بلغت "تجارة" ترامب ذروةَ نشاطِها سلفا. فمع اتضاح فوزه في الانتخابات الرئاسية ارتفعت بشدة أسعار العقود الآجلة للأسهم الأمريكية وقفزت عائدات سندات الخزانة الأمريكية وتعززت قيمة الدولار (مقابل سلة العملات الست التي تقاس عليها قيمته وهي اليورو والين والاسترليني والدولار الكندي والكرونة السويدية والفرنك السويسري- المترجم.

)

تحركات الأسعار تحتوي على رسالتين حول اتجاه وأثر سياسات ترامب الاقتصادية. فالتخفيضات الضريبية الكبيرة والمؤكدة تقريبا ستعزز النمو خصوصا في الأجل القصير. كما سيحفز على هذا النمو أيضا حماس ترامب تجاه تخفيف الإجراءات التنظيمية. لكن شبح الرسوم الجمركية والحملة ضد الهجرة قد يرفعان معدل التضخم ويقوضان عناصر القوة الاقتصادية للولايات المتحدة في نهاية المطاف. لنبدأ بأهمِّ ما أثار حماس المستثمرين ومسئولي الشركات فور اتضاح فوز ترامب وهو خفض الضرائب. الجمهوريون في سبيلهم إلى بسط سيطرة "ثلاثية" على الرئاسة ومجلسي الكونجرس بعد اقتران فوز ترامب القوي بأغلبية مريحة للحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ وأخرى بهامش أقل في مجلس النواب. هذا الوضع (التشريعي) سيفتح مسارا لترامب كي يقلص الضرائب. ستكون أولويته تمديد التخفيضات التي أجراها في ضريبة الدخل الشخصي عام 2017 والتي من المقرر أن ينتهي سريانها في نهاية العام القادم. وقد تعهد بخفض معدل الضريبة على الشركات ربما إلى 15% من 21%. وأثناء حملته الانتخابية عرض تشكيلة مثيرة من التخفيضات الأخرى بما في ذلك إنهاء الضرائب على الإكراميات (البقشيش).

احتمال تحقيق الشركات عائداتٍ أعلى بعد حساب الضريبة يعين على تفسير صعود أسعار الأسهم عندما تحدد على نحو قاطع انتصار ترامب. لكن ما يقلق أن انخفاض الضرائب سيضغط على الأوضاع المالية للولايات المتحدة. ففي الوضع الحالي يقدِّر مكتب الموازنة في الكونجرس، وهو مراقب مستقل للأداء، أن أمريكا ستشهد عجزا في الموازنة بنسبة تصل إلى حوالي 6%من الناتج المحلي الإجمالي خلال العقد التالي. وهذا معدل مرتفع على نحو استثنائي لاقتصاد عادي في وقت السلم.

من الممكن أن تزيد تخفيضات ترامب الضريبية المختلفة عجز الموازنة بنسبة تصل إلى 12% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2025، وفقا للجنة الموازنة الفيدرالية المسئولة غير الحزبية. وقد يحدّ خطر انفجار العجز من مدى استعداد الجمهوريين في الكونجرس للمضي في التخفيضات الضريبية مع انطلاق المفاوضات المتعلقة بها في بداية العام القادم. وسيعتمد الكثير أيضا على طبيعة رد فعل الأسواق. فالارتفاع في عائدات سندات الخزانة كردِّ فعل لفوز ترامب يمثل تحذيرا من الهشاشة المالية للولايات المتحدة.

الشيء التالي الذي يركز عليه ترامب اهتمامه سيكون الرسوم الجمركية. فاعتقاده بأن الحمائية ضرورية لازدهار أمريكا ظل مركزيا في برنامجه السياسي على مدى عقد.

ربما فترته الأولى بالبيت الأبيض والتي شهدت فرض الرسوم الجمركية على الصلب المستورد من حول العالم وعلى سلسلة من المنتجات الصينية مجرد مقدمة لما سيحاول تطبيقه الآن. لقد تحدث عن فرض رسوم بنسبة 10% إلى 20% على كل شيء تستورده أمريكا و60% على كل السلع القادمة من الصين. بل حتى ضرائب جمركية أعلى ربما تصل إلى 500% على السيارات المستوردة من المكسيك.

