عودة سياسة ترامب الاقتصادية تثير حماس الأسواق وتُخيف العالم
تاريخ النشر: 15th, November 2024 GMT
بلغت "تجارة" ترامب ذروةَ نشاطِها سلفا. فمع اتضاح فوزه في الانتخابات الرئاسية ارتفعت بشدة أسعار العقود الآجلة للأسهم الأمريكية وقفزت عائدات سندات الخزانة الأمريكية وتعززت قيمة الدولار (مقابل سلة العملات الست التي تقاس عليها قيمته وهي اليورو والين والاسترليني والدولار الكندي والكرونة السويدية والفرنك السويسري- المترجم.
تحركات الأسعار تحتوي على رسالتين حول اتجاه وأثر سياسات ترامب الاقتصادية. فالتخفيضات الضريبية الكبيرة والمؤكدة تقريبا ستعزز النمو خصوصا في الأجل القصير. كما سيحفز على هذا النمو أيضا حماس ترامب تجاه تخفيف الإجراءات التنظيمية. لكن شبح الرسوم الجمركية والحملة ضد الهجرة قد يرفعان معدل التضخم ويقوضان عناصر القوة الاقتصادية للولايات المتحدة في نهاية المطاف. لنبدأ بأهمِّ ما أثار حماس المستثمرين ومسئولي الشركات فور اتضاح فوز ترامب وهو خفض الضرائب. الجمهوريون في سبيلهم إلى بسط سيطرة "ثلاثية" على الرئاسة ومجلسي الكونجرس بعد اقتران فوز ترامب القوي بأغلبية مريحة للحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ وأخرى بهامش أقل في مجلس النواب. هذا الوضع (التشريعي) سيفتح مسارا لترامب كي يقلص الضرائب. ستكون أولويته تمديد التخفيضات التي أجراها في ضريبة الدخل الشخصي عام 2017 والتي من المقرر أن ينتهي سريانها في نهاية العام القادم. وقد تعهد بخفض معدل الضريبة على الشركات ربما إلى 15% من 21%. وأثناء حملته الانتخابية عرض تشكيلة مثيرة من التخفيضات الأخرى بما في ذلك إنهاء الضرائب على الإكراميات (البقشيش).
احتمال تحقيق الشركات عائداتٍ أعلى بعد حساب الضريبة يعين على تفسير صعود أسعار الأسهم عندما تحدد على نحو قاطع انتصار ترامب. لكن ما يقلق أن انخفاض الضرائب سيضغط على الأوضاع المالية للولايات المتحدة. ففي الوضع الحالي يقدِّر مكتب الموازنة في الكونجرس، وهو مراقب مستقل للأداء، أن أمريكا ستشهد عجزا في الموازنة بنسبة تصل إلى حوالي 6%من الناتج المحلي الإجمالي خلال العقد التالي. وهذا معدل مرتفع على نحو استثنائي لاقتصاد عادي في وقت السلم.
من الممكن أن تزيد تخفيضات ترامب الضريبية المختلفة عجز الموازنة بنسبة تصل إلى 12% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2025، وفقا للجنة الموازنة الفيدرالية المسئولة غير الحزبية. وقد يحدّ خطر انفجار العجز من مدى استعداد الجمهوريين في الكونجرس للمضي في التخفيضات الضريبية مع انطلاق المفاوضات المتعلقة بها في بداية العام القادم. وسيعتمد الكثير أيضا على طبيعة رد فعل الأسواق. فالارتفاع في عائدات سندات الخزانة كردِّ فعل لفوز ترامب يمثل تحذيرا من الهشاشة المالية للولايات المتحدة.
الشيء التالي الذي يركز عليه ترامب اهتمامه سيكون الرسوم الجمركية. فاعتقاده بأن الحمائية ضرورية لازدهار أمريكا ظل مركزيا في برنامجه السياسي على مدى عقد.
ربما فترته الأولى بالبيت الأبيض والتي شهدت فرض الرسوم الجمركية على الصلب المستورد من حول العالم وعلى سلسلة من المنتجات الصينية مجرد مقدمة لما سيحاول تطبيقه الآن. لقد تحدث عن فرض رسوم بنسبة 10% إلى 20% على كل شيء تستورده أمريكا و60% على كل السلع القادمة من الصين. بل حتى ضرائب جمركية أعلى ربما تصل إلى 500% على السيارات المستوردة من المكسيك.
