الجزيرة:
2024-12-16@10:51:46 GMT

عن جدلية الأفضلية والأسبقية بين الشعر والنثر

تاريخ النشر: 15th, November 2024 GMT

عن جدلية الأفضلية والأسبقية بين الشعر والنثر

عن جدلية الأفضلية والأسبقية بين الشعر والنثر، "النظم أدل على الطبيعة، لأن النظم من حيز التركيب. والنثر أدل على العقل، لأن النثر من حيز البساطة. وإنما تقبلنا المنظوم بأكثر مما تقبلنا المنثور لأنا للطبيعة أكثر منا بالعقل، والوزن معشوق للطبيعة والحس؛ ولذلك يغتفر له عندما يعرض استكراه في اللفظ. والعقل يطلب المعنى، فلذلك لا حظ للفظ عنده وإن كان متشوَّقا معشوقا"؛ هكذا عبر أبو حيان التوحيدي عن جدلية المفاضلة بين الشعر والنثر وأيهما أشد أثرا في النفس في كتابه "المقابسات"، مؤكدا أن هذه الجدلية التي لن تنتهي فلسفية المنشأ، ولئن كان التوحيدي ومعه ثلة كالقلقشندي والمرزوقي والثعالبي يرون أفضلية النثر على الشعر لأنه مبني على مصالح الأمة وقد جرت عليه مكاتبات الملوك والحكام فيما بينهم، فإن غالبية النقاد الأقدمين والمعاصرين يرون أفضلية الشعر على النثر.

وقد عُرف العرب منذ العصر الجاهلي بعنايتهم الفائقة بالشعر العربي، واهتمامهم به أكثر من النثر، لأنه أقرب إلى النفس وأعلق بالذاكرة وأسير على الألسنة، وهو كما يقول الحاتمي في "حلية المحاضرة": "وأولى هذين بالمزية، والقدم للمتقدم، المنظوم؛ فإنه أبدع مطالع وأنصع مقاطع وأطول عنانا، وأفصح لسانا، وأنور أنجما، وأنفذ أسهما، وأشرد مثلا، وأسير لفظا ومعنى"، لكن ذلك لا يعني عدم اكتراثهم بالنثر، فقد اشتهر في صفوفهم كثير من الخطباء والبلغاء، ولم يكونوا أقل تقديرا من شعرائهم، أمثال قس بن ساعدة الإيادي، وسحبان بن وائل الباهلي، وأكثم بن صيفي، وغيرهم. وهكذا هي قضية تنازع الشعر مع النثر قديمة قدم التاريخ، وهي حاضرة في آداب الأمم جميعها، ولئن كان النثر هو أول ما تكلم به الإنسان، ولم ينظم الشعر إلا بعد حين من الزمن، أي بعد تطور اللغة والأوزان وتعرّفه ما يسمى بالعروض، فإن الشعر جاء انسجاما مع لغة الوجدان والعاطفة وترجمانا لها، أما النثر فهو ترجمان العقل كما يقول أبو حيان التوحيدي على لسان عيسى الوزير "النثر من قبل العقل، والنظم من قبل الحس".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الرد بالكتابة.. ثورة التحرير في الرواية الجزائرية الحديثةlist 2 of 2“المداري”.. رحلة للفضاء تمنح جائزة بوكر للبريطانية سامانثا هارفيend of list

إن مسألة التفاضل بين الشعر والنثر عند كثيرين ليست تنازعا بل تكاملا، فالنثر قسيم الشعر وكل منهما يكمل الآخر، ولكل منهما ميدانه وضروبه، وله معاييره الخاصة به، وذلك أن كلا من الشعر والنثر أدب، والأدب في حقيقته كلام جيء به لغايات متعددة؛ كالإخبار والتوثيق والتواصل والإقناع والحث والتأثير والشعور بالجمال والمتعة الفنية العالية التي يتميز بها في الوقت نفسه، وتتفاوت النصوص فيما بينها في هذا الجانب بحسب الكاتب ومهاراته والموضوع الذي يتناوله والغاية التي يكتب من أجلها. وكل من الشعر والنثر يعد تجربة ذاتية مرتبطة بذات الشاعر أو الأديب وأفكاره وانفعالاته ورؤاه.