يجمع الاقتصاديون تقريبا على أن هذه الرسوم ستقود إلى ارتفاع الأسعار الاستهلاكية وتعوق الاستثمار والنمو. وذلك يمكن أن يشكل مفارقة قاسية للناخبين الأمريكيين نظرا إلى أن الغضب تجاه التضخم في ظل إدارة بايدن عزز إعادة انتخاب ترامب. الجمهوريون في الكونجرس أيضا وبشكل عام أقل حرص على الرسوم الجمركية. فنزعة حرية التجارة التقليدية لا زالت حية ولو أنها بالكاد مزدهرة في الحزب. لكن أية معارضة منهم ربما لن تكون لها قيمة. فمستشارو ترامب وخصوصا روبرت لايتهايزر الممثل التجاري للولايات المتحدة في فترته الرئاسية الأولى يعكف على إعداد خطط لاستخدام الأوامر التنفيذية وسلطات الطوارئ التي لم تُختبر حتى الآن لفرض رسوم جمركية شاملة. وربما سيتيسر لهم فرض رسوم عقابية على الصين كناتج ثانوي لتحرياتهم السابقة في الممارسات التجارية. ومن هنا جاء التخلص من الأسهم الصينية في أعقاب فوز ترامب. من المؤكد أن الرسوم ستستدعي ردّا عليها. ففي أوروبا شرع المسؤولون في إعداد قوائم بالرسوم التي قد يفرضونها على السلع الأمريكية. أما الصين فربما ستستهدف المنتجات الزراعية من فول الصويا وإلى الذرة الشامية. وسيكون من المغري لبلدان أخرى احتذاء حذو الأوروبيين والصينيين. لكنها ستحاول أيضا الحصول على استثناءات من رسوم ترامب. سيصح ذلك خصوصا بالنسبة لكندا والمكسيك وهما البلدان اللذان ترتبط حظوظهما على نحو وثيق بالتجارة مع أمريكا. فقد هبطت قيمة البيزو المكسيكي إلى أدنى مستوى له خلال عامين في اليوم الذي أعقب الانتخابات وسط مخاوف من أن رسوم ترامب قد تثير المتاعب للاقتصاد المكسيكي.

نظرا إلى حجم وتنوع اقتصادها قد تكون أمريكا محمية بشكل أفضل من معظم البلدان الأخرى إذا نشبت حرب تجارية عالمية. فذلك، إلى جانب ارتفاع عائدات سندات الخزانة، يساعد في تفسير صعود الدولار بعد فوز ترامب. الخطر الحقيقي جدا للعالم هو ضعف النمو وارتفاع الأسعار وازدياد هشاشة سلاسل التوريد.

خطة ترامب لمعالجة قضايا الحدود موضوع ثابت في حملته الانتخابية ومصدر آخر للبلبلة. فإذا حافظ على وعوده بالترحيل الجماعي للمهاجرين سيؤثر ذلك بشدة على الاقتصاد بتقليص حجم القوة العاملة. ويعني طرد 8 مليون مهاجر خفضا للناتج المحلي الإجمالي بنسبة حوالي 7% عن مستواه المتوقع في عام 2028، وفقا لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي.

لكن من المستبعد أن يقترب العدد الفعلي من ذلك. فأية محاولة لترحيل المهاجرين جماعيا ستصطدم بمقاومة صلبة حيث سيرفض بعض مسئولي أكبر الولايات الأمريكية من كاليفورنيا وإلى نيويورك التعاون في ذلك. وبالتالي قد تكون المحصلة الأكثر واقعية فرض ضوابط أشد صرامة على الحدود من شأنها وقف تدفقات المهاجرين التي حدثت في ظل إدارة بايدن. وذلك في حد ذاته قد يقود الى نقص العمالة في المطاعم وشركات البناء وأنشطة أخرى وإطلاق قوة تضخمية أخرى.

هنالك مهددات أخرى أيضا. تعهُّد ترامب بجعل أمريكا "عاصمة الكوكب للتشفير" قد يجعل انتصاره نعمة للعملات المشفرة. فسعر عملة البيتكوين ارتفع إلى مستوى قياسي جديد مع ظهور نتائج الانتخابات. لكن تخفيف الضوابط التنظيمية لصناعة التشفير التي يتفشى فيها غسيل الأموال والأنشطة الإجرامية الأخرى من الصعب الترحيب به واعتباره تطورا حميدا.

في الأثناء المخاوف من التضخم غالبا ما ستؤثر بشدة على تقديرات بنك الاحتياطي الفيدرالي. فارتفاع عائدات أوراق الخزانة يُظهِر اعتقاد مستثمرين عديدين بأن البنك المركزي سينتهي به المطاف إلى الإبقاء على أسعار الفائدة في العام القادم عند مستوى أعلى من التقديرات السابقة. ذلك على الرغم من توقعهم خفضا بنسبة 25 نقطة أساس (0.25%) في اجتماع البنك يوم 7 نوفمبر (وهذا ما حدث فعلا. فقد خفض بنك الاحتياطي الفيدرالي يوم الخميس 7 نوفمبر النطاق المستهدف لسعر الفائدة على الأموال الفيدرالية بهذه النسبة ليصبح بين 4.5% و4.75%- المترجم.)

