حول الأسلحة الكيميائية نفسها، ولماذا تُعد مصدرا للرعب. بحسب منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، يُعرَّف السلاح الكيميائي بأنه أي مادة كيميائية سامة مُصمَّمة خصوصا لإحداث الوفاة أو غيرها من الأضرار، أو أي مادة أخرى يمكن أن تؤدي بتفاعل كيميائي إضافي إلى تلك المادة السامة، التي يمكن أن تُستخدم مباشرة، أو تُوضع في ذخائر عسكرية.
تنقسم الأسلحة الكيميائية إلى عدة عوامل بحسب استخدامها، هناك مثلا خردل الكبريت الذي يُصنَّف ضمن العوامل المنفّطة، وتظهر تلك العوامل في الحروب على شكل سائل، أو رذاذ، أو بخار، أو غبار، وتدخل إلى الجسم عبر الرئتين والجلد. وغاز الخردل ليس له لون أو رائحة، ولكن عندما يُخلط مع مواد كيميائية أخرى فإنه يصبح بُنّي اللون وله رائحة تشبه رائحة الثوم، وتشمل أعراضه حروقا في الجلد والأغشية المخاطية والعينين، بالإضافة إلى التهابات جلدية ومشكلات في الجهاز التنفسي مثل التهابات القصبة الهوائية والرئتين.
بينما يُعد الكلور ضمن العوامل الخانقة، التي تكون عادةً في شكل غاز وتدخل الجسم عبر الرئتين. عند استنشاقها، تُسبب هذه العوامل تهيُّجا في الأنف والمجرى التنفسي، وقد تؤدي إلى تراكم السوائل في الرئتين مما يسبب الاختناق. يُعد الكلور مادة كيميائية مزدوجة الاستخدام، إذ يُستخدم في العديد من التطبيقات المدنية السلمية المشروعة، لكن يُحظر استخدامه بوصفه سلاحا بموجب اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية.
أما الأسلحة الكيميائية الأكثر خطورة فهي العوامل المؤثرة على الأعصاب مثل "السارين"، و"في إكس". تظهر هذه المواد أيضا في شكل سائل، أو رذاذ، أو بخار، أو غبار، وتخترق الجسم عبر الرئتين والجلد كليهما، وتؤدي إلى تشنجات شديدة، وفقدان السيطرة على الجسم، وشلل العضلات بما في ذلك عضلة القلب والحجاب الحاجز مما قد يؤدي إلى الوفاة.
إعلانأحد أكثر تلك العوامل استخداما هو غاز السارين، الذي طُوِّر أثناء الحرب العالمية الثانية، واكتسب اسمه من اسم العالِم الألماني الذي طوَّره، ومثله غاز "تابون" وغاز "سيكلوسارين". وتُعد هذه المجموعة من الغازات الطيارة التي تتحول إلى سائل في درجة حرارة غرفة طبيعية، غير أن غاز السارين هو أخفها، والسارين الصافي عندما يكون سائلا يكون عديم اللون والطعم والرائحة.
استخدم نظام الأسد هذه العوامل في هجمات كيميائية مختلفة على مدار السنوات الماضية، لكن التقارير تشير إلى أن المادة الكيميائية السامة الأكثر استخداما هي الكلور. ووفقا لبيانات "بي بي سي"، يُشتبه في استخدام جيش النظام السوري للكلور في 79 هجوما مسجلا. وتُعزى ميزة الكلور -في الهجمات الكيميائية- إلى صعوبة إثبات استخدامه، وبالتالي زيادة إمكانية الإنكار، بسبب سرعة تطاير الكلور، ما يعني تبخّره وتشتته سريعا.
أب يرثي أبناءه بعد مقتلهم على إثر الهجمات الكيميائية التي شنتها قوات الأسد في مدينة الغوطة في أغسطس/آب 2013 (الأوروبية)تشير شهادات المنشقّين عن مركز الدراسات والبحوث العلمية السوري لصحيفة "لوموند" الفرنسية عام 2020 إلى أن براميل الكلور تُصنع محليا، وأشارت تلك الشهادات إلى كيانات جديدة لم تكن معروفة من قبل، مثل ورشتين لإنتاج البراميل المتفجرة المليئة بالكلور، إحداهما تقع في جمرايا، والأخرى بالقرب من مصياف. ويشير التقرير أيضا إلى آليات تزويد المركز بالمواد الكيميائية، إذ اكتشف المحققون أنه بين عامَيْ 2014-2018، صدّرت 39 دولة -بينها 15 دولة أوروبية- 69 فئة من المنتجات التي يُحتمل خضوعها للعقوبات إلى سوريا، وتضم بصورة أساسية مُركب "أيزوبروبانول"، الذي يُسمح بتسويقه فقط إذا كانت نسبة تركيزه أقل من 95%، لأنه يمكن استخدامه في صنع غاز السارين.