أيهما أسبق وأيهما أجود؛ الشعر أم النثر؟

تستند جدلية الأفضلية بين الشعر والنثر في جزء رئيس منها إلى جدلية الأسبقية، فقد اختلفت الآراء اختلافا شاسعا حول أيهما أسبق؛ الشعر أم النثر، لكن الراجح في آراء العلماء أن الشعر أسبق؛ وذلك لأن النثر يقوم على تفكر ورؤية ونظر، بخلاف الشعر الذي بدأ غنائيا بسيطا ثم تطور مع مرور الزمن وتعاقب العصور والأجيال.

في مسألة أسبقية الشعر على النثر وأفضليته عليه يعتمد بعض الدارسين على السبق الزمني تاريخيا، معللين ذلك بأن لغة الخيال والتصوير والتشبيه أقرب إلى الإنسان الأول في صورته الفكرية الأبسط، أما لغة الفكر والخطاب والإقناع فهي أقرب للإنسان المعقد في صورته الفكرية المركبة. والحديث عن أفضلية الشعر والنثر مسألة حبلت بها كتب الأدب القديم وتعسّر المخاض فلم يتفق الدارسون على رأي واحد فيها. ويقال إن النثر "لا يظهر عند أمة من الأمم إلا متى بلغت تلك الأمة درجة عالية من المدنية والحضارة، بخلاف الشعر لغة العاطفة والخيال".

شغلت مسألة المنافسة والتمايز بين الشعر والنثر قديما كثيرا من النقاد، ولعل أول من طرق هذه القضية هو الجاحظ، فقد ناقش هذه القضية في كتابه (البيان والتبيين)، وذهب إلى أن العرب كانت تقول كلاما منثورا أكثر من الشعر، لكن النقل والرواية كان من نصيب الشعر أكثر، وأورد في كتابه البيان والتبيين جواب عبد الصمد بن الفضل بن عيسى الرقاشي حين سئل: "لم تؤثر السجع على المنثور، وتلزم نفسك القوافي وإقامة الوزن؟ فقال: إن كلامي لو كنت لا آمل فيه إلا سماع الشاهد لقل خلافي عليك، ولكني أريد الغائب والحاضر، والراهن والغابر، فالحفظ إليه أسرع، والآذان لسماعه أنشط، وهو أحق بالتقييد وبقِلّة التفلت. وما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره". يريد الجاحظ بذلك أن يبين لنا أنه لو نقلت لنا الكمية نفسها التي قالها العرب القدامى من النثر لرجحت الكفة لصالحه، ولكن العرب يحبون القول الفصيح وهم أصحاب فصاحة، والشعر أكثر قدرة على التعبير عن هذه الذاتية الأدبية التي يتطلع إليها الإنسان العربي.

وفي هذه المسألة نفسها ارتأى ابن رشيق أن للشعر فضلا على النثر فقال: "وكلام العرب نوعان: منظوم، ومنثور، ولكل منهما ثلاث طبقات: جيدة، ومتوسطة، ورديئة، فإذا اتفقت الطبقتان في القدر، وتساوتا في القيمة، ولم يكن لإحداهما فضل على الأخرى كان الحكم للشعر ظاهرا في التسمية؛ لأن كل منظوم أحسن من كل منثور من جنسه في معترف العادة، ألا ترى أن الدر وهو أخو اللفظ ونسيبه، وإليه يقاس، وبه يشبَّه، إذا كان منثورا لم يؤمَن عليه، ولم ينتفَع به في الباب الذي له كُسب ومن أجله انتخب؛ وإن كان أعلى قدرا وأغلى ثمنا، فإذا نظم كان أصون له من الابتذال، وأظهر لحسنه مع كثرة الاستعمال، وكذلك اللفظ إذا كان منثورا تبدد في الأسماع، وتدحرج عن الطباع، ولم تستقر منه إلا المفرطة في اللفظ وإن كانت أجمله". في حين يقول ابن طرارة وهو من فصحاء أهل العصر بالعراق: "النثر كالحرة، والنظم كالأمة، والأمة قد تكون أحسن وجها، وأدمث شمائل، وأحلى حركات، إلا أنها لا توصف بكرم جوهر الحرة ولا بشرف عرقها وعتق نفسها وفضل حيائها. وقال: ولشرف النثر قال الله تعالى في التنزيل: ﴿إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا﴾ الإنسان: 19 ولم يقل: لؤلؤا منظوما".