وإذا بدا البنك أكثر تشددا قد يثير ذلك بدوره غضب ترامب الذي قال إنه كرئيس يجب أن يكون له رأي في تحديد أسعار الفائدة. ترامب بالتأكيد يريد أن يرى تخفيضات حادة في أسعار الفائدة. قانونيا، لا يمكنه فعل شيئ يذكر للسيطرة على بنك الاحتياطي. لكن مستشاريه تحدثوا عن إيجاد "مجلس احتياطي فيدرالي موازٍ" لمحاولة توجيه قراراته. قد يثير مشهد الرئيس وهو يهاجم البنك المركزي مخاوف الأسواق لكن الاستقلالية القانونية للبنك ينبغي أن توفر له حماية جيدة. احتمال أن يعجز عن تحقيق طموحاته الأكثر تطرفا يلزم أن يطيِّب خاطر العالم ويخفف من قلقه. لكنه ربما يستطيع أن يمضي إلى أبعد مما فعل في فترته الرئاسية الأولى. فهو هذه المرة أفضل استعدادا للحكم بفريقٍ أكبر من الموالين له وخطة عمل أكثر تفصيلا. ستكون الرحلة الاقتصادية في ظل رئاسة ترامب مليئة بالاضطرابات الجوية (المَطَبَّات الهوائية) لأمريكا والعالم. لذلك أربطوا الأحزمة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: للولایات المتحدة الرسوم الجمرکیة فوز ترامب

إقرأ أيضاً:

تقرير فرنسي يكشف سياسة الوجهين الإماراتية تجاه قطاع غزة

نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية تقريرًا تحدثت فيه عن السياسة ذات وجهين التي تنتهجها الإمارات العربية المتحدة في غزة.

وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن دولة الإمارات تتظاهر بالانضمام إلى الإجماع العربي بشأن قيام دولة فلسطينية، وتحرص على إظهار مساعداتها الإنسانية في قطاع غزة، لكنها تعمل في نفس الوقت على تطوير شراكتها الإستراتيجية مع إسرائيل.

ونقلت الصحيفة ما جاء على لسان السفير الإماراتي لدى الولايات المتحدة الأمريكية يوسف العتيبة، الذي قال إنه لا توجد "أي بدائل حقًا" لخطة دونالد ترامب التي تهدف إلى تحويل قطاع غزة إلى "الريفيرا الفرنسية في الشرق الأوسط"، بمجرد تهجير السكان الفلسطينيين منه.

وقد  استطاع العتيبة، منذ توليه منصبه في سنة 2008، إقامة علاقات وثيقة مع القادة الأمريكيين من مختلف التوجهات السياسية، ونفذ حملة ترويجية ضخمة لدولة الإمارات. وكان في قلب مفاوضات اتفاق الشراكة الإستراتيجية بين إسرائيل والإمارات، الموقّع في أيلول/سبتمبر سنة 2020 في واشنطن ضمن اتفاقيات التطبيع. وخلال تلك الفترة، نسج علاقات وثيقة مع دونالد ترامب وفريقه، وصلت إلى ذروتها الآن.

إجماع شكلي
وتشير الصحيفة إلى العلاقة الجيدة التي تجمع السفير العتيبة برئيس دولة الإمارات، الشيخ محمد بن زايد، وشقيقه الأصغر عبد الله بن زايد، وزير الخارجية الإماراتي. وعليه، فإن تصريحاته لا تعتبر مجرد زلّات لسان، بل تعكس التوجّه العميق لدولة الإمارات، حتى لو انضمّت رسمياً، كما حدث خلال القمة العربية الأخيرة في القاهرة، إلى الإجماع الداعم لإقامة دولة فلسطينية.

إن معاهدة السلام بين إسرائيل والإمارات لا تتضمن أي إشارة إلى إقامة دولة فلسطينية، بل تتماشى تمامًا مع "رؤية السلام" التي طرحها دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في كانون الثاني/يناير سنة 2020. وقد جاءت هذه الرؤية كإنذار نهائي للطرف الفلسطيني، الذي رفض بالإجماع ضمّ أجزاء من الأراضي المحتلة في القدس الشرقية والضفة الغربية.

وكانت خطة ترامب في سنة 2020 تتضمن، على الأقل، إمكانية استعادة السلطة الفلسطينية في رام الله السيطرة على قطاع غزة بعد نزع سلاح حركة حماس. لكن في الوقت الراهن، يرفض نتنياهو بشكل قاطع تحقق هذا السيناريو، حتى لو صب ذلك في خدمة مصالح حماس بشكل غير مباشر.