إعلانوفي نوفمبر/تشرين الثاني عام 2023، أصدرت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بيانا في يوم إحياء ذكرى كل ضحايا الحرب الكيميائية، أشارت فيه إلى أن النظام السوري لا يزال يمتلك ترسانة من الأسلحة الكيميائية، مع مخاوف جدّية من احتمال تكرار استخدامها في سوريا. وأشار البيان إلى أن روسيا تساعد النظام السوري في إخفاء مخزوناته من الأسلحة الكيميائية. وقد وثَّقت الشبكة حتى تاريخ 30 نوفمبر/تشرين الثاني عام 2023 ما لا يقل عن 222 هجوما بالأسلحة الكيميائية في سوريا في قاعدة بياناتها، منذ أول استخدام موثق لهذه الأسلحة المحرّمة دوليا في 23 ديسمبر/كانون الأول عام 2012. وقد نفّذت قوات النظام السوري ما مجموعه 217 هجوما من إجمالي تلك الهجمات، بينما نفّذ تنظيم الدولة الهجمات الخمس المتبقية.
أما خطورته، فيُعد السلاح الكيميائي ضمن أخطر الأسلحة فتكا بالبشر على المستوى الجماعي، غير أن حجم الأضرار الناجمة عنه يعتمد بشكل كبير على تركيزه، وهو أمر يختلف من مكان إلى آخر، حيث تزيد المخاطر في الأماكن المغلقة والضيقة، مقارنة بالمساحات الواسعة على سبيل المثال، وفي كل الأحوال يؤدي التعرض لذلك النوع من المواد إلى الوفاة إذا زاد التركيز الذي يتعرَّض له الشخص ومدة التعرُّض على حدٍّ معين.
حقيقة أخرى لا تقل أهمية عن السلاح الكيميائي هي أنه "عشوائي" في اختيار ضحاياه، إذ يمر بين جنبات البيوت والحارات الضيقة، فيقتل مَن يقابل بلا تمييز. وتزداد الأمور سوءا إذا علمنا أن المواد الكيميائية تُحمَل مع الرياح أو المياه إلى مسافات طويلة، ويستمر تأثيرها لمدة يومين تقريبا في البيئة التي أُطلقت بها، في ظل ظروف مناخية متوسطة، ومن أسابيع إلى شهور في ظل ظروف شديدة البرودة.
كل هذا ولم نتحدث بعد عن ذلك القدر من الألم غير المحتمل الذي يعانيه الضحايا قبل الموت. تبدأ أعراض تسمم السارين مثلا بدموع غزيرة، مع ألم واضح ورؤية مشوَّشة، إلى جانب سيلان اللعاب والتعرق المفرط والسعال وضيق الصدر والتنفس السريع والإسهال والغثيان والقيء، مع آلام في البطن وزيادة التبول والارتباك والنعاس والصداع، إلى جانب ذلك يرتفع معدل ضربات القلب ويضطرب ضغط الدم. ومع استمرار التعرض، يفقد الشخص الوعي، وقد تظهر تشنجات وشلل، تنتهي بفشل الجهاز التنفسي، ثم الوفاة.
إعلانفيما يتسبَّب الكلور في ألم حارق واحمرار وبثور على الجلد، مع شعور بحرقة في الأنف والحلق والعينين، وسعال ساحق، وضيق شديد في الصدر، وصعوبة في التنفس، يعقب ذلك تراكم السوائل في الرئتين، ومع استمرار التعرُّض تكون الوفاة هي النتيجة التالية. كل هذا القدر من الألم ألحقه نظام الأسد بلا رحمة بآلاف الضحايا، الذي كانوا بالنسبة إليه ثمنا مقبولا للاحتفاظ بكرسي السلطة، الذي لم يُخيَّل إليه أنه سيفقده بين طرفة عين وانتباهتها، في اثني عشر يوما فقط.