ثم ذهب ابن رشيق إلى حسم الجدال بقوله: "وقد اجتمع الناس على أن المنثور في كلامهم أكثر، وأقل جيدا محفوظا، وأن الشعر أقل، وأكثر جيدا محفوظا؛ لأن في أدناه من زينة الوزن والقافية ما يقارب به جيد المنثور". وعن أسبقية النثر وأهميته يقول أبو حيان التوحيدي: "النثر أصل الكلام والنظم فرعه، والأصل أشرف من الفرع".

وجاء بعدهم نقاد آخرون حاولوا أن يقيموا نوعا من التسوية القائمة على المنطق والعقل، فذهب نقاد القرن الخامس الهجري إلى أن للنثر أسبقية على الشعر، وذلك لأن الإنسان عندما نطق في البداية إنما نطق بالنثر. أما فيما يتعلق بالجانب الجمالي فيرجحون كفة الشعر. وفي الواقع أن أي أدب يقوم على عنصرين اثنين؛ عنصر معرفي، وعنصر جمالي، فالقصد من أي نص أدبي هو إيصال المعرفة وإحداث التأثير وإثارة الإعجاب، وطريق النثر لأداء الوظيفة المعرفية أسهل لأنه لا يتقيد بحدود الوزن والقافية، وحرية القائل فيه أكبر وأوسع، أما الوظيفة الجمالية فالشعر أقدر عليها. وعلل ابن رشيق نظم الشعر وتقصيد القصيد لدى العرب بقوله: "كان الكلام كله منثورا فاحتاجت العرب إلى الغناء بمكارم أخلاقها، وطيب أعراقها، وذكر أيامها الصالحة، وأوطانها النازحة، وفرسانها الأمجاد، وسمحائها الأجواد؛ لتهز أنفسها إلى الكرم، وتدل أبناءها على حسن الشيم فتوهموا أعاريض جعلوها موازين الكلام، فلما تم لهم وزنه سموه شعرا؛ لأنهم شعروا به، أي: فطنوا".

لا يمكن لأحد أن ينكر إسهام الشعر بحفظ كثير من أخبار العرب وأيامهم ووقائعهم وبدائع ما جادت به قرائحهم، وذلك لأنه كلام موزون يسهل حفظه وتناقُله، وبذا نال الشعر مزية الحفظ والبقاء إذا جاز التعبير، في حين لم ينل النثر العربي ما حظي به الشعر من سَير وانتشار على الألسنة وبقاء في الأذهان والقلوب، فهو خلاف الشعر كلام مرسل غير موزون ولا مقفى. وتمتُّع العرب بحافظة قوية كما يعرف عنهم؛ جعل حظ الشعر في البقاء والامتداد الزمني عبر التاريخ أعظم وأبعد.

على أن تمييز النثر من الشعر بالوزن والقافية فحسب ليس كافيا، فقد تجد قطعا نثرية موزونة وفيها سجع يقربها من التقفية لكنها ليست بشعر، فالشعر التعليمي على سبيل المثال له وزن وقافية لكنه يفتقد إلى الخيال والعاطفة، فلا هو نثر بالمطلق ولا هو بشعر. وهناك من يقول بقصيدة النثر التي ليس لها وزن ثابت ولا قافية، وفيها خلاف كبير وشائك بين قابل ورافض لها، ولست من أنصارها.