يجمع الاقتصاديون تقريبا على أن هذه الرسوم ستقود إلى ارتفاع الأسعار الاستهلاكية وتعوق الاستثمار والنمو. وذلك يمكن أن يشكل مفارقة قاسية للناخبين الأمريكيين نظرا إلى أن الغضب تجاه التضخم في ظل إدارة بايدن عزز إعادة انتخاب ترامب. الجمهوريون في الكونجرس أيضا وبشكل عام أقل حرص على الرسوم الجمركية. فنزعة حرية التجارة التقليدية لا زالت حية ولو أنها بالكاد مزدهرة في الحزب. لكن أية معارضة منهم ربما لن تكون لها قيمة. فمستشارو ترامب وخصوصا روبرت لايتهايزر الممثل التجاري للولايات المتحدة في فترته الرئاسية الأولى يعكف على إعداد خطط لاستخدام الأوامر التنفيذية وسلطات الطوارئ التي لم تُختبر حتى الآن لفرض رسوم جمركية شاملة. وربما سيتيسر لهم فرض رسوم عقابية على الصين كناتج ثانوي لتحرياتهم السابقة في الممارسات التجارية. ومن هنا جاء التخلص من الأسهم الصينية في أعقاب فوز ترامب. من المؤكد أن الرسوم ستستدعي ردّا عليها. ففي أوروبا شرع المسؤولون في إعداد قوائم بالرسوم التي قد يفرضونها على السلع الأمريكية. أما الصين فربما ستستهدف المنتجات الزراعية من فول الصويا وإلى الذرة الشامية. وسيكون من المغري لبلدان أخرى احتذاء حذو الأوروبيين والصينيين. لكنها ستحاول أيضا الحصول على استثناءات من رسوم ترامب. سيصح ذلك خصوصا بالنسبة لكندا والمكسيك وهما البلدان اللذان ترتبط حظوظهما على نحو وثيق بالتجارة مع أمريكا. فقد هبطت قيمة البيزو المكسيكي إلى أدنى مستوى له خلال عامين في اليوم الذي أعقب الانتخابات وسط مخاوف من أن رسوم ترامب قد تثير المتاعب للاقتصاد المكسيكي.
نظرا إلى حجم وتنوع اقتصادها قد تكون أمريكا محمية بشكل أفضل من معظم البلدان الأخرى إذا نشبت حرب تجارية عالمية. فذلك، إلى جانب ارتفاع عائدات سندات الخزانة، يساعد في تفسير صعود الدولار بعد فوز ترامب. الخطر الحقيقي جدا للعالم هو ضعف النمو وارتفاع الأسعار وازدياد هشاشة سلاسل التوريد.
خطة ترامب لمعالجة قضايا الحدود موضوع ثابت في حملته الانتخابية ومصدر آخر للبلبلة. فإذا حافظ على وعوده بالترحيل الجماعي للمهاجرين سيؤثر ذلك بشدة على الاقتصاد بتقليص حجم القوة العاملة. ويعني طرد 8 مليون مهاجر خفضا للناتج المحلي الإجمالي بنسبة حوالي 7% عن مستواه المتوقع في عام 2028، وفقا لمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي.
لكن من المستبعد أن يقترب العدد الفعلي من ذلك. فأية محاولة لترحيل المهاجرين جماعيا ستصطدم بمقاومة صلبة حيث سيرفض بعض مسئولي أكبر الولايات الأمريكية من كاليفورنيا وإلى نيويورك التعاون في ذلك. وبالتالي قد تكون المحصلة الأكثر واقعية فرض ضوابط أشد صرامة على الحدود من شأنها وقف تدفقات المهاجرين التي حدثت في ظل إدارة بايدن. وذلك في حد ذاته قد يقود الى نقص العمالة في المطاعم وشركات البناء وأنشطة أخرى وإطلاق قوة تضخمية أخرى.