وأوردت الصحيفة أن الإمارات تسعى إلى تقويض نفوذ الرئيس الفلسطيني محمود عباس في غزة من خلال دعم منافسه محمد دحلان، وهو من أبناء غزة ويقود تيارًا منشقًا داخل حركة فتح؛ حيث تعود  الأعلام التي ترفعها عناصر فتح في مخيمات اللجوء داخل غزة إلى أنصار دحلان، الذي يعيش في الإمارات، لكنه لا يجرؤ على العودة إلى وطنه، رغم الدعم الكبير الذي يحظى به هناك.



ذريعة العمل الإنساني
وأفادت الصحيفة أن التحركات الإماراتية، التي تتمتع بتمويل سخي، تؤدي فقط إلى زيادة حالة الفوضى داخل حركة فتح، العامل الذي يخدم مصلحة حماس، التي تسمح فقط لمساعدي دحلان بالعمل داخل غزة في مهام إغاثية بحتة. وبسبب غياب شركاء فلسطينيين سياسيين، قررت الإمارات، في شهر آذار/مارس سنة 2024، التعاون مع منظمة أمريكية غير حكومية، "وورلد سنترال كيتشن"، لإرسال شحنات غذائية إلى غزة عبر البحر من قبرص، لنقل المساعدات الغذائية من قبرص إلى السكان المهددين بالمجاعة.

وكان الهدف من فتح هذا الممر البحري الحفاظ على الحصار الإسرائيلي المشدد على المعابر البرية المؤدية إلى قطاع غزة، في وقت كانت فيه جميع المنظمات الإنسانية تطالب بإعادة فتح هذه المعابر. لكن انتهى رهان الإمارات على  "وورلد سنترال كيتشن" بعد الغارة الإسرائيلية التي استهدفت المنظمة في الأول من نيسان /أبريل سنة 2024، وأدت إلى مقتل ثلاثة متطوعين دوليين وثلاثة من حراس الأمن البريطانيين وسائق فلسطيني.

بعد ذلك، أصبحت الإمارات تنفذ عملياتها الإنسانية في غزة تحت رايتها الخاصة، من خلال حملة تحمل اسم "الفرسان النبلاء". وقد أتاحت هذه المبادرة إدخال 2500 شاحنة من المساعدات عبر مصر، خلال عام واحد، وهو رقم يبدو كبيرًا، لكنه لا يغطي سوى خمسة أيام من الاحتياجات الأساسية لسكان القطاع. وقد حاول المسؤولون الإماراتيون الحد من جشع الوسطاء المصريين، لكن دون جدوى.

وأشرف محمد بن زايد على نقل مئات المرضى والجرحى من غزة إلى أبو ظبي، وهو عدد كبير لكنه لا يقترب من الحاجات الفعلية، التي تتطلب إجلاء حوالي 12 ألف حالة للعلاج.

وفي الختام نوهت الصحيفة بأنه رغم هذا النشاط الإنساني، التزمت الإمارات الصمت منذ استئناف الحرب الإسرائيلية على غزة في 17 آذار /مارس الجاري، وهو صمت يرقى إلى مستوى الموافقة، خاصة أن الشيخ طحنون بن زايد، مستشار رئيس الدولة وشقيقه، زار البيت الأبيض بعد يوم واحد فقط، حيث حضر مأدبة عشاء مع دونالد ترامب، دون أن يلمح إلى الوضع الكارثي في غزة، وقا لـ"لوموند".

مقالات مشابهة

  • ارتفاع أسهم أوروبا بفضل آمال تخفيف الرسوم الجمركية الأميركية
  • من الرسوم الجمركية لإذاعة صوت أمريكا.. هذه أدوات ترامب لتفكيك السياسة الخارجية التقليدية
  • بنسبة 25%.. ترامب يتعهد بفرض رسوم ثانوية على مشتري نفط فنزويلا
  • طالبة داعمة للفلسطينيين ترفع دعوى لوقف ترحيلها من أمريكا
  • تقرير فرنسي يكشف سياسة الوجهين الإماراتية تجاه قطاع غزة
  • وَهم القضاء على المقاومة.. اغتيال قيادات "حماس" سياسة إجرامية هدفها الانتقام
  • استراتيجية الالهاء Dirty tactics !؟
  • قفزة كبيرة بقيمة «بتكوين» مع خطة ترامب المحتملة للرسوم الجمركية
  • مبعوث ترامب: حماس مسؤولة عن عودة الحرب في غزة
  • ماذا وراء تصريحات مبعوث ترامب للشرق الأوسط التي قال فيها إن مصر مفلسة والنظام مهدد بالسقوط؟