الفرق بين لغة الشعر ولغة النثر

تعد اللغة من أهم الفروق البينة بين الشعر والنثر، فاللغة الشعرية تخييلية تقوم على الانزياحات اللغوية بأشكالها المختلفة، وتخاطب العاطفة كخطابها للعقل لتولد لدى المتلقي الدهشة واللذة وتؤثر فيه فتثير تعجبه وإعجابه، والإيقاع والموسيقى الداخلية للكلمات جزء مهم من عناصر التأثير في المتلقين. في حين تتميز اللغة النثرية بالتركيز على مخاطبة العقل قبل العاطفة وإن اعتمدت على الانزياحات اللغوية أيضا، فغايتها التواصلية الإيصالية الإقناعية تطغى على وظيفتها الجمالية الإمتاعية عامة، وفي ذلك يقول زكي مبارك "إذا كان موضوع القول متصلا بالمشاعر والعواطف والقلوب كان الشعر أوجب؛ لأن لغته أقدر على التأثير والإمتاع، وإذا كان الموضوع متصلا بأعمال العقل والفهم والإدراك كان النثر أوجب؛ لأن لغته أقدر على الشرح والإيضاح والإفهام والتبيين والإقناع ".

الكذب في الشعر محمود وفي النثر مذموم!

من غرائب فضائل الشعر على النثر أن الكذب فيه محمود؛ إذ يقول ابن رشيق "ومن فضائله أن الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه"، وحين سئل أحد المتقدمين عن الشعراء قال "ما ظنك بقوم الاقتصاد محمود إلا منهم، والكذب مذموم إلا فيهم؟". وفي مدح الشعراء وتجويز المبالغة لهم وفتح أبواب الضرورات التي تبيح المحظورات في اللغة قال الخليل "هم أمراء الكلام يصرفونه أنى شاؤوا، وجائز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومد مقصوره وقصر ممدوده، والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته".

من حجج المنتصرين للنثر على الشعر

في تقديم النثر على الشعر في صدر الإسلام قال أبو عمرو بن العلاء "كان الشاعر في الجاهلية يقدَّم على الخطيب، لفرط حاجتهم إلى الشعر الذي يقيد عليهم مآثرهم ويفخّم شأنهم، ويهول على عدوهم ومن غزاهم، ويهيب من فرسانهم ويخوف من كثرة عددهم، ويهابهم شاعر غيرهم فيراقب شاعرهم. فلما كثر الشعر والشعراء، واتخذوا الشعر مكسبة ورحلوا إلى السوقة، وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر".

وفي سياق تفضيل الشعر على النثر وتعارض الآراء يستشهد الفريق الذي يفضل النثر ويرى تفوقه على الشعر بالقرآن الكريم، ويستندون إلى نفي صفة الشاعر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ويرون أن في ذلك دلالة على وجوب تراجع مكانة الشعر، لكن الله تعالى جعل القرآن منثورا لبيان فضله على الشعر أيضا، فالقرآن لا يخضع للقياس بالنثر المعهود آنذاك ولا بالشعر، وقد تحدى بلغاء العرب شعراء وخطباء أن يأتوا بمثل آية واحدة منه فحسب، فأعجز الشعراء وما هو بشعر، وأعجز الخطباء وما هو بنثر. لذلك في حديث الشعر والنثر والأفضلية بينهما لا ينبغي أن يطرح حديث القرآن، فهو فوق كلام البشر ولا يخضع لمعاييرهم في القياس.