هنالك مهددات أخرى أيضا. تعهُّد ترامب بجعل أمريكا "عاصمة الكوكب للتشفير" قد يجعل انتصاره نعمة للعملات المشفرة. فسعر عملة البيتكوين ارتفع إلى مستوى قياسي جديد مع ظهور نتائج الانتخابات. لكن تخفيف الضوابط التنظيمية لصناعة التشفير التي يتفشى فيها غسيل الأموال والأنشطة الإجرامية الأخرى من الصعب الترحيب به واعتباره تطورا حميدا.
في الأثناء المخاوف من التضخم غالبا ما ستؤثر بشدة على تقديرات بنك الاحتياطي الفيدرالي. فارتفاع عائدات أوراق الخزانة يُظهِر اعتقاد مستثمرين عديدين بأن البنك المركزي سينتهي به المطاف إلى الإبقاء على أسعار الفائدة في العام القادم عند مستوى أعلى من التقديرات السابقة. ذلك على الرغم من توقعهم خفضا بنسبة 25 نقطة أساس (0.25%) في اجتماع البنك يوم 7 نوفمبر (وهذا ما حدث فعلا. فقد خفض بنك الاحتياطي الفيدرالي يوم الخميس 7 نوفمبر النطاق المستهدف لسعر الفائدة على الأموال الفيدرالية بهذه النسبة ليصبح بين 4.5% و4.75%- المترجم.)
وإذا بدا البنك أكثر تشددا قد يثير ذلك بدوره غضب ترامب الذي قال إنه كرئيس يجب أن يكون له رأي في تحديد أسعار الفائدة. ترامب بالتأكيد يريد أن يرى تخفيضات حادة في أسعار الفائدة. قانونيا، لا يمكنه فعل شيئ يذكر للسيطرة على بنك الاحتياطي. لكن مستشاريه تحدثوا عن إيجاد "مجلس احتياطي فيدرالي موازٍ" لمحاولة توجيه قراراته. قد يثير مشهد الرئيس وهو يهاجم البنك المركزي مخاوف الأسواق لكن الاستقلالية القانونية للبنك ينبغي أن توفر له حماية جيدة. احتمال أن يعجز عن تحقيق طموحاته الأكثر تطرفا يلزم أن يطيِّب خاطر العالم ويخفف من قلقه. لكنه ربما يستطيع أن يمضي إلى أبعد مما فعل في فترته الرئاسية الأولى. فهو هذه المرة أفضل استعدادا للحكم بفريقٍ أكبر من الموالين له وخطة عمل أكثر تفصيلا. ستكون الرحلة الاقتصادية في ظل رئاسة ترامب مليئة بالاضطرابات الجوية (المَطَبَّات الهوائية) لأمريكا والعالم. لذلك أربطوا الأحزمة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: للولایات المتحدة الرسوم الجمرکیة فوز ترامب
إقرأ أيضاً:
هل ستبقى أمريكا عظيمة مجدَّدًا؟
يُعدّ “دونالد ترامب” الرئيس الـ47 في تاريخ أمريكا، ومن المقرَّر أن يُنصّب رسميًّا يوم 20 جانفي 2025م، بعد أن فاز في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لعهدة ثانية غير متتالية يوم الثلاثاء 05 نوفمبر 2024م، وهي الانتخابات الأكثر تكلفة في تاريخ أمريكا، إذ بلغ إجمالي الإنفاق فيها نحو: 15.9 مليار دولار.
لقد كان من أهم الشعارات التي رفعها “ترامب” منذ فوزه في الانتخابات الرئاسية الأولى سنة 2016م: “لنجعل أميركا عظيمةً مجددًا”، وأنه سيجعلها تشهد عصرًا ذهبيا جديدا.
وقد تأسَّست منظمةٌ سياسيةٌ متطرفةٌ داعمةٌ له تسمى”ماغا”، وهي اختصارٌ لهذا الشعار الانتخابي، مع أن هذا الشعار ظهر أول مرة عام 1980م في خطاب الرئيس الأسبق “رونالد ريغان”، ثم تبنَّاه الرئيس الأسبق “بيل كلينتون” عام 1992م، ثم جاء “ترامب” ليعيد إحياءه منذ 2016م، وهو الشعار المغري والجذاب للأمريكيين، وخاصة مع تصاعد اليمين المتطرف في أمريكا والعالم.
وتعود خلفيات هذه الإيديولوجيا إلى الاعتقاد بأن أمريكا كانت دولةً عظيمة، ولكنها فقدت هذه العظمة بسبب تنامي النفوذ الأجنبي فيها، بسبب الهجرة والتعددية الثقافية والعِرقية والعولمة.
وبالرغم من التفويض الكبير والفوز فوق المتوقع في هذه الانتخابات الرئاسية، مقارنة مع فترته الرئاسية الأولى (2016م- 2020م)، فقد فاز بالتصويت الشعبي بأكثر من 75.7 مليون صوت مقابل 72 مليون ناخب لمنافسته الديمقراطية “هاريس”، وفاز على مستوى المجمع الانتخابي بـ: 312 صوت مقابل 226 لمنافسته، مع أنه يحتاج إلى 270 صوت فقط.
وبالرغم من منبر القوة لمنصب الرئيس في أمريكا، وهذا الفوز الكبير لترامب، وسيطرته على مؤسسات السلطة في أمريكا (الرئاسة والأغلبية في الكونغراس بغرفتيه: مجلس الشيوخ والنواب)، والذي يُعدّ أكبر إعادةٍ للاعتبار في التاريخ السياسي لأمريكا، ومع ذلك تبقى تساؤلاتٌ جوهريّةٌ مطروحة، منها: هل يملك “ترامب” القدرة على تشكيل العالم كما يريد؟ وهل سيتحقق شعاره الانتخابي: “لنجعل أميركا عظيمةً مجددًا”؟
في ورقةٍ بحثيةٍ لتقدير الموقف من فوز “ترامب” بعهدة رئاسية ثانية، تحت عنوان: “السياسة الخارجية الأمريكية في الرئاسة الثانية لترامب”، للأستاذ الدكتور: وليد عبد الحي، والذي كتبه لصالح مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ببيروت بداية هذا الشهر نوفمبر 2024م، أكد عبد الحيّ بأنَّ ما يعنينا في نتائج الانتخابات الأمريكية هو السياسية الخارجية والبعد الدولي للإدارة الأمريكية الجديدة، وبالرغم من المؤسسية الأمريكية القوية في السياسة الخارجية لها، إلا أن النزعة الفردية وطبيعة الشخصية النرجسية والبراغماتية لترامب على حساب القيم والمبادئ والقانون الدولي قد تؤثر في البعد الدولي والسياسة الخارجية لأمريكا، فقد رفع في هذه الانتخابات 3 شعارات، ترسم ملامح التوجه العامّ في السياسية الخارجية لها،
وهي: 1. البعد الوطني القومي على حساب البعد العالمي الأممي (المصلحة الأمريكية للوطنيين على حساب الأمميين أو المصالح الأخرى ولو كانت مصالح الحلفاء والأصدقاء). 2. التخلي عن النزعة التدخُّلية العسكرية في العالم إلا للضرورات القصوى (الوعود بإنهاء النزاعات والحروب، وتحديدًا في أوكرانيا والشرق الأوسط). 3. أولوية الاقتصاد على باقي الأولويات السياسية والعسكرية.
ثم تحدَّث عن التوجُّهات الكبرى لترامب في عهدته الرئاسية الثانية، وهي: 1/ العلاقة مع أوروبا وحلف الناتو: إذْ لا ينظر إلى حلف الناتو بإيجابية، فهو يراه عبئًا اقتصاديًّا على أمريكا، وقد يكون الضحية المقبلة للرئيس ترامب، إذ طالب في أكثر من مناسبة بضرورة الدعم الأكبر من الأعضاء في الحلف، وعدم الاعتماد على الولايات المتحدة، إذْ بلغت النفقات الأمريكية على الناتو في عهدته الأولى 71 %، بينما يرى بأنَّ الدول الأوروبية لا تنفق إلاَّ 2 % من ناتجها الداخلي، بل تعمل على تخفيض ذلك، وهو ما يفرض على الإدارة الجديدة الضغط على أوروبا لتولي المسؤولية اتجاه الناتو.