لن تنتهي جدلية الأفضلية والأسبقية بين الشعر والنثر؛ فهي قائمة على الرؤية الفلسفية لكل منهما عند الفريق المنتصر لأحدهما على الآخر، وتفرع عن هذه الجدلية القديمة المتجددة جدلية جديدة حول موت الشعر ونهايته في عصر الرواية، وهي أيضا جدلية شائكة، ويبقى الواقع هو الحاكم.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الشعر على النثر على الشعر من الشعر إذا کان

إقرأ أيضاً:

البارودي بشير نهضة الشعر العربي الحديث

(1)

ورثت حب الشاعر الأصيل محمود سامي البارودي، وشعره، والنظر إليه بإكبار حقيقي، من أساتذتي الأجلاء في كلية الآداب، بين أساتذة الأدب العربي القديم والحديث على السواء. كان مثيرًا للاهتمام ذلك الاحترام الكبير الذي يتحدث به المرحوم الدكتور جابر عصفور عن البارودي وشعره، وعن أثره الكبير والعميق والأصيل في "إحياء" الشعر العربي والتأسيس لنهضته الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بعد أن استعاد جزالته وفخامته وحكمته وموسيقاه وروحه العربية الأصيلة التي حيل بينها وبين المتأدبين و"الشعراء" -أو الناظمين إذا شئنا الدقة- في الثقافة العربية، خلال القرون الثلاثة السابقة على القرن التاسع عشر.

بهذا المعنى أدركنا نحن طلاب الأدب والنقد ودراسة الحركة الشعرية العربية الحديثة في بواكيرها، أن دور محمود سامي البارودي يتجاوز كثيرا ما كنا نعرفه أو نقرأ عنه باعتباره "رائد الشعر العربي الحديث" وباعتباره رأس مدرسة الإحياء والبعث "الكلاسيكية" التي مرت بأطوار ثلاثة أو عرفت بأعلام ثلاثة مثلوا محطاتها المفصلية: محمود سامي البارودي "المؤسس"، وأحمد شوقي الذي وصل إلى ذروة هذه المدرسة وارتقى إلى مصاف لم يبلغها أحد قبله، ثم حافظ إبراهيم الذي كان الاسم الملازم لشوقي، وقرينه في الإبداع الشعري، وما يكاد يذكر اسم أحدهما إلا ويلحق بالآخر!

وأتفق تماما مع من يرى محمود سامي البارودي (1839- 1904) الشاعر الكبير، واحدًا من الشخصيات الاستثنائية في تاريخ الشعر العربي الحديث. وهو لا يختلف عن غيره من الشخصيات الاستثنائية التي تقطع تواصلًا، وتؤسس تغيرًا واعدًا، واتجاهًا مغايرًا، في علاقة جدلية بالتاريخ.

فالشخصية الاستثنائية تأتي في لحظة متعينة من الزمن، كأنها على موعد مع القدر، لحظة هي مفرق فصول، ومسافة واصلة وفاصلة بين نقائض: الموت والميلاد، الذبول والنماء، الخريف والربيع، الليل والنهار، الانحدار والنهضة، التقليد والابتكار. هذه اللحظة الزمنية تصنع "الشخصية الاستثنائية" التي تنطلق بإمكانات الدفع فيها، وذلك بالقدر الذي تسهم به هذه "الشخصية الاستثنائية" في تفعيل طاقات الحياة المحتبسة في زمنها، فتصنع زمنها في التفاعل الذي يحيل مفرق الفصول إلى ابتداء جديد للفصول، مستبدلًا الميلاد بالموت، والنماء بالذبول، والربيع بالخريف، والنهار بالليل، والنهضة بالانحدار، والابتكار بالتقليد.

ولا تفعل الشخصية ذلك إلا لأنها تنحاز إلى كل الإمكانات الموجبة الواعدة في زمنها النوعي، مهما صغرت أو قُمعت، أو كُبِحَتْ، فتدفعها وتندفع معها، بادئة أول المسار المختلف الذي يغدو استهلالاً متجدداً وتحقيقاً لحلم البعث.