بالإضافة إلى سياسة الحماية التجارية “لأميركا أوَّلاً”، وفرضية اندلاع حروبٍ تجاريةٍ بينهما بسبب الرسوم الجمركية التي تعهَّد “ترامب” بفرضها على السلع الأوروبية، والتهديد بجعل الاتحاد الأوروبي “يدفع ثمنًا باهظًا” لعدم شراء ما يكفي من الواردات الأميركية، إذْ بلغ العجز التجاري الأميركي أمام الاتحاد الأوروبي 124 مليار دولار في 2024م، وهو ما يسعى إلى إنهائه من خلال التوصل إلى صيغةٍ تجاريةٍ تنهي هذا العجز المخزي.
2/ مراجعة الدعم الأمريكي لأوكرانيا: يرى “ترامب” بأنَّ حجم المساعدات الأمريكية لأوكرانيا تتجاوز مجموع ما تقدِّمه أوروبا بأكملها، وهو ما يعتبره غير منطقي، ويدعوه إلى مراجعة هذا العبء الذي تتفرَّد به بلاده، مما يجعل روسيا أكثر ارتياحًا في الجبهة الأوكرانية.
3/ العجز الاقتصادي مع الصين: هناك اختلالٌ للميزان التجاري مزعجٌ لترامب، والذي وصل في نهاية 2023م إلى 279 مليار دولار لصالح الصين، وهو ما يدفعه إلى الضغط الاقتصادي عليها، والذي قد يؤدي إلى تدمير التجارة بين البلدين، وخفض معدل النمو الاقتصادي السنوي في الصين إلى أكثر من النصف، وهو ما لا تسمح به، وستتَّخذ تدابير قاسية في مواجهة ذلك وحماية اقتصادها، والذهاب إلى اعتماد إجراءاتٍ رسميةٍ عقابيةٍ على الشركات الأمريكية، وفرض قيودٍ على تصدير المواد التي تحتاجها أمريكا لتكنولوجياتها الإستراتيجية، وذلك ضمن إستراتيجية الردع الاقتصادي.
4/ استغلال توجُّهات إيران: من أجل تعميق هواجس الدول الخليجية منها، وممارسة الضغط والابتزاز لزيادة إنفاقها العسكري، وتحريك دولاب دخل المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، وتشديد الحصار الاقتصادي على إيران…”. إلا أنَّ الملف النووي الإيراني يمثِّل تحدِّيًا كبيرًا أمام “ترامب” خلال عهدته الحالية، فإيران الحالية تختلف عن إيران خلال عهدته الرئاسية الأولى سنة 2016م، فقد عزَّزت من علاقاتها الإستراتيجية مع الصين وروسيا، وطبَّعت علاقتها مع السعودية برعايةٍ صينية، وتجاوزت “الصبر الاستراتيجي” لأول مرة منذ 45 سنة، بالمواجهة العسكرية المباشرة مع الكيان الصهيوني بضربتين عسكريتين في أفريل وأكتوبر 2024م أعادت بهما توازن الردع الاستراتيجي، بعد امتلاكها للقوة الصاروخية والفضائية، وخشية الجميع من تغيُّر عقيدتها النووية، والخوف العملي من توجيه ضرباتٍ إلى منشآتها الحيوية، فقد عجزت إسرائيل اليمينية المتطرفة عن ذلك في ردِّها الأخير يوم 26 أكتوبر 2024م.
ولا تزال إيران وحلفاؤها في محور المقاومة مصممين على الذهاب بعيدًا في المواجهة العسكرية مهما طالت آمادها، وتحدي غرور القوة للعسكرية “الصُّهيو– غربية” مهما بلغ تفوُّقها المذهل، فقد هدَّد المرشد الإيراني “علي خامنئي” قائلاً: “أنَّ الأعداء بمن فيهم الولايات المتحدة وإسرائيل سيتلقَّون ردًّا صارمًا على ما يفعلونه ضدَّ إيران والمقاومة، وإيران لن تتراجع عن مواجهة العدو، ولن تترك أي تحرُّكٍ من جانبه من دون رد”، وقال المتحدث باسم الحرس الثوري الإيراني العميد “علي محمد نائيني”: “إنَّ الرد الإيراني على إسرائيل أمرٌ حتمي، وسيكون حاسمًا وقويًّا ومدروسًا، وأبعد مما يتصوَّره العدو..”، وأنَّ إيران مستعدة للمواجهة مع إسرائيل حتى بعد فوز ترامب.