(2)

وحياة محمود سامي البارودي، وإنجازاته الشعرية، بوجهٍ خاص، تحقيق نموذجي لذلك، وتأكيد له، فقد جاء في اللحظة التاريخية التي كانت تجمع بين نقائض الثبات والتحول، لكنها اللحظة التي كانت تغلب فيها عناصر الثبات، وتتمطى فيها عناصر التحول كالبذور الدفينة التي تشرئب إلى النور، في حركتها من باطن الأرض إلى الشمس، فمنح البذور الدفينة قوة العزم، وحرارة الاندفاع، والشوق إلى رؤى المستقبل الواعد بالشمس والنسيم، مؤسسًا لعلاقة المخالفة والمنافسة التي وصلته بالشعراء العظام في تراثه، الشعراء الذين بدأ بهم ليمضي بعدهم، وعرف أسرار إبداعهم بالمحاكاة التي سرعان ما تحولت إلى "معارضة" فاتحة أبواب الاختلاف الذي يحقق الحضور، والحضور الذي ينتقل بالوجود من شروط الضرورة إلى أفق الحرية.

من قراءة سيرة البارودي، وما كتب عنه، بموازاة معرفة أدواره السياسية والعسكرية والنضالية، فيما عرف في التاريخ المصري والعربي الحديث بالثورة العرابية (1881)، عرفنا الدور الخطير الذي لعبه في اكتشاف المنابع الأصيلة للشعر العربي القديم، وعكوفه على روائع هذا الشعر العربي القديم عكوفًا اكتسب في تضاعيفه السليقة العربية الأصيلة، والروح العربي الصميم بكل مقوماته.

ومن الكتب التي أرخت له أو تتبعت سيرته، نراه في أوائل حياته، وكأنما انطبعت في نفسه أحاسيس "الفارس العربي القديم"، بكل ما اتصل بها من حماسة ووصف للحروب وحب وخمر وشعور بجمال الطبيعة. وتنفذ الشكوى والسياسة والمشاعر الوطنية إلى شعره منذ عمل ياورا بالقصر الخديوي، ويرسل زفراته وزفرات أمته نارًا متأججة.

ويُنفى مع زعماء الثورة العرابية إلى "سرنديب" فيشدو بغناء حزين مصورًا حنينه الدفين، باكيًا زوجه قرة عينه، ومن اخترهم الموت من أصدقائه بكاء يعتصره من قلبه، ويرفع بصره إلى السماء مبتهلًا لربه زاهدًا في متاع الدنيا الزائل. وقد لاحظ المرحوم الدكتور شوقي ضيف -في كتابه التأسيسي عنه- أنه كان يُعنى عناية شديدة بصقل شعره حتى تستوي نماذجه كاملة محكمة، وهو صقل جعله يكثر من تنقيحه، مدخلا فيه كثيرًا من التعديل والحذف والإضافة، حتى يصبح بناؤه وطيدًا وثيقًا ونسيجه متماسكا متينًا. ويقول في ذلك "نراه يضرم فيه روح العروبة بمحافظته على العناصر الشعرية القديمة، مع مد جنباتها وتحويرها تحويرًا بديعًا للتعبير عن وجدانه ووجدان قومه وما أثر في نفسه من الآداب الفارسية والتركية والمخترعات العصرية وأمجاد أمته التاريخية".

(3)

وكان من الضروري -والأمر كذلك- أن ينحاز البارودي إلى قوى التقدم ورموزه في عصره، ويبحث عن أشباهه من الذين اندفعوا بحركة النهضة في كل مجال فكانوا "زعماء الإصلاح" كما أطلق عليهم الرائد النهضوي العظيم أحمد أمين (1886-1954) في كتابه الشهير الذي يحمل الاسم نفسه، أو دعاة التجديد ورواد التحديث: رموز النهضة وصانعيها في الإبداع (شعرًا ورواية ومسرحًا)، والفكر (مدنيًا ودينيًا) والمجتمع والسياسة.

هكذا، انحاز البارودي العسكري، ذو الأصل غير المصري (وغير العربي) إلى الضباط المصريين في نزوعهم الوطني، وسعيهم المناقض للاستبداد والظلم والتمييز العرقي، كما انحاز إلى دعاة العقل من مفكري عصره الذين أعادوا فتح أبواب الاجتهاد، مؤسسين استنارة الزمن المقبل، وأعان بشعره على نشر أفكار طليعة المجتمع المدني الذي لا يعرف التمييز الغليظ بين فئاته وطبقاته وطوائفه، جنبًا إلى جنب الدولة المدنية التي تعرف الدستور والبرلمان.

وكان أولًا في مجال "التجديد الشعري"، كما كان أقرانه أوائل في استحداث "فن الرواية"، و"فن المسرح" في اللحظة الزمنية نفسها للنهضة التي صنعها كل واحد في مجاله.

وإذا انتقلنا من العام إلى الخاص، بتعبير المرحوم جابر عصفور، قلنا إن محمود سامي البارودي الذي تُوفي منذ مائة وعشرين عامًا بالتمام والكمال، كان بشير النهضة الإبداعية التي منحت الشعر العربي من حيوية التجدد ونضارة الإبداع ما أعاد للشعر العربي عافيته، وانطلق به في أفق من التغير الواعد، الذي أعاد للشعر علاقة الندية بالتراث الزاهر، وعلاقة التفاعل مع الحياة والأحياء، وعلاقة الإبداع مع الآداب المجاورة والمقاربة.

(4)

وكانت البداية هي الإيمان بقيمة "الشعر" التي لا يمكن اختزالها في الاحتراف، أو السعي وراء الأمراء، والتي تمتد لتشمل الوجود وما بعد الوجود، واصلة ما بين الثرى والثريا، مقترنة بالإنسان الذي يصنع مستقبله مستهديًا بالعقل الذي هو ميزان الرؤية، والخيال الذي هو مركبة الإبداع، والحرية التي يجاوز بها العقل والخيال شروط الضرورة وقيود التقليد. وأصل الحركة في ذلك كله، كما يفسرها جابر عصفور، هو الإحساس بالمكان الذي ينطلق منه الشعر ليعود إليه في الزمان الذي يتعامد على المكان في حركته التي تدفع الشعر، وتندفع برؤاه. ولذلك ظل الشاعر -عند البارودي- في المرتبة الأسمى بالقياس إلى أي وظيفة أو احترافٍ آخر، أو من في حكمه، فالشاعر هو صاحب الرؤية التي تصنع المستقبل وتدل عليه، وهو الرائي الذي يرى ما لا يراه غيره.

وقد توقف النقاد، ومؤرخو الشعر العربي الحديث، توقفا متأنيا عند بيان منزلته الشعرية، وكيف أنه يعد حامل لواء الشعر العربي الحديث، مهما اختلفت مدارسه، وتفاوتت مذاهبه بين المحافظة والتجديد، إذ يشرف عليها جميعًا وكأنه المنارة الهادية بأضوائها إلى الطريق القويم. ويكاد الدكتور شوقي ضيف جازما يؤكد أنه "هو الذي مكن لمصر من أن ينشأ فيها شوقي وحافظ وغيرهما من حوارييه، وأن تحتل مكان الزعامة في الشعر العربي الحديث خلال تلك الفترة"..

مقالات مشابهة

  • هوى وشباب
  • فلسطين في الشعر العربي القديم
  • دراسة تربط تساقط الشعر بالصيام المتقطع
  • بيت الشعر في المغرب يسلم البحريني قاسم حداد جائزة الأركانة
  • فوائد زيت الورد للبشرة والشعر| علاج طبيعي للتجاعيد والشعر الجاف
  • فوائد زيت جوز الهند للبشرة والشعر| مكون طبيعي للعناية الشاملة
  • مدينة تركية تحدد سعر حلاقة العريس
  • البارودي بشير نهضة الشعر العربي الحديث
  • أفضل وصفة لتطويل وتكثيف الشعر
  • هل الشامبو ضار بشعرك؟ كل ما تريدين معرفته عن غسل الشعر