لقد كتب الصِّحافي “مارك أوربان” في جريدة “الصنداي تايمز” البريطانية بأنَ هناك كوابح جديدة في وجه “ترامب”، ستؤثر على سياساته الخارجية، وتعرقل تحقيق شعاره، ومنها:
1- الدَّيْن الحكومي الضخم: والذي تعاني منه أمريكا بإطرادٍ مخيف، والذي وصل إلى 35 تريليون دولار (35 ألف مليار دولار) ، أي 123% من الناتج الداخلي الخام، والذي ستدفع التوجهات الجديدة لترامب بتخفيض الضرائب إلى ارتفاعه، كما تبلغ تكلفة سداد فائدة هذا الدَّيْن 17% من الإنفاق الحكومي، وهو لا يهدد الجاهزية العسكرية لأمريكا فقط، بل قد يصل إلى التسبب في أزمة مالية عالمية.
2- الحروب الاقتصادية: هناك تحذيراتٌ من توجهات “ترامب” التي قد تؤدي إلى تصاعدٍ حادٍّ في التوترات التجارية بين الولايات المتحدة وكلٍ من الصين والاتحاد الأوروبي. وهي من العوامل المؤثرة كذلك في السياسة الخارجية له، فقد هدَّد بفرض 60% من الرسوم الجمركية على السلع الصينية، و20% على السلع الأوروبية، وهو ما سيزيد في ارتفاع نسبة التضخُّم، والتأثير على سلاسل التوريد.
3- الأحداث غير المتوقعة: مثل ما حدث مع إدارة “بايدن” في معركة “طوفان الأقصى”، ابتداءً من 7 أكتوبر 2023م، وكانت من بين الأسباب التي أدَّت إلى هزيمته في هذه الانتخابات.
إن استمرار عدم الاستقرار في العالم وتطوراته غير المتوقعة، مثل جرأة إيران على ضرب إسرائيل، أو تهوُّر حكومة نتنياهو المتطرفة بضرب المنشآت الحيوية لإيران، قد تشعل حربًا إقليمية أو عالمية، فتؤثر على الخيارات المستقبلية لترامب.
– ضعف العسكرية الأمريكية: والتي فقدت الردع في العديد من نقاط العالم، رغم توزُّع قواعدها العسكرية في كل مكان، وقد أثبتت الحرب في أوكرانيا والحرب الصهيونية على قطاع غزة ولبنان وتوسعها إلى جبهات محور المقاومة، الخشية الحقيقية من تآكل رصيد المخزون العسكري الأساسي لأمريكا، وهو ما جعلها تتجه إلى وقف هذه الحروب، وعدم تحمُّل تكاليفها، فقد قال في خطاب النصر الذي ألقاه بعد إعلان النتائج بأنه: “لم تكن لدينا حروب” خلال فترة إدارته السابقة، وأنه في الوقت الذي قال فيه آخرون إنه سيبدأ الحروب: “لن أبدأ حربًا، وسأوقف الحروب”، وهو ما يعني التراجع الأمريكي في مركزيتها في العالم، ويؤثر سلبًا عليها في تنافسيتها المحمومة مع الخطر الاستراتيجي الحقيقي لها، وهو الصين.
لا شكَّ بأنَّ تبنِّي “ترامب” للاتجاه الانعزالي، ونظرته غير الودية اتجاه الحلف الأطلسي، وسياسته الحمائية في العلاقات التجارية مع أوروبا، وحروبه الاقتصادية التَّصادمية مع الصين، والتردُّد وعدم اليقين في مواجهة إيران، وعدم حاجته المستقبلية إلى دعم اللوبي الصهيوني لعدم منافسته على أي منصب، وتناقضاته في الموقف من الحرب التي تخوضها إسرائيل في المنطقة، واعتبارها عِبئًا لا يقلُّ عن أوكرانيا، وتراجعه عن التدخُّل العسكري في العالم، ومراجعة دعمه لأوكرانيا بما سيريح روسيا، كلُّ ذلك يبعث على إبقاء تلك الأسئلة المشروعة والمشكِّكة في بقاء أمريكا عظيمة مجدَّدًا، وسخافة قدرة “ترامب” على تشكيل العالم كما يريد؟
الشروق الجزائرية